ابو مناف البصري
المالكي
[ أين يوجد الله سبحانه ؟؟ ]
قال عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم :
( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ... أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ... ) ( 1 ) .
وقال سبحانه :
( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) ( 2 ) .
وقال جلَّ وعلا :
( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ... ) ( 3 ) .
وقال ايضاً بشأن النبي عيسى ( عليه السلام ) :
( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) ( 4 ) .
وحين عُرِجَ بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بلغ ( قاب قوسين أو أدنى ) من ربه .
وأيضاً ممّا يُتوهَم أنّه سبحانه موجود في مكان ، قوله جلّ وعلا :
( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْش ) ( 5 ) .
( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ( 6 ) .
وهكذا ما جاء في السُنّة الشريفة ، كقول الرسول الأكرم ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) :
( ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء ) ( 7 ) .
ويؤيد كل ذلك : رفع أيدينا نحو السماء لإستجابة دعواتنا .
ويسأل كثيرون :
أنَّ لازم ذلك أنَّه سبحانه موجود في مكان محدد ، بل في علوٍ ، أي أنّه في السماء .
فكيف يلتئم هذا مع عقيدتنا بأنَّ الله سبحانه موجود في كل مكان وأنّه لا يحدّه مكان ؟؟
الجواب :
مع كون بعض هذه النصوص والشواهد صريحة في كونه سبحانه في السماء ، ولكن مع ذلك لا يمكن الأخذ بمفادها ؛ لمخالفتها للدليل العقلي القطعي بأنَّ الله سبحانه يستحيل أنْ يحدّه مكان ، وبيان ذلك بوجوه ، منها :
الأول :
إنَّ الله سبحانه هو خالق السموات والأرض والكون بل كل مخلوق ، وهو أزلي أبدي ، لم يخلو منه زمان سابق ولن يخلو منه زمان لاحق ، بل هو موجود قبل الزمان وباق حتى ما بعد الزمان ، بينما السماء مخلوقة ومُحْدَثة ، فنسأل : أين كان َالله قبل خلقها ، بل وأين سيكون سبحانه بعد فنائها ؟؟
فالقول بأنَّ وجود الله سبحانه في السماء يستلزم أحد لازمين :
الأول ، أنّه سبحانه لم يكن موجوداً قبل خلق السماء لحاجته اليها .
والثاني ، أنْ يُقال بِقَدَم السماء وأزليتها وبقائها الى الأبد ، وكلاهما باطل .
أمّا الأول فلأنّه يستلزم حاجة الله سبحانه في وجوده لشيء ، والله هو الغني ، وهو مُنَزّه عن كل حاجة .
وأمّا الثاني فهو يستلزم تعدد القدماء ، وهو شرك .
فالله جلَّ وعلا هو الخالق للسموات ، وهو الذي سيُفنيها .
يقول سبحانه :
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ( 8 ) .
ويقول جلَّ وعلا أيضاً :
( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ( 9 ) .
الوجه الثاني :
توجد آيات كثيرة مفادها : إنَّ الله أقرب إلينا من حبل الوريد ، ومعنى ذلك أمران :
الاول : أنّه قريب منّا ، وهذا يتنافى مع القول بأنّه في السماء .
والثاني : أنَّ هذا القرب لا معنى له إلّا على القول بأنّه خارج المكان والزمان ، وإلّا إذا كان الله قريباً منّا قرباً مكانياً فهذا يعني أنّه بعيد عن البعيد عنّا ، واذا كان قريباً من البعيد عنّا فمن الطبيعي أنَّ يكون بعيداً عنّا .
وعليه : كونه جلت عظمته قريباً من الكل كما هو الحق ، فلا بد أنْ يُفسّر ذلك بتفسير مختلف ، خارج عن نطاق الزمان والمكان .
يقول عزَّ إسمه :
( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) ( 10 ) .
وفي كل ذلك لابد من حمل الألفاظ على غير ظاهرها ، ولابد من تأويلها بنحو يتناسب مع حقيقة أنَّ الله سبحانه ليس في مكان ولا يحدّه مكان ، بأنْ نفسر القرب بالقرب المعنوي ، وليس القرب المكاني المحسوس .
وكونه في السماء كناية عن السمو والرفعة والعلو المعنوي لله جلَّ وعلا .
فالنصوص التي تصف الله سبحانه أنّه ( في السماء ) تعني أنّه سبحانه عالٍ على خلقه ، ولا تعني أنّه عز وجل تحويه السماء وتحيط به ؛ فالسماء هنا بمعنى العلو ، وليست السماء المخلوقة .
فعلو الله تعالى على عرشه وعلى جميع خلقه يعني كونه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات كلها ، فوق السماء ، وفوق الأرض ، وفوق كل شيء ، وأنّه سبحانه وتعالى لا يحويه شيء من هذه المخلوقات ، ولا يحتاج إلى شيء منها ، بل هو خالقها والقيّوم عليها .
الوجه الثالث :
لا يمكن القبول بكونه جل شأنه في السماء أو في الأرض أو فيهما معاً ، فإنَّ لازم ذلك نسبة الجسمية له تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولازم الجسمية أنّه سبحانه محدود ، ولازم محدوديته أنّه فقير ومحتاج لغيره ، ولازم كونه محتاجاً لغيره أنّه مخلوق ، بل أنّه ليس رباً ، سبحانه وتعالى عن كل ذلك .
وأما قضية معراج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) فالكلام فيها يطول ، موجزه :
نعم ، إنَّ قرب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان من الله سبحانه ، وليس من جبرائيل كما هو مفاد رأي آخر ، لكنه كان قُرباً معنوياً روحياً ، وليس قرباً مكانياً محسوساً .
وأمّا مسألة العرش ، فلابد من تأويل ذلك بأنَّ المراد هو نفس حكومة الله تعالى وتدبيره لعالم الوجود ، او هو مجموع عالم الوجود .
وحملة العرش : هم الملائكة الذين تقع عليهم مسؤولية تدبير أمر هذا العالم بأمر الله تعالى ( 11 ) .
وقد يُقال أنّه على قولكم بأنَّ الله سبحانه موجود في كل مكان ، فهل معنى ذلك أنَّه موجود في أماكن القذارات والنجاسات أيضاً ، حاشاه ؟!!
وجوابه يحتاج الى مقدمة ، وهي بإيجاز :
إنَّ الموجودات جميعاً على نحوين : مادّية وغير مادّية .
�والموجود المادّي : هو الموجود الذي له مادّة وجسم ، أي ذو أبعاد ثلاثة : طول وعرض وعمق ، والجسم يستدعي كونه في مكان خاص وجهة خاصّة ، ولا يمكن للجسم أنْ يكون في مكانين أو جهتين أو أكثر في آن واحد ، وإلّا لصار جسمين أو أكثر لا جسم واحد .
�والموجود غير المادّي : هو الموجود الذي ليس له مادّة وجسم ، فليس له مكان خاص ولا جهة خاصّة ، ولا يخضع لقوانين المادّة ، التي منها كونه في مكان .
اذا عرفنا ذلك ، فنقول :
إنَّ وجود الله تعالى وجود غير مادّي ، فهو موجود في كلّ مكان ، وفي كلّ جهة ، لا بمعنى التحيّز والمحدودية ، بل بمعنى الإحاطة القيّومية ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، بل نسبة جميع الأمكنة إليه سبحانه وتعالى على السواء ؛ قال تعالى :
( وَللّه المَشرق وَالمَغرب فأَينَمَا توَلّوا فثَمَّ وَجه اللّه إنَّ اللّهَ وَاسعٌ عَليمٌ ) ( 12 ) .
أي : أنَّ الله تعالى يملك ما بين المشرق والمغرب ، فله تعالى السلطة والقدرة على ما بينهما ، فأينما توجّهوا وجوهكم ، فهنالك وجه الله ، أي لا يخلو منه تعالى مكان ولا جهة ، فهو موجود في كلّ مكان قبل وجود السموات والأرض وبعد وجودها ، ولا يحتاج إلى سماء او أرض كي يوجد فيها ، فهذا من خصائص المادّة في إحتياجها إلى مكان تستقر عليه ، والله سبحانه منزّه عن المادّة والجسم .
ولا يقال لله سبحانه : أين ومتى ؛ لأنّه هو الذي أيّن الأين ( المكان ) ، وخلق الزمان ، فهو محيط بكلِّ شيء ، وكلُّ شيء حاضر عنده .
في رواية : أنَّ إبن أبي العوجا قال للإمام الصادق ( عليه السلام ) مستشكلاً :
( أهو في كل مكان ، أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ؟!
�فأجابه الإمام :
( إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان ، وخلا منه مكان ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن ، الملك الديّان ، فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ) ( 13 ) .�
الخلاصة : إنَّ موجودية الله سبحانه في كل مكان ليست موجودية مادّية ، بل هي موجودية غير مادّية ، فهو تعالى موجود في كل زمان ومكان ، بل ما قبل وما بعد الزمان والمكان .
***********
( 1 ) الملك : 16 - 17 .
( 2 ) السجدة : 5 .
( 3 ) فاطر : 10 .
( 4 ) النساء : 158 .
( 5 ) الأعراف : 54 .
( 6 ) الحاقّة : 17 .
( 7 ) الإحسائي ، محمد بن علي بن إبراهيم ، المعروف بإبن أبي جمهور ، ( ت : 880 هج ) ، عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 361 ، مطبعة سيد الشهداء ، قم .
( 8 ) آل عمران : 190 .
( 9 ) الأنبياء : 104 .
( 10 ) البقرة : 186 .
( 11 ) سبق وأنْ نشرت بحثين مفصّلين مستقلين في قضيتي المعراج والعرش ، وسأعيد نشرهما - إنْ شاء الله - تتميماً للفائدة .
( 12 ) البقرة : 115 .
( 13 ) الكليني ، الشيخ محمد بن يعقوب ، ( ت : 329 هج ) ، الكافي ، ج 1 ، ص 126 ، كتاب التوحيد ، باب : الحركة والإنتقال ، ح 3 ، الناشر : دار الكتب الاسلامية .
***********
جمعة طيبة مباركة .
[ حسن عطوان ]
قال عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم :
( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ... أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ... ) ( 1 ) .
وقال سبحانه :
( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) ( 2 ) .
وقال جلَّ وعلا :
( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ... ) ( 3 ) .
وقال ايضاً بشأن النبي عيسى ( عليه السلام ) :
( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) ( 4 ) .
وحين عُرِجَ بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بلغ ( قاب قوسين أو أدنى ) من ربه .
وأيضاً ممّا يُتوهَم أنّه سبحانه موجود في مكان ، قوله جلّ وعلا :
( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْش ) ( 5 ) .
( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ( 6 ) .
وهكذا ما جاء في السُنّة الشريفة ، كقول الرسول الأكرم ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) :
( ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء ) ( 7 ) .
ويؤيد كل ذلك : رفع أيدينا نحو السماء لإستجابة دعواتنا .
ويسأل كثيرون :
أنَّ لازم ذلك أنَّه سبحانه موجود في مكان محدد ، بل في علوٍ ، أي أنّه في السماء .
فكيف يلتئم هذا مع عقيدتنا بأنَّ الله سبحانه موجود في كل مكان وأنّه لا يحدّه مكان ؟؟
الجواب :
مع كون بعض هذه النصوص والشواهد صريحة في كونه سبحانه في السماء ، ولكن مع ذلك لا يمكن الأخذ بمفادها ؛ لمخالفتها للدليل العقلي القطعي بأنَّ الله سبحانه يستحيل أنْ يحدّه مكان ، وبيان ذلك بوجوه ، منها :
الأول :
إنَّ الله سبحانه هو خالق السموات والأرض والكون بل كل مخلوق ، وهو أزلي أبدي ، لم يخلو منه زمان سابق ولن يخلو منه زمان لاحق ، بل هو موجود قبل الزمان وباق حتى ما بعد الزمان ، بينما السماء مخلوقة ومُحْدَثة ، فنسأل : أين كان َالله قبل خلقها ، بل وأين سيكون سبحانه بعد فنائها ؟؟
فالقول بأنَّ وجود الله سبحانه في السماء يستلزم أحد لازمين :
الأول ، أنّه سبحانه لم يكن موجوداً قبل خلق السماء لحاجته اليها .
والثاني ، أنْ يُقال بِقَدَم السماء وأزليتها وبقائها الى الأبد ، وكلاهما باطل .
أمّا الأول فلأنّه يستلزم حاجة الله سبحانه في وجوده لشيء ، والله هو الغني ، وهو مُنَزّه عن كل حاجة .
وأمّا الثاني فهو يستلزم تعدد القدماء ، وهو شرك .
فالله جلَّ وعلا هو الخالق للسموات ، وهو الذي سيُفنيها .
يقول سبحانه :
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ( 8 ) .
ويقول جلَّ وعلا أيضاً :
( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ( 9 ) .
الوجه الثاني :
توجد آيات كثيرة مفادها : إنَّ الله أقرب إلينا من حبل الوريد ، ومعنى ذلك أمران :
الاول : أنّه قريب منّا ، وهذا يتنافى مع القول بأنّه في السماء .
والثاني : أنَّ هذا القرب لا معنى له إلّا على القول بأنّه خارج المكان والزمان ، وإلّا إذا كان الله قريباً منّا قرباً مكانياً فهذا يعني أنّه بعيد عن البعيد عنّا ، واذا كان قريباً من البعيد عنّا فمن الطبيعي أنَّ يكون بعيداً عنّا .
وعليه : كونه جلت عظمته قريباً من الكل كما هو الحق ، فلا بد أنْ يُفسّر ذلك بتفسير مختلف ، خارج عن نطاق الزمان والمكان .
يقول عزَّ إسمه :
( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) ( 10 ) .
وفي كل ذلك لابد من حمل الألفاظ على غير ظاهرها ، ولابد من تأويلها بنحو يتناسب مع حقيقة أنَّ الله سبحانه ليس في مكان ولا يحدّه مكان ، بأنْ نفسر القرب بالقرب المعنوي ، وليس القرب المكاني المحسوس .
وكونه في السماء كناية عن السمو والرفعة والعلو المعنوي لله جلَّ وعلا .
فالنصوص التي تصف الله سبحانه أنّه ( في السماء ) تعني أنّه سبحانه عالٍ على خلقه ، ولا تعني أنّه عز وجل تحويه السماء وتحيط به ؛ فالسماء هنا بمعنى العلو ، وليست السماء المخلوقة .
فعلو الله تعالى على عرشه وعلى جميع خلقه يعني كونه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات كلها ، فوق السماء ، وفوق الأرض ، وفوق كل شيء ، وأنّه سبحانه وتعالى لا يحويه شيء من هذه المخلوقات ، ولا يحتاج إلى شيء منها ، بل هو خالقها والقيّوم عليها .
الوجه الثالث :
لا يمكن القبول بكونه جل شأنه في السماء أو في الأرض أو فيهما معاً ، فإنَّ لازم ذلك نسبة الجسمية له تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولازم الجسمية أنّه سبحانه محدود ، ولازم محدوديته أنّه فقير ومحتاج لغيره ، ولازم كونه محتاجاً لغيره أنّه مخلوق ، بل أنّه ليس رباً ، سبحانه وتعالى عن كل ذلك .
وأما قضية معراج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) فالكلام فيها يطول ، موجزه :
نعم ، إنَّ قرب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان من الله سبحانه ، وليس من جبرائيل كما هو مفاد رأي آخر ، لكنه كان قُرباً معنوياً روحياً ، وليس قرباً مكانياً محسوساً .
وأمّا مسألة العرش ، فلابد من تأويل ذلك بأنَّ المراد هو نفس حكومة الله تعالى وتدبيره لعالم الوجود ، او هو مجموع عالم الوجود .
وحملة العرش : هم الملائكة الذين تقع عليهم مسؤولية تدبير أمر هذا العالم بأمر الله تعالى ( 11 ) .
وقد يُقال أنّه على قولكم بأنَّ الله سبحانه موجود في كل مكان ، فهل معنى ذلك أنَّه موجود في أماكن القذارات والنجاسات أيضاً ، حاشاه ؟!!
وجوابه يحتاج الى مقدمة ، وهي بإيجاز :
إنَّ الموجودات جميعاً على نحوين : مادّية وغير مادّية .
�والموجود المادّي : هو الموجود الذي له مادّة وجسم ، أي ذو أبعاد ثلاثة : طول وعرض وعمق ، والجسم يستدعي كونه في مكان خاص وجهة خاصّة ، ولا يمكن للجسم أنْ يكون في مكانين أو جهتين أو أكثر في آن واحد ، وإلّا لصار جسمين أو أكثر لا جسم واحد .
�والموجود غير المادّي : هو الموجود الذي ليس له مادّة وجسم ، فليس له مكان خاص ولا جهة خاصّة ، ولا يخضع لقوانين المادّة ، التي منها كونه في مكان .
اذا عرفنا ذلك ، فنقول :
إنَّ وجود الله تعالى وجود غير مادّي ، فهو موجود في كلّ مكان ، وفي كلّ جهة ، لا بمعنى التحيّز والمحدودية ، بل بمعنى الإحاطة القيّومية ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، بل نسبة جميع الأمكنة إليه سبحانه وتعالى على السواء ؛ قال تعالى :
( وَللّه المَشرق وَالمَغرب فأَينَمَا توَلّوا فثَمَّ وَجه اللّه إنَّ اللّهَ وَاسعٌ عَليمٌ ) ( 12 ) .
أي : أنَّ الله تعالى يملك ما بين المشرق والمغرب ، فله تعالى السلطة والقدرة على ما بينهما ، فأينما توجّهوا وجوهكم ، فهنالك وجه الله ، أي لا يخلو منه تعالى مكان ولا جهة ، فهو موجود في كلّ مكان قبل وجود السموات والأرض وبعد وجودها ، ولا يحتاج إلى سماء او أرض كي يوجد فيها ، فهذا من خصائص المادّة في إحتياجها إلى مكان تستقر عليه ، والله سبحانه منزّه عن المادّة والجسم .
ولا يقال لله سبحانه : أين ومتى ؛ لأنّه هو الذي أيّن الأين ( المكان ) ، وخلق الزمان ، فهو محيط بكلِّ شيء ، وكلُّ شيء حاضر عنده .
في رواية : أنَّ إبن أبي العوجا قال للإمام الصادق ( عليه السلام ) مستشكلاً :
( أهو في كل مكان ، أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ؟!
�فأجابه الإمام :
( إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان ، وخلا منه مكان ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا الله العظيم الشأن ، الملك الديّان ، فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ) ( 13 ) .�
الخلاصة : إنَّ موجودية الله سبحانه في كل مكان ليست موجودية مادّية ، بل هي موجودية غير مادّية ، فهو تعالى موجود في كل زمان ومكان ، بل ما قبل وما بعد الزمان والمكان .
***********
( 1 ) الملك : 16 - 17 .
( 2 ) السجدة : 5 .
( 3 ) فاطر : 10 .
( 4 ) النساء : 158 .
( 5 ) الأعراف : 54 .
( 6 ) الحاقّة : 17 .
( 7 ) الإحسائي ، محمد بن علي بن إبراهيم ، المعروف بإبن أبي جمهور ، ( ت : 880 هج ) ، عوالي اللئالي ، ج 1 ، ص 361 ، مطبعة سيد الشهداء ، قم .
( 8 ) آل عمران : 190 .
( 9 ) الأنبياء : 104 .
( 10 ) البقرة : 186 .
( 11 ) سبق وأنْ نشرت بحثين مفصّلين مستقلين في قضيتي المعراج والعرش ، وسأعيد نشرهما - إنْ شاء الله - تتميماً للفائدة .
( 12 ) البقرة : 115 .
( 13 ) الكليني ، الشيخ محمد بن يعقوب ، ( ت : 329 هج ) ، الكافي ، ج 1 ، ص 126 ، كتاب التوحيد ، باب : الحركة والإنتقال ، ح 3 ، الناشر : دار الكتب الاسلامية .
***********
جمعة طيبة مباركة .
[ حسن عطوان ]