
بين القلق والتفاؤل تراوحت مشاعر الملايين عبر العالم إزاء غزو تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي باتت من أهم محركات الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، ودخولها على نحو أكثر سرعة عن ذي قبل في كافة المجالات، سواء كانت ذات طبيعة مدنية أو عسكرية. ومن ثم، انقسمت الرؤى ما بين أن هذا الغزو التكنولوجي يساعد في حركة ووتيرة التقدم البشري، وبين سيطرة الذكاء الاصطناعي على وعي وإدراك الإنسان والتهديد بالتفوق عليه. إلا أن كلتا الرؤيتين اتفقتا على الفرص المتاحة لتلك التطبيقات في حل المشكلات والتوظيف الأمثل للقدرات والموارد ودورها غير المسبوق في صناعة الثروة والسلطة والنفوذ. وهو الأمر الذي دفع إلى تنافس مبكر ما بين شركات التقنية الكبرى من جهة، والقوى الكبرى من جهة أخرى، في ظل الوعي المتصاعد بدور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إعادة هيكل القوة في النظام الدولي.
في سياق ما سبق تحاول هذه المقالة استشراف مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، كمحاولة للتنبوء بتأثيراتها، من أجل بناء سياسات بديلة في المستقبل تعزز من الفرص الممكنة، وتقلل من المخاطر والتحديات.
أولاً: تقدم من الماضي نحو المستقبل
على مدار التاريخ لعب العلم والتكنولوجيا دورا مهمًا في تقدم الحضارة الإنسانية منذ اكتشاف الإنسان للنار، وهو ما يزال يبحث عن المعرفة والقوة والرفاهية باعتماده على ذكائه الذي يميزه عن باقي الكائنات الحية.ومن ثم، أصبح الابتكار والإبداع والاختراع سبيلاً للتغيير وإحداث طفرات تاريخية، سواء في التصنيع أو الإنتاج أو النقل أو غيرها. ففي القرن الثامن عشر جاءت الثورة الصناعية الأولى لتشكل نقلة نوعية بالانتقال من الفحم إلى المحرك البخاري، وجاءت الثورة الصناعية الثانية في نهاية القرن التاسع عشر لترتكز على اختراع الكهرباء، وفي الستينيات من القرن العشرين تم إطلاق الثورة الصناعية الثالثة، والتطور في تكنولوجيا الكمبيوتر والإنترنت.
وجاء القرن الحادي والعشرون ليشهد طفرة هائلة في التقدم التقني، وكان من إرهاصاتها “الثورة الصناعية الرابعة»، والتي تشير إلى «عملية الدمج بين العلوم الفيزيائية أو المادية بالأنظمة الرقمية والبيولوجية في عمليات التصنيع عبر آلات يتم التحكم فيها إلكترونيًا وآلات ذكية متصلة بالإنترنت مثل إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد، والذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها في شكل تطبيقات تدخلت في كافة مجالات الحياة والعمل.
وأصبح لتلك الثورة الجديدة تأثيرات على مستوى الإنتاج وأسواق المال والأعمال والاقتصاد إلى جانب التأثيرات العلمية والصحية وغيرها. كما دفعت الثورة الصناعية الرابعة إلى تقليل الفارق الزمني بين الجانبين النظري، والتطبيقي.
وأصبحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي تعتمد على معالجة البيانات الضخمة عبر الخوارزميات، وهي التي تضع المعادلات التي تصنف تلك البيانات، وتحولها من شكلها الخام إلى موارد ومصادر قابلة للإنتاج والتسويق.
وتعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي من أعمدة الثورة الصناعية الرابعة، وكان من أبرزها مشروع أنظمة الجيل الخامس من الكمبيوترات، والذي هدف إلى تطوير نظام حاسب آلي يستطيع التحدث بلغة الحوار، ويمتلك قدرة على التفكير، وقد استمر ذلك حتى تسعينيات القرن العشرين.
وتحولت قدرات تطبيقات الذكاء الاصطناعي من مجرد آلات تتلقى المدخلات وتنتج المخرجات بدون امتلاك ذاكرة، إلى ظهور جيل آخر يعتمد على امتلاك ذاكرة محدودة، ثم جيل جديد يعتمد على إدراك وجود البشر وكيانات أخرى، ثم جيل أكثر تقدمًا تم تطويره يسمى بآلات الوعي الذاتي التي تدرك وجودها وهويتها.
وتساهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في معالجة كل من: اللغات وتفسيرها وترجمتها بسرعة فائقة، واستخدام الروبوتات في المجالات الطبية، والزراعية والصناعية وغيرها. وتأتي تلك المتغيرات في ظل تصاعد ثلاثة عوامل: أولها، العولمة التنافسية التي تفرض على الشركات أن تعزز مواردها بشكل مستمر، لتمكن منتجاتها من الاستحواذ على الأسواق. ثانيها، الابتكارات الرقمية التي تسمح للشركات والمؤسسات بجمع البيانات في الوقت الحقيقي. ثالثها، ظهور نمط جديد من المستهلك الرقمي المتعلم الذي يطالب بمنتجات متزايدة على المستوى الشخصي بما يضمن ضخامة السوق.