سبحان فالق الاصباح , ما كان ليلاً دامساً أو يظهر القمر في الحر والبرد إلا وتوقفت عندها في قلب الصحراء ، يراها كل قادمٍ من ثغر العراق الباسم ذاهبا إلى حضارة السومريين وبالعكس إيابا , فيها يشعر يشعر الجميع بصفاء الروح حتى من يعاني الكمد . مساحة من الأرض تحيطها اشجار الكالبتوز العالية
. في العام 2006 كانت عبارة عن غرفة واحدة أربعة أمتار وملحق بها بعض المرافق الصحية لخدمة المارة على الطريق. ومنذ أن سعدت عيناي برؤيتها وأنا أنزل وأصلي بها، ثم ازور بالزيارات المخطوطة على جدرانها الخارجية . وهذا لمدة إحدى عشرة سنة ونزولي فيها مرة او مرتين في كل عام. ما سر هذا الإحساس الذي يحيط بي وكأن الملائكة تصلي معي ,حيث تسمو روحي بدرجة عالية، إحساس رائع لا أحسه ببقعة أرض ثانية.
لطالما ساورني سؤال: هل كنت وحدي من يحظى بهذا الإحساس الرائع؟ يجيبني عن سؤالي الحائر هالات من نور تشع من وجوه المصلين تتلألآ أنواراً من الايمان. كان المصلون ممن يرون أعمار الضعفاء بحرًا والحياة سفينة , إذا عبرت كانت أرواحهم ودماؤهم لها جسرا. بعد ان ينتهوا من الصلاة، تلهج الألسن بالدعاء، وترتفع الأكف إلى السماء،, برغم خشوع أصواتهم إلا أنك تسمع لها دوي كدوي النحل, تقشعر له الأبدان هذا يطلب توفيقًا وأخر يريد الشهادة.
انطلقت فجر الجمعة 9/3/ 2018 إلى الثغر الباسم وأثناء عودتي لمهد الحضارات كعادتي توقفت لصلاة الظهر في مصلى الأبرار. وبعد أن صليت بدأت ألتقط بعض الصور لهذا المكان الطاهر، لأكتب عنه؛ وأصف إحساسي؛ عله لا يكون إحساسا فرديا خاصًا بي، وأجد من يشاركني فيه من زوار المكان، ما سرهذه الحسينية يا رباه؟
الصغير يوسف، يقف كالملاك؛ منتظرًا من ينهي صلاته، ناظرًا إليه بالثقبين البنيين الداكنين وسط وجهه الأبيض, ليقدم له كوب شاي مجاني.
التقطت صورة من نهاية المصلى؛ حيث عُلقت صورتان لشابين، اقتربت، ولشد ما كانت دهشتي عندما وجدتهما يحملان لقب الخفاجي!
مشاعر متباينة انتابتني! لم أدرِ وقتها هل غمرتني الفرحة لأنهما من قبيلتي؟ أو اعتصر قلبي حزنًا على شابين لا أدري ما تركا خلفهما؟
هل هذه الحسينية لعائلة من قبيلتي وأنا لا أعرف طوال هذه السنين؟
لا أخفي عليكم , اندهشت! ولكن الشيء المؤكد أنني قررت أن أسأل الصغير - عند تناولي الشاي من يده الصغيرة البيضاء - عن علاقته بالشهيدين؟ كان ذهني شاردًا... ابتلعت ريقي، يجب عليَّ أن اتمالك أعصابي أثناء السؤال!
يوسف الذي لا يتجاوز عمره الحادية عشرة، لابد وأن أكون حريصًا في كلامي معه؛ فلا يجب أن يفوتني أن أغرس في نفسه انطباعا إيجابيا بأهمية الاحتفاء بالشهيد بدون النظر إلى درجة قرابته لنا، نظرا لما ناله من مكانة سامية، .. بعد شربتين من الشاي سألته مشيرا إلى الصور؟
ـ فأجاب بفخر لا يخلو من الألم والحزن: أعمامي أشقاء والدي.
ـ أين والدك؟
أشار بسبابته الصغيرة إلى شخص وقور عمره خمس وأربعون سنة تقريبا، يجلس بالجهة اليمين بمسافة 4 امتار مني ويوسف يقول: هذا أبي . ـ أستأذنت منه. ونهضت قاصداً أباه ذا الوجه الأسمر الحزين والثوب الأسود الطويل. نهض الرجل لاستقبالي وهو يردد أعذب كلمات الترحيب, عرفته بنفسي، وجلسنا على سجادة الصلاة, سألته عن الشهيدين ؟ ـ تساقطت دموعه متخللة لحيته الكثيفة ما بين الشيب والسواد, وقال: أنا محسن كريم معارج الخفاجي وهؤلاء أشقائي:
الأول: الشهيد عبد الباسط ( م 1985) , استشهد 1|7|2017 قبل تحرير الموصل بأيام , وتاركا خلفه سبعة أطفال. والثاني: الشهيد جعفر (م 1993) , تاريخ شهادته 16|8|2017 في جرف الصخر , وبينه وبين شقيقه خمسة وأربعون يومًا. تاركا خلفة ثلاثة أطفال. قال ذلك فيما كانت الدموع تنحدر سيلا من مقلتيه
حاولت مواساته قائلا: عشقتهما الشهادة؛ فسارعت أراوحهما شوقا كالبرق الى سبحان من أسرى في جنة المأوى. وكأني بهما الآن ولهما قصر مشرف هناك يتفاخر القصر بأرواحهما بين الأنجم الزاهرة.
رد بفخر: كلنا فداءً للوطن والمقدسات؛ فأخي محمد وابني أيضا في الحشد الشعبي، وهو يطلب مني دائما الدعاء له بالشهادة.
وجدتني أقول له: هكذا الأبطال
حاولت تغيير الموضوع قليلا؛ فسألته: كيف تم بناء هذه الحسينية المباركة ؟
ويبدو أنه فهم مرادي؛ فبدأت أساريره في الانفراج قليلا وهو يقول:
كنا نستقبل زوار الإمام الحسين وهم قليلون على هذا الطريق, وفي أحد الأيام جاء رجل منهم (ماشيا على الأقدام ) من محافظة البصرة منطقة الأصمعي
وكنت أريد يومها الذهاب للزبير لأمر ما فقدمت له ما تيسر وقلت له:
سأذهب وأعود المغرب وأنت خذ راحتك
فقال: سوف أنتظرك!
وعندما وصلت وقضيت حاجتي ذهبت للمطعم؛ وجلبت له نفر كباب للعشاء, ودخلت عليه، فرأيته وبين يديه ما لذ وطاب من الطعام , استغربت وسألته: من أين جاءك هذا الخير؟
قال: من الناس، وادخرت لك نفر كباب, فضحكت.
نظر إليَّ وهو يتبسم: ما يضحكك؟
قلت أنا كذلك جلبت لك. وبعد العشاء اقترح تطوير هذا المكان، وبناءه بدعم منه شخصيا، وفعلا بدأنا العمل أنا وإخوتي الشهداء وأهل الخير وكنا قد خصصنا مساحة ستة امتار للبناء, لكن والدي قال: كلا اريد 12 مترا مصلى للرجال ومثلها للنساء على عدد الأئمة المعصومين .
والحمد لله كما ترى. شكرته على كرم الضيافة وحسن الاستقبال
وصلت عصرا لمنزلي وأسئلة تعصف بي: تُرى كم شهيد قبل استشهاده صلى بذلك المكان؟ وهل هذه الأرواح الطاهرة تزور المصلى؟
تركت الراحة من مشقة السفر ورحت أنشر الصور، اتصل بي صديق عبر التواصل يشكرني على النشر وذكر الشهيدين! نظرت إلى اسمه فكان محمد كريم معارج , كيف هذا؟
يعني صديقي منذ سنوات ولم انتبه؟
اتصلت به، فدعاني لزيارته بناحية الفهود حيث ديوان والده المرحوم الشيخ كريم الخفاجي.
انطلقت التاسعة صباح الجمعة 16|3|2018 ووصلت خلال ساعة وربع وكان بانتظاري يقف بباب الديوان وهو يرتدي الزي العربي بثوبه الأسود ويتلألآ وجهه نوراً ترافقه مظاهر الأحزان ,فأخذني بالأحضان كأني أحد أخوته الشهداء. ورحب كما يرحب المؤمن بنزول الملائكة عليه أثناء الصلاة, سألته عن كيفية استشهاد شقيقه عبد الباسط؟
ـ فأجاب: كان يعمل في الشرطة الاتحادية ورفع اسمه ضمن أسماء المقاتلين المعتمد عليهم, صمت قليلا وأدخل يده اليمنى في مخبأ ثوبه وأخرج هاتفه النقال , ثم فتح فديو يصور قتال شقيقه في عصر ما قبل الشهادة وهو يقاتل في الموصل ومعه زملاؤه. فقال : صباح اليوم التالي استشهد بعض أصدقائه، وأحدهم أصيب، - وهو الذي قام بتصوير هذا الفيديو- وكان عتادهم قد نفد؛ فركب عبد الباسط عجلة ثقيلة (شفل) وتقدم متجهًا إلى وكر داعش فأصابه أحد القناصين في رأسه.
كان الشهيد أسدا ضاريا يتحلى ببسالة من الصعب أن نجدها, ظهر في المشهد بملابسه العسكرية الزرقاء وبيده رشاشة بي كي سي رصاصها ممتد في الأرض كأنه ثعبان طوله ستة أمتار, كان يخرج من الغرفة إلى وسط الشارع ويقوم برشق الرصاص على العدو ويغير مكانه بين الحين والآخر.
كنا نشاهد الأحداث سويا عندما حانت مني التفاتة إلى صديقي محمد الذي سالت دموعه؛ لتبلل لحيته
فجأة وضع كفه على جبهته وكأنه يتذكر ما جرى لأخيه، لم أعلم بالتحديد ما يراه محمد من شريط الذكريات في ذهنه مع عبد الباسط , لكن من المؤكد أن أول أحداث الشريط و ربما أهمها الأطفال السبعة الذين صاروا أمانة في عنقه.
الكبيرة زينب سنها عشر سنوات. يليها حيدر ثم حسين , ثم رقيه, و سكينه, و رضا, والأخير محمد، الذي لم يرَه والده؛ فقد كانت أمه حاملا به , وقد علمت أن الزوج الراحل قد اتصل بها قبل أيام من استشهاده وأوصاها بأن تسمي الولد على اسم عمه. ومن خلال دموعه ذكر بأنه قد فشل في إثناء شقيقه عن التطوع محاولا إقناعه بأنه يكفي التحاقه هو بالحشد، ولأن لديه أطفالا أيضا بحاجة ماسة إلى رعايته وعطفه. لكنه رفض العرض بشدة مستمسكا بالفتوى.
ـ وأردف قائلا في تأثر واضح :
لاأنسى ذلك اليوم الذي حاولت فيه إثناءه عن التطوع متحججا له بأطفاله؛ حيث جمعهم حوله كباقة زهور يانعة وأخذ يحدثهم حسب أفهامهم قائلا لهم: إنه سيقاتل عدوا يريد أن يمنعهم من اللعب والدراسة، ويجب أن نحاربه حتى تلعبوا وتدرسوا أنتم وكل أصدقائكم
تمتمت قائلا: يا لبطولته وجسارته، هنيئا له، ولكل شهدائنا الأبطال، وبتردد سألته عن حال زوجته
رد بحماسة وفخر:
يا أخي، وكأنها تقاسمت معه وسام البطولة والصبر والجسارة، وكأني بها وقد نالها نصيبٌ من جزاء زوجها الشهيد جراء صبرها واحتمالها
لقد كانت زوجته تجهز له كل ما يلزمه في حقيبته وتدعو الله أن يعود لها بالسلامة، ولم تظهر جزعها عندما أراد الالتحاق بل كانت تشد من أزره وتقوي عزيمته؛ وما أن يذهب حتى تأخذ ركنا بعيدا عن الأطفال لتبكي؛ داعية الله أن يعود إليهم سالما.
وماذا عن الشهيد جعفر؟
لقد تطوع في الحشد الشعبي بعد استشهاد أخيه بخمسة وأربعين يوما؛ حيث حضر فاتحة أخيه ثم التحق بعد خمسة أيام.
ولا أستطيع أن أعبر عن حالة صديقي محمد وهو يتحدث عن تلقيه نبأ استشهاد شقيقه الثاني في تلك الفترة الوجيزة؛ حيث حكى لي عن ذلك اليوم قائلا: دنت ساعةُ الرحيل، إذ تلقت مسامعي ما أصابني ذعرا. ناعٍ يبلغني بين أهلي؛ فأوقرهم سمعاً وأذهلنا فكرا.
غالطت مسامعي، لكن قوله أرجفنا؛ فتيقنت ما أخبرنا به, وعلمت بأنَّ الشهادة فوضت مجداً شامخاً وطوت فخرا. كانت استشهاده إثر انفجار عبوة ناسفة في جرف الصخر. وكان ملتزمًا بفتوى الجهاد، تماما مثل أخيه، وبرغم اقتناع زوجته بسمو مكانته لكنها لا تكف عن تذكره والبكاء علي فراقه، ولم يستطع منع دموعه وهو يقول كان جعفر أصغر من عبد الباسط، وأكبر أولاده حسن عمره أربع سنوات، وعلي ثم صغيرته الجميلة فاطمة.
وقد سار على درب الشهيد رافضا كل محاولاتي لإقناعه بالبقاء مع أطفاله؛ فقد كنت أخشى أن يفارقنا هو الآخر تاركا أطفاله الصغار؛ لكن تمسكه بمبدأ التطوع وحبه للشهادة، كان أقوى يا أخي من كل شيء،
حينها بدت لي الحقيقة أبهى من كل خيال. كان كل فرد منهم ضياء جبينه أغرّ إنْ اظلم الــــدجى , وتبدَّى بسنا أنواره يُخجل البدرا.
لنقف ونسأل التاريخ عنهم فإنهم للقرين عظة وللأحرار موعظة كبرى.
صبرا آل الشهيد لفرط الأسى ,فما فارقكم إلا بجسده ,وأبقى عندكم روحه خصالا حميدة للهدى والتقى عزًا و ذخرًا
. في العام 2006 كانت عبارة عن غرفة واحدة أربعة أمتار وملحق بها بعض المرافق الصحية لخدمة المارة على الطريق. ومنذ أن سعدت عيناي برؤيتها وأنا أنزل وأصلي بها، ثم ازور بالزيارات المخطوطة على جدرانها الخارجية . وهذا لمدة إحدى عشرة سنة ونزولي فيها مرة او مرتين في كل عام. ما سر هذا الإحساس الذي يحيط بي وكأن الملائكة تصلي معي ,حيث تسمو روحي بدرجة عالية، إحساس رائع لا أحسه ببقعة أرض ثانية.
لطالما ساورني سؤال: هل كنت وحدي من يحظى بهذا الإحساس الرائع؟ يجيبني عن سؤالي الحائر هالات من نور تشع من وجوه المصلين تتلألآ أنواراً من الايمان. كان المصلون ممن يرون أعمار الضعفاء بحرًا والحياة سفينة , إذا عبرت كانت أرواحهم ودماؤهم لها جسرا. بعد ان ينتهوا من الصلاة، تلهج الألسن بالدعاء، وترتفع الأكف إلى السماء،, برغم خشوع أصواتهم إلا أنك تسمع لها دوي كدوي النحل, تقشعر له الأبدان هذا يطلب توفيقًا وأخر يريد الشهادة.
انطلقت فجر الجمعة 9/3/ 2018 إلى الثغر الباسم وأثناء عودتي لمهد الحضارات كعادتي توقفت لصلاة الظهر في مصلى الأبرار. وبعد أن صليت بدأت ألتقط بعض الصور لهذا المكان الطاهر، لأكتب عنه؛ وأصف إحساسي؛ عله لا يكون إحساسا فرديا خاصًا بي، وأجد من يشاركني فيه من زوار المكان، ما سرهذه الحسينية يا رباه؟
الصغير يوسف، يقف كالملاك؛ منتظرًا من ينهي صلاته، ناظرًا إليه بالثقبين البنيين الداكنين وسط وجهه الأبيض, ليقدم له كوب شاي مجاني.
التقطت صورة من نهاية المصلى؛ حيث عُلقت صورتان لشابين، اقتربت، ولشد ما كانت دهشتي عندما وجدتهما يحملان لقب الخفاجي!
مشاعر متباينة انتابتني! لم أدرِ وقتها هل غمرتني الفرحة لأنهما من قبيلتي؟ أو اعتصر قلبي حزنًا على شابين لا أدري ما تركا خلفهما؟
هل هذه الحسينية لعائلة من قبيلتي وأنا لا أعرف طوال هذه السنين؟
لا أخفي عليكم , اندهشت! ولكن الشيء المؤكد أنني قررت أن أسأل الصغير - عند تناولي الشاي من يده الصغيرة البيضاء - عن علاقته بالشهيدين؟ كان ذهني شاردًا... ابتلعت ريقي، يجب عليَّ أن اتمالك أعصابي أثناء السؤال!
يوسف الذي لا يتجاوز عمره الحادية عشرة، لابد وأن أكون حريصًا في كلامي معه؛ فلا يجب أن يفوتني أن أغرس في نفسه انطباعا إيجابيا بأهمية الاحتفاء بالشهيد بدون النظر إلى درجة قرابته لنا، نظرا لما ناله من مكانة سامية، .. بعد شربتين من الشاي سألته مشيرا إلى الصور؟
ـ فأجاب بفخر لا يخلو من الألم والحزن: أعمامي أشقاء والدي.
ـ أين والدك؟
أشار بسبابته الصغيرة إلى شخص وقور عمره خمس وأربعون سنة تقريبا، يجلس بالجهة اليمين بمسافة 4 امتار مني ويوسف يقول: هذا أبي . ـ أستأذنت منه. ونهضت قاصداً أباه ذا الوجه الأسمر الحزين والثوب الأسود الطويل. نهض الرجل لاستقبالي وهو يردد أعذب كلمات الترحيب, عرفته بنفسي، وجلسنا على سجادة الصلاة, سألته عن الشهيدين ؟ ـ تساقطت دموعه متخللة لحيته الكثيفة ما بين الشيب والسواد, وقال: أنا محسن كريم معارج الخفاجي وهؤلاء أشقائي:
الأول: الشهيد عبد الباسط ( م 1985) , استشهد 1|7|2017 قبل تحرير الموصل بأيام , وتاركا خلفه سبعة أطفال. والثاني: الشهيد جعفر (م 1993) , تاريخ شهادته 16|8|2017 في جرف الصخر , وبينه وبين شقيقه خمسة وأربعون يومًا. تاركا خلفة ثلاثة أطفال. قال ذلك فيما كانت الدموع تنحدر سيلا من مقلتيه
حاولت مواساته قائلا: عشقتهما الشهادة؛ فسارعت أراوحهما شوقا كالبرق الى سبحان من أسرى في جنة المأوى. وكأني بهما الآن ولهما قصر مشرف هناك يتفاخر القصر بأرواحهما بين الأنجم الزاهرة.
رد بفخر: كلنا فداءً للوطن والمقدسات؛ فأخي محمد وابني أيضا في الحشد الشعبي، وهو يطلب مني دائما الدعاء له بالشهادة.
وجدتني أقول له: هكذا الأبطال
حاولت تغيير الموضوع قليلا؛ فسألته: كيف تم بناء هذه الحسينية المباركة ؟
ويبدو أنه فهم مرادي؛ فبدأت أساريره في الانفراج قليلا وهو يقول:
كنا نستقبل زوار الإمام الحسين وهم قليلون على هذا الطريق, وفي أحد الأيام جاء رجل منهم (ماشيا على الأقدام ) من محافظة البصرة منطقة الأصمعي
وكنت أريد يومها الذهاب للزبير لأمر ما فقدمت له ما تيسر وقلت له:
سأذهب وأعود المغرب وأنت خذ راحتك
فقال: سوف أنتظرك!
وعندما وصلت وقضيت حاجتي ذهبت للمطعم؛ وجلبت له نفر كباب للعشاء, ودخلت عليه، فرأيته وبين يديه ما لذ وطاب من الطعام , استغربت وسألته: من أين جاءك هذا الخير؟
قال: من الناس، وادخرت لك نفر كباب, فضحكت.
نظر إليَّ وهو يتبسم: ما يضحكك؟
قلت أنا كذلك جلبت لك. وبعد العشاء اقترح تطوير هذا المكان، وبناءه بدعم منه شخصيا، وفعلا بدأنا العمل أنا وإخوتي الشهداء وأهل الخير وكنا قد خصصنا مساحة ستة امتار للبناء, لكن والدي قال: كلا اريد 12 مترا مصلى للرجال ومثلها للنساء على عدد الأئمة المعصومين .
والحمد لله كما ترى. شكرته على كرم الضيافة وحسن الاستقبال
وصلت عصرا لمنزلي وأسئلة تعصف بي: تُرى كم شهيد قبل استشهاده صلى بذلك المكان؟ وهل هذه الأرواح الطاهرة تزور المصلى؟
تركت الراحة من مشقة السفر ورحت أنشر الصور، اتصل بي صديق عبر التواصل يشكرني على النشر وذكر الشهيدين! نظرت إلى اسمه فكان محمد كريم معارج , كيف هذا؟
يعني صديقي منذ سنوات ولم انتبه؟
اتصلت به، فدعاني لزيارته بناحية الفهود حيث ديوان والده المرحوم الشيخ كريم الخفاجي.
انطلقت التاسعة صباح الجمعة 16|3|2018 ووصلت خلال ساعة وربع وكان بانتظاري يقف بباب الديوان وهو يرتدي الزي العربي بثوبه الأسود ويتلألآ وجهه نوراً ترافقه مظاهر الأحزان ,فأخذني بالأحضان كأني أحد أخوته الشهداء. ورحب كما يرحب المؤمن بنزول الملائكة عليه أثناء الصلاة, سألته عن كيفية استشهاد شقيقه عبد الباسط؟
ـ فأجاب: كان يعمل في الشرطة الاتحادية ورفع اسمه ضمن أسماء المقاتلين المعتمد عليهم, صمت قليلا وأدخل يده اليمنى في مخبأ ثوبه وأخرج هاتفه النقال , ثم فتح فديو يصور قتال شقيقه في عصر ما قبل الشهادة وهو يقاتل في الموصل ومعه زملاؤه. فقال : صباح اليوم التالي استشهد بعض أصدقائه، وأحدهم أصيب، - وهو الذي قام بتصوير هذا الفيديو- وكان عتادهم قد نفد؛ فركب عبد الباسط عجلة ثقيلة (شفل) وتقدم متجهًا إلى وكر داعش فأصابه أحد القناصين في رأسه.
كان الشهيد أسدا ضاريا يتحلى ببسالة من الصعب أن نجدها, ظهر في المشهد بملابسه العسكرية الزرقاء وبيده رشاشة بي كي سي رصاصها ممتد في الأرض كأنه ثعبان طوله ستة أمتار, كان يخرج من الغرفة إلى وسط الشارع ويقوم برشق الرصاص على العدو ويغير مكانه بين الحين والآخر.
كنا نشاهد الأحداث سويا عندما حانت مني التفاتة إلى صديقي محمد الذي سالت دموعه؛ لتبلل لحيته
فجأة وضع كفه على جبهته وكأنه يتذكر ما جرى لأخيه، لم أعلم بالتحديد ما يراه محمد من شريط الذكريات في ذهنه مع عبد الباسط , لكن من المؤكد أن أول أحداث الشريط و ربما أهمها الأطفال السبعة الذين صاروا أمانة في عنقه.
الكبيرة زينب سنها عشر سنوات. يليها حيدر ثم حسين , ثم رقيه, و سكينه, و رضا, والأخير محمد، الذي لم يرَه والده؛ فقد كانت أمه حاملا به , وقد علمت أن الزوج الراحل قد اتصل بها قبل أيام من استشهاده وأوصاها بأن تسمي الولد على اسم عمه. ومن خلال دموعه ذكر بأنه قد فشل في إثناء شقيقه عن التطوع محاولا إقناعه بأنه يكفي التحاقه هو بالحشد، ولأن لديه أطفالا أيضا بحاجة ماسة إلى رعايته وعطفه. لكنه رفض العرض بشدة مستمسكا بالفتوى.
ـ وأردف قائلا في تأثر واضح :
لاأنسى ذلك اليوم الذي حاولت فيه إثناءه عن التطوع متحججا له بأطفاله؛ حيث جمعهم حوله كباقة زهور يانعة وأخذ يحدثهم حسب أفهامهم قائلا لهم: إنه سيقاتل عدوا يريد أن يمنعهم من اللعب والدراسة، ويجب أن نحاربه حتى تلعبوا وتدرسوا أنتم وكل أصدقائكم
تمتمت قائلا: يا لبطولته وجسارته، هنيئا له، ولكل شهدائنا الأبطال، وبتردد سألته عن حال زوجته
رد بحماسة وفخر:
يا أخي، وكأنها تقاسمت معه وسام البطولة والصبر والجسارة، وكأني بها وقد نالها نصيبٌ من جزاء زوجها الشهيد جراء صبرها واحتمالها
لقد كانت زوجته تجهز له كل ما يلزمه في حقيبته وتدعو الله أن يعود لها بالسلامة، ولم تظهر جزعها عندما أراد الالتحاق بل كانت تشد من أزره وتقوي عزيمته؛ وما أن يذهب حتى تأخذ ركنا بعيدا عن الأطفال لتبكي؛ داعية الله أن يعود إليهم سالما.
وماذا عن الشهيد جعفر؟
لقد تطوع في الحشد الشعبي بعد استشهاد أخيه بخمسة وأربعين يوما؛ حيث حضر فاتحة أخيه ثم التحق بعد خمسة أيام.
ولا أستطيع أن أعبر عن حالة صديقي محمد وهو يتحدث عن تلقيه نبأ استشهاد شقيقه الثاني في تلك الفترة الوجيزة؛ حيث حكى لي عن ذلك اليوم قائلا: دنت ساعةُ الرحيل، إذ تلقت مسامعي ما أصابني ذعرا. ناعٍ يبلغني بين أهلي؛ فأوقرهم سمعاً وأذهلنا فكرا.
غالطت مسامعي، لكن قوله أرجفنا؛ فتيقنت ما أخبرنا به, وعلمت بأنَّ الشهادة فوضت مجداً شامخاً وطوت فخرا. كانت استشهاده إثر انفجار عبوة ناسفة في جرف الصخر. وكان ملتزمًا بفتوى الجهاد، تماما مثل أخيه، وبرغم اقتناع زوجته بسمو مكانته لكنها لا تكف عن تذكره والبكاء علي فراقه، ولم يستطع منع دموعه وهو يقول كان جعفر أصغر من عبد الباسط، وأكبر أولاده حسن عمره أربع سنوات، وعلي ثم صغيرته الجميلة فاطمة.
وقد سار على درب الشهيد رافضا كل محاولاتي لإقناعه بالبقاء مع أطفاله؛ فقد كنت أخشى أن يفارقنا هو الآخر تاركا أطفاله الصغار؛ لكن تمسكه بمبدأ التطوع وحبه للشهادة، كان أقوى يا أخي من كل شيء،
حينها بدت لي الحقيقة أبهى من كل خيال. كان كل فرد منهم ضياء جبينه أغرّ إنْ اظلم الــــدجى , وتبدَّى بسنا أنواره يُخجل البدرا.
لنقف ونسأل التاريخ عنهم فإنهم للقرين عظة وللأحرار موعظة كبرى.
صبرا آل الشهيد لفرط الأسى ,فما فارقكم إلا بجسده ,وأبقى عندكم روحه خصالا حميدة للهدى والتقى عزًا و ذخرًا