الاستغفار في حياة الأنبياء والأتقياء
لقد كانَ الأنبياءُ عليهم السلام يسألون الله المغفرة؛ فالرُّسلّ عليهم السلام يذنبون في الرَّاجحِ عندي من أقوالِ العلماءِ، لكنهم معصومون من كبائرِ الذنوب، ومعصومون في تبليغِهم الرسالة باتفاق الأمة، لكنْ يَعتَرِيهم النقصُ البشري أحيانًا فيفعلون ما هو في حقِّهم ذنبٌ وخطأٌ، ثم يستغفرون الله فيغفرُ الله لهم.
1- آدم عليه السلام:
آدم عليه السلام يعصي ربَّه عز وجلَّ، فيأكل من الشجرة؛ قال الله تعالى: { {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} } [طه: 121].
فسألَ هو وزوجتُه ربَّه سبحانَه وتعالى المغفرةَ له ولزوجِه، { {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } [الأعراف: 23].
2- نوحٍ عليه السلام:
هذا نوحٍ عليه السلام قال الله تعالى في خبرِه: { {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } [هود: 45-47].
إن نوحًا عليه السلام إنما سألَ ربَّه سؤالَ استفهامٍ: يارب! كيف يغرَقُ ولدي مع من غرِقَ، وقد وعدْتني بنجاةِ أهلِي، ووعدُك الحقُّ الذي لا يُخلَفُ، فكيف غَرِقَ وهو من أهلي، وأنت أحكمُ الحاكمين؟ فقال الله سبحانه له: إنه ليس من أهلك الذين وعدتُك بنجاتِهم، فإنِّي إنما وعدْتُك بنجاة من آمنَ مِن أهلِك، فلا تطْلُبْ منِّي ما لم تعلمْ عاقِبَتَه ومآلَه، ولا تعالم هل يكونُ خيرا أم لا؟
فطلب نوحٌ عليه السلام من ربِّه أن يغفرَ له، وقال: { {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} } وأستجيرُ بك أن أتكلَّفَ مسألتَك { {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} } مِمَّا قد استأثرتَ بعلمِه، وطَويت علمَه عن خلقِك، فاغفرْ زلَّتي في مسألتِي إيَّاك ما سألتُك في ابني، { {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} } وترحمْني فتُنقِذَني من غضبِك { {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } الذين غبَنوا أنفسَهم حظُوظَها وهلِكُوا.
وقال عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} } [نوح: 28].
3- هود عليه السلام:
قال هود عليه السلام لقومه: { {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } } [ هود52 ].
4- صالح عليه السلام:
قال الله تعالى: { {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} } [هود: 61].
5- إبراهيم عليه السلام:
قال إبراهيم عليه السلام: { {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} } [الشعراء: 75 - 82].
وقال عليه السلام: { {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} } [إبراهيم: 41].
وقال عليه السلام: { {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} } [الممتحنة: 5].
تُرى ما هي خطيئة إبراهيم عليه السلام؟
لقد كذب إبراهيمُ عليه السلام ثلاثَ كَذَباتٍ، ليست كذِبًا على الحقيقةِ، وإنما هي من المَعَاريضِ، ثم إنها كانتْ لحاجةٍ ومصلحةٍ شرعيَّةٍ، فلو حتى كانت كذبًا صريحًا فإنَّ له عذرًا في ذلك. عن أبي هريرة قال: "لم يكذِب إبراهيمُ عليه السلام إلا ثلاثَ كذَبَاتٍ، ثِنتَين منهنَّ في ذاتِ الله عزَّ وجلَ، قولُه: { {إِنِّي سَقِيمٌ} } [الصافات: 89]. وقولُه: { {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} } [الأنبياء: 63]. قال: بينَا هو ذاتَ يومٍ وسارَةُ، إذ أتَى على جبارٍ من الجبابرةِ، فقيل له: إنَّ ها هنا رجلًا معه امرأةٌ من أحسنِ الناسِ، فأرسَلَ إليه فسألَه عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتَى سارَةَ قال: يا سارَة! ليس على وجه الأرضِ مؤمنٌ غيرِي وغيرَك، وإنَّ هذا سألنِي فأخبرتُه أنَّك أختي، فلا تُكذِبيني .." أخرجه البخاري، ومسلم .
هذا هو الذنبُ الذي يرجُو إبراهيمُ عليه السلام أن يغفرَه له ربُّه يومَ الدينِ، فكيف ينبغي أن يكونَ قولُنا وقد كبَّلتْنَا الذنوبُ، وأحاطَتْ قلوبَنا بهالةٍ من الظُّلمَةِ والسَّوادِ، نسأل الله المغفرة والرحمة. قال العلماء: وهذا من إبراهيمَ عليه السلام إظهارٌ للعبوديَّةِ وإن كان يعلمُ أنَّه مغفورٌ له.
6- يونس عليه السلام:
قال الله تعالى في شأن يونس عليه السلام: { {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} } [الأنبياء: 87].
تُرَى ما هو ذلك الظُّلم الذي فعلَه يونس عليه السلام؟
لا والله لم يكن ذنبًا عظيمًا، حاشاه ذلك، بل هو أمرٌ فعلَه باجتهادِه أخطأَ فيه، لم يكُنْ ذنبًا كذُنُوبنَا، بل هو من خِلافِ الأولى، لقد دعا قومَه فعاندوا وكابروا، فضجر منهم ويأس من إيمانهم، فتركهم ورحل عنهم، وتوعَّدَهم بالعذابِ بعد ثلاثةِ أيَّامٍ من خرُوجِه، ولم يكُنْ قد أتاه الأمرُ من ربِّه بالرحيل.
7- شعيب عليه السلام:
قال شعيبٌ عليه السلام يحثُّ قومَه على الاستغفارِ؛ فيقول لهم: { {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} } [هود: 90].
8- موسى عليه السلام:
موسى عليه السلام يقول الله في خبره: { {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} } [القصص: 15، 16].
لقد قتلَ موسى عليه السلام نفسًا لم يُؤمَرُ بقتلِها، لكنَّه عليه السلام لم يتعمَّدْ القتلَ، بل كان والله يريد دفعَ ظلمٍ، فوكزَ الرجلَ القبطي المعتدي عن الإسرائيلي، فماتَ الرجل، لقد مات بالخطأِ، قال العلماء: القتل الخطأ لا إثمَ فيه، وإن كانتْ فيه الدية.
لقد استغفر موسى عليه السلام من خطأ لم يتعمَّده، هو مغفورٌ له إن شاء الله وإن لم يستغفرْ، لكن هكذا الأنبياءُ عليهم السَّلام.
ويقول موسى عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} } [الأعراف: 151].
ولمَّا اختار موسى عليه السلام سبعين رجلًا من قومِه وساروا للقاء ربِّهم وأخذتهم الرجفة قال عليه السلام: { {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} } [الأعراف: 155].
9- داود عليه السلام:
قال الله تعالى في شأن داود عليه السلام: { {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} } [ص: 21 - 24].
10- سليمان عليه السلام:
قال سليمان عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} } [ص: 35]. لقد سألَ ربَّه المغفرة قبل سؤالِ الملك، طلبَ الباقِي قبل الفانِي، لقد همَّتُه الآخرة، وغايته رضى ربِّه سبحانه.
إذا كان هذا حال الأنبياء الأصفياء، وهم خير من عبد الله، وأطهر خلقه قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، فكيف ينبغي أنْ يكونَ عليه حالُ المساكينِ أمثالُنا؟
الاستغفار في حياة الصالحين
كان على هذا الدرب الصالحون من كل أمَّهٍ؛ قال الله تعالى: { {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} } [آل عمران: 16، 17].
وقال سبحانه وتعالى: { {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} } [آل عمران: 193].
وقال سبحانه: { {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} } [المؤمنون: 109].
وقال سبحانه: { {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} } [آل عمران: 135، 136].
وقال سبحانه: { {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} } [الذاريات: 15 - 18].
{ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} } [آل عمران: 146، 147].
{ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} } [الحشر: 10].
وعن عكرمة قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إني لأستغفرُ الله عزَّ وجلَّ وأتوبُ إليه كلَّ يوم اثني عشرَ ألفَ مرَّةٍ، وذلك على قدرِ ديَّتِي".
الصالحون يطلبون من إخوانِهم أن يستغفروا الله لهم:
لقد كانوا يطلبون ممن يتوسمون فيه الصلاح أن يستغفر لهم؛ فقد قال إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام: { {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} } [يوسف: 97].
وأخرج عن أُسَير بن جابرِ رحمه الله قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أَمدادُ أهلِ اليمنِ سألَهم: أفيكم أويسُ بنُ عامرٍ؟ حتى أتى على أويسٍ، فقالَ: أنتَ أويسُ بنُ عامرٍ؟ قال: نعم. قال: من مُرادٍ، ثم من قرَن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برَصٌ فبرِأْتَ منه إلا موضعَ دِرهم؟ قال: نعم. قال: لك والدةٌ؟ قال: نعم.
قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يأتي عليكم أويسُ بنُ عامرٍ مع أمدِادِ أهلِ اليمنِ، من مُرادٍ، ثم من قرَن، كان به برَصٌ فبرَأَ منه إلا موضعَ دِرْهمٍ، له والدةٌ هو بها بَرٌّ، لو أقسمَ على الله لأبرَّه، فإنْ استطعْتَ أن يستغفِرَ لك فافعلْ"، فاستغفِرْ لي، فاستغفرَ له .. ".
وفي لفظٍ لأحمد: فهل كان بك من البيَاضِ شيءٌ؟ قال: نعم، فدعوتُ الله عزَّ وجلَّ فأذهبَه عنِّي إلا موضعَ الدّرهم من سُرَّتي؛ لأذكُرَ به ربِّي. قال له عمر: استغفِرْ لي. قال: أنت أحقُّ أن تستغفِرَ لي، أنت صاحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
قال العلماء: في هذا الحديثِ استحبابُ طلبِ الدعاءِ والاستغفارِ من أهلِ الصلاحِ، وإن كان الطالبُ أفضلَ منهم.
لقد كانَ الأنبياءُ عليهم السلام يسألون الله المغفرة؛ فالرُّسلّ عليهم السلام يذنبون في الرَّاجحِ عندي من أقوالِ العلماءِ، لكنهم معصومون من كبائرِ الذنوب، ومعصومون في تبليغِهم الرسالة باتفاق الأمة، لكنْ يَعتَرِيهم النقصُ البشري أحيانًا فيفعلون ما هو في حقِّهم ذنبٌ وخطأٌ، ثم يستغفرون الله فيغفرُ الله لهم.
1- آدم عليه السلام:
آدم عليه السلام يعصي ربَّه عز وجلَّ، فيأكل من الشجرة؛ قال الله تعالى: { {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} } [طه: 121].
فسألَ هو وزوجتُه ربَّه سبحانَه وتعالى المغفرةَ له ولزوجِه، { {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } [الأعراف: 23].
2- نوحٍ عليه السلام:
هذا نوحٍ عليه السلام قال الله تعالى في خبرِه: { {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } [هود: 45-47].
إن نوحًا عليه السلام إنما سألَ ربَّه سؤالَ استفهامٍ: يارب! كيف يغرَقُ ولدي مع من غرِقَ، وقد وعدْتني بنجاةِ أهلِي، ووعدُك الحقُّ الذي لا يُخلَفُ، فكيف غَرِقَ وهو من أهلي، وأنت أحكمُ الحاكمين؟ فقال الله سبحانه له: إنه ليس من أهلك الذين وعدتُك بنجاتِهم، فإنِّي إنما وعدْتُك بنجاة من آمنَ مِن أهلِك، فلا تطْلُبْ منِّي ما لم تعلمْ عاقِبَتَه ومآلَه، ولا تعالم هل يكونُ خيرا أم لا؟
فطلب نوحٌ عليه السلام من ربِّه أن يغفرَ له، وقال: { {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} } وأستجيرُ بك أن أتكلَّفَ مسألتَك { {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} } مِمَّا قد استأثرتَ بعلمِه، وطَويت علمَه عن خلقِك، فاغفرْ زلَّتي في مسألتِي إيَّاك ما سألتُك في ابني، { {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} } وترحمْني فتُنقِذَني من غضبِك { {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} } الذين غبَنوا أنفسَهم حظُوظَها وهلِكُوا.
وقال عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} } [نوح: 28].
3- هود عليه السلام:
قال هود عليه السلام لقومه: { {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } } [ هود52 ].
4- صالح عليه السلام:
قال الله تعالى: { {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} } [هود: 61].
5- إبراهيم عليه السلام:
قال إبراهيم عليه السلام: { {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} } [الشعراء: 75 - 82].
وقال عليه السلام: { {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} } [إبراهيم: 41].
وقال عليه السلام: { {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} } [الممتحنة: 5].
تُرى ما هي خطيئة إبراهيم عليه السلام؟
لقد كذب إبراهيمُ عليه السلام ثلاثَ كَذَباتٍ، ليست كذِبًا على الحقيقةِ، وإنما هي من المَعَاريضِ، ثم إنها كانتْ لحاجةٍ ومصلحةٍ شرعيَّةٍ، فلو حتى كانت كذبًا صريحًا فإنَّ له عذرًا في ذلك. عن أبي هريرة قال: "لم يكذِب إبراهيمُ عليه السلام إلا ثلاثَ كذَبَاتٍ، ثِنتَين منهنَّ في ذاتِ الله عزَّ وجلَ، قولُه: { {إِنِّي سَقِيمٌ} } [الصافات: 89]. وقولُه: { {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} } [الأنبياء: 63]. قال: بينَا هو ذاتَ يومٍ وسارَةُ، إذ أتَى على جبارٍ من الجبابرةِ، فقيل له: إنَّ ها هنا رجلًا معه امرأةٌ من أحسنِ الناسِ، فأرسَلَ إليه فسألَه عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتَى سارَةَ قال: يا سارَة! ليس على وجه الأرضِ مؤمنٌ غيرِي وغيرَك، وإنَّ هذا سألنِي فأخبرتُه أنَّك أختي، فلا تُكذِبيني .." أخرجه البخاري، ومسلم .
هذا هو الذنبُ الذي يرجُو إبراهيمُ عليه السلام أن يغفرَه له ربُّه يومَ الدينِ، فكيف ينبغي أن يكونَ قولُنا وقد كبَّلتْنَا الذنوبُ، وأحاطَتْ قلوبَنا بهالةٍ من الظُّلمَةِ والسَّوادِ، نسأل الله المغفرة والرحمة. قال العلماء: وهذا من إبراهيمَ عليه السلام إظهارٌ للعبوديَّةِ وإن كان يعلمُ أنَّه مغفورٌ له.
6- يونس عليه السلام:
قال الله تعالى في شأن يونس عليه السلام: { {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} } [الأنبياء: 87].
تُرَى ما هو ذلك الظُّلم الذي فعلَه يونس عليه السلام؟
لا والله لم يكن ذنبًا عظيمًا، حاشاه ذلك، بل هو أمرٌ فعلَه باجتهادِه أخطأَ فيه، لم يكُنْ ذنبًا كذُنُوبنَا، بل هو من خِلافِ الأولى، لقد دعا قومَه فعاندوا وكابروا، فضجر منهم ويأس من إيمانهم، فتركهم ورحل عنهم، وتوعَّدَهم بالعذابِ بعد ثلاثةِ أيَّامٍ من خرُوجِه، ولم يكُنْ قد أتاه الأمرُ من ربِّه بالرحيل.
7- شعيب عليه السلام:
قال شعيبٌ عليه السلام يحثُّ قومَه على الاستغفارِ؛ فيقول لهم: { {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} } [هود: 90].
8- موسى عليه السلام:
موسى عليه السلام يقول الله في خبره: { {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} } [القصص: 15، 16].
لقد قتلَ موسى عليه السلام نفسًا لم يُؤمَرُ بقتلِها، لكنَّه عليه السلام لم يتعمَّدْ القتلَ، بل كان والله يريد دفعَ ظلمٍ، فوكزَ الرجلَ القبطي المعتدي عن الإسرائيلي، فماتَ الرجل، لقد مات بالخطأِ، قال العلماء: القتل الخطأ لا إثمَ فيه، وإن كانتْ فيه الدية.
لقد استغفر موسى عليه السلام من خطأ لم يتعمَّده، هو مغفورٌ له إن شاء الله وإن لم يستغفرْ، لكن هكذا الأنبياءُ عليهم السَّلام.
ويقول موسى عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} } [الأعراف: 151].
ولمَّا اختار موسى عليه السلام سبعين رجلًا من قومِه وساروا للقاء ربِّهم وأخذتهم الرجفة قال عليه السلام: { {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} } [الأعراف: 155].
9- داود عليه السلام:
قال الله تعالى في شأن داود عليه السلام: { {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} } [ص: 21 - 24].
10- سليمان عليه السلام:
قال سليمان عليه السلام: { {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} } [ص: 35]. لقد سألَ ربَّه المغفرة قبل سؤالِ الملك، طلبَ الباقِي قبل الفانِي، لقد همَّتُه الآخرة، وغايته رضى ربِّه سبحانه.
إذا كان هذا حال الأنبياء الأصفياء، وهم خير من عبد الله، وأطهر خلقه قلوبًا، وأزكاهم نفوسًا، فكيف ينبغي أنْ يكونَ عليه حالُ المساكينِ أمثالُنا؟
الاستغفار في حياة الصالحين
كان على هذا الدرب الصالحون من كل أمَّهٍ؛ قال الله تعالى: { {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} } [آل عمران: 16، 17].
وقال سبحانه وتعالى: { {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} } [آل عمران: 193].
وقال سبحانه: { {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} } [المؤمنون: 109].
وقال سبحانه: { {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} } [آل عمران: 135، 136].
وقال سبحانه: { {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} } [الذاريات: 15 - 18].
{ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} } [آل عمران: 146، 147].
{ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} } [الحشر: 10].
وعن عكرمة قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إني لأستغفرُ الله عزَّ وجلَّ وأتوبُ إليه كلَّ يوم اثني عشرَ ألفَ مرَّةٍ، وذلك على قدرِ ديَّتِي".
الصالحون يطلبون من إخوانِهم أن يستغفروا الله لهم:
لقد كانوا يطلبون ممن يتوسمون فيه الصلاح أن يستغفر لهم؛ فقد قال إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام: { {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} } [يوسف: 97].
وأخرج عن أُسَير بن جابرِ رحمه الله قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أَمدادُ أهلِ اليمنِ سألَهم: أفيكم أويسُ بنُ عامرٍ؟ حتى أتى على أويسٍ، فقالَ: أنتَ أويسُ بنُ عامرٍ؟ قال: نعم. قال: من مُرادٍ، ثم من قرَن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برَصٌ فبرِأْتَ منه إلا موضعَ دِرهم؟ قال: نعم. قال: لك والدةٌ؟ قال: نعم.
قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يأتي عليكم أويسُ بنُ عامرٍ مع أمدِادِ أهلِ اليمنِ، من مُرادٍ، ثم من قرَن، كان به برَصٌ فبرَأَ منه إلا موضعَ دِرْهمٍ، له والدةٌ هو بها بَرٌّ، لو أقسمَ على الله لأبرَّه، فإنْ استطعْتَ أن يستغفِرَ لك فافعلْ"، فاستغفِرْ لي، فاستغفرَ له .. ".
وفي لفظٍ لأحمد: فهل كان بك من البيَاضِ شيءٌ؟ قال: نعم، فدعوتُ الله عزَّ وجلَّ فأذهبَه عنِّي إلا موضعَ الدّرهم من سُرَّتي؛ لأذكُرَ به ربِّي. قال له عمر: استغفِرْ لي. قال: أنت أحقُّ أن تستغفِرَ لي، أنت صاحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
قال العلماء: في هذا الحديثِ استحبابُ طلبِ الدعاءِ والاستغفارِ من أهلِ الصلاحِ، وإن كان الطالبُ أفضلَ منهم.