لؤلؤة الزمان
دمعة فرح
الحمد لله الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإننا كثيراً ما نشكو قسوة قلوبنا، وجمود أعيننا، وضيق صدورنا، ولا شك أن هناك أسباباً اقترفناها فأوصلتنا إلى هذه الحال السيئة؛ فأصبحنا نقرأ القرآن فلا تدمع عيوننا، ولا تلين جوارحنا، ولا توجل قلوبنا، نقرأ آيات الوعد والوعيد، وآيات الجنة والنار فلا نخشع، والله يقول: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سورة الحشر(21).
قال ابن كثير رحمه الله-: "فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله -عز وجل- فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله،
وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟!"1.
أصبحنا -إخواني في الله- نمرّ على القبور وأهلها ولا نقف ولا نتأمل في مصيرنا، ولا نفكر بحالنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، بل نحن عن مصيرنا غافلون، وعن طاعة ربنا محجمون، وفي الذنب والمعصية واقعون.
أضحينا نغسل الموتى، ونحملهم على أكتافنا، ونواريهم الثرى، ولا نتعظ، ولا نخاف، ولا نوجل؛ وكأننا مخلدون في هذه الدار، يقول الفضيل بن عياض: كفى بالموت واعظ2.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا *** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنـا *** لقطـا وتلحق أخرانا بأولانـــا؟
في كل يوم لنـا ميت نشيعه *** نرى بمصرعه آثــار موتانـــا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها *** خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضَّيتها لعبا؟ *** قد آن أن تقصـري قد آن قد آنا
ما بالنا نتعـامى عن مصائرنا *** ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا *** كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن *** كانت تخر له الأذقـان إذعانا؟
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا *** مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها *** واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانـا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً *** ورافلاً في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب*** يكفيك ما قد مضى قد كان ما كان3.
وليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أعظم من النسيان والغفلة، فإنك تجد كثيراً من شبابنا وفتياتنا من إذا رأيته رحمت حاله، وما هو فيه من الهموم والغموم، وكأنه فقد أمه أو أباه أو ما يملكه، فأصبح شريداً طريداً، لا سكن له ولا مأوى، فإذا ما سألته أو سألت عنه قيل لك أن أهله في صحة وعافية، وأنه يتمتع بأموال طائلة وممتلكات فاخرة.. ولكنه يعيش حياة الجحيم في صدره، الذي ضاق ذرعاً بسبب بعده عن الله، بل لقد أدى مثل هذا الحال إلى محاولة التخلص من الحياة بأي وسيلة ولو كان بالانتحار والعياذ بالله، فما السبب ترى في ذلك؟
إن السبب في ضيق الصدر ونكد العيش وشقاء الحال هو الإعراض عن الله وعن شرعه، وترك أوامره، وارتكاب محارمه، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} سورة طـه (124). والقائل: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام(125).
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله -تعالى-، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه؛ فإن من أحب شيئاً غير الله عذّب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً"4.
ونحن في هذا الموضوع لن نتعرض لذكر الأسباب التي أوصلت الكثير إلى هذه الحال، فهي كثيرة،، ولكننا سنذكر الأسباب التي ينشرح بها الصدر، ويطمئن بها القلب، وترتاح بها النفس، ليُفهم الشيء من ضده، فكما أن هناك أسباباً لانشراح الصدر، فإن ضدها هو ما يجعل الصدر ضيقاً حرجاً،،
[فمن أسباب انشراح الصدر وطمأنينة البال ما يلي:
السبب الأول والأهم من أسباب إنشراح الصدر: التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} سورة الأنعام(125). قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به"5. فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.
السبب الثاني: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه؛ وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح). قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟
قال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)6
. فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور.
السبب الثالث: العلم؛ فإنه يشرح الصدر ويوسعه؛ حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً.
السبب الرابع: الإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى إنه ليقول أحياناً: "إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذا في عيش طيب".
السبب الخامس: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه7. لأن الله قد قال: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وقد شكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر. وقال: مجلس الذكر محياة العلم ويحدث في القلب الخشوع، القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.
بذكر الله ترتاح القلوب *** و دنيانا بذكراه تطيب8
السبب السادس: الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإنَّ الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأعظمهم هماً وغماً.
السبب السابع: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البال، متسع القلب، والجبان: أضيق الناس صدراً، وأحصرهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي.
السبب الثامن: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإنَّ الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
السبب التاسع: ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم؛ فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب تحصره، وتحبسه وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم! وما أنكد عيشه! وما أسوأ حاله! وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها! فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} سورة الانفطار (13). ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} سورة الانفطار(14). وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله -تبارك وتعالى-9.
فهذه من الأسباب العظيمة التي تكون سبباً لراحة القلب وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن ينفس كروبنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو أمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------------------------------------------------------------------------------------
1 تفسير القرآن العظيم (4/439).
2 روي الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ضعيف، ضعفه جمع من أهل العلم،
منهم العراقي في تخريج الإحياء، والعجلوني في كشف الخفا، والهيثمي في مجمع الزوائد وقد قال:
(رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك). وضعفه الألباني في مواضع عدة من كتبه،
وقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعاً لكنه ضعيف.. وهو من الأحاديث المشهورة
على ألسنة الناس، فيرفعونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ.
3 المدهش(375). لأبي الفرج بن الجوزي. الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت.
الطبعة الثانية (1985).
4 زاد المعاد(2/22).
5 تفسير ابن كثير (2/234).
6 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وغيره، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (5228).
7 زاد المعاد في هدي خير العباد (2/22).
8 لطائف المعارف(16).
9 راجع: زاد المعاد في هدي خير العباد (2/22). الناشر: مؤسسة الرسالة
– مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت
الطبعة الرابعة عشر (1407هـ).
تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط. إمام المسجد/COLOR]
أما بعد:
فإننا كثيراً ما نشكو قسوة قلوبنا، وجمود أعيننا، وضيق صدورنا، ولا شك أن هناك أسباباً اقترفناها فأوصلتنا إلى هذه الحال السيئة؛ فأصبحنا نقرأ القرآن فلا تدمع عيوننا، ولا تلين جوارحنا، ولا توجل قلوبنا، نقرأ آيات الوعد والوعيد، وآيات الجنة والنار فلا نخشع، والله يقول: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سورة الحشر(21).
قال ابن كثير رحمه الله-: "فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله -عز وجل- فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله،
وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟!"1.
أصبحنا -إخواني في الله- نمرّ على القبور وأهلها ولا نقف ولا نتأمل في مصيرنا، ولا نفكر بحالنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، بل نحن عن مصيرنا غافلون، وعن طاعة ربنا محجمون، وفي الذنب والمعصية واقعون.
أضحينا نغسل الموتى، ونحملهم على أكتافنا، ونواريهم الثرى، ولا نتعظ، ولا نخاف، ولا نوجل؛ وكأننا مخلدون في هذه الدار، يقول الفضيل بن عياض: كفى بالموت واعظ2.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا *** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنـا *** لقطـا وتلحق أخرانا بأولانـــا؟
في كل يوم لنـا ميت نشيعه *** نرى بمصرعه آثــار موتانـــا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها *** خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضَّيتها لعبا؟ *** قد آن أن تقصـري قد آن قد آنا
ما بالنا نتعـامى عن مصائرنا *** ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا *** كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن *** كانت تخر له الأذقـان إذعانا؟
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا *** مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها *** واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانـا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً *** ورافلاً في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب*** يكفيك ما قد مضى قد كان ما كان3.
وليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أعظم من النسيان والغفلة، فإنك تجد كثيراً من شبابنا وفتياتنا من إذا رأيته رحمت حاله، وما هو فيه من الهموم والغموم، وكأنه فقد أمه أو أباه أو ما يملكه، فأصبح شريداً طريداً، لا سكن له ولا مأوى، فإذا ما سألته أو سألت عنه قيل لك أن أهله في صحة وعافية، وأنه يتمتع بأموال طائلة وممتلكات فاخرة.. ولكنه يعيش حياة الجحيم في صدره، الذي ضاق ذرعاً بسبب بعده عن الله، بل لقد أدى مثل هذا الحال إلى محاولة التخلص من الحياة بأي وسيلة ولو كان بالانتحار والعياذ بالله، فما السبب ترى في ذلك؟
إن السبب في ضيق الصدر ونكد العيش وشقاء الحال هو الإعراض عن الله وعن شرعه، وترك أوامره، وارتكاب محارمه، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} سورة طـه (124). والقائل: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} سورة الأنعام(125).
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله -تعالى-، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه؛ فإن من أحب شيئاً غير الله عذّب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً"4.
ونحن في هذا الموضوع لن نتعرض لذكر الأسباب التي أوصلت الكثير إلى هذه الحال، فهي كثيرة،، ولكننا سنذكر الأسباب التي ينشرح بها الصدر، ويطمئن بها القلب، وترتاح بها النفس، ليُفهم الشيء من ضده، فكما أن هناك أسباباً لانشراح الصدر، فإن ضدها هو ما يجعل الصدر ضيقاً حرجاً،،
[فمن أسباب انشراح الصدر وطمأنينة البال ما يلي:
السبب الأول والأهم من أسباب إنشراح الصدر: التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} سورة الأنعام(125). قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به"5. فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.
السبب الثاني: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه؛ وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح). قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟
قال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)6
. فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور.
السبب الثالث: العلم؛ فإنه يشرح الصدر ويوسعه؛ حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً.
السبب الرابع: الإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى إنه ليقول أحياناً: "إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذا في عيش طيب".
السبب الخامس: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه7. لأن الله قد قال: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وقد شكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر. وقال: مجلس الذكر محياة العلم ويحدث في القلب الخشوع، القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.
بذكر الله ترتاح القلوب *** و دنيانا بذكراه تطيب8
السبب السادس: الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإنَّ الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأعظمهم هماً وغماً.
السبب السابع: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البال، متسع القلب، والجبان: أضيق الناس صدراً، وأحصرهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي.
السبب الثامن: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإنَّ الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
السبب التاسع: ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم؛ فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب تحصره، وتحبسه وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم! وما أنكد عيشه! وما أسوأ حاله! وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها! فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} سورة الانفطار (13). ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} سورة الانفطار(14). وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله -تبارك وتعالى-9.
فهذه من الأسباب العظيمة التي تكون سبباً لراحة القلب وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن ينفس كروبنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو أمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------------------------------------------------------------------------------------
1 تفسير القرآن العظيم (4/439).
2 روي الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ضعيف، ضعفه جمع من أهل العلم،
منهم العراقي في تخريج الإحياء، والعجلوني في كشف الخفا، والهيثمي في مجمع الزوائد وقد قال:
(رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك). وضعفه الألباني في مواضع عدة من كتبه،
وقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعاً لكنه ضعيف.. وهو من الأحاديث المشهورة
على ألسنة الناس، فيرفعونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ.
3 المدهش(375). لأبي الفرج بن الجوزي. الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت.
الطبعة الثانية (1985).
4 زاد المعاد(2/22).
5 تفسير ابن كثير (2/234).
6 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وغيره، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (5228).
7 زاد المعاد في هدي خير العباد (2/22).
8 لطائف المعارف(16).
9 راجع: زاد المعاد في هدي خير العباد (2/22). الناشر: مؤسسة الرسالة
– مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت
الطبعة الرابعة عشر (1407هـ).
تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط. إمام المسجد/COLOR]