فتنةة العصر
رئيسة اقسام الصور 🌹شيخة البنات 🌹
- إنضم
- 7 أغسطس 2015
- المشاركات
- 1,313,602
- مستوى التفاعل
- 175,379
- النقاط
- 113
- الإقامة
- السعودية _ الأحساء ♥️
الإمام الحسين عليه السلام و ثنائي العقل والقلب
قراءة في العلاقة الجدلية
عبدالكريم المهدي
ثـنائي العقل والقلب في الإسلام:
العقيدة، أي عقيدة، لابد أن تحقق مثالها الإنساني في مـسيرتها التـكاملية، والمـثال هذا يبقي حركةً إنسانية جاذبة وذاكرة موحية وتجربة نوعية تقترن في شخصيته الفريدة الحوافز والمـعالم بالمعطيات. ولأن العقيدة ــ إلهيةً كانت أم وضعية ــ تعد المؤمنين بها، بإصلاح الأرض وعمرانها وتطوير الإنسان ومـستقبله، صحّ أن تكون ذات قوة وفـعل عـلي التطبيق، ومدعاةً لخلق الأجواء النفسية والاجتماعية لكل مرحلة من التطبيق الأصلح، حتي تحظى ــ العقيدة ــ بمشروعية الدعوة والتغيير، وبمصداقية الشعور والشعار والسلوك. فعليها أن تقترح دائماً، وعلى طول الخط، الكفاح الفردي والاجتماعي مـن أجل تسييس أو إقصاء المعطلات الكامنة في شقة الهدف الأكبر، وتحويلها إلى عناصر إيجابية ودمجها في اطار خط التنمية الثقافية والاجتماعية.
الإسلام، بوصفه عقيدةً إلهية، أو تجربة اجتماعية رائدة قادها الداعية النبي الأكرم (ص)، تنطوي على مـنظومات هـائلة من المفاهيم والتشريعات والأحكام، وكلّها تتعلق في توجيه مسار العاطفة والوجدان الإنساني. ولأجل هذا، اقترح ويقترح الإسلام، أن نشاطه الرئيس يتمحور حول حقيقة واحدة هي التوحيد علي صعيد القضايا والشـعور ومـناحي الفكر، وربط الإسلام قضية التوحيد بالأرض علي صعيد الإنسان والاجتماع البشري، ولهذا فإن الواقع الديني لأصل التوحيد أن يتعلق عملياً بسلوك الإنسان علي الأرض..
ولن يتمكن الإنسان من التعبير عن إنسانيته مـا لم يـكن موحداً؛ ولهذا أصبح في أفق حياته الدنيوية مكلّفاً، مثلما لا يبدع التوحيد عن أصالته إلاّ في فضاء كيان إنسان عرف وبقوة معني إنسانيته.. فالإنسانية لا تسمو دون أن تتوحّد منابعها وظواهرها في داخل صـميم الذات وتـتماسك فـي خارج الكيان، بحيث يغدو الانـسجام العـضوي بـين داخل الإنسان وبين خارجه هو الصيغة الواقعية التي تعكس حكمة الوجود الآدمي علي الأرض...
فهو ــ أي الإسلام ــ على خلاف العقائد الأخرى، اتـجه بـأتباعه نـحو موازنة طبيعية ونامية بين ما يقع خارج الذات وبـين مـا يرقد في صميمها. الموازنة تلك لم تكن مجرد معالجة مفروضة من الخارج أو أنها حلّ معين لإشكالية تراجع حيالها الإبداع الفـكري، إنـما هـي، تترشح وتتنامي من الميل الفطري المودع في رسّ الكائنات وتـبرز لنا القابليات، كأمثل كيان قابل وفاعل حرّ في لوحة الوجود، ويلمع الإنسان مخلوقاً رائعاً في الاتجاه تتواشج فـي مـواقفه قـوى خلاقة، سواءً كان في نبوغها الروحي والعقلي والعاطفي أو في إنجازها المـادي والجـسدي، سيما وأنه خلق على أحسن تقويم، كما يصرح القرآن الكريم بذلك.
الصراعات الأيديولوجية التي تطبّعت أخيراً بـألوان السـياسي الشـمولي والتي انتهت ــ وعلى التوالي ــ إخفاقات فظيعة، كانت ولا تزال لا تعي المشكلة الاجتماعية، فـانطلاقاً مـن مـثالية الإغريق وانتهاءً بمادية الماركسيين، لم ترصد البؤرة الأصلية التي تفجّر الصراع، فتطرّف بعضها في تـسعير العـقل مـقصيةً عن طريقها كل ما يتعلق بالجسد والعاطفة وقوي الفوائد التي تلح في كل حـالة عـلى التمظهر المادي والجوارحي، فيما ــ وعلى النقيض ــ أفرطت بعض الأيديولوجيات في نظرتها، فقدّست الشـكل والحـس ومـعطيات الجوارح. ومن نتائج هذا التقاطع، أن وقع التاريخ الفكري بين أحادية قاسية شكلت فيما بـعد كـوارث الانهيار الاجتماعي واضطراب سلام البشر.
القلب والعقل، بؤرتان طبيعيتان لكل ما يسمّى بالبعد الروحـي والمـادي، ورسـالة الدين، ــ أي دين ــ جاءت لتكتشف وتبدع في التواصل بين ما هو روحي عاطفي وبين مـا هـو عقلي وعلمي.. لا لتخلق العقل أو العاطفة، فهذان تركيبان تكوينيان أنشأهما الخالق المطلق سـبحانه، والغـرض مـن التوصيل أو التواصل، أن تتفاعل الموجودات والمعقولات المادية والمعنوية وبالذات من موقع الإنسان الذي يعي العلاقات بين مـوجباتها التـي يـتوخاها القرآن من المسلمين.
قصّة الفؤاد في القرآن الكريم تعبر أحياناً عن العقل والقـلب مـعاً؛ وذلك لقوة وفعالية البيان العربي، وكأنما يشير إلي أن الإيمان مطلب عاطفي، والعاطفة في الوقت عينه مـطلب إيـماني.. ومن هنا تنبع الحساسية والخطورة في التوصيل.
مفردة الفؤاد في القرآن ترفد الواعـي بـالكثير من الدلالات والإيماءات والإشارات، وتشكل بمعظمها بنيوية ثـقافية، غـاية مـا يصبو إليه القرآن الكريم، تدريب الإنسان عـلى كـيفية وحدة القلبي والعقلي في مركب الأداء الاجتماعي الكبير.
إن هذه الوحدة تثير تنمية العملية، وتدعو كـل ضـمير أن ينتظم مع الآخر، واخـتزال الأمـكنة والأزمنة والفـوارق نـحو مـصير مزدهر منتج، تتعاطف فيه ماديات الأرض وأشـكال الطـبيعة مع الإنسان وحرث الحصة الكونية المقررة لمدارك الشخص ونشاطه.
عرض القرآن الكريم الكـثير مـن النماذج الصالحة للتذكرة والقدوة والتجربة، وكـثير من الرموز الإسلامية المـعطاة شـغلت حيزاً مهما من أشواط التـأريخ الإسـلامي والعالمي بإنجازاتها وتفاعلت معها الذاكرة بارتكازها.. ذلك كلّه يحفظه الإسلام للعاملين... ولا تفريط في ذلك، ويـبقى أن مع كل عظيم سجلاً عـريضاً مـن المـنعطفات والوقائع التي ألمـّت بـه وصيرته بطلاً مؤثراً فـي دائرة الحـدث أو في وسطه الاجتماعي ومقطعه الزمني.
الحدث الطفّي والثنائية المذكورة
ومع سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وصحبه، نـخبة الله الذي انـتخب، لم يعد التأريخ مشغولاً بتوصيل إنجازهم للأجـيال فـحسب، إنما التـأريخ فـي جـهد ومقاومة ومناورة مع الإنـجاز الحسيني؛ لأنه ــ أي التأريخ ــ تمكن من صياغة وتكييف إنجاز العظماء وحوّل المعطيات إلى وقود وديمومة له فيما أفـرد للراوي والقـصاص والمسرحي والمؤرخ والناقد والرسام حصةً فـي مـوازاة الحـدث يـستطيع بـها أن يقول: إن الفـلاني ــ مـن ناحية توثيقية وتفكيرية ــ خطأ، أو إنه يجب أن يكون هكذا، أو يعدل ويضيف ويطرح من محتوياته. مع هذه الإشـارة، أن إنـجازات العـظماء منتمية للتأريخ وصيرورته، وهذا الأخير في مـكان يـستطيع مـنه تـفسير الأحـداث وتـوزين الأبطال.
من الواضح بعد هذا أن التأريخ في شوط ما يمكن أن يستقل بالحدث ويقصي البطل ويبلور آثاره في ضمن معقولية المرحلة، وقد يبقي البطل مجرد ذاكرة وميثولوجيا وطقساً تـراثياً، فقد حفل التاريخ بمشاهد عظمى للأبطال وفيما أقصى بعضهم عن موقعه في المستقبل وحشره في دائرة زمنه الخاص فإن بعضهم ممن قاوم المكر التأريخي نصب قصداً في كل تصفية تحدث للمـراحل، غـير أن التساؤل المشروع هو: لماذا يقع البطل في مدار الإقصاء ويتحوّل إلى مجرد ذاكرة؟
نعتقد هذا هو الناتج من عملية انفكاك العقل عن العاطفة والقلب في التعبير الجماعي أو الفردي، أما مع الحـسين (ع) فـالقضية معكوسة تماماً، إذ إن الفعل الذي أتقنه على ثري الطف وأشبع مساماتها بكل خلاقية وانتماء.. كأنّه قد استجاب لكل ما يتطلبه الشكل والسطح والمظاهر من قـيم ونـداءات وألوان ونغمات، فأصبح حيال هذه «القـلبيات» الحـسينية كل جماد الطبيعة وكائناتها وأحجارها في حالة إصغاء تام.. وصمت حقيقي... وبكائية ضاجة.. فاستأنست الطبيعة بالفعل الحسيني وهو يطارد جمادات حملت بالفعل تحميلاً.. أقـصى مـا يمكن أن تعبر عنه العـاطفة وعـمارتها القلب هو ما حدث في الطف.. وعلى رأس الطفيين تصالب الحسين (ع) ضدّ كلّ من يحاول العزل بين سطح الظاهرة ومحتواها.. فعاد الشكل الطبيعي نابعاً ومتبرعماً من قوة المضامين الجمالية التي أعـد لهـا سيد الشهداء القوالب الأروع، لتستوعب قدرة الأجيال الآتية بالقدر المناسب منها.
فلا انفكاك بين ثنائي العقل والقلب في أي انطباعية أو تعبيرية سلوكية في مأساة الطف، وقد منع الحسين (ع)، الفراغات كلّها التـي ربـما يتسلح بـها التأريخ فيما بعد ويعتدّ بها ويكتشف أن الحسين ما كان أو كان بصدد هذه الزاوية أو تلك. فالتأريخ في مـلحمة الطف كان كائناً منتمياً للحسين (ع) ولحظاته القانية، وصح أن في أي شوط اجـتماعي واعٍ يـمكن أن يصاغ التأريخ والاجتماع وتعاد تركيبتهما علي ضوء المنهج الحسيني.
ولأنه الحدث الطفي ــ من جهة أخرى ــ أحدث مقارنة ومـقاربة بـين كل النخب والعلائق الاجتماعية، فلم ينفرد بواحدةٍ دون أخرى أو على حساب أخرى، ولأن المصرع الشـريف للإمـام الحـسين (ع) كان لقطة قد تكلّس قبالها تصوير أي فنان عبقري، وكانت فوق كل ما يتخيله المدّعي لمـستويات العقدة، فالعقدة لم تكن طبيعية في ساحة الطف.. كانت استثنائية.. حتى صرّح أحد رواة الحـدث «حميد بن مسلم»: «والله لقـد أشـغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله»، أي وجه الحسين (ع) وهو صريع.. إن العقدة لم تكن طبيعية.. ولم يقترحها الحدث العام من الخارج، بل نبعت من صميم بؤرة الحدث.. من الحسين ذاته عندما فصل الحدث بـدمائه الطاهرة.. وقطع الضجيج، والخيالات المتكوّرة من حوله (ع)، وفيما حشد (ع) أرقى صورة ملهمة للمقاومة حيث قتل القوم وهو زاحف، ثم ثني فقاتلهم بومضات عينه وهو صريع.. إنما كان بهذا المكان من الرقـي لأنـه كان يواجه أقبح مثال للخلقية الأموية الغريبة بالمطلق.
حشد السبط هذا؛ ليضع أمام الواقع لكل جيل حصة مناسبة.. عاطفة مناسبة.. وعياً مناسباً.. أسلوبية مناسبة، ليتهيأ كل الاجتماع الإنساني المحتد أمام رؤاه (ع) وليعي المـجتمع اشـتباكية ما هو واقعي سليم مع ما هو قبيح شاذ، بيد أن المأساة فوق الطبيعية لا تؤسّس لنا قناعة، مفادها، أن الإمام الحسين (ع) وصحبه لم يكونوا بشراً عاديين، فالسبط الطاهر إنسان وبعض صحبه كـان مـمن يختلف معه في الرؤية والموقف والدور إلى وقت قريب من الملحمة الحسينية، هو أحد أعضاء الجماعة المسلمة الأولى عاشت بكل تلقائية مع صاحب الرسالة وطلائعها الخوالد. المأساة فوق الطبيعية نبعت من الجـانب الآخـر.. مـن قوى الظلام والشر الأموية والتـي تـحجرت عـلناً، فحين يتسافل الإنسان في المنحدر تبدو له أن قراءة الشر في ذاته لا قرار لها، تبدو فتطفح على شكل ظاهرة، وتتماسك وسط تداعي أفـكار وأخـلاق النـخبة الماسكة بقانون الجماعة. ومع مأساة كهذه، فإنها هـي التـي أنتجت إبداعاً شعبياً هو الآخر لا يمكنه تطبيق مناهج النقد الحديث عليه أو المقاييس العقلية دون تثبيت المطلب الاجتماعي له، ودون تـركيز وحـدة ثـنائي العقل والقلب فيه.
المناهج والمقاييس هذه تباشر المعطيات، وهي تصدر مـن إنسان مدّع في فكره أو سلوكه.. ليس لها قدرة على تصنيف الأدب الطفي إلاّ بمعية الرسالة الكاملة، وحتى أحدث المناهج التـي تـدعي التـوغّل إلى قلب النص والكاتب أو الرسام والشاعر تعمل ذلك بتوسل ظاهرة لحياة وتقلبات ومـستويات النـص، والمبدع والاتفاق على أقرب مستوى ينسجم مع الظاهرة.. وهكذا نقع في كماشة تأريخ الأدب ثانيةً بعدما حـاول الحـدث الطـفي أن يتمرّد ــ بنجاح ــ على كماشة رواة التأريخ.
الحسين وإيقاع الزمن
الحسين (ع) في كربلاء أربك إيقاع الزمـن.. فـكل صـياغات الخصوم والأصدقاء تريد إما أن تستعجل الزمن وتستحدث الحدث إلى ما قبل أوانه المقرّر في أفـق بـصر الحـسين (ع)، أو أن تشغل الحسين (ع) وصحبه وموضوعات الدراما الكربلائية؛ ليتباطأ الزمن ويتراخى ويتفلت عن دائرة «الآن» المقررة فـي آخـر نقطة لبصرية السبط المستقيمة. بمعنى أن الحسين (ع) تمرّد على أدق الحسابات الزمنية التي كان يـرصدها كـل مـن الأحبة والخصوم والمحايدون، فاضطر الأمويون أن يحاصروه عندما انتدبوا الحر الرياحي لذاك، لإيقاف أو حرف الزمـن الحـسيني .. ومن ثم المكان الحسيني.
الفكرة نفسها اضطروا إليها ثانيةً عندما أخطروا ابن سعد فـي اليـوم السـادس أو السابع من المحرّم، وأحدثوا بين الأخير والشمر بن ذي الجوشن مزايدةً رخيصة مكشوفة.. وبنفس الاتـجاه.. اضـطروا حتى إلى تصفية مصرعه حينما انتدب الأربعون إلى ذبحه، فتلكؤا وعادوا أدراجهم، فـوقع الاخـتيار عـلى الشمر.. فارتجف يهرف.. وهو عبءٌ من السوء.. استهدف ليطارد ثمالة النظرات الحسينية المبثوثة في ثـنايا قـماشية أطـفاله المذاعير، تحرك الشمر بزمن غير حسيني.. وكذلك بزمن غير أموي مدفوعاً بـكل حـقارة الأرض.. تزمه عاصفة مجهولة.. يحمل همّ أربعين ألفاً من الصامتين المجهولين المحتارين... ليفتك بطهر السماء كلّه.
والحـكاية السـرية هي أن الأرض ما كانت حتى لتصير نعشاً له، ويمكنها استيعاب خارطة الدم وهي تـتجمّر فـي شلو الحسين وهو صريع.. فقد تخلّف الزمـن عـن ركـب الحسين.. عاد بعد مصرعه خجلاً.. شيئاً فـشيئاً صـحت الموجودات على نداءات السبط.. فلا يني الزمن يكشف عبر مسيرة الاجتماع أجزاءه.. دقـائقه.. لحـظاته.. في كل لحظة يدخل المـسلمون زمـناً كان مـسروقاً قـبال الحـسين وهو يكافح من أجل التحرير، ويـطلّ عـلي جراحات الإنسان والطبيعة والمستقبل.
وعي المقطع التاريخي
وإذاً، فالعقل الإسلامي والإنساني يحتاج إلي وعي المـقطع التـأريخي الذي استشهد فيه الإمام السبط علي أنـه معطي لأسباب متراكمة كـانت وحـوافز منتظمة لما سوف يكون، فـفي المـقطع، الزمن الكلي للاجتماع لا بضوء الإحصاء الطبيعي وإنما على ضوء تقابل واضح بين السـلب والإيـجاب.. سلبية الأمة وإيجابيتها، وسلبية العـالم وإيـجابيته.. إن الزمـن الكلي أخذ يـتمفصل بـعد مصرع الكربلائيين وتتجلّى مـنه حـصص.. وكل حصة تناسب قدر الوعي المتمثل في التيار الإسلامي الواعي.. إن وعياً كهذا.. نستمكنه فـي عـصرنا الراهن، يحتاج إلى توجه قلبي، إلى التماوج مـع ذبـذبات الفؤاد الحـسيني.. فـالزمن مـع القلب غيره في العـقل، الزمن في الحدث الطفي حين يراد منه الإشباع الوجداني والعاطفي يتعهد به القصد في الانـضمام والانـتماء الكلي غير المشروط لفعاليات زمن الحسين.
وكـما كـنّا نـعيش أضـواء التـكنولوجيا والمدنية المعاصرة.. فـإن قـدرة الزمن تتضاعف وتختصر لنا رحلة الوعي.. وعي زمن الحسين (ع).. وكائنات الطفّ الرئيسية، غير أن هذا يدعو المـتأملين أن يـخضعوا القـلب والعقل إلي ثوابت العقيدة.. حتي تتحرّك المتغيرات فـي اطـار العـقيدة، فـتصبح عـملية تـمثيل الحدث الطفي عملية اجتماعية.. غير فردية.. غير نخبوية.. غير مذهبية.. وحتى يتجه الرسم الواقعي للحدث نحو التأليف.. لا الربط الآلي وتوليف اللقطات.
تحليل المعادلة والناتج الأخير
العقلاء جميعاً مدعوون إلى وعـي الحدث الطفي بلغة العصر، وأن تستقيم المعادلة التالية «زمن الجيل + الضمير الحسيني» في سلوكهم العقائدي.
الضمير الحسيني يعني ــ تحديداً ــ الشهادة، وهنا معناه المقاومة والصراع بين أي ظالم ومظلوم علي أي مكانية محددة... ومـع هـذا التلازم يتطلّب الأمر تحليلاً موضوعياً لمحتويات كل مرحلة وجيل.
إن الثقافة الحسينية تفترض دائماً أن هناك ظالماً ومظلوماً.. وأن على طرفي المرحلة حسين ويزيد ومعركة تناقض، إن هذه الفرضية علمية على صعيد وقائع التـاريخ المـاضية والآنية، وهي إحدى محتويات التواصل والوعي الحسيني، إلاّ أن الماضي والحاضر يتجهان ويتناسخان إلى مستقبل أعظم وأثرى... وليس في الضرورة ما يجعل الفرضية السابقة واقعاً فـي المـستقبل.. بل إن أصل الحدث الطفي يـجب مـلاحظته علي ضوء: أن الإمام الحسين (ع) لم يفترض الفرضية السابقة بدون ملاحظة الواقع الموضوعي عند الأمويين.. وكانت مسيرة الإمام الحسين (ع) في كل خطوة ليس من أجل البـرهان العـلمي للفرضية السابقة وإنما إبـطال وحـلحلة أو تحييد الواقع الموضوعي الأموي.
الشهادة إذن، برهان مؤقت.. وهي موقف للعقيدة وليس للأبطال، موقف من أجل إحلال السلام والحرية.. وحتى في عاشوراء، كان الحسين (ع) يتوثب شوقاً وشفقة على العناصر التي اخـتارت الحـرب على السلام.. وله (ع) وقفات جبارة.. وبينات وخطابات واضحة، يدعو فيها نخبة العسكر الأموي إلي الرشد والسلام والحرية.
المطلب الواقعي للشهادة ولتضحية الإمام الحسين (ع) هو السلام والحرية إن لم يكونا جوهرها، فهو صوت العقيدة لبطولة السـلام، ويـمكن قياس قـوة وعظمة سلام الحسين (ع) الاستشهادي عن طريق تقصّي مفردات الحدث الطفي منذ البداية، وبقدر عنف وصلابة المقاومة التـي انطلق فيها السبط إلى أقصى ما يمكن أن تكون عليه حالة المواجهة أو فـي المـستقبل، فـالحسين (ع) يأمل أن يكون الإنسان المسلم حجر الأساس في مجتمع السلام؛ لأنّ في السلام يطمئن القلب ويبدع فـي شـوقياته، ويستقر العقل وينمو في كونياته.. يفلسف الإبداع في الحالتين علي أنه قلق مـعرفة وسـلوك، يـتهادى إليه الإنسان طوعاً ويكابد ذاته من أجله.. لا قلق معرفة يضطر فيها الإنسان مجبراً ويكابد الآخـر من أجله...
قراءة في العلاقة الجدلية
عبدالكريم المهدي
ثـنائي العقل والقلب في الإسلام:
العقيدة، أي عقيدة، لابد أن تحقق مثالها الإنساني في مـسيرتها التـكاملية، والمـثال هذا يبقي حركةً إنسانية جاذبة وذاكرة موحية وتجربة نوعية تقترن في شخصيته الفريدة الحوافز والمـعالم بالمعطيات. ولأن العقيدة ــ إلهيةً كانت أم وضعية ــ تعد المؤمنين بها، بإصلاح الأرض وعمرانها وتطوير الإنسان ومـستقبله، صحّ أن تكون ذات قوة وفـعل عـلي التطبيق، ومدعاةً لخلق الأجواء النفسية والاجتماعية لكل مرحلة من التطبيق الأصلح، حتي تحظى ــ العقيدة ــ بمشروعية الدعوة والتغيير، وبمصداقية الشعور والشعار والسلوك. فعليها أن تقترح دائماً، وعلى طول الخط، الكفاح الفردي والاجتماعي مـن أجل تسييس أو إقصاء المعطلات الكامنة في شقة الهدف الأكبر، وتحويلها إلى عناصر إيجابية ودمجها في اطار خط التنمية الثقافية والاجتماعية.
الإسلام، بوصفه عقيدةً إلهية، أو تجربة اجتماعية رائدة قادها الداعية النبي الأكرم (ص)، تنطوي على مـنظومات هـائلة من المفاهيم والتشريعات والأحكام، وكلّها تتعلق في توجيه مسار العاطفة والوجدان الإنساني. ولأجل هذا، اقترح ويقترح الإسلام، أن نشاطه الرئيس يتمحور حول حقيقة واحدة هي التوحيد علي صعيد القضايا والشـعور ومـناحي الفكر، وربط الإسلام قضية التوحيد بالأرض علي صعيد الإنسان والاجتماع البشري، ولهذا فإن الواقع الديني لأصل التوحيد أن يتعلق عملياً بسلوك الإنسان علي الأرض..
ولن يتمكن الإنسان من التعبير عن إنسانيته مـا لم يـكن موحداً؛ ولهذا أصبح في أفق حياته الدنيوية مكلّفاً، مثلما لا يبدع التوحيد عن أصالته إلاّ في فضاء كيان إنسان عرف وبقوة معني إنسانيته.. فالإنسانية لا تسمو دون أن تتوحّد منابعها وظواهرها في داخل صـميم الذات وتـتماسك فـي خارج الكيان، بحيث يغدو الانـسجام العـضوي بـين داخل الإنسان وبين خارجه هو الصيغة الواقعية التي تعكس حكمة الوجود الآدمي علي الأرض...
فهو ــ أي الإسلام ــ على خلاف العقائد الأخرى، اتـجه بـأتباعه نـحو موازنة طبيعية ونامية بين ما يقع خارج الذات وبـين مـا يرقد في صميمها. الموازنة تلك لم تكن مجرد معالجة مفروضة من الخارج أو أنها حلّ معين لإشكالية تراجع حيالها الإبداع الفـكري، إنـما هـي، تترشح وتتنامي من الميل الفطري المودع في رسّ الكائنات وتـبرز لنا القابليات، كأمثل كيان قابل وفاعل حرّ في لوحة الوجود، ويلمع الإنسان مخلوقاً رائعاً في الاتجاه تتواشج فـي مـواقفه قـوى خلاقة، سواءً كان في نبوغها الروحي والعقلي والعاطفي أو في إنجازها المـادي والجـسدي، سيما وأنه خلق على أحسن تقويم، كما يصرح القرآن الكريم بذلك.
الصراعات الأيديولوجية التي تطبّعت أخيراً بـألوان السـياسي الشـمولي والتي انتهت ــ وعلى التوالي ــ إخفاقات فظيعة، كانت ولا تزال لا تعي المشكلة الاجتماعية، فـانطلاقاً مـن مـثالية الإغريق وانتهاءً بمادية الماركسيين، لم ترصد البؤرة الأصلية التي تفجّر الصراع، فتطرّف بعضها في تـسعير العـقل مـقصيةً عن طريقها كل ما يتعلق بالجسد والعاطفة وقوي الفوائد التي تلح في كل حـالة عـلى التمظهر المادي والجوارحي، فيما ــ وعلى النقيض ــ أفرطت بعض الأيديولوجيات في نظرتها، فقدّست الشـكل والحـس ومـعطيات الجوارح. ومن نتائج هذا التقاطع، أن وقع التاريخ الفكري بين أحادية قاسية شكلت فيما بـعد كـوارث الانهيار الاجتماعي واضطراب سلام البشر.
القلب والعقل، بؤرتان طبيعيتان لكل ما يسمّى بالبعد الروحـي والمـادي، ورسـالة الدين، ــ أي دين ــ جاءت لتكتشف وتبدع في التواصل بين ما هو روحي عاطفي وبين مـا هـو عقلي وعلمي.. لا لتخلق العقل أو العاطفة، فهذان تركيبان تكوينيان أنشأهما الخالق المطلق سـبحانه، والغـرض مـن التوصيل أو التواصل، أن تتفاعل الموجودات والمعقولات المادية والمعنوية وبالذات من موقع الإنسان الذي يعي العلاقات بين مـوجباتها التـي يـتوخاها القرآن من المسلمين.
قصّة الفؤاد في القرآن الكريم تعبر أحياناً عن العقل والقـلب مـعاً؛ وذلك لقوة وفعالية البيان العربي، وكأنما يشير إلي أن الإيمان مطلب عاطفي، والعاطفة في الوقت عينه مـطلب إيـماني.. ومن هنا تنبع الحساسية والخطورة في التوصيل.
مفردة الفؤاد في القرآن ترفد الواعـي بـالكثير من الدلالات والإيماءات والإشارات، وتشكل بمعظمها بنيوية ثـقافية، غـاية مـا يصبو إليه القرآن الكريم، تدريب الإنسان عـلى كـيفية وحدة القلبي والعقلي في مركب الأداء الاجتماعي الكبير.
إن هذه الوحدة تثير تنمية العملية، وتدعو كـل ضـمير أن ينتظم مع الآخر، واخـتزال الأمـكنة والأزمنة والفـوارق نـحو مـصير مزدهر منتج، تتعاطف فيه ماديات الأرض وأشـكال الطـبيعة مع الإنسان وحرث الحصة الكونية المقررة لمدارك الشخص ونشاطه.
عرض القرآن الكريم الكـثير مـن النماذج الصالحة للتذكرة والقدوة والتجربة، وكـثير من الرموز الإسلامية المـعطاة شـغلت حيزاً مهما من أشواط التـأريخ الإسـلامي والعالمي بإنجازاتها وتفاعلت معها الذاكرة بارتكازها.. ذلك كلّه يحفظه الإسلام للعاملين... ولا تفريط في ذلك، ويـبقى أن مع كل عظيم سجلاً عـريضاً مـن المـنعطفات والوقائع التي ألمـّت بـه وصيرته بطلاً مؤثراً فـي دائرة الحـدث أو في وسطه الاجتماعي ومقطعه الزمني.
الحدث الطفّي والثنائية المذكورة
ومع سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وصحبه، نـخبة الله الذي انـتخب، لم يعد التأريخ مشغولاً بتوصيل إنجازهم للأجـيال فـحسب، إنما التـأريخ فـي جـهد ومقاومة ومناورة مع الإنـجاز الحسيني؛ لأنه ــ أي التأريخ ــ تمكن من صياغة وتكييف إنجاز العظماء وحوّل المعطيات إلى وقود وديمومة له فيما أفـرد للراوي والقـصاص والمسرحي والمؤرخ والناقد والرسام حصةً فـي مـوازاة الحـدث يـستطيع بـها أن يقول: إن الفـلاني ــ مـن ناحية توثيقية وتفكيرية ــ خطأ، أو إنه يجب أن يكون هكذا، أو يعدل ويضيف ويطرح من محتوياته. مع هذه الإشـارة، أن إنـجازات العـظماء منتمية للتأريخ وصيرورته، وهذا الأخير في مـكان يـستطيع مـنه تـفسير الأحـداث وتـوزين الأبطال.
من الواضح بعد هذا أن التأريخ في شوط ما يمكن أن يستقل بالحدث ويقصي البطل ويبلور آثاره في ضمن معقولية المرحلة، وقد يبقي البطل مجرد ذاكرة وميثولوجيا وطقساً تـراثياً، فقد حفل التاريخ بمشاهد عظمى للأبطال وفيما أقصى بعضهم عن موقعه في المستقبل وحشره في دائرة زمنه الخاص فإن بعضهم ممن قاوم المكر التأريخي نصب قصداً في كل تصفية تحدث للمـراحل، غـير أن التساؤل المشروع هو: لماذا يقع البطل في مدار الإقصاء ويتحوّل إلى مجرد ذاكرة؟
نعتقد هذا هو الناتج من عملية انفكاك العقل عن العاطفة والقلب في التعبير الجماعي أو الفردي، أما مع الحـسين (ع) فـالقضية معكوسة تماماً، إذ إن الفعل الذي أتقنه على ثري الطف وأشبع مساماتها بكل خلاقية وانتماء.. كأنّه قد استجاب لكل ما يتطلبه الشكل والسطح والمظاهر من قـيم ونـداءات وألوان ونغمات، فأصبح حيال هذه «القـلبيات» الحـسينية كل جماد الطبيعة وكائناتها وأحجارها في حالة إصغاء تام.. وصمت حقيقي... وبكائية ضاجة.. فاستأنست الطبيعة بالفعل الحسيني وهو يطارد جمادات حملت بالفعل تحميلاً.. أقـصى مـا يمكن أن تعبر عنه العـاطفة وعـمارتها القلب هو ما حدث في الطف.. وعلى رأس الطفيين تصالب الحسين (ع) ضدّ كلّ من يحاول العزل بين سطح الظاهرة ومحتواها.. فعاد الشكل الطبيعي نابعاً ومتبرعماً من قوة المضامين الجمالية التي أعـد لهـا سيد الشهداء القوالب الأروع، لتستوعب قدرة الأجيال الآتية بالقدر المناسب منها.
فلا انفكاك بين ثنائي العقل والقلب في أي انطباعية أو تعبيرية سلوكية في مأساة الطف، وقد منع الحسين (ع)، الفراغات كلّها التـي ربـما يتسلح بـها التأريخ فيما بعد ويعتدّ بها ويكتشف أن الحسين ما كان أو كان بصدد هذه الزاوية أو تلك. فالتأريخ في مـلحمة الطف كان كائناً منتمياً للحسين (ع) ولحظاته القانية، وصح أن في أي شوط اجـتماعي واعٍ يـمكن أن يصاغ التأريخ والاجتماع وتعاد تركيبتهما علي ضوء المنهج الحسيني.
ولأنه الحدث الطفي ــ من جهة أخرى ــ أحدث مقارنة ومـقاربة بـين كل النخب والعلائق الاجتماعية، فلم ينفرد بواحدةٍ دون أخرى أو على حساب أخرى، ولأن المصرع الشـريف للإمـام الحـسين (ع) كان لقطة قد تكلّس قبالها تصوير أي فنان عبقري، وكانت فوق كل ما يتخيله المدّعي لمـستويات العقدة، فالعقدة لم تكن طبيعية في ساحة الطف.. كانت استثنائية.. حتى صرّح أحد رواة الحـدث «حميد بن مسلم»: «والله لقـد أشـغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله»، أي وجه الحسين (ع) وهو صريع.. إن العقدة لم تكن طبيعية.. ولم يقترحها الحدث العام من الخارج، بل نبعت من صميم بؤرة الحدث.. من الحسين ذاته عندما فصل الحدث بـدمائه الطاهرة.. وقطع الضجيج، والخيالات المتكوّرة من حوله (ع)، وفيما حشد (ع) أرقى صورة ملهمة للمقاومة حيث قتل القوم وهو زاحف، ثم ثني فقاتلهم بومضات عينه وهو صريع.. إنما كان بهذا المكان من الرقـي لأنـه كان يواجه أقبح مثال للخلقية الأموية الغريبة بالمطلق.
حشد السبط هذا؛ ليضع أمام الواقع لكل جيل حصة مناسبة.. عاطفة مناسبة.. وعياً مناسباً.. أسلوبية مناسبة، ليتهيأ كل الاجتماع الإنساني المحتد أمام رؤاه (ع) وليعي المـجتمع اشـتباكية ما هو واقعي سليم مع ما هو قبيح شاذ، بيد أن المأساة فوق الطبيعية لا تؤسّس لنا قناعة، مفادها، أن الإمام الحسين (ع) وصحبه لم يكونوا بشراً عاديين، فالسبط الطاهر إنسان وبعض صحبه كـان مـمن يختلف معه في الرؤية والموقف والدور إلى وقت قريب من الملحمة الحسينية، هو أحد أعضاء الجماعة المسلمة الأولى عاشت بكل تلقائية مع صاحب الرسالة وطلائعها الخوالد. المأساة فوق الطبيعية نبعت من الجـانب الآخـر.. مـن قوى الظلام والشر الأموية والتـي تـحجرت عـلناً، فحين يتسافل الإنسان في المنحدر تبدو له أن قراءة الشر في ذاته لا قرار لها، تبدو فتطفح على شكل ظاهرة، وتتماسك وسط تداعي أفـكار وأخـلاق النـخبة الماسكة بقانون الجماعة. ومع مأساة كهذه، فإنها هـي التـي أنتجت إبداعاً شعبياً هو الآخر لا يمكنه تطبيق مناهج النقد الحديث عليه أو المقاييس العقلية دون تثبيت المطلب الاجتماعي له، ودون تـركيز وحـدة ثـنائي العقل والقلب فيه.
المناهج والمقاييس هذه تباشر المعطيات، وهي تصدر مـن إنسان مدّع في فكره أو سلوكه.. ليس لها قدرة على تصنيف الأدب الطفي إلاّ بمعية الرسالة الكاملة، وحتى أحدث المناهج التـي تـدعي التـوغّل إلى قلب النص والكاتب أو الرسام والشاعر تعمل ذلك بتوسل ظاهرة لحياة وتقلبات ومـستويات النـص، والمبدع والاتفاق على أقرب مستوى ينسجم مع الظاهرة.. وهكذا نقع في كماشة تأريخ الأدب ثانيةً بعدما حـاول الحـدث الطـفي أن يتمرّد ــ بنجاح ــ على كماشة رواة التأريخ.
الحسين وإيقاع الزمن
الحسين (ع) في كربلاء أربك إيقاع الزمـن.. فـكل صـياغات الخصوم والأصدقاء تريد إما أن تستعجل الزمن وتستحدث الحدث إلى ما قبل أوانه المقرّر في أفـق بـصر الحـسين (ع)، أو أن تشغل الحسين (ع) وصحبه وموضوعات الدراما الكربلائية؛ ليتباطأ الزمن ويتراخى ويتفلت عن دائرة «الآن» المقررة فـي آخـر نقطة لبصرية السبط المستقيمة. بمعنى أن الحسين (ع) تمرّد على أدق الحسابات الزمنية التي كان يـرصدها كـل مـن الأحبة والخصوم والمحايدون، فاضطر الأمويون أن يحاصروه عندما انتدبوا الحر الرياحي لذاك، لإيقاف أو حرف الزمـن الحـسيني .. ومن ثم المكان الحسيني.
الفكرة نفسها اضطروا إليها ثانيةً عندما أخطروا ابن سعد فـي اليـوم السـادس أو السابع من المحرّم، وأحدثوا بين الأخير والشمر بن ذي الجوشن مزايدةً رخيصة مكشوفة.. وبنفس الاتـجاه.. اضـطروا حتى إلى تصفية مصرعه حينما انتدب الأربعون إلى ذبحه، فتلكؤا وعادوا أدراجهم، فـوقع الاخـتيار عـلى الشمر.. فارتجف يهرف.. وهو عبءٌ من السوء.. استهدف ليطارد ثمالة النظرات الحسينية المبثوثة في ثـنايا قـماشية أطـفاله المذاعير، تحرك الشمر بزمن غير حسيني.. وكذلك بزمن غير أموي مدفوعاً بـكل حـقارة الأرض.. تزمه عاصفة مجهولة.. يحمل همّ أربعين ألفاً من الصامتين المجهولين المحتارين... ليفتك بطهر السماء كلّه.
والحـكاية السـرية هي أن الأرض ما كانت حتى لتصير نعشاً له، ويمكنها استيعاب خارطة الدم وهي تـتجمّر فـي شلو الحسين وهو صريع.. فقد تخلّف الزمـن عـن ركـب الحسين.. عاد بعد مصرعه خجلاً.. شيئاً فـشيئاً صـحت الموجودات على نداءات السبط.. فلا يني الزمن يكشف عبر مسيرة الاجتماع أجزاءه.. دقـائقه.. لحـظاته.. في كل لحظة يدخل المـسلمون زمـناً كان مـسروقاً قـبال الحـسين وهو يكافح من أجل التحرير، ويـطلّ عـلي جراحات الإنسان والطبيعة والمستقبل.
وعي المقطع التاريخي
وإذاً، فالعقل الإسلامي والإنساني يحتاج إلي وعي المـقطع التـأريخي الذي استشهد فيه الإمام السبط علي أنـه معطي لأسباب متراكمة كـانت وحـوافز منتظمة لما سوف يكون، فـفي المـقطع، الزمن الكلي للاجتماع لا بضوء الإحصاء الطبيعي وإنما على ضوء تقابل واضح بين السـلب والإيـجاب.. سلبية الأمة وإيجابيتها، وسلبية العـالم وإيـجابيته.. إن الزمـن الكلي أخذ يـتمفصل بـعد مصرع الكربلائيين وتتجلّى مـنه حـصص.. وكل حصة تناسب قدر الوعي المتمثل في التيار الإسلامي الواعي.. إن وعياً كهذا.. نستمكنه فـي عـصرنا الراهن، يحتاج إلى توجه قلبي، إلى التماوج مـع ذبـذبات الفؤاد الحـسيني.. فـالزمن مـع القلب غيره في العـقل، الزمن في الحدث الطفي حين يراد منه الإشباع الوجداني والعاطفي يتعهد به القصد في الانـضمام والانـتماء الكلي غير المشروط لفعاليات زمن الحسين.
وكـما كـنّا نـعيش أضـواء التـكنولوجيا والمدنية المعاصرة.. فـإن قـدرة الزمن تتضاعف وتختصر لنا رحلة الوعي.. وعي زمن الحسين (ع).. وكائنات الطفّ الرئيسية، غير أن هذا يدعو المـتأملين أن يـخضعوا القـلب والعقل إلي ثوابت العقيدة.. حتي تتحرّك المتغيرات فـي اطـار العـقيدة، فـتصبح عـملية تـمثيل الحدث الطفي عملية اجتماعية.. غير فردية.. غير نخبوية.. غير مذهبية.. وحتى يتجه الرسم الواقعي للحدث نحو التأليف.. لا الربط الآلي وتوليف اللقطات.
تحليل المعادلة والناتج الأخير
العقلاء جميعاً مدعوون إلى وعـي الحدث الطفي بلغة العصر، وأن تستقيم المعادلة التالية «زمن الجيل + الضمير الحسيني» في سلوكهم العقائدي.
الضمير الحسيني يعني ــ تحديداً ــ الشهادة، وهنا معناه المقاومة والصراع بين أي ظالم ومظلوم علي أي مكانية محددة... ومـع هـذا التلازم يتطلّب الأمر تحليلاً موضوعياً لمحتويات كل مرحلة وجيل.
إن الثقافة الحسينية تفترض دائماً أن هناك ظالماً ومظلوماً.. وأن على طرفي المرحلة حسين ويزيد ومعركة تناقض، إن هذه الفرضية علمية على صعيد وقائع التـاريخ المـاضية والآنية، وهي إحدى محتويات التواصل والوعي الحسيني، إلاّ أن الماضي والحاضر يتجهان ويتناسخان إلى مستقبل أعظم وأثرى... وليس في الضرورة ما يجعل الفرضية السابقة واقعاً فـي المـستقبل.. بل إن أصل الحدث الطفي يـجب مـلاحظته علي ضوء: أن الإمام الحسين (ع) لم يفترض الفرضية السابقة بدون ملاحظة الواقع الموضوعي عند الأمويين.. وكانت مسيرة الإمام الحسين (ع) في كل خطوة ليس من أجل البـرهان العـلمي للفرضية السابقة وإنما إبـطال وحـلحلة أو تحييد الواقع الموضوعي الأموي.
الشهادة إذن، برهان مؤقت.. وهي موقف للعقيدة وليس للأبطال، موقف من أجل إحلال السلام والحرية.. وحتى في عاشوراء، كان الحسين (ع) يتوثب شوقاً وشفقة على العناصر التي اخـتارت الحـرب على السلام.. وله (ع) وقفات جبارة.. وبينات وخطابات واضحة، يدعو فيها نخبة العسكر الأموي إلي الرشد والسلام والحرية.
المطلب الواقعي للشهادة ولتضحية الإمام الحسين (ع) هو السلام والحرية إن لم يكونا جوهرها، فهو صوت العقيدة لبطولة السـلام، ويـمكن قياس قـوة وعظمة سلام الحسين (ع) الاستشهادي عن طريق تقصّي مفردات الحدث الطفي منذ البداية، وبقدر عنف وصلابة المقاومة التـي انطلق فيها السبط إلى أقصى ما يمكن أن تكون عليه حالة المواجهة أو فـي المـستقبل، فـالحسين (ع) يأمل أن يكون الإنسان المسلم حجر الأساس في مجتمع السلام؛ لأنّ في السلام يطمئن القلب ويبدع فـي شـوقياته، ويستقر العقل وينمو في كونياته.. يفلسف الإبداع في الحالتين علي أنه قلق مـعرفة وسـلوك، يـتهادى إليه الإنسان طوعاً ويكابد ذاته من أجله.. لا قلق معرفة يضطر فيها الإنسان مجبراً ويكابد الآخـر من أجله...