عُيُونُ الْمَهَا ❀
:: مشرفة مجازه ::
أحزان عبد الرحمن
عندما تحرّكت ساقاه باتّجاه المحطّة، كانت المدينة التي غادرها جائعة للابتسام، نام الفرح فيها، فانتعشت الكآبة، وبعثرت أحاسيس ملونّة. وهجعت الطمأنينة فعاث اليأس وصيرّ أحلامها كوابيس.
لم يحتمل.. ثمّة خيط من الدموع وجد طريقاً يمرُّ من خلال الأخاديد التي حفرها الصبر.. وبين لحظة متوّثبة وأخرى، يتحوّل بفعل غائب حاضر إلى ظل باهت يركض، وتركض خلفه السنون. فجاءة.. انحسر وجه الشمس عن خارطة بألوان عربيّة تفصل رقاعها حدود أو شبه حدود. أحسّ بتفاقم الوجع يهبط فوق جرحه، ويحفر غصّة بحجم الوشم. اقترب عبد الرحمن من الخارطة، ألصقها ببؤبؤي عينيه، فرأى البحر غير البحرّ والسماء غير السماء. قلّب جهاتها، فأتته الأنباء فيّاضة بالانكسار، يلفظها مذياع عجوز ضمن مقهى مثقل بالثرثرات.
تحسّس جواز سفره بلهفة شديدة للابتّعاد، مخلّفاً وراء ظهره سنوات كليلة، وكماً من القصائد المبعثرة، ليبصر فيما يشبه الوجد مدناً ندية المزاج، وبحاراً تتسابق لاحتضانه.
يغرق في التماهي...
" لماذا تكون الساحات هناك مضيئة ورحبة؟.."
نادته في أثناء العبور إلى المحطّة امرأة أحبّها، على وجهها مسحة من تفاؤل:
- يا... لاتسافر..
نسيت اسمه، فقد كان معلّقاً على عمود في الشارع بجانب أسماء مصلوبة هناك.
بعض الحب الذي أرسلته المرأة لم يصل إليه، بعثرته الريح، فتلقّفه الفراغ المنهك، ودخل حيّزاً بعيداً عن قوّة التلقّي بمسافة لم يكن جوّها يحتمل سوى حلم السفر.فوق مقعد خالٍ وسط ردهة المحطة، جلس ينتظر دعوته للرحيل. في تلك اللحظة، كان عبد الرحمن يعبر بذاكرته إلى سنين جرّت أذيالها ومضت، عاد خلالها مساءً إلى بيته.. ألقى عباءة أوراقه وقصائده، وادوات كتابته، وراح ينشد أغنية شجيّة. حين سمع جاره الأغنية اصابه الأسى، ,اصابت العدوى الحارة والحارات الأخرى، ومن ثمّ المدينة بأبعادها المشمولة برعاية الحزن.
عرف حكيم الزمان ما حلّ بعبد الرحمن، وأهل بيته وجيرانه.
تناول أفكاره ورجاحة عقله ومجلّدات حكمته، واستحضر مرايا تبصرّه.. لكنه في النهاية، عبرّ عن عجزه عن التأثير، وإعادة الأمور إلى أمكنتها.
وأطرق الطبيب النفسي رأسه مستسلماً لعدم مقدرته على وصف دواء ناجع لذلك المرض العضال.
وقالت عرّافة البلد :
" إنني لا أملك نبوءة محدّدة لمثل هذه الوافدات التي تقبل على عجل..".تكرّست الحالة، واستعصى الهمُّ، وباتت الغبطة أمراً صعباً يندرج ضمن قائمة المستحيلات...
وبغتة، وبشكل ملفت للانتباه، خارق للوضع الراكد، تناثرت في فضاء المحطّة ضحكات أطفال صغيرة ومتناغمة كاهتزاز أوتار عود. الضحكات العابرة ظهرت على مرآة الحكيم، وعلى طاولة الطبيب النفسي. وحرّكت بطن العرّافة فيما يشبه المخاض....
ما حدث ترك على وجوه الناس ومضاً، لم يعرف أحد حتىّ الآن مداه أو قوّة تأثيره.