ابو مناف البصري
المالكي
الآباء والكنيسة
أولًا: الكنيسة كمعنى:
* وضعت الوثائق الآبائية الأولى البنية الأساسية لعلم الأكليسيولوجى إذ أن ماهية الكنيسة ليست شيئًا تحصره المفاهيم والصياغات بقدر ما هي حياة وخبرة وممارسة (تعال وأنظر Come and see).
ثانيًا: الكنيسة في كتابات الآباء الرسوليين:
1- القديس أغناطيوس الأنطاكى (الكنيسة مرتبطة بالمسيح ارتباط الجسد بالرأس).
(الكنيسة هي اتخاذ المنظور بغير المنظور وهى جسد واحد وروح واحد وشركة مقدسة في عمقها يحيا الروح القدس ويعمل).
(موضع الذبيحة وكنيسة المسيح الجامعة: مذبحها واحد وهيكلها واحد وجماعتها إفخارستية، كما يرتبط أعضاؤها بالأسقف ارتباط الأوتار بالقيثارة في صلاة توسل وذهن واحد).
2- الراعى هرماس (الكنيسة تجمع أعضاءها في العالم كله موحدة إياهم في جسد واحد في وحدانية الفهم والفكر والمحبة والخدمة)
3- كلمنضس الروماني (الكنيسة روحية غير منظورة وأنها جسد المسيح وأم للمؤمنين وعلينا أن ننتسب لها لأنها كنيسة الحياة لكي نخلص).
* وهكذا تركزت كتابات الآباء الرسوليين حول الكنيسة فرأوها شعب الله الجديد وإسرائيل الجديد الوريث للمواعيد وأنها قبل الشمس والقمر وأم كل المسيحيين وهى في المسيح وهى أيضًا عروسه الروحانية وقد اُستعلنت في الأيام الأخيرة من أجل خلاصنا، وهى المتقدمة في الأيام والمخلوقة قبل كل شيء وقد خُلق الكون من أجلها هي (بحسب "رؤى الراعي" لهرماس).
ثالثًا: الكنيسة في فكر وكتابات الآباء المدافعين
1- الشهيد يوستين (يتحدث عن جميع الذين يؤمنون بالمسيح باعتبارهم قد توحدوا "في نفس واحدة، في مجمع واحد، كنيسة واحدة أتت إلى الوجود باسم المسيح وتتشارك في اسم المسيح لأننا جميعًا ندعى مسيحيين)".
2- أريستيدس المدافع المسيحي (الكنيسة هي قطيع المؤمنين الصغير وأنها الشعب والجنس الجديد الذي سيُخرج العالم من الفساد).
(العالم لا يستمر في الوجود إلا بسبب صلواتها وتضرعاتها).
3- ميليتو المدافع يسمى الكنيسة (خزانة الحق).
رابعًا: الكنيسة في فكر وكتابات آباء الغرب:
1- القديس إيريناؤس (الكنيسة دهر سرى ومنها صار كل شيء الكنيسة إسرائيل الجديد وجسد المسيح الممجد وأم المسيحيين وهى تزخر بالطاقات السرية بلا مقابل (مجانًا أخذتم) وتمنح المواهب التي لا تحصى، وهى المجال والوسط الفريد للروح القدس الذي أؤتمن بالحق عليها إذ لا شركة لنا مع المسيح إلا في الكنيسة، فحيث الكنيسة هناك روح الله القدوس وحيث روح الله هناك الكنيسة وكل ملء النعمة. والروح القدس هو الحق، لذلك فإن الذين لا يتشاركون في الروح القدس لا يتغذون على صدر أمهم الكنيسة ولا يشربون من النبع الدافق الذي يجرى من جسد المسيح. كما ويربط إيريناؤس بين الكنيسة وبين مبدأ "الانجماع الكلى" في المسيح معتبرًا أن المسيح، كرأس للكنيسة كلها يستمر عمله في التجديد من خلالها حتى نهاية العالم إذ أننا ننال الحياة داخل الكنيسة لأن فيها يوجد روح الله وكل نعمة وهى المؤتمنة على عطية الله. وكل من لا يتشارك في الروح لا يتغذى على صدر الكنيسة الأم، فخلاص الشخص تحققه أسرار الكنيسة باسم المسيح وفي المسيح لكونها باب الحياة.
* (هي العالم العائد إلى الله والسائر في طريق التجلي).
* (أعضاءها خليقة جديدة تحيا الحياة الفردوسية أي فردوس الحضرة الإلهية الحقيقية، لذا ينبغي أن نلجأ إليها ونحتمي في حضنها ونرضع ونتغذى من أسفارها المقدسة الربانية، إذ أنها مغروسة في وسط العالم كفردوس نعيم على الأرض).
* الكنيسة هي نبع الحق الوحيد وذخيرته وذلك لأنها غنية بالكتابات الرسولية التي هي نبع الحق الوحيد المدون بحسب التقليد الشفوي للإيمان الرسولي. وبسبب كرازتها بهذا الإيمان الواحد الذي ورثته عن الرسل فإن الكنيسة، وإن كانت منتشرة في العالم كله، إلا أنها تجاهر وتعيش ككنيسة واحدة مؤكدًا على أن قانون الحق والإطار التعليمي الكنسي الذي تسلمته الكنيسة، والذي يختلف عن انحرافات الهراطقة هو نفس التعليم في كل مكان، ذاكرًا التتابع الرسولي الذي لا ينقطع ولا ينفصل في كنيسة الله والذي يرجع إلى الرسل أنفسهم مما يوفر الضمان بأن هذا الإيمان هو نفسه الإيمان المسلم من القديسين والذي نادت به الكنيسة.
2- العلامة ترتليان يقول: "نحن جسد ملتحم برباط التقوى وبوحدانية التعليم وبيقينية الرجاء فلا يمكن أن يكون هناك إلا كنيسة واحدة تنتشر في العالم كله تمامًا كما أن هناك إله واحد، مسيح واحد، رجاء واحد معمودية واحدة، وهى عروس المسيح المذكورة في نشيد سليمان وأم المسيحيين".
* (الكنيسة هي البيت الوحيد والفريد للروح القدس والنبع الأوحد لذخيرة الاستعلان الرسولي بتعاليمها التي يضمنها ويؤمنها التسلسل الرسولي غير المنفصم).
* (في بيت أمكم أرفعوا أياديكم للصلاة للمرة الأولى)
* (الكنيسة حارسة الاستعلان الإلهي ومستودع كل نعمة وهى وحدها وريثة الحق وتسجيلاته، وهى وحدها تملك الأسفار الإلهية التي لا يستطيع الهراطقة أن يقرأوها قانونيًا ولها وحدها إيمان وعقيدة الرسل والتتابع الرسولي القانوني منهم، وبالتالي هي وحدها تعلم جوهر رسالتهم)
* (خلقة حواء من جنب آدم كانت رمزًا لميلاد الكنيسة من جنب الرب المصلوب. فكما أن آدم كان رمزًا للمسيح، كذلك كان نوم آدم رمزًا لموت المسيح الذي نام نوم الموتى، كي من الجرح الذي في جنبه يمكن بنفس الطريقة التي خُلقت بها حواء أن تتأسس الأم الحقيقية للحياة).
* (الكنيسة "أمنا" وأنها تُشبه بالسفينة التي تقاومها أمواج الاضطهادات والتجارب بينما الرب في طول آناته يبدو نائمًا حتى اللحظة الأخيرة، وعندما توقظه صلوات القديسين يبكم العالم ويرد السلام لأولاده ولبيعته المقدسة).
3- القديس هيلارى أسقف بواتييه (الكنيسة هي وحدة المؤمنين المتناغمة المتجانسة) (الكنيسة عروس المسيح وجسده السري والفم الذي به يتحدث المسيح إلى الناس والمسيح هو مؤسس الكنيسة بل أنه هو الكنيسة نفسها التي يحتويها كلها في نفسه من خلال سر تجسده، لذا هي الجسد المتكامل المؤسس على الإيمان الواحد واتفاق الإرادة والفعل).
خامسًا: الكنيسة في فكر وكتابات آباء الشرق:
* بالرغم من كثرة الأقوال والكتابات الآبائية عن الكنيسة التي وضعها الآباء الرسوليون والمدافعون وآباء الغرب والشرق، إلا أنه في الواقع لا يوجد فصل خاص يحمل عنوان "الكنيسة" ضمن كتابات الآباء، وهذا لا يعتبر نقصًا بقدر ما هو تأكيد على أن طبيعة الكنيسة ودعوتها كانت بالقطع حقيقة واضحة في رؤيتهم الروحية وقناعتهم الإيمانية الكاملة، إذ أن الكُتاب والمعلمين لا يعطون في الغالب تعريفًا لما هو معرف في ذاته،فالكنيسة هي بالأحرى الحقيقة المعاشة والمعروفة التي لا تحتاج إلى بحث وتحليل... لذا أدركوها عن طريق الخبرة والنعمة، فسر الكنيسة لا يُفهم إلا بالإيمان والمعايشة الاختبارية.
* ويرتبط علم اللاهوت الخاص بالكنيسة (الإكليسيولوجى) بعلم اللاهوت الخاص بالسيد المسيح (الكريستولوجى)، فلا توجد "فكرة" اسمها الكنيسة حتى توجد الكنيسة بذاتها لكن المسيحية هي الكنيسة لأنها مبنية على سر الثالوث والتجسد.
1- كيرلس الأورشليمي.
(الكنيسة واحدة ومقدسة وبأنها بيت الحكمة والمعرفة والفضائل المتعددة وبأنها ممتدة عبر المسكونة، وكذلك هي عروس المسيح وأم جميع المسيحيين التي تستقطب كل طبقات البشر باعتبارها صورة ونسخة من أورشليم السمائية أمنا جميعًا).
* (الكنيسة المقدسة الجامعة تمتد قوتها الروحية بلا حدود في كل العالم لأن الله -حسبما هو مكتوب- قد جعلها ملجأ سلام.. نتقبل منها التعليم ونسلك بتقوى لننال ملكوت السموات ونرث الحياة الأبدية).
2- القديس يوحنا ذهبي الفم: (إن المسيح، وهو الكامل بذاته، قد ارتضى أن يكتمل التدبير بالكنيسة وأن يربط نفسه بها كمخلص وفادى ورأس لها، وكما أن الرأس متمم بالجسد، وهكذا الكنيسة هي تمام المسيح).
(ليس شيء مثل الكنيسة. إنها خلاصكم وملجأكم!!! عالية أعلى من السموات، وقريبه أقرب من الأرض. إنها لا تشيخ بل تبقى مزهرة على الدوام...)
(الكنيسة هي بيت مبنى من نفوسنا نحن البشر، وأنها سماوية بل هي السماء، وكذا هي الفلك ونوح هو المسيح والحمامة هي الروح القدس، وأنها البيت الواحد لجميعنا).
(الإنجيل هو سر الكنيسة وهى التي تعطى الإنجيل مفهومه الحقيقي وتفسيره السليم).
3- وعندما نقرأ فكر القديس أغسطينوس أسقف هيبو عن الكنيسة نجده يشبهها بالفلك الذي كان رمزًا لمدينة الله في رحلتها عبر التاريخ والتي خلصت بالخشبة التي عُلق عليها " الشفيع بين الله والناس " الإنسان يسوع المسيح، أما باب الفلك الذي في الجنب فبالتأكيد يشير إلى الجرح المفتوح حيث طُعن المصلوب بالحرية في جنبه. إنه الباب الذي يدخل منه القادمون إليه أي المؤمنين الداخلين الكنيسة خلال الأسرار النابعة من هذا الجرح وعلى هذا المنوال تكون جميع تفاصيل بناء الفلك رموزًا للكنيسة.
* ويصف أغسطينوس الكنيسة بأنها جنة مغلقة وأنها العروس وأنها النبع المختوم وأنها بئر الماء الحي وأنها الحمامة الجميلة، وأن فيها يوجد القديسون المختارون من قبل تأسيس العالم، ولكن كثيرون يبدون داخلها بينما هم بالحقيقة خارجها!!!
* ثم يتحدث أغسطينوس عن المسيح بكونه رأس الكنيسة وبكونها هي متحدة به. ويصف الكنيسة بأنها هيكل الثالوث القدوس التي تجتمع من أربع جهات المسكونة (3 × 4) لذا هي جامعة، ويجتمع فيها الحمام الذي يطلب ما هو للمسيح ولكن أيضًا تجتمع الغربان التي تطلب ما لنفسها.
* ويرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة هي مثال الملكوت على الأرض فهى كالحقل الذي يحوى الحنطة والزوان، وكالشبكة التي فيها السمك الجيد والسمك الرديء، وهى الأم التي تلدنا للحياة الأبدية وتجعلنا أبناء للقيامة، ففيها نكون مع المسيح في السماء بالرجاء وهو يحل في وسطنا بالحب. وفي توصيفات متنوعة يصف أغسطينوس الكنيسة بأنها الفردوس وأنهارها الأربعة هي الأناجيل وأشجارها المثمرة هم القديسون وشجرة الحياة هي قدس الأقداس أي المسيح. وفي وصف آخر يرى أنها القميص الملون الذي التصق بالسيد المسيح وأنها القميص الوحيد صاحب الألوان الزاهية والمواهب المتنوعة.
* كما يرى في الكنيسة مملكة المسيح وجسده السري وعروسه، وأنه هو رأسها ورئيسها ورأس الزاوية فيها، وأنها أم المسيحيين كمثال حواء أم كل حي، وأيضًا يقول: "عندما كان السيد المسيح على الأرض منظورًا، كانت الكنيسة مختفية فيه وكان يفعل كل شيء لحسابها، لكنه لما صعد إلى السماء، صار مختفيًا في الكنيسة جسده وصارت هي تعمل كل شيء باسمه ولحسابه".
4- القديس كبريانوس الأسقف والشهيد، لنجد أن كتاباته عن الكنيسة تحمل روح وفكر الآباء السابقين له، إذ يرى أنها عروس المسيح النقية الطاهرة التي لا تزني، ويرى أنه لا يستطيع أحد أن يأخذ الله أبًا له ما لم تكن الكنيسة أمه، ولو استطاع أحد أن ينجو وهو خارج فلك نوح، لكان من الممكن أن ينجو من هو خارج الكنيسة فلك نوح الحقيقي التي لا خلاص لأحد خارجها، ومن يبقى خارجها هو خارج معسكر المسيح، فليس مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح، إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يحيا داخل عروس المسيح وإن لم يوجد في كنيسته؟
* ويُعتبر القديس كبريانوس من أشهر وأكثر الآباء الذين تكلموا عن وحدة الكنيسة واختص بالإدارة الكنسية وحل مشاكلها، لذا قدم في كتاباته خبرة عملية قال فيها: "الكنيسة هي كمجموعة حبوب القمح التي تتحد معًا لتؤلف خبز الشكر، وهى الأم التي تضم في حضنها جميع أولادها فتجمع شعبًا كاملًا... الكنيسة واحدة تمتد بثمارها المتنامية كأشعة الشمس الكثيرة من النور الواحد، وكأغصان الشجرة الكثيرة التي لها جذر واحد. ففي الكنيسة بيت الله الواحد يؤكل جسد الرب الواحد ويسكن ذوى الفكر الواحد، وقد قيل لراحاب التي كانت رمزًا للكنيسة: اجمعي إليك في البيت أباك وأمك وأخوتك وسائر بيت أبيك، فيكون إن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج فدمه على رأسه (يش 19:2).
سادسًا: الكنيسة في فكر وكتابات الآباء الكبادوك:
1- القديس غريغوريوس النيصي: الكنيسة بأنها بيت الخمر أي بيت الحب حيث تتزود العروس بالروائح وتتغذى بالتفاح (الأسرار) وعن طريق جروحات المحبة الغالية (الصليب) تستقبل سهمه الذي بيده اليمنى، وهذه هي رسالة الكنيسة حيث تستقبل الحق خلال نافذة الأنبياء وعمل الناموس وقدوم نور الكلمة إلى جماعة المؤمنين خلال التجسد الإلهي.
* ويرى غريغوريوس أسقف نيصص أن الرب يسوع يتحدث إلى العروس المتكئة أي الكنيسة حمامته كاملته التي ينعكس عليها جماله الإلهي لأنها جسده، إذ أنه صنعها من جسده وبناها على الحب وصار لها رأسًا وأعطاها طهارته، لذا كل من يراها يبصر انعكاس وجه شمس البر عليها.
* ويصف الكنيسة بأنها عروس المسيح وأخته التي تصنع مشيئته، والقريبة جدًا إليه والمتحدة معه بآن واحد، وفي إيضاح يقول: "لقد تم زفاف الكنيسة للمسيح الكلمة كما يقول يوحنا الحبيب: من له العروس فهو العريس (يو 29:3).
2- القديس باسيليوس الكبير كتب عن الكنيسة قائلًا أنها جسد المسيح وشركة الروح القدس وأنها جماعة المحبة الملهمة بالروح القدس الساكن فيها، وأنها جماعة المواهب التي أسسها الروح القدس لتقوم بعملها في تقديس الخليقة، حيث يظهر السيد المسيح شمس البر أسرار قوته العالية والسامية لكنيسة ويُعرفها مواضع مراعيه المفرحة وأماكن راحته وتتقبل هي منه أشعة المعرفة الحقيقية.
سابعًا: الكنيسة في كتابات وفكر آباء الإسكندرية:
1- القديس كلمنضس السكندري يؤكد على أن الكنيسة هي المكان المدخر فيه التقليد الكنسي الرسولي، وأنها تضم أولادها الذين يطلبون أمهم عروس المعلم، وهى ولدتهم وتغذيهم على اللوغوس كلبن مقدس، كما يصفها بأنها جماعة المختارين والمدينة الخصبة الولود التي يملك عليها اللوغوس وهى صورة للسمائيين. فالكنيسة هي جسد المسيح السري والذين بالحق يلتصقون بالرب يُكونون الكنيسة المقدسة بكل ما يحمله المفهوم من حقيقة ومعنى عملي.
* وكتب كلمنضس السكندري عن الكنيسة باعتبارها ممارسة الحياة السمائية وباعتبار أن عضويتها الحقيقية تتمثل في المعرفة الروحية وإدراك الحق الكنسي والتأمل في مسيح الكنيسة بلا انقطاع، إذ أنها واحدة ومكرمة جدًا بسبب وحدتها وبكوريتها، كما وصفها بأنها أيقونة للكنيسة السمائية العليا والمثلى والتي أعضاؤها أبكار وأسماؤهم مكتوبة في السماء.
2- وبالقراءة في كتابات العلامة أوريجين نجده يصف الكنيسة بأنها جماعة شعب المسيح وجماعة المؤمنين، والتي فيها تخلص كل الخلائق. كذا ويعتبرها حواء الجديدة أم كل حى التي وُلدت من جنب المخلص المفتوح كما طلعت حواء من جنب آدم. أنها الكنيسة التي خرجت من جرح جنبه وجعل هو منها عروسًا له يرويها بماء الجرن المحيية وبدم الكأس المُفاضة من الجنب المطعون.
* وفي موضع آخر يعتبرها جسد المسيح المنظور ومدينة الله القائمة على الأرض التي لا خلاص لأحد بدونها، إذ لا يوجد الخلاص إلا فيها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما يصفها بكنيسة الله وبالفلك الحقيقي الذي فيه وحده يجد الناس الخلاص، أما من يبقى خارج حصونها فيؤسر ويقتل بيد العدو الشرير.
* ويرى أوريجين أنها كنيسة المسيح نفسه، والمسيح إنما هو مسيح الكنيسة الذي يضيئها بنوره مثلما يستمد القمر نوره من الشمس. واستطرد أوريجين في شرحه لعلاقة الكنيسة ولزوميتها للخلاص فتحدث عن مصير الذين يعيشون خارجها، وكيف أنها قديمة قدم الخليقة، وكيف أن المسيح هو ضياؤها ورأسها ونهارها، معتبرًا أنها بيت الخلاص ومعتزًا بأنه رجل الكنيسة.
3- ديديموس الضرير كتب عن الكنيسة وشرح أنها أم لجميع المؤمنين وأن المسيح رأسها هو أبوهم، ومنه تنبع كل أبوه في السموات وعلى الأرض ووصف الكنيسة بأنها جسد المسيح الرأس الذي أسسها على الأنهار جاعلًا إياها، بمقتضى قوانينه الإلهية، قادرة على قبول الروح القدس، ومنها كما من ينبوع رئيسي تتدفق كل النعم كأنها ينابيع مياه حية. ويعتبر القديس ديديموس أن الكنيسة هي معمل الخلاص التي تنجب أولادًا لتخلصهم كأم لكثيرين، عندما يحتمون فيها كصورة للكنيسة العليا المهابة التي تبرئ من لدغة الحية.
4- القديس أثناسيوس الرسولي أعتبر أن كل من لا يؤمن بالثالوث القدوس لا يُحسب أنه قد أنضم إلى الكنيسة. ويرى أن الكنيسة التي على الأرض هي بيت الله وباب السماء وبيت السلام وبيت الملائكة ونهاية الأتعاب والضيقات والتجوال، ومكان الشركة والأخوة. فهي إسرائيل الحقيقي (الروحي لا الجسدي) وجسد المسيح حاضر فيها للمؤمنين، وحاضر بصفة المؤمنين، فهم يشتركون فيه وهم أيضًا جسده السري.
* ويرى البابا أثناسيوس الرسولي أن الكنيسة هي الشعب المختار الذي يقوده الله نحو أرض الموعد، وأنها بؤرة ومركز الخليقة الجديدة، ففي الكنيسة وفي الكنيسة وحدها نقبل عطية الروح القدس الذي يُعطى للمؤمنين فقط خلال الأسرار السمائية.
* وعندما نأتي إلى تعليم القديس كيرلس الكبير ختم الآباء، نجد يؤكد على مفهوم المسيح الواحد والكنيسة الواحدة، فهو رأسها وهى جسده المكون من الأعضاء الحية، ثم يُعرف الكنيسة بأنها المدينة المقدسة التي تتقدس بالامتثال بالمسيح أصلها ومبدأها وحجر الزاوية في بنائها.
5- البابا كيرلس رأى أن الكنيسة هي أم المؤمنين المؤسسة على الإيمان بالمسيح الراعي الأول والأبدي للمؤمنين، وهى التي تقوت الصالحين القديسين، كما أعتبرها الحظيرة والبناء المترابط ومدينة أورشليم الجديدة.
* وأخيرًا لا شك أن كتابات الآباء ذاخرة بالعظات والرسائل والأقوال التي تتناول اللاهوت الإكليسيولوجى، وبالرغم من أنه لم تفرد له كتابات خاصة إلا أن التعاليم عن الكنيسة جاءت بغير فصل بينها وبين طبيعة المسيح، وكانت مرتبطة بالشروحات الكتابية والعقيدية لتلمس البعد الفعلي والتطبيقي لعمل التدبير الإلهي لخلاص الإنسان خلال كنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته.
_____
(*) المراجع: حياة وفكر كنيسة الآباء الموسوعة الآبائية - القس أثناسيوس فهمى
أولًا: الكنيسة كمعنى:
* وضعت الوثائق الآبائية الأولى البنية الأساسية لعلم الأكليسيولوجى إذ أن ماهية الكنيسة ليست شيئًا تحصره المفاهيم والصياغات بقدر ما هي حياة وخبرة وممارسة (تعال وأنظر Come and see).
ثانيًا: الكنيسة في كتابات الآباء الرسوليين:
1- القديس أغناطيوس الأنطاكى (الكنيسة مرتبطة بالمسيح ارتباط الجسد بالرأس).
(الكنيسة هي اتخاذ المنظور بغير المنظور وهى جسد واحد وروح واحد وشركة مقدسة في عمقها يحيا الروح القدس ويعمل).
(موضع الذبيحة وكنيسة المسيح الجامعة: مذبحها واحد وهيكلها واحد وجماعتها إفخارستية، كما يرتبط أعضاؤها بالأسقف ارتباط الأوتار بالقيثارة في صلاة توسل وذهن واحد).
2- الراعى هرماس (الكنيسة تجمع أعضاءها في العالم كله موحدة إياهم في جسد واحد في وحدانية الفهم والفكر والمحبة والخدمة)
3- كلمنضس الروماني (الكنيسة روحية غير منظورة وأنها جسد المسيح وأم للمؤمنين وعلينا أن ننتسب لها لأنها كنيسة الحياة لكي نخلص).
* وهكذا تركزت كتابات الآباء الرسوليين حول الكنيسة فرأوها شعب الله الجديد وإسرائيل الجديد الوريث للمواعيد وأنها قبل الشمس والقمر وأم كل المسيحيين وهى في المسيح وهى أيضًا عروسه الروحانية وقد اُستعلنت في الأيام الأخيرة من أجل خلاصنا، وهى المتقدمة في الأيام والمخلوقة قبل كل شيء وقد خُلق الكون من أجلها هي (بحسب "رؤى الراعي" لهرماس).
ثالثًا: الكنيسة في فكر وكتابات الآباء المدافعين
1- الشهيد يوستين (يتحدث عن جميع الذين يؤمنون بالمسيح باعتبارهم قد توحدوا "في نفس واحدة، في مجمع واحد، كنيسة واحدة أتت إلى الوجود باسم المسيح وتتشارك في اسم المسيح لأننا جميعًا ندعى مسيحيين)".
2- أريستيدس المدافع المسيحي (الكنيسة هي قطيع المؤمنين الصغير وأنها الشعب والجنس الجديد الذي سيُخرج العالم من الفساد).
(العالم لا يستمر في الوجود إلا بسبب صلواتها وتضرعاتها).
3- ميليتو المدافع يسمى الكنيسة (خزانة الحق).
رابعًا: الكنيسة في فكر وكتابات آباء الغرب:
1- القديس إيريناؤس (الكنيسة دهر سرى ومنها صار كل شيء الكنيسة إسرائيل الجديد وجسد المسيح الممجد وأم المسيحيين وهى تزخر بالطاقات السرية بلا مقابل (مجانًا أخذتم) وتمنح المواهب التي لا تحصى، وهى المجال والوسط الفريد للروح القدس الذي أؤتمن بالحق عليها إذ لا شركة لنا مع المسيح إلا في الكنيسة، فحيث الكنيسة هناك روح الله القدوس وحيث روح الله هناك الكنيسة وكل ملء النعمة. والروح القدس هو الحق، لذلك فإن الذين لا يتشاركون في الروح القدس لا يتغذون على صدر أمهم الكنيسة ولا يشربون من النبع الدافق الذي يجرى من جسد المسيح. كما ويربط إيريناؤس بين الكنيسة وبين مبدأ "الانجماع الكلى" في المسيح معتبرًا أن المسيح، كرأس للكنيسة كلها يستمر عمله في التجديد من خلالها حتى نهاية العالم إذ أننا ننال الحياة داخل الكنيسة لأن فيها يوجد روح الله وكل نعمة وهى المؤتمنة على عطية الله. وكل من لا يتشارك في الروح لا يتغذى على صدر الكنيسة الأم، فخلاص الشخص تحققه أسرار الكنيسة باسم المسيح وفي المسيح لكونها باب الحياة.
* (هي العالم العائد إلى الله والسائر في طريق التجلي).
* (أعضاءها خليقة جديدة تحيا الحياة الفردوسية أي فردوس الحضرة الإلهية الحقيقية، لذا ينبغي أن نلجأ إليها ونحتمي في حضنها ونرضع ونتغذى من أسفارها المقدسة الربانية، إذ أنها مغروسة في وسط العالم كفردوس نعيم على الأرض).
* الكنيسة هي نبع الحق الوحيد وذخيرته وذلك لأنها غنية بالكتابات الرسولية التي هي نبع الحق الوحيد المدون بحسب التقليد الشفوي للإيمان الرسولي. وبسبب كرازتها بهذا الإيمان الواحد الذي ورثته عن الرسل فإن الكنيسة، وإن كانت منتشرة في العالم كله، إلا أنها تجاهر وتعيش ككنيسة واحدة مؤكدًا على أن قانون الحق والإطار التعليمي الكنسي الذي تسلمته الكنيسة، والذي يختلف عن انحرافات الهراطقة هو نفس التعليم في كل مكان، ذاكرًا التتابع الرسولي الذي لا ينقطع ولا ينفصل في كنيسة الله والذي يرجع إلى الرسل أنفسهم مما يوفر الضمان بأن هذا الإيمان هو نفسه الإيمان المسلم من القديسين والذي نادت به الكنيسة.
2- العلامة ترتليان يقول: "نحن جسد ملتحم برباط التقوى وبوحدانية التعليم وبيقينية الرجاء فلا يمكن أن يكون هناك إلا كنيسة واحدة تنتشر في العالم كله تمامًا كما أن هناك إله واحد، مسيح واحد، رجاء واحد معمودية واحدة، وهى عروس المسيح المذكورة في نشيد سليمان وأم المسيحيين".
* (الكنيسة هي البيت الوحيد والفريد للروح القدس والنبع الأوحد لذخيرة الاستعلان الرسولي بتعاليمها التي يضمنها ويؤمنها التسلسل الرسولي غير المنفصم).
* (في بيت أمكم أرفعوا أياديكم للصلاة للمرة الأولى)
* (الكنيسة حارسة الاستعلان الإلهي ومستودع كل نعمة وهى وحدها وريثة الحق وتسجيلاته، وهى وحدها تملك الأسفار الإلهية التي لا يستطيع الهراطقة أن يقرأوها قانونيًا ولها وحدها إيمان وعقيدة الرسل والتتابع الرسولي القانوني منهم، وبالتالي هي وحدها تعلم جوهر رسالتهم)
* (خلقة حواء من جنب آدم كانت رمزًا لميلاد الكنيسة من جنب الرب المصلوب. فكما أن آدم كان رمزًا للمسيح، كذلك كان نوم آدم رمزًا لموت المسيح الذي نام نوم الموتى، كي من الجرح الذي في جنبه يمكن بنفس الطريقة التي خُلقت بها حواء أن تتأسس الأم الحقيقية للحياة).
* (الكنيسة "أمنا" وأنها تُشبه بالسفينة التي تقاومها أمواج الاضطهادات والتجارب بينما الرب في طول آناته يبدو نائمًا حتى اللحظة الأخيرة، وعندما توقظه صلوات القديسين يبكم العالم ويرد السلام لأولاده ولبيعته المقدسة).
3- القديس هيلارى أسقف بواتييه (الكنيسة هي وحدة المؤمنين المتناغمة المتجانسة) (الكنيسة عروس المسيح وجسده السري والفم الذي به يتحدث المسيح إلى الناس والمسيح هو مؤسس الكنيسة بل أنه هو الكنيسة نفسها التي يحتويها كلها في نفسه من خلال سر تجسده، لذا هي الجسد المتكامل المؤسس على الإيمان الواحد واتفاق الإرادة والفعل).
خامسًا: الكنيسة في فكر وكتابات آباء الشرق:
* بالرغم من كثرة الأقوال والكتابات الآبائية عن الكنيسة التي وضعها الآباء الرسوليون والمدافعون وآباء الغرب والشرق، إلا أنه في الواقع لا يوجد فصل خاص يحمل عنوان "الكنيسة" ضمن كتابات الآباء، وهذا لا يعتبر نقصًا بقدر ما هو تأكيد على أن طبيعة الكنيسة ودعوتها كانت بالقطع حقيقة واضحة في رؤيتهم الروحية وقناعتهم الإيمانية الكاملة، إذ أن الكُتاب والمعلمين لا يعطون في الغالب تعريفًا لما هو معرف في ذاته،فالكنيسة هي بالأحرى الحقيقة المعاشة والمعروفة التي لا تحتاج إلى بحث وتحليل... لذا أدركوها عن طريق الخبرة والنعمة، فسر الكنيسة لا يُفهم إلا بالإيمان والمعايشة الاختبارية.
* ويرتبط علم اللاهوت الخاص بالكنيسة (الإكليسيولوجى) بعلم اللاهوت الخاص بالسيد المسيح (الكريستولوجى)، فلا توجد "فكرة" اسمها الكنيسة حتى توجد الكنيسة بذاتها لكن المسيحية هي الكنيسة لأنها مبنية على سر الثالوث والتجسد.
1- كيرلس الأورشليمي.
(الكنيسة واحدة ومقدسة وبأنها بيت الحكمة والمعرفة والفضائل المتعددة وبأنها ممتدة عبر المسكونة، وكذلك هي عروس المسيح وأم جميع المسيحيين التي تستقطب كل طبقات البشر باعتبارها صورة ونسخة من أورشليم السمائية أمنا جميعًا).
* (الكنيسة المقدسة الجامعة تمتد قوتها الروحية بلا حدود في كل العالم لأن الله -حسبما هو مكتوب- قد جعلها ملجأ سلام.. نتقبل منها التعليم ونسلك بتقوى لننال ملكوت السموات ونرث الحياة الأبدية).
2- القديس يوحنا ذهبي الفم: (إن المسيح، وهو الكامل بذاته، قد ارتضى أن يكتمل التدبير بالكنيسة وأن يربط نفسه بها كمخلص وفادى ورأس لها، وكما أن الرأس متمم بالجسد، وهكذا الكنيسة هي تمام المسيح).
(ليس شيء مثل الكنيسة. إنها خلاصكم وملجأكم!!! عالية أعلى من السموات، وقريبه أقرب من الأرض. إنها لا تشيخ بل تبقى مزهرة على الدوام...)
(الكنيسة هي بيت مبنى من نفوسنا نحن البشر، وأنها سماوية بل هي السماء، وكذا هي الفلك ونوح هو المسيح والحمامة هي الروح القدس، وأنها البيت الواحد لجميعنا).
(الإنجيل هو سر الكنيسة وهى التي تعطى الإنجيل مفهومه الحقيقي وتفسيره السليم).
3- وعندما نقرأ فكر القديس أغسطينوس أسقف هيبو عن الكنيسة نجده يشبهها بالفلك الذي كان رمزًا لمدينة الله في رحلتها عبر التاريخ والتي خلصت بالخشبة التي عُلق عليها " الشفيع بين الله والناس " الإنسان يسوع المسيح، أما باب الفلك الذي في الجنب فبالتأكيد يشير إلى الجرح المفتوح حيث طُعن المصلوب بالحرية في جنبه. إنه الباب الذي يدخل منه القادمون إليه أي المؤمنين الداخلين الكنيسة خلال الأسرار النابعة من هذا الجرح وعلى هذا المنوال تكون جميع تفاصيل بناء الفلك رموزًا للكنيسة.
* ويصف أغسطينوس الكنيسة بأنها جنة مغلقة وأنها العروس وأنها النبع المختوم وأنها بئر الماء الحي وأنها الحمامة الجميلة، وأن فيها يوجد القديسون المختارون من قبل تأسيس العالم، ولكن كثيرون يبدون داخلها بينما هم بالحقيقة خارجها!!!
* ثم يتحدث أغسطينوس عن المسيح بكونه رأس الكنيسة وبكونها هي متحدة به. ويصف الكنيسة بأنها هيكل الثالوث القدوس التي تجتمع من أربع جهات المسكونة (3 × 4) لذا هي جامعة، ويجتمع فيها الحمام الذي يطلب ما هو للمسيح ولكن أيضًا تجتمع الغربان التي تطلب ما لنفسها.
* ويرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة هي مثال الملكوت على الأرض فهى كالحقل الذي يحوى الحنطة والزوان، وكالشبكة التي فيها السمك الجيد والسمك الرديء، وهى الأم التي تلدنا للحياة الأبدية وتجعلنا أبناء للقيامة، ففيها نكون مع المسيح في السماء بالرجاء وهو يحل في وسطنا بالحب. وفي توصيفات متنوعة يصف أغسطينوس الكنيسة بأنها الفردوس وأنهارها الأربعة هي الأناجيل وأشجارها المثمرة هم القديسون وشجرة الحياة هي قدس الأقداس أي المسيح. وفي وصف آخر يرى أنها القميص الملون الذي التصق بالسيد المسيح وأنها القميص الوحيد صاحب الألوان الزاهية والمواهب المتنوعة.
* كما يرى في الكنيسة مملكة المسيح وجسده السري وعروسه، وأنه هو رأسها ورئيسها ورأس الزاوية فيها، وأنها أم المسيحيين كمثال حواء أم كل حي، وأيضًا يقول: "عندما كان السيد المسيح على الأرض منظورًا، كانت الكنيسة مختفية فيه وكان يفعل كل شيء لحسابها، لكنه لما صعد إلى السماء، صار مختفيًا في الكنيسة جسده وصارت هي تعمل كل شيء باسمه ولحسابه".
4- القديس كبريانوس الأسقف والشهيد، لنجد أن كتاباته عن الكنيسة تحمل روح وفكر الآباء السابقين له، إذ يرى أنها عروس المسيح النقية الطاهرة التي لا تزني، ويرى أنه لا يستطيع أحد أن يأخذ الله أبًا له ما لم تكن الكنيسة أمه، ولو استطاع أحد أن ينجو وهو خارج فلك نوح، لكان من الممكن أن ينجو من هو خارج الكنيسة فلك نوح الحقيقي التي لا خلاص لأحد خارجها، ومن يبقى خارجها هو خارج معسكر المسيح، فليس مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح، إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يحيا داخل عروس المسيح وإن لم يوجد في كنيسته؟
* ويُعتبر القديس كبريانوس من أشهر وأكثر الآباء الذين تكلموا عن وحدة الكنيسة واختص بالإدارة الكنسية وحل مشاكلها، لذا قدم في كتاباته خبرة عملية قال فيها: "الكنيسة هي كمجموعة حبوب القمح التي تتحد معًا لتؤلف خبز الشكر، وهى الأم التي تضم في حضنها جميع أولادها فتجمع شعبًا كاملًا... الكنيسة واحدة تمتد بثمارها المتنامية كأشعة الشمس الكثيرة من النور الواحد، وكأغصان الشجرة الكثيرة التي لها جذر واحد. ففي الكنيسة بيت الله الواحد يؤكل جسد الرب الواحد ويسكن ذوى الفكر الواحد، وقد قيل لراحاب التي كانت رمزًا للكنيسة: اجمعي إليك في البيت أباك وأمك وأخوتك وسائر بيت أبيك، فيكون إن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج فدمه على رأسه (يش 19:2).
سادسًا: الكنيسة في فكر وكتابات الآباء الكبادوك:
1- القديس غريغوريوس النيصي: الكنيسة بأنها بيت الخمر أي بيت الحب حيث تتزود العروس بالروائح وتتغذى بالتفاح (الأسرار) وعن طريق جروحات المحبة الغالية (الصليب) تستقبل سهمه الذي بيده اليمنى، وهذه هي رسالة الكنيسة حيث تستقبل الحق خلال نافذة الأنبياء وعمل الناموس وقدوم نور الكلمة إلى جماعة المؤمنين خلال التجسد الإلهي.
* ويرى غريغوريوس أسقف نيصص أن الرب يسوع يتحدث إلى العروس المتكئة أي الكنيسة حمامته كاملته التي ينعكس عليها جماله الإلهي لأنها جسده، إذ أنه صنعها من جسده وبناها على الحب وصار لها رأسًا وأعطاها طهارته، لذا كل من يراها يبصر انعكاس وجه شمس البر عليها.
* ويصف الكنيسة بأنها عروس المسيح وأخته التي تصنع مشيئته، والقريبة جدًا إليه والمتحدة معه بآن واحد، وفي إيضاح يقول: "لقد تم زفاف الكنيسة للمسيح الكلمة كما يقول يوحنا الحبيب: من له العروس فهو العريس (يو 29:3).
2- القديس باسيليوس الكبير كتب عن الكنيسة قائلًا أنها جسد المسيح وشركة الروح القدس وأنها جماعة المحبة الملهمة بالروح القدس الساكن فيها، وأنها جماعة المواهب التي أسسها الروح القدس لتقوم بعملها في تقديس الخليقة، حيث يظهر السيد المسيح شمس البر أسرار قوته العالية والسامية لكنيسة ويُعرفها مواضع مراعيه المفرحة وأماكن راحته وتتقبل هي منه أشعة المعرفة الحقيقية.
سابعًا: الكنيسة في كتابات وفكر آباء الإسكندرية:
1- القديس كلمنضس السكندري يؤكد على أن الكنيسة هي المكان المدخر فيه التقليد الكنسي الرسولي، وأنها تضم أولادها الذين يطلبون أمهم عروس المعلم، وهى ولدتهم وتغذيهم على اللوغوس كلبن مقدس، كما يصفها بأنها جماعة المختارين والمدينة الخصبة الولود التي يملك عليها اللوغوس وهى صورة للسمائيين. فالكنيسة هي جسد المسيح السري والذين بالحق يلتصقون بالرب يُكونون الكنيسة المقدسة بكل ما يحمله المفهوم من حقيقة ومعنى عملي.
* وكتب كلمنضس السكندري عن الكنيسة باعتبارها ممارسة الحياة السمائية وباعتبار أن عضويتها الحقيقية تتمثل في المعرفة الروحية وإدراك الحق الكنسي والتأمل في مسيح الكنيسة بلا انقطاع، إذ أنها واحدة ومكرمة جدًا بسبب وحدتها وبكوريتها، كما وصفها بأنها أيقونة للكنيسة السمائية العليا والمثلى والتي أعضاؤها أبكار وأسماؤهم مكتوبة في السماء.
2- وبالقراءة في كتابات العلامة أوريجين نجده يصف الكنيسة بأنها جماعة شعب المسيح وجماعة المؤمنين، والتي فيها تخلص كل الخلائق. كذا ويعتبرها حواء الجديدة أم كل حى التي وُلدت من جنب المخلص المفتوح كما طلعت حواء من جنب آدم. أنها الكنيسة التي خرجت من جرح جنبه وجعل هو منها عروسًا له يرويها بماء الجرن المحيية وبدم الكأس المُفاضة من الجنب المطعون.
* وفي موضع آخر يعتبرها جسد المسيح المنظور ومدينة الله القائمة على الأرض التي لا خلاص لأحد بدونها، إذ لا يوجد الخلاص إلا فيها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما يصفها بكنيسة الله وبالفلك الحقيقي الذي فيه وحده يجد الناس الخلاص، أما من يبقى خارج حصونها فيؤسر ويقتل بيد العدو الشرير.
* ويرى أوريجين أنها كنيسة المسيح نفسه، والمسيح إنما هو مسيح الكنيسة الذي يضيئها بنوره مثلما يستمد القمر نوره من الشمس. واستطرد أوريجين في شرحه لعلاقة الكنيسة ولزوميتها للخلاص فتحدث عن مصير الذين يعيشون خارجها، وكيف أنها قديمة قدم الخليقة، وكيف أن المسيح هو ضياؤها ورأسها ونهارها، معتبرًا أنها بيت الخلاص ومعتزًا بأنه رجل الكنيسة.
3- ديديموس الضرير كتب عن الكنيسة وشرح أنها أم لجميع المؤمنين وأن المسيح رأسها هو أبوهم، ومنه تنبع كل أبوه في السموات وعلى الأرض ووصف الكنيسة بأنها جسد المسيح الرأس الذي أسسها على الأنهار جاعلًا إياها، بمقتضى قوانينه الإلهية، قادرة على قبول الروح القدس، ومنها كما من ينبوع رئيسي تتدفق كل النعم كأنها ينابيع مياه حية. ويعتبر القديس ديديموس أن الكنيسة هي معمل الخلاص التي تنجب أولادًا لتخلصهم كأم لكثيرين، عندما يحتمون فيها كصورة للكنيسة العليا المهابة التي تبرئ من لدغة الحية.
4- القديس أثناسيوس الرسولي أعتبر أن كل من لا يؤمن بالثالوث القدوس لا يُحسب أنه قد أنضم إلى الكنيسة. ويرى أن الكنيسة التي على الأرض هي بيت الله وباب السماء وبيت السلام وبيت الملائكة ونهاية الأتعاب والضيقات والتجوال، ومكان الشركة والأخوة. فهي إسرائيل الحقيقي (الروحي لا الجسدي) وجسد المسيح حاضر فيها للمؤمنين، وحاضر بصفة المؤمنين، فهم يشتركون فيه وهم أيضًا جسده السري.
* ويرى البابا أثناسيوس الرسولي أن الكنيسة هي الشعب المختار الذي يقوده الله نحو أرض الموعد، وأنها بؤرة ومركز الخليقة الجديدة، ففي الكنيسة وفي الكنيسة وحدها نقبل عطية الروح القدس الذي يُعطى للمؤمنين فقط خلال الأسرار السمائية.
* وعندما نأتي إلى تعليم القديس كيرلس الكبير ختم الآباء، نجد يؤكد على مفهوم المسيح الواحد والكنيسة الواحدة، فهو رأسها وهى جسده المكون من الأعضاء الحية، ثم يُعرف الكنيسة بأنها المدينة المقدسة التي تتقدس بالامتثال بالمسيح أصلها ومبدأها وحجر الزاوية في بنائها.
5- البابا كيرلس رأى أن الكنيسة هي أم المؤمنين المؤسسة على الإيمان بالمسيح الراعي الأول والأبدي للمؤمنين، وهى التي تقوت الصالحين القديسين، كما أعتبرها الحظيرة والبناء المترابط ومدينة أورشليم الجديدة.
* وأخيرًا لا شك أن كتابات الآباء ذاخرة بالعظات والرسائل والأقوال التي تتناول اللاهوت الإكليسيولوجى، وبالرغم من أنه لم تفرد له كتابات خاصة إلا أن التعاليم عن الكنيسة جاءت بغير فصل بينها وبين طبيعة المسيح، وكانت مرتبطة بالشروحات الكتابية والعقيدية لتلمس البعد الفعلي والتطبيقي لعمل التدبير الإلهي لخلاص الإنسان خلال كنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته.
_____
(*) المراجع: حياة وفكر كنيسة الآباء الموسوعة الآبائية - القس أثناسيوس فهمى