الطائر الحر
Well-Known Member
المدرسة المستنصرية تأسست زمن الدولة العباسية جهة الرصافة من بغداد وظلّ التدريس فيها مستمرا 4 قرون
بمحاذاة نهر دجلة قرب جسر الشهداء في جانب الرصافة من العاصمة بغداد، تقع المدرسة المستنصرية بعبقها وطرازها التاريخي، وهي من المعالم الأثرية الإسلامية العريقة التي شيدت في العصر العباسي، وما زالت شاخصة حتى يومنا هذا، وقد وضعت على لائحة التراث العالمي تمهيديا.
شيّدها الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 630 للهجرة (1233 للميلاد)، على مساحة 4836 مترا مربعا. وكانت مركزا علميا وثقافيا مهما، يتألف من طابقين فيهما 100 غرفة بين كبيرة وصغيرة، إضافة إلى الإيوانات والقاعات، وقد عدّها المؤرخون أول جامعة في العالمين العربي والإسلامي، وكانت أول مكان لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة في مدرسة واحدة، بينما تخصصت المدارس الأخرى في تدريس مذهب محدد من تلك المذاهب.
والخليفة المستنصر بالله هو أبو جعفر بن محمد الظاهر، ولد عام 588 للهجرة (1192 للميلاد)، وحكم الدولة العباسية حتى عام 640 للهجرة (1242 للميلاد)، وبرزت فطنته في طفولته، فكان يناديه جده بالقاضي لوفرة عقله. وليَ الحكم بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله، فنشر العدل بين الناس وأقام شرع الله وحارب الفساد وقرّب العلماء من بلاطه وأغدق على العلم وأهله، ومن صور اهتمامه بالعلم أنه بنى المدرسة المستنصرية في عاصمة الخلافة العباسية بغداد.
مغلقة للصيانة وتنتظر لائحة التراث
المدرسة اليوم مغلقة ومسيجة بسياج حديدي يحيط بها من كل جوانبها، وهي ملاصقة لسوق القبلانية وأسواق شعبية أخرى من مدخل شارع النهر، ولم تفتح أبوابها إلا نادرا بسبب الصيانة وغياب السائحين المهتمين بقضايا التراث منذ أكثر من عقد من الزمن، رغم أنها خضعت للصيانة في أوقات متفاوتة، وما زالت تحت الصيانة.
يقول رئيس قسم المنظمات الدولية في الهيئة العامة للآثار والتراث الدكتور أحمد كاظم إن المدرسة المستنصرية وُضعت على لائحة التراث العالمي التمهيدية لمنظمة اليونسكو، ضمن عنوان "الوسط التاريخي لمدينة بغداد"، وذلك عام 2014.
وأوضح كاظم للجزيرة نت أن "اللائحة التمهيدية تعد الخطوة التي تسبق اللائحة النهائية، غير أن الظروف التي يمر بها البلد -ومنها الأمنية والاقتصادية- بالإضافة إلى انتشار جائحة كورونا، أجّلت وضعها على اللائحة نهائيا".
وأشار كاظم إلى أن المدرسة المستنصرية أدرجت أيضا على لائحة منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) عام 2013، لأهميتها الكبيرة في التاريخ الإسلامي.
من جهته، أوضح وزير الثقافة السابق خبير الآثار الدكتور عبد الأمير الحمداني أن مشروع وزارة الثقافة -الذي ما زال قائما- أن يكون شاطئ دجلة الممتد من منطقة الباب الشرقي إلى منطقة باب المعظم، بما فيه شارعا الرشيد والمتنبي وموقع المدرسة المستنصرية في شارع النهر، وموقع خان مرجان؛ منطقة نهرية تراثية، وتسجل على لائحة التراث العالمي، وهي الآن ضمن القائمة التمهيدية التي أرسلتها هيئة الآثار التابعة لوزارة الثقافة إلى مركز التراث العالمي، وهو مركز مسؤول عن إدراج المواقع التراثية والأثرية على لائحة اليونسكو.
وأوضح للجزيرة نت أن المدرسة المستنصرية ضمن عدة معالم إسلامية تراثية قديمة تقع على شاطئ دجلة، وسيكون الإعلان عن وضعها ضمن اللائحة التي تتألف من 12 موقعا أثريا وتراثيا، وستقدم لليونسكو في اجتماعها المقبل الذي كان مقررا في الصين في يوليو/تموز الماضي، والذي عطل انعقاده جائحة كورونا.
أول جامعة عربية
يقول المؤرخ والموسوعي العراقي الدكتور علي النشمي إن المدرسة المستنصرية تعدّ أول جامعة عربية منفصلة عن التعليم في المساجد، وأول جامعة تدرس فيها كل العلوم ومنها الطب والفلك والرياضيات والعلوم الفقهية، وكانت مزارا للملوك والأمراء في العالم لكونها بلاطا اجتماعيا.
وفضلا عن ذلك، كانت المدرسة محلا لحل المشاكل السياسية العليا، عندما يعجز القضاء -وهو السلطة العليا- عنها، أما خريجو المدرسة فكانوا ينقلون العلوم والمعرفة إلى بلدان العالم الأخرى.
بوابة المدرسة المستنصرية مغلقة (الجزيرة) ويقول الناشط في مجال التراث الثقافي أمير دوشي -للجزيرة نت- إن المستنصرية تعدّ أول جامعة في زمانها، ففي القرون الوسطى عندما كان الغرب يغط في ظلام الجهل، كانت المدرسة المستنصرية منارة زمانها، حيث تتعدد الدروس وتتنوع مواضيعها من فقه وصرف وفلسفة ومنطق إلى علوم زمانها، حيث يتمكن الطالب من اختيار الموضوع وصاحب الدرس، وتلك إشارة إلى التنوير وحرية الاختيار، مشيرا إلى أن أهميتها تكمن في أنها معلم يشير إلى هوية بغداد كونها عاصمة العلم والتحضر في ذلك الوقت، وكذلك أهميتها من حيث تفرّد الريادة والطراز المعماري.
وخلال الغزو المغولي لبغداد عام 656 للهجرة (1258 للميلاد)، نهب هولاكو هذه المدرسة، وقتل جنودُه طلابها وألقيت الكتب في نهر دجلة.
وكانت مكتبة المدرسة زاخرة بأعداد ضخمة من المجلدات النفيسة والكتب النادرة التي بلغ تعدادها 450 ألفا، وتعد مرجعا للطلاب، كما قصدها الكثيرون من العلماء والفقهاء وترددوا عليها وأفادوا من كنوزها العلمية والأدبية نحو قرنين من الزمن، وقد نقل الخليفة إليها نفائس الكتب من مختلف العلوم والمعارف بما يقدر بـ80 ألف مجلد متعددة الأصناف.
ويتم اختيار طلابها من المدارس المختلفة ومن الذين اشتهروا بالتأليف والتصنيف والتدريس، من مختلف المدن في العراق والبلدان الإسلامية كالأندلس ومصر وقونية وبلاد الشام وأصفهان وخراسان.
واستعادت دائرة الآثار العراقية ملكية المدرسة المستنصرية عام 1940، وأجريت أول أعمال صيانة لها عام 1960، أما آخر عملية صيانة وترميم فجرت عام 1973، ثم عولجت بعض التصدعات فيها في ثمانينيات القرن الماضي.
شواهد من العصر العباسي
يقول الباحث التراثي عادل العرداوي إن المدرسة المستنصرية واحدة من المثابات والشواهد العمرانية الشاخصة منذ أيام العصر الأخير للدولة العباسية في عاصمة الخلافة بغداد، وهي واحدة من 8 شواخص عباسية أخرى ما زالت تقاوم الزمن والتحديات وتمثل إرث الفترة العباسية حتى اليوم.
وأوضح العرداوي -وهو نائب رئيس رابطة المجالس البغدادية- في حديثه للجزيرة نت، أن "هذه المدرسة بمثابة كلية جامعة أسسها الخليفة العباسي المستنصر بالله وما زالت تحمل اسمه وتخلده عبر الأجيال، وقد شيدها على ضفاف نهر دجلة في الجانب الشرقي من بغداد، امتدادا لدور الخلافة العباسية التي كانت تقع بامتدادها جنوبا، وذلك عام 1233 للميلاد (630 للهجرة)".
وأضاف أن "بناياتها الضخمة ضمت أكثر من 100 غرفة صغيرة وكبيرة وصالات وإيوانات عديدة للتدريس وسكن الطلاب الذين كانوا يأتون إليها من شتى بقاع العالم الإسلامي، وكانت مدة الدراسة فيها 10 أعوام متواصلة، والشهادة التي تمنحها لطلابها بعد التخرج كانت مقدرة للغاية".
وقال "كانت تُدرَّس فيها علوم القرآن والفقه الإسلامي لشتى المذاهب الإسلامية السائدة والمسائل الشرعية الخاصة بالإرث، إضافة إلى تدريس علوم الطب والرياضيات والفلك وغيرها، من قبل أساتذة وعلماء أكفاء يمثلون مختلف بقاع الدولة العربية الإسلامية الواسعة الأرجاء".
وفي معرض حديثه عن محطات المدرسة، بيّن العردواي أن "المستنصرية تواصل عطاؤها العلمي لفترة 4 قرون منذ تأسيسها، وتوقفت الدراسة فيها بعد دخول المغول وتحطيم الحضارة والحياة فيها وذلك بعد عام 656 للهجرة صعودا، بالرغم من محاولات عديدة جرت فيما بعد لإعادة الدراسة فيها لكنها كانت محاولات متقطعة لم تصمد طويلا".
وقال إن "البناية تحولت إلى فترة طويلة من الخراب والإهمال، حتى الحقبة الأخيرة من الحكم العثماني حيث استخدمتها ولاية بغداد خانا لخزن بضائع التجار الواردة إليها من ميناء البصرة عبر خط النقل النهري عبر دجلة بالمراكب من البصرة حتى بغداد، وأصبحت مقرا لدائرة الكمرك العثمانية، وكذلك استمر الحال كذلك في زمن الاحتلال البريطاني للعراق وبدايات الحكم الملكي العراقي، وكان يطلق على بنايتها في هذه الفترة (خان الكمرك) ومرسى الزوارق المحاذية لها (شريعة الكمرك)، دون النظر أو التفكير بأهمية موقعها التاريخي والآثاري البالغ الأهمية".
وزاد بالقول "في عام 1940، انتقلت ملكية بناية المستنصرية إلى المديرية العامة للآثار، باعتبارها بناية أثرية عريقة، لتتم المباشرة في صيانتها وترميمها، ولتشهد في بداية ستينيات القرن الماضي -زمن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم- حملة صيانة وترميم شاملة، لتعيدها إلى وظيفتها الآثارية والتراثية ولتصبح محجا للزوار ومثارا للاعتزاز حتى الوقت الحاضر.
وعزا العرداوي سبب إغلاقها في الوقت الحاضر إلى شحة التخصيصات المالية، ولأغراض الصيانة والترميم ومعالجة التداعيات الناتجة عن الظروف المناخية.
بينما أكد مدير عام التحريات في الهيئة العامة للآثار والتراث بوزارة الثقافة سليم خلف، أن المدرسة مغلقة في الوقت الحاضر لأغراض الصيانة والترميم، دون أن يعطي مزيدا من التفاصيل.