- إنضم
- 20 أغسطس 2022
- المشاركات
- 313,171
- مستوى التفاعل
- 44,369
- النقاط
- 113
*سيرة الحبيب المصطفى ﷺ .*
الحلقة الواحدة والتسعون بعد المائة *191*
*فتح مكة . الجزء الثاني .*
*قرار فتح مكة .*
بعد نقض قريش "صلح الحديبية"
قرر النبي ﷺ أن يقوم بغزو مكة
وسبحان الله العظيم إذا أراد امراً يهيء له الأسباب .
جاء نقض الصلح من قريش في هذا الوقت ....
فمكة بيت الله الحرام ولا يجوز أن تكون تحت حكم المشركين
ولا يجوز أن تكون هناك أصنام حول الكعبة .
ولا يجوز أن يطوف البعض بالبيت عريانا .
وبصفة عامة أوضاع كثيرة غير مقبولة في مكة
كما أن مكة لها مكانتها المعروفة بين العرب .
فلو فتحها المسلمون لدخلت "الجزيرة العربية" كلها في الإسلام
وهذا ما حدث بالفعل كما قال تعالى :
*إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا .*
وغدر قريش ونقضهم صلح الحديبية أمر قد لا يتكرر مرة أخرى ....
لأن قريش تعلم جيداً أن موازين القوى أصبحت في ذلك الوقت في صالح المسلمين تماماً .
وكان هذا الإعتداء من جانبهم على خزاعة تهورآ وتصرفآ أحمقآ غير مبرر .... فهم ليسوا على عداوة مع "خزاعة" بالأصل
وليست علاقتهم بهذه القوة مع "بنو بكر"
ولو تكرر هذا الموقف مائة مرة لما تهورت قريش وأقدمت على ما هي أقدمت عليه .
ولو لم تنقض قريش الصلح كان يجب على النبي ﷺ أن ينتظر ثماني سنوات أخرى
وهي المدة الباقية من صلح الحديبية .
لأن المسلمون يحترمون تعاهداتهم ولا يمكن أن ينقض الرسول ﷺ العهد أبدا
*فقرر النبي ﷺ غزو مكة ولكنه لم يخبر أحداً*
أخذت "قريش" تبحث عن حل للمشكلة التي أوقعت نفسها فيها .
فقالوا : ما فعلناه إن بلغ محمداً فهو نقض للصلح فما العمل ؟
قريش خائفة لنقضهم الصلح مع المسلمين
والسبب :
هي تعلم جيداً أنها الآن أضعف بكثير من المسلمين .
وتعلم جيداً أنه إذا كانت القوة متعادلة بين الفريقين في السنة السادسة من الهجرة عند توقيع صلح الحديبية .
فإن القوة الآن في صالح المسلمين بعد عامين فقط في السنة الثامنة من الهجرة
فقد رأت قريش أن المسلمون قد انتصروا بعد "الحديبية" في معركتين من أصعب المعارك
وهما "خيبر" و "مؤتة"
"خيبر" بحصونها وكثرة مقاتليها أقوى من قريش .
"مؤتة" ثبت المسلمون أمام جيش الإمبراطورية الرومانية .
وتعلم قريش أن الجيش الإسلامي مدرب تدريبآ جيداً لكثرة المعارك التي خاضها في فترة قصيرة جداً...
وتعلم أن الروح المعنوية للجيش مرتفعة جداً.
من جهة أخرى تضاعفت أعداد المسلمين في هذه الفترة من الزمن ودخلت كثير من القبائل بل والممالك في الإسلام .
فاليمن دخلت في الإسلام .
وعمان دخلت في الإسلام .
ودخلت كثير من القبائل في حلف النبي ﷺ .
بينما أحلاف قريش قليلة جداً وغير قوية وتكاد تكون محصورة في ذلك الوقت في "بنى بكر" فقط.
شيء آخر وهو تناقص أعداء المسلمين وضعفت شوكتهم :
فاليهود انتهى خطرهم تماماً
وغطفان التي كانت القوة الأكبر في حصار المدينة في الأحزاب انتهى خطرها كذلك وجاءت وفودها تعلن الإسلام .
كانت قريش تعلم كل ذلك
ولذلك اجتمعت قريش لتبحث عن حل لهذه المشكلة التي أوقعت نفسها فيها
وهي نقضها لبنود صلح الحديبية .
وبالتالي إحتمال دخولها في حرب جديدة مع المسملين بل وغزو المسلمين لمكة .
وقررت قريش في هذا الإجتماع أن ترسل أبو سفيان بن حرب
فقالوا له :ما لها سواك يا أبا سفيان .
اخرج إلى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة
وكانت بنته زوجة النبي "ام حبيبة رملة بنت أبو سفيان رضي الله عنها"
قالوا له : تذهب لزيارت بنتك
ومن خلالها تصل محمداً واطلب إليه أن يشد بالعهد ويزيد في المدة ....
خرج أبو سفيان وحده لتجديد العهد وطلب مد مدة الهدنة .
سيد قريش يقوم بهذه المهمة بنفسه .
كان هذا تنازل كبير عن كرامة قريش وكبريائها .
وهذه أول مرة في تاريخ قريش تقدم فيه مثل هذا التنازل .
ولكن قريش رأت أن تقدم هذا التنازل وتخسر هذه الخسارة خير لها ألف مرة من خسارة أكبر كثيراً لو قام المسلمون بغزو مكة .
وهذا يدل على مدى الرعب والرهبة الذي كانت فيه قريش من المسلمين .
انطلق أبو سفيان من "مكة" ووصل إلى المدينة وكان عمره في ذلك الوقت 70 عاما .
واتجه أول الأمر إلى إبنته "أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي ﷺ .
كان النبي ﷺ قد تزوجها منذ عام واحد في السنة "السابعة من الهجرة" وهي بالحبشة .
وكانت "أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها من أوائل المسلمين الذين أسلموا في مكة وهاجرت للحبشة .
أبو سفيان له 17 من الأبناء .
10 من البنات و 7 من الأولاد .
منهم ولده الأكبر "حنظلة" قتل في بدر كافراً
فأبو سفيان لقب ....
أما كنيته الحقيقية "أبو حنظلة"
ومن أبناءه "معاوية بن أبي سفيان" الذي أصبح خليفة المسلمين
طرق باب حجرة بنته "أم حبيبة" رضي الله عنها
فلما فتحت نظرت إلى أبيها
وكان هذا اللقاء بعد غياب 16 سنة .
كان "أبو سفيان" يعتقد من "أم حبيبة" استقبالاً حافلاً .
لكن "أم حبيبة" نظرت إلى أبوها سيد قريش بأنه عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فسكتت ولم تتكلم وحارت بأمرها ....
فأراد أبوها أن يفك هذه الحيرة فدخل من دون أن تقول له ادخل ....
ولما أن أراد أن يجلس على الفراش الوحيد في الغرفة وهو فراش النبي ﷺ إذا بها تسرع وتطوي الفراش حتى لايجلس عليه أبوها .
فتعجب وكانت صدمة له .
فأراد أن يخرج من هذا الحرج .
وقال لها بلطف : يا بنية ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟
"يعني لم تجلسيني على الفراش لأني رجل عظيم لا يصح أن أجلس على هذا الفراش المتواضع .
أم أنا أقل من أن أجلس على هذا الفراش"
وانظروا ما أجمل الإيمان بالله عندما يكون صادقاً لا يعرف المداهنة حتى ولو كان أبوها
قال تعالى :
*لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ .*
فقالت له أم حبيبة في صلابة وجفاء واضح .
"هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس .
فلا أحب أن تجلس على فراشه
فصدم أبو سفيان من رد إبنته ودارت الأرض به .
وقال : يا بنية والله لقد أصابك بعدي شرٌّ كبير .
قالت : بل أصابني الخير الكثير وهداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر .
وأعجب منك يا أبتِ وأنت سيد قريش وكبيرها .
قال : أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد ؟
"إذا كان هذا جوابها عندما أراد أن يجلس فكيف لو أراد أن يناقشها بأمور أخرى"
فتركها وخرج .....
واتجه "أبو سفيان" إلى الرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلم
اتجه إلى المبعوث رحمة للعالمين .
اتجه إلى صاحب الخلق العظيم ﷺ
فدخل إلى مسجده فوراً فسلم وجلس .
وقال : يا محمد حين انعقد الصلح مع قريش لم أكن شاهده
"انظروا إلى نفاق المشركين و لغتهم ومن سار في طريقهم ومذهبهم"
وقد تبدلت الأيام وتغيرت وأمر قريش بين يدي فأحببت أن آتيك وأشهد بالعهد وأزيد في المدة .
فقال له النبي ﷺ من جوامع الكلم
قال له :_ *هل كان هناك حدث ؟؟*
"يعني صار شي"
قال أبو سفيان لا معاذ الله .
نحن على عهدنا وصلحنا لانغير ولا نبدل .
قال : *إذآ هو ذاك العهد على ما هو عليه .*
[[ كلمتين هل من حدث ؟؟
لا ..... إذآ هو ذاك نحن على عهدنا ثم أعرض بوجهه عنه ﷺ .
فخرج "أبو سفيان" من عند النبي ﷺ واتجه إلى "أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وقال : يا أبا بكر كلم لنا صاحبك يجدد العقد و يزيد في المدة .
فقال له أبو بكر جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
"يعني ما أنا بفاعل فلن أتوسط بينك وبين الرسول رأيي من رأيه"
فخرج "أبو سفيان" من عند "أبي بكر رضي الله عنه...
فتوجه إلى "عمر بن الخطاب رضي الله عنه وطلب منه كما طلب من أبي بكر أن يتوسط له عند النبي ﷺ .
ولكن عمر رضي الله عنه رد عليه أنا أشفع لكم عند رسول الله .
فوالله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به .
"أي لو لم يكن معي إلا جيش من النمل لقاتلتكم به يعني : إذا مات الرجال كلهم وما بقي رجال غزناكم بالنمل"
وخرج "أبو سفيان" من عند "عمر رضي الله عنه
واتجه إلى "علي بن ابي طالب رضي الله عنه ودخل عليه في بيته وكانت معه زوجته السيدة "فاطمة"
فقال أبو سفيان لعلي . يا علي . إنك أَمَسُّ القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة .
وقد جئت في حاجة فاشفع لي إلى محمد .
فقال على بن أبى طالب ويحك يا أبا سفيان .
والله إذا عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه .
فقال : أليس عندكم من قِرا .
"يعني ضيافة قدمولي شيء أشربه"
فأحضرت له فاطمة رضي الله عنها الضيافة .
وكان "الحسن" طفلاً صغيراً يلعب في البيت .
فأراد "أبو سفيان" أن يتلطف إلى السيدة فاطمة رضي الله عنها لعلها تشفع له وهو يعلم حب النبي ﷺ لها .
فقال : يا بنت محمد .
هل لك أن تأمري بُنيك هذا فيُجير بين الناس .
ارفعي ولدك هذا وقولي قد أجار الحسن بن علي فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟
ولكن تجاهلت مزاحه وقالت في وقارها ...
والله ما بلغ بُني ذلك أن يجير بين الناس .
وما يجير أحد على رسول الله ﷺ .
فأسقط في يد أبو سفيان وقال يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ والأبواب كلها قد سدت فانصحني .
فقال له علي رضي الله عنه والله يا أبا حنظلة لا أعلم شيئاً يغني عنك .
ولكنك أنت سيد بني كنانة فقم فأَجِر بين الناس ثم الحق بأرضك .
أي قم وسط الناس وقل أنك أجرت بين الناس .
أي أنك حجزت بين الناس ومنعت وقوع الحرب بينهم .
ولأنك سيد بني كنانة وشخصية لها مكانته في الجزيرة فالمفروض أن يحترم الناس هذه الإجارة"
فقال أبو سفيان : أوترى ذلك مُغنياً عني شيئاً ؟
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا والله ما أظن . ولكن لا أجد لك غير ذلك .
فقام "أبا سفيان" ودخل المسجد .
وقال يا أيها الناس إني قد أَجرت بين الناس .
فلم يرد على "أبو سفيان" أحد ولم يلتفت إليه أحد
ركب أبو سفيان بعيره راجعآ إلى مكة ومر في طريقه على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم
فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها .
"يعني يا حسرة على هذه السيوف التي بأيدينا لم تقتل هذا الكافر في الحروب السابقة لعلها في الأيام القادمة تنال منه"
فسمعهم "أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يعجب ما قالوه . فنهرهم قائلاً أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم .
وذهب "أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأخبر النبي ﷺ .
فقال : *يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟*
*لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .*
وفهم "أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوراً إن كنت أغضبتهم لماذا ؟
لأن هؤلاء من أولياء الله تعالى
*أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون .*
يقول الله في الحديث القدسي *من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب .*
فمن أغضب أولياء الله فإنه يغضب الله عزوجل .
لذلك أخفى الله أولياءه بين البشر حتى يكون الناس على حذر ولا يتجرأ أحد أن يؤذي إنسان ويكون هذا الإنسان في علم الغيب من أولياء الله .
ذهب ابوبكر من فوره الى سلمان وصهيب و بلال رضي الله عنهم
وقال لهم : يا إخوتاه أغضبتكم ؟
قالوا . لا يغفر الله لك يا أُخيَّ .
"إذآ كان هناك منتهى الغلظة في التعامل مع أبو سفيان...
ولم ينكر النبي ﷺ على أي منهم ما فعله ....
لأن الموقف موقف حرب ولابد من الغلظة في التعامل مع الكفار في وقت الحرب .
قال تعالى .
*أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ....*
رجع أبو سفيان إلى مكة وهو يعلم أنه قد فشل في أداء مهمته .
قال له أشراف مكة ما وراءك ؟
فقال أبو سفيان جئت محمداً فكلمته .
فوالله ما رد علي شيئاً
ثم جئت ابن أبي قحافة . فوالله ما وجدت فيه خيراً .
ثم جئت عمر فوجدته أدنى العدو .
ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم . وقد أشار علي بأمر صنعته .
فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا ؟
فقالوا فبماذا أمرك ؟
فقال . أمرني أن أُجير بين الناس ، ففعلت .
قالوا . فهل أجاز ذلك محمد ؟
قال . لا
قالوا . ويحك ! ما زادك الرجل على أن لعب بك .
فقال أبو سفيان لا والله ما وجدتُ غير ذلك .
وعلمت قريش أن احتمال قيام معركة مع المسلمين أمر محتمل وارد .
وعلمت أن قيام النبي ﷺ بغزو مكة أمر محتمل ووارد....
أمر النبي ﷺ الجيش بالإستعداد .
وأمر بالمسلمين من القبائل خارج المدينة أن يتجمعوا في المدينة
وكما هي عادة النبي ﷺ لم يخبر أحداً أين وجهته .
*استعينوا على قضاء حوائجكم بالصبر وبالكتمان ...*
وكان ﷺ شديد الحرص على كتم خبر خروج الجيش إلى مكة .
لأنه ﷺ كان يريد ويخطط لدخول مكة بلا قتال وسفك دماء بالحرم .
فكان يريد أن يستخدم كل عوامل القوة حتى يصل بقريش إلى الإستسلام .
*ومن عوامل القوة هو مفاجأة العدو*
وكان ﷺ يقول في دعائه .
*اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها .*
وكذلك كانت هناك وحدات صغيرة بقيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقف على مداخل المدينة .
"حاجز تحقق في الداخلين والخارجين من المدينة المنورة"
وتتحفظ على من سلك طريق المدينة مكة .
وذلك حتى يحول دون حصول قريش على أي معلومات عن تجهيزات المسلمين .
وبرغم ذلك فقد كان النبي ﷺ مضطراً إلى أن يقول هذا السر لكبار الصحابة رضي الله عنهم و صحابته المقربين الذين طلب منهم مهمات عسكرية محددة .
ومن هؤلاء الذين علموا بنيته في فتح مكة "حاطب بن أبي بلتعة" رضي الله عنه
و"حاطب بن أبي بلتعة" كان عمره في ذلك الوقت
43 عام أي أنه في سن إكتمال الرجولة، وهو من المهاجرين
ومن الذين اشتركوا في بدر وثبت مع النبي ﷺ في أحد .
كما شهد الخندق والحديبية .
وهو الذي أرسله النبي ﷺ إلى المقوقس حاكم مصر ودار بينهما حوارات طويلة ....
حتى قال له المقوقس في النهاية "أنت حكيم جئت من عند حكيم"
ولكن في لحظة من لحظات الضعف الإنساني والصحابة ليسوا بمعصومين رضي الله عنهم
فلكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة .
وهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كانت له ذلة ولكنها غير قادحة بإيمانه .
فقرر "حاطب" أن يفشي سر رسول الله ﷺ وأن يخبر قريشآ بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم...
*وكان السبب*
أن "حاطب رضي الله عنه كان له بمكة بعض أهل بيته وكانت له تجارة في قريش .
وكان يعاني من إيذاء قريش له في أهله وماله في مكة .
فأراد "حاطب" أن يؤدي لأهل مكة خدمة حتى لا يؤذونه في أهل بيته ولا في تجارته .
فكتب "حاطب" إلى أهل مكة كتابآ أخبرهم فيه بمسير النبي ﷺ إليهم
وأعطى "حاطب" هذه الرسالة إلى امرأة في المدينة اسمها "سارة"
وكانت "سارة" مغنية تغني في مكة ....
وكانت قد قدمت المدينة تشكو الحاجة .....
فقال لها النبي ﷺ *ما كان في غنائك ما يغنيك ؟*
فقالت : إن قريشا تركوا الغناء منذ قتل من قتل ببدر .
فأعطاها النبي ﷺ ثم عرض عليها الإسلام فرفضت وقبل منها النبي ﷺ أن تظل بالمدينة على كفرها .
فأعطى "حاطب" الرسالة إلى هذه المرأة .
وأعطاها مبلغاً من المال على أن تبلغ هذه الرسالة إلى قريش .
وقال لها : إخفيه ما استطعت ولا تمري على الطريق فإن عليه حرسآ....
فخرجت فسلكت غير الطريق وجعلت الكتاب في قرون رأسها
"أي ضفائر شعرها خوفاً أن يطلع عليه أحد"
وهي لا تعلم مضمون الكتاب
ولبست لباسها *وكان لباسهن مسلمات وغير مسلمات احتشام كامل*
واتجهت نحو مكة وعندما رأى الحرس إمرأة تركب دابة لم يلتفتوا إليها فليس لهم شأن بها فتركوها .
فهبط جبريل عليه السلام على النبي ﷺ يخبره بما صنع حاطب رضي الله عنه
فقال النبي : *قم يا علي والزبير وطلحة والمقداد و أدركا امرأة بمحل كذا .*
*قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم .*
*فخذوه منها وخلوا سبيلها .*
*فإن أبت فاضربوا عنقها .*
فخرجوا مسرعين خلفها حتى أدركوها في ذلك المحل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم
فقالا لها : أين الكتاب ؟
فحلفت بالله ما معها من كتاب .
فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدوا شيئا .
فقال لها علي رضي الله عنه إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ قط ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك ونمزق عليك الثياب ....
ولما سمعت كلمة نمزق الثياب صاحت بأعلى صوتها لاااا لااااا ورب الكعبة سأعطيكم الكتاب إياكم أن تمزقوا ثيابي .....
قالت : أعطيكم الكتاب ولكن اصرفوا وجوهكم عني .....
فأعرضوا بالنظر عنها :
فكشفت شعرها وحلت قرون شعرها واستخرجت الكتاب منه .
فأخذ "علي" الكتاب منها ثم تركوها وانصرفوا .
ورجعوا إلى رسول الله ﷺ وهو جالس بين أصحابه رضي الله عنهم
فقال : *اقرأ الكتاب يا علي .*
وكان على رضي الله عنه قاريء
وحاطب رضي الله عنه يجلس بين الناس
فقرأ علي رضي الله عنه من حاطب.... فإن رسول الله ﷺ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل .
وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم .
فإنه منجز له ما وعده فيكم .
فإن الله تعالى ناصره ووليه .
فنظر النبي ﷺ لحاطب
وقال له *ماهذا يا حاطب ؟*
فقال حاطب رضي الله عنه بأبي وأمي أنت يارسول الله .
والله ماكفرت منذ أن آمنت . ولكن امهلني حتى أقول لك .
قال *قل ..*
قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش .
"يعني حليفا لقريش لا من قريش"
وليس أحد من أصحابك من المهاجرين إلا ولهم قرابات يحمون بها أهليهم وأمواله .
فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يدآ يحمون قرابتي .
ولم أفعله إرتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام .
فقال النبي ﷺ *أما أنه فقد صدقكم .*
كان ما فعله حاطب رضي الله عنه جريمة شنعاء و خيانة عظمى لأنه أفشى سراً عسكرياً خطيراً كان يمكن أن يعرض الجيش الإسلامي كله لخطر عظيم ....
ولذلك فإن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقنعه ما قاله حاطب ....
"فهو بذلك يحمي أهله على حساب جيش بالكامل"
لذلك قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ...
فقال النبي ﷺ : *لا يا عمر ومن قال لك أنه منافق . أنسيت أنه بدري . ومايدريك يا عمر أن الله تجلى واطلع على أصحاب بدر يوم بدر .*
*فقال قد رضيت عنكم فأفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم .*
يقول عمر رضي الله عنه فما بقي بدري في المسجد إلا وجهش "أي بكى"
"يعني لولا هذه الزلة من هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه من أين تأتي هذه البشرى لأهل بدر بأن الله قد تجلى واطلع على أصحاب بدر يوم بدر وقال قد رضيت عنكم فأفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
ثم أكب حاطب رضي الله عنه على يدي النبي ﷺ يقلبهما ويبكي ......
ويقول : والله لم انافق يا رسول الله .
والنبي ﷺ يقول له *وأنا أشهد*
فالرسول ﷺ لم يعفو عن حاطب فقط .
وإنما أيضاً رفع من قدره أمام المسلمين لأن حاطب رضي الله عنه قدم تضحيات كثيرة .
وله رصيد عند النبي ﷺ .
فليس معنى أنه أخطأ مرة أن ينسى له النبي ﷺ ما قدمه من قبل .
و الحبيب المصطفى ﷺ لا يريد أن يكون عونا للشيطان على "حاطب"
فالمسلم عندما يكون صالحاً ويرتكب ذنبا .
يوسوس إليه الشيطان أنه قد أضاع كل شيء ويحبطه عن التوبة .
و النبي ﷺ لا يريد لحاطب أن يسقط في هذه الدائرة .
بل على العكس يريد أن يأخذ بيده حتى يخرج به من هذه الأزمة .
والبطولة هي أن تأخذ بيد المخطيء وتصلحه لا أن تسحقه .
وقد سجل القرآن العظيم هذا الموقف لحاطب بن أبي بلتعة في أول سورة الممتحنة .
يقول تعالى .
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .*
ثم دعى النبي ﷺ ربه مرة أخرى .
*اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها .*
قبس من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم...
يتبع بإذن الله تعالى....
الحلقة الواحدة والتسعون بعد المائة *191*
*فتح مكة . الجزء الثاني .*
*قرار فتح مكة .*
بعد نقض قريش "صلح الحديبية"
قرر النبي ﷺ أن يقوم بغزو مكة
وسبحان الله العظيم إذا أراد امراً يهيء له الأسباب .
جاء نقض الصلح من قريش في هذا الوقت ....
فمكة بيت الله الحرام ولا يجوز أن تكون تحت حكم المشركين
ولا يجوز أن تكون هناك أصنام حول الكعبة .
ولا يجوز أن يطوف البعض بالبيت عريانا .
وبصفة عامة أوضاع كثيرة غير مقبولة في مكة
كما أن مكة لها مكانتها المعروفة بين العرب .
فلو فتحها المسلمون لدخلت "الجزيرة العربية" كلها في الإسلام
وهذا ما حدث بالفعل كما قال تعالى :
*إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا .*
وغدر قريش ونقضهم صلح الحديبية أمر قد لا يتكرر مرة أخرى ....
لأن قريش تعلم جيداً أن موازين القوى أصبحت في ذلك الوقت في صالح المسلمين تماماً .
وكان هذا الإعتداء من جانبهم على خزاعة تهورآ وتصرفآ أحمقآ غير مبرر .... فهم ليسوا على عداوة مع "خزاعة" بالأصل
وليست علاقتهم بهذه القوة مع "بنو بكر"
ولو تكرر هذا الموقف مائة مرة لما تهورت قريش وأقدمت على ما هي أقدمت عليه .
ولو لم تنقض قريش الصلح كان يجب على النبي ﷺ أن ينتظر ثماني سنوات أخرى
وهي المدة الباقية من صلح الحديبية .
لأن المسلمون يحترمون تعاهداتهم ولا يمكن أن ينقض الرسول ﷺ العهد أبدا
*فقرر النبي ﷺ غزو مكة ولكنه لم يخبر أحداً*
أخذت "قريش" تبحث عن حل للمشكلة التي أوقعت نفسها فيها .
فقالوا : ما فعلناه إن بلغ محمداً فهو نقض للصلح فما العمل ؟
قريش خائفة لنقضهم الصلح مع المسلمين
والسبب :
هي تعلم جيداً أنها الآن أضعف بكثير من المسلمين .
وتعلم جيداً أنه إذا كانت القوة متعادلة بين الفريقين في السنة السادسة من الهجرة عند توقيع صلح الحديبية .
فإن القوة الآن في صالح المسلمين بعد عامين فقط في السنة الثامنة من الهجرة
فقد رأت قريش أن المسلمون قد انتصروا بعد "الحديبية" في معركتين من أصعب المعارك
وهما "خيبر" و "مؤتة"
"خيبر" بحصونها وكثرة مقاتليها أقوى من قريش .
"مؤتة" ثبت المسلمون أمام جيش الإمبراطورية الرومانية .
وتعلم قريش أن الجيش الإسلامي مدرب تدريبآ جيداً لكثرة المعارك التي خاضها في فترة قصيرة جداً...
وتعلم أن الروح المعنوية للجيش مرتفعة جداً.
من جهة أخرى تضاعفت أعداد المسلمين في هذه الفترة من الزمن ودخلت كثير من القبائل بل والممالك في الإسلام .
فاليمن دخلت في الإسلام .
وعمان دخلت في الإسلام .
ودخلت كثير من القبائل في حلف النبي ﷺ .
بينما أحلاف قريش قليلة جداً وغير قوية وتكاد تكون محصورة في ذلك الوقت في "بنى بكر" فقط.
شيء آخر وهو تناقص أعداء المسلمين وضعفت شوكتهم :
فاليهود انتهى خطرهم تماماً
وغطفان التي كانت القوة الأكبر في حصار المدينة في الأحزاب انتهى خطرها كذلك وجاءت وفودها تعلن الإسلام .
كانت قريش تعلم كل ذلك
ولذلك اجتمعت قريش لتبحث عن حل لهذه المشكلة التي أوقعت نفسها فيها
وهي نقضها لبنود صلح الحديبية .
وبالتالي إحتمال دخولها في حرب جديدة مع المسملين بل وغزو المسلمين لمكة .
وقررت قريش في هذا الإجتماع أن ترسل أبو سفيان بن حرب
فقالوا له :ما لها سواك يا أبا سفيان .
اخرج إلى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة
وكانت بنته زوجة النبي "ام حبيبة رملة بنت أبو سفيان رضي الله عنها"
قالوا له : تذهب لزيارت بنتك
ومن خلالها تصل محمداً واطلب إليه أن يشد بالعهد ويزيد في المدة ....
خرج أبو سفيان وحده لتجديد العهد وطلب مد مدة الهدنة .
سيد قريش يقوم بهذه المهمة بنفسه .
كان هذا تنازل كبير عن كرامة قريش وكبريائها .
وهذه أول مرة في تاريخ قريش تقدم فيه مثل هذا التنازل .
ولكن قريش رأت أن تقدم هذا التنازل وتخسر هذه الخسارة خير لها ألف مرة من خسارة أكبر كثيراً لو قام المسلمون بغزو مكة .
وهذا يدل على مدى الرعب والرهبة الذي كانت فيه قريش من المسلمين .
انطلق أبو سفيان من "مكة" ووصل إلى المدينة وكان عمره في ذلك الوقت 70 عاما .
واتجه أول الأمر إلى إبنته "أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي ﷺ .
كان النبي ﷺ قد تزوجها منذ عام واحد في السنة "السابعة من الهجرة" وهي بالحبشة .
وكانت "أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها من أوائل المسلمين الذين أسلموا في مكة وهاجرت للحبشة .
أبو سفيان له 17 من الأبناء .
10 من البنات و 7 من الأولاد .
منهم ولده الأكبر "حنظلة" قتل في بدر كافراً
فأبو سفيان لقب ....
أما كنيته الحقيقية "أبو حنظلة"
ومن أبناءه "معاوية بن أبي سفيان" الذي أصبح خليفة المسلمين
طرق باب حجرة بنته "أم حبيبة" رضي الله عنها
فلما فتحت نظرت إلى أبيها
وكان هذا اللقاء بعد غياب 16 سنة .
كان "أبو سفيان" يعتقد من "أم حبيبة" استقبالاً حافلاً .
لكن "أم حبيبة" نظرت إلى أبوها سيد قريش بأنه عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فسكتت ولم تتكلم وحارت بأمرها ....
فأراد أبوها أن يفك هذه الحيرة فدخل من دون أن تقول له ادخل ....
ولما أن أراد أن يجلس على الفراش الوحيد في الغرفة وهو فراش النبي ﷺ إذا بها تسرع وتطوي الفراش حتى لايجلس عليه أبوها .
فتعجب وكانت صدمة له .
فأراد أن يخرج من هذا الحرج .
وقال لها بلطف : يا بنية ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟
"يعني لم تجلسيني على الفراش لأني رجل عظيم لا يصح أن أجلس على هذا الفراش المتواضع .
أم أنا أقل من أن أجلس على هذا الفراش"
وانظروا ما أجمل الإيمان بالله عندما يكون صادقاً لا يعرف المداهنة حتى ولو كان أبوها
قال تعالى :
*لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ .*
فقالت له أم حبيبة في صلابة وجفاء واضح .
"هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس .
فلا أحب أن تجلس على فراشه
فصدم أبو سفيان من رد إبنته ودارت الأرض به .
وقال : يا بنية والله لقد أصابك بعدي شرٌّ كبير .
قالت : بل أصابني الخير الكثير وهداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر .
وأعجب منك يا أبتِ وأنت سيد قريش وكبيرها .
قال : أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد ؟
"إذا كان هذا جوابها عندما أراد أن يجلس فكيف لو أراد أن يناقشها بأمور أخرى"
فتركها وخرج .....
واتجه "أبو سفيان" إلى الرؤف الرحيم صلى الله عليه وسلم
اتجه إلى المبعوث رحمة للعالمين .
اتجه إلى صاحب الخلق العظيم ﷺ
فدخل إلى مسجده فوراً فسلم وجلس .
وقال : يا محمد حين انعقد الصلح مع قريش لم أكن شاهده
"انظروا إلى نفاق المشركين و لغتهم ومن سار في طريقهم ومذهبهم"
وقد تبدلت الأيام وتغيرت وأمر قريش بين يدي فأحببت أن آتيك وأشهد بالعهد وأزيد في المدة .
فقال له النبي ﷺ من جوامع الكلم
قال له :_ *هل كان هناك حدث ؟؟*
"يعني صار شي"
قال أبو سفيان لا معاذ الله .
نحن على عهدنا وصلحنا لانغير ولا نبدل .
قال : *إذآ هو ذاك العهد على ما هو عليه .*
[[ كلمتين هل من حدث ؟؟
لا ..... إذآ هو ذاك نحن على عهدنا ثم أعرض بوجهه عنه ﷺ .
فخرج "أبو سفيان" من عند النبي ﷺ واتجه إلى "أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وقال : يا أبا بكر كلم لنا صاحبك يجدد العقد و يزيد في المدة .
فقال له أبو بكر جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
"يعني ما أنا بفاعل فلن أتوسط بينك وبين الرسول رأيي من رأيه"
فخرج "أبو سفيان" من عند "أبي بكر رضي الله عنه...
فتوجه إلى "عمر بن الخطاب رضي الله عنه وطلب منه كما طلب من أبي بكر أن يتوسط له عند النبي ﷺ .
ولكن عمر رضي الله عنه رد عليه أنا أشفع لكم عند رسول الله .
فوالله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به .
"أي لو لم يكن معي إلا جيش من النمل لقاتلتكم به يعني : إذا مات الرجال كلهم وما بقي رجال غزناكم بالنمل"
وخرج "أبو سفيان" من عند "عمر رضي الله عنه
واتجه إلى "علي بن ابي طالب رضي الله عنه ودخل عليه في بيته وكانت معه زوجته السيدة "فاطمة"
فقال أبو سفيان لعلي . يا علي . إنك أَمَسُّ القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة .
وقد جئت في حاجة فاشفع لي إلى محمد .
فقال على بن أبى طالب ويحك يا أبا سفيان .
والله إذا عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه .
فقال : أليس عندكم من قِرا .
"يعني ضيافة قدمولي شيء أشربه"
فأحضرت له فاطمة رضي الله عنها الضيافة .
وكان "الحسن" طفلاً صغيراً يلعب في البيت .
فأراد "أبو سفيان" أن يتلطف إلى السيدة فاطمة رضي الله عنها لعلها تشفع له وهو يعلم حب النبي ﷺ لها .
فقال : يا بنت محمد .
هل لك أن تأمري بُنيك هذا فيُجير بين الناس .
ارفعي ولدك هذا وقولي قد أجار الحسن بن علي فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟
ولكن تجاهلت مزاحه وقالت في وقارها ...
والله ما بلغ بُني ذلك أن يجير بين الناس .
وما يجير أحد على رسول الله ﷺ .
فأسقط في يد أبو سفيان وقال يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ والأبواب كلها قد سدت فانصحني .
فقال له علي رضي الله عنه والله يا أبا حنظلة لا أعلم شيئاً يغني عنك .
ولكنك أنت سيد بني كنانة فقم فأَجِر بين الناس ثم الحق بأرضك .
أي قم وسط الناس وقل أنك أجرت بين الناس .
أي أنك حجزت بين الناس ومنعت وقوع الحرب بينهم .
ولأنك سيد بني كنانة وشخصية لها مكانته في الجزيرة فالمفروض أن يحترم الناس هذه الإجارة"
فقال أبو سفيان : أوترى ذلك مُغنياً عني شيئاً ؟
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا والله ما أظن . ولكن لا أجد لك غير ذلك .
فقام "أبا سفيان" ودخل المسجد .
وقال يا أيها الناس إني قد أَجرت بين الناس .
فلم يرد على "أبو سفيان" أحد ولم يلتفت إليه أحد
ركب أبو سفيان بعيره راجعآ إلى مكة ومر في طريقه على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم
فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها .
"يعني يا حسرة على هذه السيوف التي بأيدينا لم تقتل هذا الكافر في الحروب السابقة لعلها في الأيام القادمة تنال منه"
فسمعهم "أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يعجب ما قالوه . فنهرهم قائلاً أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم .
وذهب "أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأخبر النبي ﷺ .
فقال : *يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟*
*لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .*
وفهم "أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوراً إن كنت أغضبتهم لماذا ؟
لأن هؤلاء من أولياء الله تعالى
*أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون .*
يقول الله في الحديث القدسي *من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب .*
فمن أغضب أولياء الله فإنه يغضب الله عزوجل .
لذلك أخفى الله أولياءه بين البشر حتى يكون الناس على حذر ولا يتجرأ أحد أن يؤذي إنسان ويكون هذا الإنسان في علم الغيب من أولياء الله .
ذهب ابوبكر من فوره الى سلمان وصهيب و بلال رضي الله عنهم
وقال لهم : يا إخوتاه أغضبتكم ؟
قالوا . لا يغفر الله لك يا أُخيَّ .
"إذآ كان هناك منتهى الغلظة في التعامل مع أبو سفيان...
ولم ينكر النبي ﷺ على أي منهم ما فعله ....
لأن الموقف موقف حرب ولابد من الغلظة في التعامل مع الكفار في وقت الحرب .
قال تعالى .
*أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ....*
رجع أبو سفيان إلى مكة وهو يعلم أنه قد فشل في أداء مهمته .
قال له أشراف مكة ما وراءك ؟
فقال أبو سفيان جئت محمداً فكلمته .
فوالله ما رد علي شيئاً
ثم جئت ابن أبي قحافة . فوالله ما وجدت فيه خيراً .
ثم جئت عمر فوجدته أدنى العدو .
ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم . وقد أشار علي بأمر صنعته .
فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا ؟
فقالوا فبماذا أمرك ؟
فقال . أمرني أن أُجير بين الناس ، ففعلت .
قالوا . فهل أجاز ذلك محمد ؟
قال . لا
قالوا . ويحك ! ما زادك الرجل على أن لعب بك .
فقال أبو سفيان لا والله ما وجدتُ غير ذلك .
وعلمت قريش أن احتمال قيام معركة مع المسلمين أمر محتمل وارد .
وعلمت أن قيام النبي ﷺ بغزو مكة أمر محتمل ووارد....
أمر النبي ﷺ الجيش بالإستعداد .
وأمر بالمسلمين من القبائل خارج المدينة أن يتجمعوا في المدينة
وكما هي عادة النبي ﷺ لم يخبر أحداً أين وجهته .
*استعينوا على قضاء حوائجكم بالصبر وبالكتمان ...*
وكان ﷺ شديد الحرص على كتم خبر خروج الجيش إلى مكة .
لأنه ﷺ كان يريد ويخطط لدخول مكة بلا قتال وسفك دماء بالحرم .
فكان يريد أن يستخدم كل عوامل القوة حتى يصل بقريش إلى الإستسلام .
*ومن عوامل القوة هو مفاجأة العدو*
وكان ﷺ يقول في دعائه .
*اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها .*
وكذلك كانت هناك وحدات صغيرة بقيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقف على مداخل المدينة .
"حاجز تحقق في الداخلين والخارجين من المدينة المنورة"
وتتحفظ على من سلك طريق المدينة مكة .
وذلك حتى يحول دون حصول قريش على أي معلومات عن تجهيزات المسلمين .
وبرغم ذلك فقد كان النبي ﷺ مضطراً إلى أن يقول هذا السر لكبار الصحابة رضي الله عنهم و صحابته المقربين الذين طلب منهم مهمات عسكرية محددة .
ومن هؤلاء الذين علموا بنيته في فتح مكة "حاطب بن أبي بلتعة" رضي الله عنه
و"حاطب بن أبي بلتعة" كان عمره في ذلك الوقت
43 عام أي أنه في سن إكتمال الرجولة، وهو من المهاجرين
ومن الذين اشتركوا في بدر وثبت مع النبي ﷺ في أحد .
كما شهد الخندق والحديبية .
وهو الذي أرسله النبي ﷺ إلى المقوقس حاكم مصر ودار بينهما حوارات طويلة ....
حتى قال له المقوقس في النهاية "أنت حكيم جئت من عند حكيم"
ولكن في لحظة من لحظات الضعف الإنساني والصحابة ليسوا بمعصومين رضي الله عنهم
فلكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة .
وهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كانت له ذلة ولكنها غير قادحة بإيمانه .
فقرر "حاطب" أن يفشي سر رسول الله ﷺ وأن يخبر قريشآ بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم...
*وكان السبب*
أن "حاطب رضي الله عنه كان له بمكة بعض أهل بيته وكانت له تجارة في قريش .
وكان يعاني من إيذاء قريش له في أهله وماله في مكة .
فأراد "حاطب" أن يؤدي لأهل مكة خدمة حتى لا يؤذونه في أهل بيته ولا في تجارته .
فكتب "حاطب" إلى أهل مكة كتابآ أخبرهم فيه بمسير النبي ﷺ إليهم
وأعطى "حاطب" هذه الرسالة إلى امرأة في المدينة اسمها "سارة"
وكانت "سارة" مغنية تغني في مكة ....
وكانت قد قدمت المدينة تشكو الحاجة .....
فقال لها النبي ﷺ *ما كان في غنائك ما يغنيك ؟*
فقالت : إن قريشا تركوا الغناء منذ قتل من قتل ببدر .
فأعطاها النبي ﷺ ثم عرض عليها الإسلام فرفضت وقبل منها النبي ﷺ أن تظل بالمدينة على كفرها .
فأعطى "حاطب" الرسالة إلى هذه المرأة .
وأعطاها مبلغاً من المال على أن تبلغ هذه الرسالة إلى قريش .
وقال لها : إخفيه ما استطعت ولا تمري على الطريق فإن عليه حرسآ....
فخرجت فسلكت غير الطريق وجعلت الكتاب في قرون رأسها
"أي ضفائر شعرها خوفاً أن يطلع عليه أحد"
وهي لا تعلم مضمون الكتاب
ولبست لباسها *وكان لباسهن مسلمات وغير مسلمات احتشام كامل*
واتجهت نحو مكة وعندما رأى الحرس إمرأة تركب دابة لم يلتفتوا إليها فليس لهم شأن بها فتركوها .
فهبط جبريل عليه السلام على النبي ﷺ يخبره بما صنع حاطب رضي الله عنه
فقال النبي : *قم يا علي والزبير وطلحة والمقداد و أدركا امرأة بمحل كذا .*
*قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم .*
*فخذوه منها وخلوا سبيلها .*
*فإن أبت فاضربوا عنقها .*
فخرجوا مسرعين خلفها حتى أدركوها في ذلك المحل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم
فقالا لها : أين الكتاب ؟
فحلفت بالله ما معها من كتاب .
فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدوا شيئا .
فقال لها علي رضي الله عنه إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ قط ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك ونمزق عليك الثياب ....
ولما سمعت كلمة نمزق الثياب صاحت بأعلى صوتها لاااا لااااا ورب الكعبة سأعطيكم الكتاب إياكم أن تمزقوا ثيابي .....
قالت : أعطيكم الكتاب ولكن اصرفوا وجوهكم عني .....
فأعرضوا بالنظر عنها :
فكشفت شعرها وحلت قرون شعرها واستخرجت الكتاب منه .
فأخذ "علي" الكتاب منها ثم تركوها وانصرفوا .
ورجعوا إلى رسول الله ﷺ وهو جالس بين أصحابه رضي الله عنهم
فقال : *اقرأ الكتاب يا علي .*
وكان على رضي الله عنه قاريء
وحاطب رضي الله عنه يجلس بين الناس
فقرأ علي رضي الله عنه من حاطب.... فإن رسول الله ﷺ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل .
وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم .
فإنه منجز له ما وعده فيكم .
فإن الله تعالى ناصره ووليه .
فنظر النبي ﷺ لحاطب
وقال له *ماهذا يا حاطب ؟*
فقال حاطب رضي الله عنه بأبي وأمي أنت يارسول الله .
والله ماكفرت منذ أن آمنت . ولكن امهلني حتى أقول لك .
قال *قل ..*
قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش .
"يعني حليفا لقريش لا من قريش"
وليس أحد من أصحابك من المهاجرين إلا ولهم قرابات يحمون بها أهليهم وأمواله .
فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يدآ يحمون قرابتي .
ولم أفعله إرتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام .
فقال النبي ﷺ *أما أنه فقد صدقكم .*
كان ما فعله حاطب رضي الله عنه جريمة شنعاء و خيانة عظمى لأنه أفشى سراً عسكرياً خطيراً كان يمكن أن يعرض الجيش الإسلامي كله لخطر عظيم ....
ولذلك فإن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقنعه ما قاله حاطب ....
"فهو بذلك يحمي أهله على حساب جيش بالكامل"
لذلك قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ...
فقال النبي ﷺ : *لا يا عمر ومن قال لك أنه منافق . أنسيت أنه بدري . ومايدريك يا عمر أن الله تجلى واطلع على أصحاب بدر يوم بدر .*
*فقال قد رضيت عنكم فأفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم .*
يقول عمر رضي الله عنه فما بقي بدري في المسجد إلا وجهش "أي بكى"
"يعني لولا هذه الزلة من هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه من أين تأتي هذه البشرى لأهل بدر بأن الله قد تجلى واطلع على أصحاب بدر يوم بدر وقال قد رضيت عنكم فأفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
ثم أكب حاطب رضي الله عنه على يدي النبي ﷺ يقلبهما ويبكي ......
ويقول : والله لم انافق يا رسول الله .
والنبي ﷺ يقول له *وأنا أشهد*
فالرسول ﷺ لم يعفو عن حاطب فقط .
وإنما أيضاً رفع من قدره أمام المسلمين لأن حاطب رضي الله عنه قدم تضحيات كثيرة .
وله رصيد عند النبي ﷺ .
فليس معنى أنه أخطأ مرة أن ينسى له النبي ﷺ ما قدمه من قبل .
و الحبيب المصطفى ﷺ لا يريد أن يكون عونا للشيطان على "حاطب"
فالمسلم عندما يكون صالحاً ويرتكب ذنبا .
يوسوس إليه الشيطان أنه قد أضاع كل شيء ويحبطه عن التوبة .
و النبي ﷺ لا يريد لحاطب أن يسقط في هذه الدائرة .
بل على العكس يريد أن يأخذ بيده حتى يخرج به من هذه الأزمة .
والبطولة هي أن تأخذ بيد المخطيء وتصلحه لا أن تسحقه .
وقد سجل القرآن العظيم هذا الموقف لحاطب بن أبي بلتعة في أول سورة الممتحنة .
يقول تعالى .
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .*
ثم دعى النبي ﷺ ربه مرة أخرى .
*اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها .*
قبس من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم...
يتبع بإذن الله تعالى....