آهاات حالمة
Well-Known Member
إن الأمانة في الترجمة موضوع يَطرح نفسه بقوة على المترجم، وهذا ما يقودنا إلى إبداء التساؤلات التالية: ما المقصود بأمانة المترجم؟ وما هو السبيل إلى تحقيقها؟ وهل توجد حلول لتلافي عوائقها، إن وجد المترجم نفسه يمسُّ ثقافة أو بيئة بعينها؟
يقول المنظر ولتر بنجمين Walter Benjaminعن الأمانة في الترجمة: "الترجمة هي نَقل نقاء اللغة الموجود في اللغة الأجنبية إلى اللغة المحلية، نقل ذلك الجمال والروعة الموجودين في المُؤلَّف، هذه هي مهمَّة المترجم".
من خلال كلامه نخلص إلى أنَّ أمانة المترجم: هي مراعاة مضمون ولغة النصِّ الأصلي؛ وذلك بنقل أفكاره كما هي دون تبديل أو تزييف، ويُراعي المترجم أيضًا القالب الذي وضعَت فيه؛ أي: اللغة؛ بمعنى أن المترجم أَمين على ترجمة النص في معناه ومبناه، فلا يُبدي رأيه في النصِّ، ولا يسعى إلى توضيحه، بل يترك المعنى الغامِض غامضًا، فإذا راعى المترجِم ذلك في عمله، يكون قد أصبح أمينًا فعلًا؛ لأن كل كلمة في النصِّ مبهمة أو فقرة يكتنفها غموض أو سكوت ما عن التوضيح، مقصود من الكاتب، وله غرضه وأسبابه في أن ينحو طريقه ذاك.
يُتَدَاول في ميدان الترجمة المثل الإيطالي الشهير الذي يقول - traduttoretraditore؛ أي: المترجم خائن، وهذا ما يضعنا أمام إشكال حقيقي، وهو أن المترجم مهما سعى وبذل لن تكون ترجمته دقيقة، ولن يفلح أبدًا في الوصول إليها؛ لأن وجهات نظَر البشر تختلف! والبيئات مُتنوعة الثقافات! فتأويلك للمحسوسات والأمور المعنوية يختلف عن غيرك، لن يتماثل مطلقًا، أسند كلامي هنا بما تسوقه كل من ماريان لوديرارMarianne Ledererودانيكا سيليسكوفيتشDanica Seleskovitch، في كتابهما "nterpréter pour traduire"، أي: "التأويل لأجل الترجمة"، فلقد فصَّلتا في هذا الموضوع تفصيلًا كاملًا.
يمثل ما أسلفت عائقًا من العوائق التي تحول دون بلوغ المترجم الأمانة التي يرومها، وزيادة على ذلك، قد تكون أمانته وَبالًا عليه وعلى مجتمعه! في نقل المترجم نفس الأفكار بقالبها الأصلي، وهي تَمسُّ بمبادئ مجتمعه أو معتقداته أو خطوطه الحمراء، فهل يغامر المترجم بنقلها، ويكون بذلك سببًا في توتير الأجواء وخلق صدام بين مجتمعين؟!
إنَّ الهدف من الترجمة هو التواصل والتلاقح والتبادل بين الشعوب والثقافات، وإن كان المترجم مخلصًا لمهنته وعلميًّا في عمله، قد يُخلُّ بهذا الهدف، وبالتالي يحدث ما لا يحمد عقباه، في هذا السياق يقول بول فاليريPaul Valéry: "دور الترجمة هو إحداث نفس الأثر في المتلقي"، ويقول أيضًا أمبرتو إيكو Amberto Eco: "ننطلق من فكرة أنَّ الترجمة تهدف إلى تفاوض، هذا الأخير هو العملية التي نحصل بها على شيء ما، ونتنازل عن آخر، وفي النهاية: يخرج جميع الأطراف مُتراضين بتبادل المصالح، على أساس قاعدة ذهبية تؤكِّد أننا لا يمكن أن نحقق كل ما نريده".
إنطلاقًا من هذا، تبدو لنا الترجمة كجسر يصِل ثقافة بثقافة وشعبًا بشعب، والأمانة فيها هي المنطقة الآمنة، التي تنتقل بين طرف وآخر، ما يُعزِّز التواصل ويُنمِّيه؛ وذلك من صميم رسالة الترجمة في إطار الاختلاف الثقافي والجغرافي العالمي؛ فالعالم أصبح مدينة مُصغَّرة، لا بدَّ أن يتعامل أفرادها بعضهم مع بعض، مع تطور الوسائل التكنولوجية، التي اختصرت المسافات وقرَّبَت البعيد.
إذًا، حتى يكون المترجم أمينًا، فيجب أن تتوفَّر فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون مُتمكِّنًا من اللغة المصدر والهدف.
2- أن يكون مُتمكِّنًا من ثقافة اللغة المصدر والهدف.
3- أن يُسيطر على تقنيات الترجمة سيطرة تامَّة.
ولكن هذه الشروط العلمية والجذَّابة، قد لا تكون قابلة للتحقيق بالشكل الكامل، وهنا تتجلَّى حنكة وحذاقة المترجم؛ حيث يقول أنطوان برمان AntoineBerman: "هذه هي الترجمة بالنسبة لي: تجربة تتناول اللغة ككلمات وكيان، نستخرج من المُؤلَّف مضمونه ونُحييه، إنها معرفة بأتمِّ معنى الكلمة".
علينا أن نعلم أنَّ الأمانة في الترجمة هي جوهر ولبُّ العمل الترجمي، وللمترجم دور الوساطة فيها، فهو حلقة وصل بين كاتب من بيئة وقارئٍ من بيئة أخرى، يهدف إلى نقل أفكاره بما يُنمِّي الترابط، أما إن كان ذلك سببًا في التصادم، فقد ينافي هدفنا من الترجمة، ورسالتها تبقى رسالة سلام، والإقناع بالحجة طريقها الأوحد، دون فرض رأي على رأي.