الشاعر أبو العلاء المعري
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي , عربي النسب من قبيلة تنوخ إحدى قبائل اليمن ، ولد في معرة النعمان (سورية) بين حماة وحلب في يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة للهجرة (973م) وكان أبوه عالما بارزا ، وجده قاضيا معروفا.
جدر في الرابعة من عمره فكفت عينه اليسرى وابيضت اليمنى فعاش ضريرا لا يرى من الألوان إلا الحمرة. وقال الشعر وهو ابن احدى عشرة سنة..“ وكان له في آبائه واعمامه فضلاء وقضاة وشعراء منهم :
سليمان بن احمد جده قاضي ”المعرة“، وابو المجد محمد بن عبد الله اخو ابي العلاء، وكان شاعراً، كرس اكثر شعره في الزهد.
قدم ابو العلاء بغداد سنة / 368هـ واقام بها سنة وسبعة اشهر ثم رجع الى بلده حتى مات سنة/ 449 في ايام الخليفة القائم.
تلقى على يد أبيه مبادئ علوم اللسان العربي ، ثم تتلمذ على يد بعض علماء بلدته ، وكان حاد الذكاء قوي الذاكرة ، يحفظ كل ما يسمع من مرة واحدة ، وجميع من كتبوا عن أبي العلاء المعري قالوا فيه أنه مرهف الحس ، دقيق الوصف، مفرط الذكاء ، سليم الحافظة ، مولعاً بالبحث والتمحيص ، عميق التفكير .
اعتكف في بيته حتى بلغ العشرين من عمره ، منكبا على درس اللغة و الأدب ، حتى أدرك من دقائق التعبير وخواص التركيب مالا يطمع بعده لغوي أو أديب ، وقد بدأ ينظم الشعر وهو في الحادية عشر من عمره .
وفي سنة ثلاثمائة واثنين وتسعين هجرية ، غادر قريته قاصدا بلاد الشام ، فزار مكتبة طرابلس التي كانت في حوزة آل عامر ، وانقطع إليها فترة طويلة ، فانتفع بما فيها من أسفار جمة ، ثم زار الّلاذقية وعاج على دير بها ، وأقام فترة بين رهبانه ، فدرس عندهم أصول المسيحية واليهودية ، وناقشهم في شتى شؤون الأديان ، وبدأ حينئذ شكه وزيغه في الدين .
قصد أبو العلاء المعري بعد ذلك ، وهي مستقر العلم ومثابة العلماء فاحتفى به البغداديون وأقبلوا عليه ، فأقام بينهم فترة طويلة يدرس مع علمائهم الأحرار الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية ، ويذيع آرائه ومبادئه على جمع من التلاميذ لازموه وتعيشوا له .
وكان قد فقد أباه وهو في الرابعة عشر من عمره ، فلما فقد أمه كذلك وهو في بغداد حزن عليها حزنا شديدا ، وأحس الخطوب الداهمة والمصائب تترى عليه دون ذنب جناه ، فبدأ ينظر إلى الحياة والعالم نظرة سخط ومقت وازدراء وتشاؤم ، و رأى أن من الخير أن يعتزل الناس والحياة ويزهد في ملذاتها ووصلت درجة زهد أبو العلاء المعري إلى أنه ظل خمسة و أربعين عاما لا يأكل لحم الحيوان ولا لبنه وبيضه قانعا من الطعام بالعدس ومن الحلوى بالطين ومن المال بثلاثين دينارا يستغلها من عقار له ، عاد إلى بلدته سنة أربعمائة هجرية ، وكانت آراء المعري شاهد على ما نقول عنه من نظرة تشاؤمية للحياة فهو يرى أنه ليس في الدنيا ما يستحق أن نضحي من أجله وأن كل ما فيها شر وشرور ، بل هناك من الباحثين في حياته من يقولوا أنه كان ينظر إلى أن كل من يسعى لملذات الدنيا فهو شر ، كما أنه ينظر إلى المرأة نظرة قريبة إلى نظرته إلى الحياة .
مواقف مع ابي العلاء
امتاز المعري بسرعة البديهة، وحدة الخاطر، فكان يتلقى المواقف ويديرها بعقلانية تنم عن علم غزير، واردت في كلامي هذا استعراض بعضِ من تلك المواقف اراد له مناوؤه من ورائها ايقاعه في دائرة الجهل وكان ذلك الجهل منهم بعينه ورد ابو العلاء بغداد قاصداً ابا الحسن علي بن عيسى الربعي، ليقرأ عليه، فلما دخل اليه قال علي بن عيسى:”ليصعد الاصطبل “ فخرج مغضباً ولم يعد اليه. والاصطبل في لغة اهل الشام الاعمى، ولعلها معربة.
ـ ودخل مرة على المرتضى ابي القاسم فعثر برجل، فقال: من هذا الكلب؟ فقال المعري: ”الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً، وسمعه المرتضى فاستدناه واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فاقبل عليه اقبالاً كبيراً.
كان ابو العلاء يتعصب للمتنبي ويفضله على ”بشار“ ومن بعده مثل: ابي نواس وابي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبي ويتعصب عليه، فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبي فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر الا قوله: ”لك يا منازل في القلوب منازل “
لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وامر فسحب برجله واخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: اتدرون اي شيء اراد الاعمى بذكر هذه القصيدة، فان للمتنبي ما هو اجود منها لم يذكرها؟!فقيل: النقيب السيد اعرف، فقال اراد قوله في هذه القصيدة واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل..ولما رجع المعري الى ”المعرة “ لزم بيته، وسمى نفسه ”رهين المحبسين“ يعني: حبس نفسه في المنزل، وحبسه عن النظر الى الدنيا بالعمى.
مرض يوماً فوصف له الطبيب اكل الفروج، فلما جيء به لمسه بيده فقال:”استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الاسد؟! وحدت ”غرس النعمة ابو الحسن الصابي “ انه بقي خمساً واربعين سنة لا يأكل اللحم، ولا البيض، ويحرم ايلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الارض، ويلبس خشن الثياب، ويظهر دوام الصوم.
لقيه رجل فسأله: لم لا تأكل اللحم؟ فأجابه: ارحم الحيوان.قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها الا لحم الحيوان، فان كان لذلك خالق فما انت بأرق منه، وان كانت الطبائع المحدثة لذلك، فمانت بأحذق منها، ولا اتقن عملاً فسكت.قال ابن الجوزي نقلاً عن ابن زكريا، انه قال: قال لي المعري:ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: ”اليوم اقف على اعتقاده“ فقلت له:ما انا الا شاكٍ فقال وببديهية عفوية: وهكذا شيخك.ويقول القاضي ابو يوسف، عبد السلام القزويني، قال لي المعري: لم اهج احداً قط. فقلت له: صدقت، الا الانبياء عليهم السلام، فتغير لونه...
ورغم كل ذلك يظل المعري زاهداً حيث يقول:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً
وحق لسكان البسيطة ان يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا
زجاج ولكن لايعاد له سبك
وقال في رثاء الحسين بن علي، عليهما السلام
رأس ابن بنت محمد ووصيته للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون لمنظر ولمشهدٍ لا جازع فيهم ولا متفجع
ويقول ياقوت: والناس مختلفون في ابي العلاء فمنهم من يقول كان زنديقا ومنهم من يقول زاهدا متعبدا ياخذ نفسه بالرياضة والخشونة و الاعراض عن اعراض الدنيا...“.
وحدث ابو زكريا انه لما مات المعري انشد على قبره اربعة وثمانون شاعراً.
عقيدته
أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه ملحد ورووا أشعارا اصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، غير أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه. وممن وقف على صدق نيته وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660 هـ وأحد أعلام عصره، فقد ألّف كتابا أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وفيه يقول عن حساد أبي العلاء "فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنة عيوبا وحسناته ذنوبا وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلامه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه".
اتخذ الشاعر العربي العريق أبو العلاء المعري، ذات يوم مجلسه قبالة بيته في بلدته معرة النعمان في القطر العربي السوري، اتخذ مجلسه بين مريدين وأصدقاء، أحبوه وأحبوا ما فاضت به قريحته من أفكار ورؤى ثاقبة، وراح يتحدث إليهم، مطلعا إياهم على ما اختزنته ذاكرته المضيئة المتوقدة من أفكار في اللغة والأدب والحياة أيضا، ومن المؤكد أن احد المتحلقين الجدد، أعجب به وبما قاله، فسأله عن وضعه، فرد عليه أبو العلاء ببيتين شعريين سبق وكتبهما، هما:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسال عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون الروح في الجسم الخبيث
اهتز المتحلقون حول أبي العلاء طربا، وتمادى احدهم فطلب منه أن ينشد المزيد من أشعاره، فراح أبو العلاء ينشد قصيدة رثاء كتبها للتو، يقول فيها: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
وراح المحيطون به يصفقون إعجابا.
في تلك اللحظة مر احد الصلفين المختالين في الأرض، بالقرب من المجموعة المحيطة بابي العلاء، وتوقف لمعرفة سبب التصفيق، ويبدو أن التصفيق لحكيم المعرة الأعمى لم يعجبه، فطرح سؤالا استنكاريا، هو: من هذا الأعمى.
ارتفعت حرارة أبي العلاء، وغلى الدم الإنساني في عروقه، وتوجه ناحية العابر، منقبض الأسارير. أعطى لحظة للصمت كي يؤدي دوره في توصيل ما أراد توصيله من رد على ذاك المتغطرس الأحمق، وقال بمنتهى الثقة: اعمى من لا يعرف مئة اسم للكلب.
أتصور أن ذلك العابر راجع نفسه في تلك اللحظة، وتمنى أن يكون واحدا من المتحلقين حول أعمى المعرة الذي طغى نجمه على نجوم من عداه من أهل البلدة.
الرواية، سواء كانت وقعت بالفعل أو اختلقها عقل احد الرواة الأذكياء، لا تذكر ماذا فعل ذلك الرجل حين استمع إلى ذاك الرد المشيد بالمعرفة، الثقافة والإطلاع، إلا أنني أتصور أن ذلك الرجل خجل من نفسه ومضى في طريقه، وهو يفكر في طريقة يتمكن عبرها من معرفة مئة اسم للكلب.
أما المتحلقون حول أبي العلاء المعري، فقد استخفهم الطرب، فتابعوا تصفيقهم معبرين عن إعجابهم بحكيم المعرة التي طبقت شهرته الآفاق، فما كان من المعري إلا أن طلب منهم أن يتوقفوا عن التصفيق، لعلمه أن المبالغة في الأمور تحولها إلى اضداها.
في المساء تفرق شمل الملتئمين، وذهب كل منهم في حال سبيله، وهو يتمنى لو أن اليوم طال أكثر، كي ينهل من علم غزير جمعه أبو العلاء المعري عبر سنوات عمره بأيامها ولياليها، فيما دخل أبو العلاء إلى بيته، وهو يفكر في ذلك المسكين، وكان أكثر ما يشغل أبي العلاء هو السؤال عن العمى، فمن هو الأعمى حقا؟ اهو ذاك الذي يرى ولا يرى في الآن ذاته؟ أم ذاك الذي يرى الأشياء ويرى في الآن ذاته ما وراء الأشياء؟ من هو الأعمى اهو ذاك الذي يرى ولا يعرف؟ أم ذاك الذي لا يرى ويعرف؟
ومضى الليل وأبو العلاء يطرح السؤال تلو السؤال عمن هو الأعمى، وانتابته الشكوك وأحاطت به من جانب، ونادى على مرافقه في منتصف الليل، ليتلو عليه هذا ما تقوله المعاجم في العمى وأنواعه، وشرع مرافقه في القراءة وشرع أبو العلاء في التذكر. انه يعرف كل ما يُتلا عليه، وكان كلما قرأ مرافقه، يتأكد من أن الأعمى هو من لا يعرف.
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي , عربي النسب من قبيلة تنوخ إحدى قبائل اليمن ، ولد في معرة النعمان (سورية) بين حماة وحلب في يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة للهجرة (973م) وكان أبوه عالما بارزا ، وجده قاضيا معروفا.
جدر في الرابعة من عمره فكفت عينه اليسرى وابيضت اليمنى فعاش ضريرا لا يرى من الألوان إلا الحمرة. وقال الشعر وهو ابن احدى عشرة سنة..“ وكان له في آبائه واعمامه فضلاء وقضاة وشعراء منهم :
سليمان بن احمد جده قاضي ”المعرة“، وابو المجد محمد بن عبد الله اخو ابي العلاء، وكان شاعراً، كرس اكثر شعره في الزهد.
قدم ابو العلاء بغداد سنة / 368هـ واقام بها سنة وسبعة اشهر ثم رجع الى بلده حتى مات سنة/ 449 في ايام الخليفة القائم.
تلقى على يد أبيه مبادئ علوم اللسان العربي ، ثم تتلمذ على يد بعض علماء بلدته ، وكان حاد الذكاء قوي الذاكرة ، يحفظ كل ما يسمع من مرة واحدة ، وجميع من كتبوا عن أبي العلاء المعري قالوا فيه أنه مرهف الحس ، دقيق الوصف، مفرط الذكاء ، سليم الحافظة ، مولعاً بالبحث والتمحيص ، عميق التفكير .
اعتكف في بيته حتى بلغ العشرين من عمره ، منكبا على درس اللغة و الأدب ، حتى أدرك من دقائق التعبير وخواص التركيب مالا يطمع بعده لغوي أو أديب ، وقد بدأ ينظم الشعر وهو في الحادية عشر من عمره .
وفي سنة ثلاثمائة واثنين وتسعين هجرية ، غادر قريته قاصدا بلاد الشام ، فزار مكتبة طرابلس التي كانت في حوزة آل عامر ، وانقطع إليها فترة طويلة ، فانتفع بما فيها من أسفار جمة ، ثم زار الّلاذقية وعاج على دير بها ، وأقام فترة بين رهبانه ، فدرس عندهم أصول المسيحية واليهودية ، وناقشهم في شتى شؤون الأديان ، وبدأ حينئذ شكه وزيغه في الدين .
قصد أبو العلاء المعري بعد ذلك ، وهي مستقر العلم ومثابة العلماء فاحتفى به البغداديون وأقبلوا عليه ، فأقام بينهم فترة طويلة يدرس مع علمائهم الأحرار الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية ، ويذيع آرائه ومبادئه على جمع من التلاميذ لازموه وتعيشوا له .
وكان قد فقد أباه وهو في الرابعة عشر من عمره ، فلما فقد أمه كذلك وهو في بغداد حزن عليها حزنا شديدا ، وأحس الخطوب الداهمة والمصائب تترى عليه دون ذنب جناه ، فبدأ ينظر إلى الحياة والعالم نظرة سخط ومقت وازدراء وتشاؤم ، و رأى أن من الخير أن يعتزل الناس والحياة ويزهد في ملذاتها ووصلت درجة زهد أبو العلاء المعري إلى أنه ظل خمسة و أربعين عاما لا يأكل لحم الحيوان ولا لبنه وبيضه قانعا من الطعام بالعدس ومن الحلوى بالطين ومن المال بثلاثين دينارا يستغلها من عقار له ، عاد إلى بلدته سنة أربعمائة هجرية ، وكانت آراء المعري شاهد على ما نقول عنه من نظرة تشاؤمية للحياة فهو يرى أنه ليس في الدنيا ما يستحق أن نضحي من أجله وأن كل ما فيها شر وشرور ، بل هناك من الباحثين في حياته من يقولوا أنه كان ينظر إلى أن كل من يسعى لملذات الدنيا فهو شر ، كما أنه ينظر إلى المرأة نظرة قريبة إلى نظرته إلى الحياة .
مواقف مع ابي العلاء
امتاز المعري بسرعة البديهة، وحدة الخاطر، فكان يتلقى المواقف ويديرها بعقلانية تنم عن علم غزير، واردت في كلامي هذا استعراض بعضِ من تلك المواقف اراد له مناوؤه من ورائها ايقاعه في دائرة الجهل وكان ذلك الجهل منهم بعينه ورد ابو العلاء بغداد قاصداً ابا الحسن علي بن عيسى الربعي، ليقرأ عليه، فلما دخل اليه قال علي بن عيسى:”ليصعد الاصطبل “ فخرج مغضباً ولم يعد اليه. والاصطبل في لغة اهل الشام الاعمى، ولعلها معربة.
ـ ودخل مرة على المرتضى ابي القاسم فعثر برجل، فقال: من هذا الكلب؟ فقال المعري: ”الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً، وسمعه المرتضى فاستدناه واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فاقبل عليه اقبالاً كبيراً.
كان ابو العلاء يتعصب للمتنبي ويفضله على ”بشار“ ومن بعده مثل: ابي نواس وابي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبي ويتعصب عليه، فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبي فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر الا قوله: ”لك يا منازل في القلوب منازل “
لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وامر فسحب برجله واخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: اتدرون اي شيء اراد الاعمى بذكر هذه القصيدة، فان للمتنبي ما هو اجود منها لم يذكرها؟!فقيل: النقيب السيد اعرف، فقال اراد قوله في هذه القصيدة واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل..ولما رجع المعري الى ”المعرة “ لزم بيته، وسمى نفسه ”رهين المحبسين“ يعني: حبس نفسه في المنزل، وحبسه عن النظر الى الدنيا بالعمى.
مرض يوماً فوصف له الطبيب اكل الفروج، فلما جيء به لمسه بيده فقال:”استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الاسد؟! وحدت ”غرس النعمة ابو الحسن الصابي “ انه بقي خمساً واربعين سنة لا يأكل اللحم، ولا البيض، ويحرم ايلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الارض، ويلبس خشن الثياب، ويظهر دوام الصوم.
لقيه رجل فسأله: لم لا تأكل اللحم؟ فأجابه: ارحم الحيوان.قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها الا لحم الحيوان، فان كان لذلك خالق فما انت بأرق منه، وان كانت الطبائع المحدثة لذلك، فمانت بأحذق منها، ولا اتقن عملاً فسكت.قال ابن الجوزي نقلاً عن ابن زكريا، انه قال: قال لي المعري:ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: ”اليوم اقف على اعتقاده“ فقلت له:ما انا الا شاكٍ فقال وببديهية عفوية: وهكذا شيخك.ويقول القاضي ابو يوسف، عبد السلام القزويني، قال لي المعري: لم اهج احداً قط. فقلت له: صدقت، الا الانبياء عليهم السلام، فتغير لونه...
ورغم كل ذلك يظل المعري زاهداً حيث يقول:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً
وحق لسكان البسيطة ان يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا
زجاج ولكن لايعاد له سبك
وقال في رثاء الحسين بن علي، عليهما السلام
رأس ابن بنت محمد ووصيته للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون لمنظر ولمشهدٍ لا جازع فيهم ولا متفجع
ويقول ياقوت: والناس مختلفون في ابي العلاء فمنهم من يقول كان زنديقا ومنهم من يقول زاهدا متعبدا ياخذ نفسه بالرياضة والخشونة و الاعراض عن اعراض الدنيا...“.
وحدث ابو زكريا انه لما مات المعري انشد على قبره اربعة وثمانون شاعراً.
عقيدته
أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه ملحد ورووا أشعارا اصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، غير أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه. وممن وقف على صدق نيته وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660 هـ وأحد أعلام عصره، فقد ألّف كتابا أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وفيه يقول عن حساد أبي العلاء "فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنة عيوبا وحسناته ذنوبا وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلامه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه".
اتخذ الشاعر العربي العريق أبو العلاء المعري، ذات يوم مجلسه قبالة بيته في بلدته معرة النعمان في القطر العربي السوري، اتخذ مجلسه بين مريدين وأصدقاء، أحبوه وأحبوا ما فاضت به قريحته من أفكار ورؤى ثاقبة، وراح يتحدث إليهم، مطلعا إياهم على ما اختزنته ذاكرته المضيئة المتوقدة من أفكار في اللغة والأدب والحياة أيضا، ومن المؤكد أن احد المتحلقين الجدد، أعجب به وبما قاله، فسأله عن وضعه، فرد عليه أبو العلاء ببيتين شعريين سبق وكتبهما، هما:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسال عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون الروح في الجسم الخبيث
اهتز المتحلقون حول أبي العلاء طربا، وتمادى احدهم فطلب منه أن ينشد المزيد من أشعاره، فراح أبو العلاء ينشد قصيدة رثاء كتبها للتو، يقول فيها: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
وراح المحيطون به يصفقون إعجابا.
في تلك اللحظة مر احد الصلفين المختالين في الأرض، بالقرب من المجموعة المحيطة بابي العلاء، وتوقف لمعرفة سبب التصفيق، ويبدو أن التصفيق لحكيم المعرة الأعمى لم يعجبه، فطرح سؤالا استنكاريا، هو: من هذا الأعمى.
ارتفعت حرارة أبي العلاء، وغلى الدم الإنساني في عروقه، وتوجه ناحية العابر، منقبض الأسارير. أعطى لحظة للصمت كي يؤدي دوره في توصيل ما أراد توصيله من رد على ذاك المتغطرس الأحمق، وقال بمنتهى الثقة: اعمى من لا يعرف مئة اسم للكلب.
أتصور أن ذلك العابر راجع نفسه في تلك اللحظة، وتمنى أن يكون واحدا من المتحلقين حول أعمى المعرة الذي طغى نجمه على نجوم من عداه من أهل البلدة.
الرواية، سواء كانت وقعت بالفعل أو اختلقها عقل احد الرواة الأذكياء، لا تذكر ماذا فعل ذلك الرجل حين استمع إلى ذاك الرد المشيد بالمعرفة، الثقافة والإطلاع، إلا أنني أتصور أن ذلك الرجل خجل من نفسه ومضى في طريقه، وهو يفكر في طريقة يتمكن عبرها من معرفة مئة اسم للكلب.
أما المتحلقون حول أبي العلاء المعري، فقد استخفهم الطرب، فتابعوا تصفيقهم معبرين عن إعجابهم بحكيم المعرة التي طبقت شهرته الآفاق، فما كان من المعري إلا أن طلب منهم أن يتوقفوا عن التصفيق، لعلمه أن المبالغة في الأمور تحولها إلى اضداها.
في المساء تفرق شمل الملتئمين، وذهب كل منهم في حال سبيله، وهو يتمنى لو أن اليوم طال أكثر، كي ينهل من علم غزير جمعه أبو العلاء المعري عبر سنوات عمره بأيامها ولياليها، فيما دخل أبو العلاء إلى بيته، وهو يفكر في ذلك المسكين، وكان أكثر ما يشغل أبي العلاء هو السؤال عن العمى، فمن هو الأعمى حقا؟ اهو ذاك الذي يرى ولا يرى في الآن ذاته؟ أم ذاك الذي يرى الأشياء ويرى في الآن ذاته ما وراء الأشياء؟ من هو الأعمى اهو ذاك الذي يرى ولا يعرف؟ أم ذاك الذي لا يرى ويعرف؟
ومضى الليل وأبو العلاء يطرح السؤال تلو السؤال عمن هو الأعمى، وانتابته الشكوك وأحاطت به من جانب، ونادى على مرافقه في منتصف الليل، ليتلو عليه هذا ما تقوله المعاجم في العمى وأنواعه، وشرع مرافقه في القراءة وشرع أبو العلاء في التذكر. انه يعرف كل ما يُتلا عليه، وكان كلما قرأ مرافقه، يتأكد من أن الأعمى هو من لا يعرف.
javascript:window.open('http://www....ight=350,width=380');document.form1.submit();