فتنةة العصر
رئيسة اقسام الصور 🌹شيخة البنات 🌹
- إنضم
- 7 أغسطس 2015
- المشاركات
- 1,313,618
- مستوى التفاعل
- 175,938
- النقاط
- 113
- الإقامة
- السعودية _ الأحساء ♥️
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلاَ تَحْسَبنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ ألا خَوْفُ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
الإهـداء
إلى ... الفاتح العظيم الذي احتلّ قلوب الناس وعواطفهم.
إلى ... أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان.
إلى ... أبيّ الضيم ، وسيّد الشهداء الاِِمام الحسين ( عليه السلام ) .
أرفع ـ بتواضع ـ هـذه الدراسة عن حياة أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الذي جسّد في سلوكه مع أخيه الحسين حقيق الاَخوة الصادقة ، ففداه بنفسه ، ووقاه بمهجته ، راجياً التفضّل عليَّ بالقبول.
( 9 )
بين يديك
يا قمر بني هاشم وفخر عدنان
أنت ـ يا قدوة الثوار والاَحرار ـ قد تألقت في سماء هذا الشرف ، رمزاً للبطولات ، وعنواناً للتضحية والفداء ، فقد رأيت الحكم الاَموي السحيق يسوس المجتمع نحو الدمار الشامل ، يسحق الكرامات ، ويقضي على الحريات ، ويمتصّ الاَقوات ويقود المجتمع إلى حياة بائسة لا ظلّ فيها للعدل الاجتماعي والعدل السياسي ، فرفعت راية التحرير مع أخيك أبي الاَحرار وسيّد الشهداء عليه السلام الذي جسّد آمال الشعوب وطموحاتها ، وسعى لتحرير إرادتها ، وإعادة كرامتها.
لقد وقفت مع أخيك في خندق واحد فرفعتما كلمة الله الهادفة إلى كرامة الاِنسان ، وبناء حياة آمنة مستقرّة لا ظلّ فيها للظلم والطغيان.
أمّا أنت ـ يا أبا الفضل ـ فكنت هبة من الله لهذه الاَمّة ، فقد فتحت لها آفاقاً مشرقة من الحرية والكرامة ، وعلّمتها أنّ التضحية يجب أن تكون خالصة لله ، وبعيدة كلّ البعد عن الرغبات والعواطف وسائر الميول التي مآلها إلى التراب ، وبهذه الروح الاِسلامية الاَصيلة كانت تضحيتك ـ يا أبا
( 10 )
الفضل ـ فقد اتّسمت بالدفاع عن الحق ، والذبّ عن القيم والمبادئ ـ وهذا هو السرّ في خلود تضحيتك ، وتفاعلها مع عواطف الناس على امتداد التاريخ.
أمّا أنت ـ يا قمر بني هاشم ـ فقد أقمت صروح الحق في دنيا العرب والاِسلام وشيّدت للمسلمين مجداً شامخاً بنصرتك لاَخيك سيّد الشهداء ، الذي نافح من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية في الاَرض وتوزع خيرات الله على المضطهدين والمحرومين ، وتحمّلت معه أعباء هذه الرسالة ، وبهذا كنت مع أخيك ، وسائر الشهداء الممجدين من أهل البيت وأنصارهم الطلائع المقدّسة لشهداء الحق في جميع أنحاء الاَرض.
( 11 )
تقديم
[1]
وبرز أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) على مسرح التاريخ الاِسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الاِنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الاَخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الاَرض.
لقد أبدى أبو الفضل يوم الطف من الصمود الهائل ، والارادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه ، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد ، وهزمهم نفسيّاً ، كما هزمهم في ميادين الحرب.
ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور ، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم ، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت ، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الاَفئدة والقلوب ، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً. انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز
( 12 )
والفخر ليس له وللمسلمين فحسب ، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته ، ويخضع لقيمها الكريمة.
[2]
وبالاِضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة ، والنزعات العظيمة ، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة ، فقد واسى أخاه أبا الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في أيام محنته الكبرى ، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته ، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان ، وزاده هدى.
[3]
ومثَّل أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) في سلوكه مع أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حقيقة الاَخوّة الاِسلامية الصادقة ، وأبرز جميع قيمها ومثلها ، فلم يبق لون من ألوان الاَدب ، والبرّ والاِحسان إلاّ قدّمه له ، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له ، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب ، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الاِمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت عليهم السلام ، فدفعه شرف النفس ، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده ، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة ، تصفّحوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الاَخوّة الصادقة؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل ، ومثل هذا الاِيثار؟!
( 13 )
الله أكبر أي رحمة مثل هذه الرحمة ، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة!!
إن الاِنسانية بجميع قيمها ومثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لاَخيه الاِمام الحسين أبي الاَحرار وسيّد الشهداء ( عليه السلام ) .
[4]
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لاَخيه الاِمام الحسين ، أنّها لم تكن بدافع الاَخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس ، وانّما كانت بدافع الاِيمان الخالص لله ، ذلك الاِيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل ، وصار عنصراً من عناصره ، ومقوّماً من مقوّماته ، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس ، قائلاً:
والله إن قطعتم يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
ان الرجز في تلك العصور كان يمثّل الاَهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يقاتل الشخص ، ويستشهد في سبيلها ، ورجز سيّدنا العباس ( عليه السلام ) صريح واضح في أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن الدين ، ودفاعاً عن المبادئ الاِسلامية الاَصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام الحكم الاَموي الاَسود ، كما أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين سبط رسول الله وريحانته الاِمام الحسين المدافع الاَوّل عن كرامة الاِسلام ، فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية ، وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السرّ
( 14 )
في جلال تضحيته ، وخلودها عبر القرون والاَجيال.
[5]
لقد استشهد أبو الفضل العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الاَحرار أخوه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا الشرق حكم القرآن ، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الاَرض ، فليست هي لقوم دون آخرين.
لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للاِنسان المسلم حرّيته وكرامته ، وينشر بين الناس رحمة الاِسلام ، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور ، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع ، والخوف.
لقد حمل أبو الفضل مشعل الحرية والكرامة ، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف ، وميادين العزّة ، والنصر للشعوب الاِسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور.
لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الاَرض ، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس.
[6]
وفجّر الاِمام أبو الاَحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأولي الاَلباب ، فدكّ بها حصون الظلم ، وقلاع الجور.
ولم يفجّر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً ،
( 15 )
ولا ظالماً ، ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الاَمة من جرّاء الحكم الاَموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين ، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق ، فقد عجّت البلاد الاِسلامية بجميع صنوف الجور والاِرهاب ، وكان من أعظمها محنة وأشدّها بلاءً البلاد الخاضعة لحكم زياد بن أبيه ، والي معاوية على العراق ، وأخيه اللاشرعي ، الذي أجّج نار الفتنة ، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، فأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وقتل على الظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك ، وطبّقه بالفعل على الحياة العامة بين الناس.
[7]
وأن سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمل الاِسلام ، والمسؤول الاَوّل عن رعاية المسلمين ، وصيانة حياتهم والواقع الاجتماعي الذي تعيشه الاَمة ، والذي ينذر بخطر عظيم على حياتها العقائدية ، والفكرية والاجتماعية ، فقد تحكّم في مصيرها جبابرة الاَمويين ، وطغاة الرأسمالية القرشية ، التي حملت معول الهدم على جميع ما أسّسه الاِسلام من مجد أصيل وخلق رفيع للاَمة ، بالاِضافة إلى أنّها أخذت تستنزف الموارد الاقتصادية في العالم الاِسلامي ، وتنفقها على شهواتها ، ورغباتها الخاصة ، فهبّ أبو الاَحرار لاِنقاذ المسلمين ، وإعادة الحياة الكريمة لهم ، فما أعظم عائدته على الاِسلام ، وما أكثر ألطافه وأياديه على المسلمين.
[8]
ان ملحمة كربلاء من أهم الاَحداث العالمية ، بل ومن أهمّ ما حققته
( 16 )
البشرية من إنجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان ، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الاِسلامية ، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان.
لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الاَحرار ، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبودية والذلّ ، وإنقاذه من الحكم اللاشرعي.
[9]
لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة ، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة ، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان ، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء.
ان من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنه جرّد الحكم الاَموي من الشرعية ، وأنّه لا يمثّل الاِسلام ، ولا المسلمين بأي حال من الاَحوال ، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الاَمة واختيارها.
لقد وضع أبو الاَحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الاَموي ففجّرتها ، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم ، وظلّوا مثلاً أسوداً لكل حكم منحرف عن سنن الحق والعدل.
[10]
لقد أيقظت ثورة أبي الاَحرار الشعوب الاِسلامية من تخديرها وسباتها ، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة ، وهي ترفع شعار التحرير ، وشعار الاستقلال ، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الاَسود.
( 17 )
لقد قامت الشعوب الاِسلامية في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ) ، حتى أطاحت بالحكم الاَموي ، وأزالته من دنيا الوجود.
[11]
ومن الجدير بالذكر أن كارثة كربلاء ، وما لحق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) من التنكيل ، والاعتداء الصارخ ، لم يأتِ ذلك عفواً ، وإنّما كان من النتائج المباشرة للانحرافات ، والسلوك في المنعطفات السياسية من جانب الحكام والمسؤولين الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم ، ووسيلة للظفر بالثراء العريض ، ولم يعوا أن الاِسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع ، وتطوير حياته الفكرية والاقتصادية ، وانّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الاَمة فيجب عليها الاحتياط فيه كأشدّ ما يكون الاحتياط فليس لرئيس الدولة ، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة.
وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني أمية الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، وبالاِضافة إلى ما اقترفوه من ظلم الاَمة والاعتداء على كرامتها ، فانّهم عمدوا إلى ظلم العلويين ، والاِجهاز على شيعتهم ، وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) المحن الشاقة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم ، ومما لا ريب فيه انّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن ، والآلام.
[12]
أمّا دور سيّدنا العباس ( عليه السلام ) في ملحمة كربلاء فانّه يأتي في الاَهمية بعد أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) صانع هذه الملحمة الخالدة في
( 18 )
دنيا الحقّ والعدل ، وقد فاق جميع أصحاب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأهل بيته المكرمين ، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لاَخيه ، بالاِضافة إلى مواقفه البطولية الرائعة ، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد ، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الاَفكار ويحيّر الاَلباب ، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه ، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة ، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم فاعتنقوا الشهادة ، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الاَرض.
[13]
وكان العبّاس ( عليه السلام ) أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه ، وقدّم له جميع ألوان البرّ والاِحسان ، فكان يقيه بنفسه ويفيديه بمهجته ، فهو صاحب لوائه ، ومدير شؤونه ، والمتصدّي لخدماته ، ويقول الرواة: انّه قد استوعب حبّه والاِخلاص له قلب أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حتى فداه بنفسه ، وكان عليه ضيفاً ، فلم يسمح له بالحرب حتى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، لاَنّه كان يشعر بالقوة والمنعة ، ما دام حيّاً إلى جانبه ، ولما استشهد العباس شعر الاِمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده وفقد كلّ أمل له في الحياة ، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء ، ويندبه بذوب روحه ، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد.
سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الاِنسانية ، وحسبك أنّك وحدك كنت انموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والاِسلام.
( 19 )
[14]
كان بودّي قبل حفنة من السنين أن أتشرّف بالبحث عن سيرة أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) رائد الشرف والكرامة لهذه الاَمّة ، وقد دعاني إلى ذلك ـ بإصرار ـ بعض السادة من فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاَشرف ، إلاّ أنّ انشغالي بتأليف موسوعة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد شغلني عن ذلك ، وقد ألمّت كارثة من كوارث الزمن ببعض ولدي فتوسّلت ، وتوسل ضارعاً إلى الله تعالى أن يكشف عنه ما هو فيه ، وينقذه وينجّيه فاستجاب الله دعائي ودعاءه فأنجاه مما هو فيه والحمد لله ، وقد طلب منّي أن أكتب رسالة عن حياة أبي الفضل وسيرته وشهادته ، فاستجبت له ، وجمّدت الموضوع الذي بيدي ، واتجهت صوب أبي الفضل آملاً من الله تعالى أن أُوفَّق إلى إعطاء صورة متميّزة وكاملة عن حياته ، وأن لا أكون قد جافيت الواقع أو ابتعدت عن القصد فيما كتبته عنه انّه تعالى وليّ القصد والتوفيق.
النجف الأشرف
باقر شريف القرشي
1412 هـ ـ 1992 م
ولادته ونشأتهُ
( 22 )
( 23 )
وقبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ونشأته أعرض ـ بإيجاز ـ إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الاَثر التام في بناء شخصيته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة وفيما يلي ذلك:
نسبه الوضّاح
ليس في دنيا الاَنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الاَسرة العلوية ، التي هي من أجلّ وأشرف الاَسر التي عرفتها الاِنسانية في جميع أدوارها ، تلك الاَسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والاِسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى ، والاِيمان ، وهذا عرض موجز للاَصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها.
الأب:
أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس ( عليه السلام ) فهو الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
( 24 )
وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وباب مدينة علمه ، وختنهُ على حبيبته ، وهو أول من آمن بالله ، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الاِسلام ، والمنافح الاَول عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الاَقربين والاَبعدين من أجل نشر رسالة الاِسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثلت بهذا الاِمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو غنّي عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الاَرض... ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الاِمامة ، وأخ لسبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
الاُم:
أمّا الاَم الجليلة المكرّمة لاَبي الفضل العباس ( عليه السلام ) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد.. ، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الاَضياف ، وأما أسرتها فهي من أجلّ الاَسر العربية ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد أشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم:
1 ـ عامر بن الطفيل:
وهو أخو عمرة الجدة الاولى لاَمّ البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الاَوساط العربية وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته ان قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فان كان بينه وبين عامر
( 25 )
نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلاّ أعرض عنه.
2 ـ عامر بن مالك:
وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولُقّب بملاعب الاَسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر:
يلاعب أطراف الاَسنة عامر فراح له حظّ الكتائب أجمع
وبالاِضافة إلى شجاعته فقد كان من أُباة الضيم ، وحفظة الذمار ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك.
3 ـ الطفيل:
وهو والد عمرة الجدّة الاَولى لاَمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لاَمّهم (أمّ البنين) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان:
يا واهب الخير الجزيل من سعة نـحن بـنو أمّ الـبنين الاَربعة
ونحن خير عامر بن صعصعة الـمطعمون الـجفنة المدعدعة
الضاربون الهام وسط الحيصعة إلـيك جـاوزنا بـلاداً مسبعة
تـخبر عـن هذا خبيراً فاسمعه مـهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
فتأثّر النعمان للربيع ، وأقصاه عن مسامرته ، وقال له:
شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا تكثر عليَّ ودع عنك الاَباطيل
( 26 )
قد قيل ذلك إن حقاً وان كذبا فما اعتذارك في شيء إذا قيل
ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم ، وسموّ منزلتهم الاجتماعية عند النعمان فقد بادر إلى اقصاء سميره الربيع عن مسامرته.
4 ـ عروة بن عتبة:
وهو والد كبشة الجدّة الثانية لاَم البنين ، وكان من الشخصيات البارزة في العالم العربي ، وكان يفد على ملوك عصره ، فيكرّمونه ، ويجزلون له العطاء ، ويحسنون له الوفادة(1).
هؤلاء بعض الاَعلام من أجداد السيّدة الكريمة أمّ البنين ، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة ، والصفات الرفيعة ، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة أمّ البنين ثم منها إلى أبنائها الممجدين.
قِران الاِمام بأمّ البنين:
ولما ثكل الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بوفاة بضعة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ندب أخاه عقيلاً ، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكياً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء(2) فأشار عليه عقيل بالسيّدة أمّ البنين الكلابية فانّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها ، ولا أفرس ، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم: « نحن خير عامر بن صعصعة » فلا
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 11 ـ 13 ذكر المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الاَسرة الكريمة.
(2) تنقيح المقال 2|128.
( 27 )
ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الاَسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة(1) ، فندبه الاِمام إلى خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الاَمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والاِيمان الوثيق وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها ، وأخلص لها كأعظم ما يكون الاِخلاص.
رعايتها لسبطيّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) :
وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الاَليمة التي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين ( عليهما السلام ) ما لا تكّنه لاَولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لاَبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لاَن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم ، وهما وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وريحانتاه ، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.
____________
(1) تنقيح المقال 2|128.
( 28 )
مكانتها عند أهل البيت
ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت عليهم السلام ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، يقول الشهيد الاَول وهو من كبار فقهاء الاِمامية:
كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاَربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد.. »(1).
أنّ زيارة حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وشريكة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في نهضته زينب الكبرى ( عليها السلام ) لاَمّ البنين ، ومواساتها لها بمصابها الاَليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها ، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت عليهم السلام .
مكانتها عند المسلمين:
وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وانّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلاّ كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الاَيّام ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند
____________
(1) العباس للمقرّم : 72 ـ 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الاَول.
( 29 )
الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه.
الوليد العظيم:
وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الاَسرة العلوية ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.
وحينما بُشِّر الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الاِيمان والتقوى في الاَرض ، وأنشودة ذلك الصوت.
« الله أكبر... ».
« لا إله إلاّ الله ».
وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الاَنبياء ، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، قام الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) عملاً بالسنّة الاِسلامية.
( 30 )
سنة ولادته وكنيته
أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) وُلد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان(1).
تسميته:
سمّى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لاَهل البيت عليهم السلام ، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه:
عبست وجوه القوم خوف الموت والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم
وكُنِّي سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) بما يلي:
1 ـ أبو الفضل:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه:
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والاِبا أبى الفضل إلاّ أن تكون له أب
وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى
____________
(1) قمر بني هاشم 2: 5.
( 31 )
بهذا الاِسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.
2 ـ أبو القاسم:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ألقابه
أمّا الاَلقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة ، وقد أضيفت على أبي الفضل ( عليه السلام ) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة ، وما اتصف به من مكارم الاَخلاق وهي:
1 ـ قمر بني هاشم:
كان العبّاس ( عليه السلام ) في روعة بهائه ، وجميل صورته آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم ، وكما كان قمراً لاَسرته العلوية الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الاِسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين.
2 ـ السقّاء:
( 32 )
وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض الاِرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، محرّر الاِنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية... وقد قام بطل الاِسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت ، ومن كان معهم من الاَنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.
3 ـ بطل العلقمي:
أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الاَبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الاَخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.
4 ـ حامل اللواء:
ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء انّه لواء أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده
( 33 )
أبو الفضل يرفرف على رأس الاِمام الحسين ( عليه السلام ) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من حديد ، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.
5 ـ كبش الكتيبة:
وهو من الاَلقاب الكريمة التي تُمنح الى القائد الاَعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.
6 ـ العميد:
وهو من الاَلقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لاَبرز الاَعضاء في القيادة العسكرية ، وقد قُلّد أبو الفضل ( عليه السلام ) بهذا الوسام لاَنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبدالله ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.
7 ـ حامي الظعينة:
ومن الاَلقاب المشهورة لاَبي الفضل ( عليه السلام ) (حامي الظعينة).
يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها:
حامى الظعينة أين منه ربيعة أم أين من عليـاً أبيـه مكرم
( 34 )
وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً(1).
____________
(1) جاء في العقد الفريد 3|331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى اذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الاَخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستولِ على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن سير دراج ذات جاش طامـن
ان التـأني دون قرني شائني ابلى بلائي فاخبري وعاينـي
ثم حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول:
خل سبيل الحـرة المنيعة انك لاق دونهـا ربيعـة
في كفـه خطيـة منيعة أولا فخذها طعنة سريعة
وحمل عليه فصرعه ، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجر رمحه ، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال:
ماذا ترى من شيئم عابـس أما ترى الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه ، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحي ، فوجدهم دريد قد
( 35 )
8 ـ باب الحوائج:
وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً ، وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الاَيام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى استشهد في سبيله هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الاَخلاق(1).
ملامحه:
أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه
____________
قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة: ان مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبطهم عنك ، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم: ان فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك:
ما ان رأيت ولا سمعت بمثله حـامي الظعينة فارساً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ثـم اسـتمر كـأنّه لـم يفعل
فـتهللت تـبدو أسـرة وجهه مثل الحسام جلته كفّ الصيقل
يزجى طعينته ويسحب رمحه مثل البغاث خشين وقع الجندل
(1) جاء في تنقيح المقال 2|128 أنه تحدث للعباس ستة عشر لقباً.
( 36 )
آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم(1)ورجلاه يخطان في الاَرض(2).
تعويذ أمّ البنين له:
واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوذه بالله ، وتقول هذه الاَبيات:
أعـيذه بـالواحد من عين كلّ حاسد
قـائمهم والـقاعد مـسلمهم والجاحد
صادرهم والوارد مولدهم والوالد(3)
مع أبيه:
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالاِيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوسع العباس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن
____________
(1) الفرس المطهم: هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.
(2) مقاتل الطالبيين : 56.
(3) المنمق في أخبار قريش : 437.
( 37 )
ساعديه ، فجعل الاِمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أمّ البنين ، وراحت تقول للاِمام:
« ما يبكيك ؟ »
فأجابها الاِمام بصوت خافت حزين النبرات:
« نظرت إلى هذين الكفّين ، وتذكّرت ما يجري عليهما.. »
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:
« ماذا يجري عليهما »..
فأجابها الاِمام بنبرات مليئة بالاَسى والحزن قائلاً:
« إنّهما يقطعان من الزند.. »
وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة:
« لماذا يقطعان »..
وأخبرها الاِمام ( عليه السلام ) بأنّهما انّما يقطعان في نصرة الاِسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجهشت أمّ البنين في البكاء ، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها(1).
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته.
نشأته
نشأ أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، فغذّاه بعلومه
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 19.
( 38 )
وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه ، جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، وأسس الآداب الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فكان لا يفارقه في حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الاِمام الحسين كأعظم ما يكون الاِخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الاِسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الاِنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والاِيثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادىَ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الاِمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين عليهم السلام ، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع
( 39 )
شعوب العالم وأُمم الاَرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.
* * * * *
( 40 )
انطباعات عن شخصيّته
واحتلّ أبو الفضل ( عليه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل ( عليه السلام ) .
1 ـ الاِمام زين العابدين:
أمّا الاِمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الاِسلام ، وكان هذا الاِمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الاِجلال والاِكبار تضحياته الهائلة لاَخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:
رحم الله عمّي العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت يداه ، فأبدله الله بجناحين ، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. »(1).
وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه
____________
(1) الخصال 1: 35.
( 41 )
أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الاِيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صريعاً ، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والاَجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الاِسلام وغيره.
2 ـ الاِمام الصادق:
أمّا الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
« كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. »(1).
وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:
أ ـ نفاذ البصيرة:
أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام
____________
(1) ذخيرة الدارين : 123 نقلاً عن عمدة الطالب.
( 42 )
الهدى وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ ، فما دامت القيم الاِنسانية يخضع لها الاِنسان ، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
ب ـ الصلابة في الاِيمان:
والظاهرة الاَخرى من صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) هي الصلابة في الاِيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الاَدلة على إيمانه.
ج ـ الجهاد مع الحسين:
وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس ( عليه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.
د ـ زيارة الاِمام الصادق:
وزار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الاِمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته
( 43 )
بقوله:
سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين.. ».
لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الاِجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته قائلاً:
وأشهد لك بالتسليم ، والتصديق ، والوفاء ، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم.. »
وأضفى الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الاَوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي:
أ ـ التسليم:
وسلّم العباس ( عليه السلام ) لاَخيه سيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) جميع أموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الاِيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد ، والاِخلاص في النيّة.
( 44 )
ب ـ التصديق:
وصدّق العبّاس ( عليه السلام ) أخاه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جميع اتجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
ج ـ الوفاء:
من الصفات الكريمة التي أضافها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) على عمّه أبي الفضل ( عليه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
د ـ النصيحة:
وشهد الاِمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول ( عليه السلام ) :
« فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
وحوى هذا المقطع على إكبار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل
( 45 )
الجنّة ، وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) وعن باب مدينته الاِمام أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
ويستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه:
« أشهد ، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفكّر والمبدع في الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم ، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلف لواء الاِسلام ، ويعيد الناس لجاهليتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل
( 46 )
بقيادة أخيه أبي الاَحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الاِسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ويستمرّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول:
« أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين ، والصديقين والشهداء ، والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل ، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك ، مقتدياً بالصالحين ، ومتبعاً للنبيّين ، فجمع الله بيننا ، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فانّه أرحم الراحمين.. »(1).
ويلمس في هذه البنود الاَخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيّه لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلاّ الاَنبياء ، واوصيائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِيمان.
3 ـ الاِمام الحجّة:
وأدلى الاِمام المصلح العظيم بقيّة الله في الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله )
____________
(1) مفاتيح الجنان للقمّي وغيره من كتب الزيارات والاَدعية.
( 47 )
بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس ( عليه السلام ) جاء فيها :
« السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد ، وحكيم بن الطفيل الطائي.. »(1).
وأشاد بقيّة الله في الاَرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي:
1 ـ مواساته لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.
2 ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لاِمام الهدى.
3 ـ تقديم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
4 ـ وقايته لاَخيه المظلوم بمهجته.
5 ـ سعيه لاَخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله )
4 ـ الشعراء:
وهام الاَحرار من شعراء أهل البيت : بشخصية أبي الفضل التي
____________
(1) مزار محمد بن المشهدي من أعلام القرن السادس : 553.
( 48 )
بلغت قمّة الشرف والمجد ، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الاَمّة الاِسلامية ، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة ، فيما يلي بعضهم.
1 ـ الكُمَيْت:
أمّا شاعر الاِسلام الاَكبر الكُميت الاَسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه ، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشمياته الخالدة قال:
وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو شفاء النفوس من اسقام(1)
إنّ ذكر أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وسائر أهل البيت : حلو عند كل شريف لاَنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق ، كما أنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور ، وسائر الاَمراض النفسية.
2 ـ الفضل بن محمد:
من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيدالله بن العباس فقد قال:
إنـي لاَذكـر لـلعبّاس مـوقفه بـكربلاء وهـام القوم يختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ ولا يـولّي ولا يـثني فـيختلف
ولا أرى مـشهداً يـوماً كمشهده مع الحسين عليه الفضل والشرف
____________
(1) الهاشميات : 25 ، ومن الغريب أن الشارح لهذا الديوان قال: ان المراد بأبي الفضل هو العباس بن عبد المطلب.
( 49 )
أكرم به مشهداً بانت فضيلته وما أضاع له أفعاله خلف(1)
وصوّرت هذه الاَبيات شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) وما قام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الاَحرار ، ووقايته له بمهجته ، وسقايته له ولاَفراد عائلته وأطفاله بالماء ، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبدالله ( عليه السلام ) ... وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه ، وكان من رثائه له هذه الاَبيات الرقيقة:
أحـق الناس أن يبكى عليه فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخـوه وابـن والـده علي أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومـن واساه لا يثنيه شيء وجادله على عطش بماء(2)
نعم ان أحق الناس أن يمجد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبوالفضل رمز الاِباء والفضيلة ، فقد رزأ الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بمصرعه ، وبكاه أمرّ البكاء لاَنّه فقد بمصرعه أبرّ الاِخوان ، وأعطفهم عليه.
3 ـ السيّد راضي القزويني:
وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) قال:
أبا الفضل يا من أسس الفضل والاِبا أبى الفضل إلاّ أن تكون لـه أبـا
____________
(1) قمر بني هاشم : 147 نقلاً عن المجدي.
(2) الغدير 3: 5.
( 50 )
تطلبت أسبـاب العلـى فبلغتها وما كل ساع بالغ ما تطلبـا
ودون احتمال الضيم عزّ ومنعة تخيرت أطراف الاَسنّة مركبا
انّ أبا الفضل من المؤسسين للفضل والاِباء في دنيا العرب والاِسلام فقد سما إلى طرق المجد ، وأسباب العلى ، فبلغ قمّتها ، وقد تخير أطراف الاَسّنة والرماح حتى لا يناله ذلّ ، ولا ضيم.
4 ـ محمد رضا الاَزري:
وأشاد الشاعر الكبير الحاج محمد رضا الاَزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم ، والتي احتلت عواطف الاَحرار ومشاعرهم يقول:
فانهض الى الذكر الجميل مشمّراً فـالذكر أبـقى ما اقتنته كرامها
أومـا أتـاك حديث وقعة كربلا انّـى وقـد بـلغ السماء قتامها
يوم أبو الفضل استجار به الهدى والشمس من كدر العجاج لثامها
ودعا الاَزري بالبيت من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الاِنسان فانه أبقى ، وأخلد له ، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الذي استجار به سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته ، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لاَخيه ، يقول الاَزري:
فحمى عرينتـه ودمدم دونها ويذب من دون الشرى ضرغامها
( 51 )
والبيض فوق البيض تحسب وقعها زجـل الـرعود إذا اكفهرّ غمامها
مـن بـاسل يـلقى الكتيبة باسماً والـشوس يـرشح بالمنية هامها
واشــم لا يـحتل دار هـضيمة أو يـستقلّ عـلى النجوم رغامها
أو لـم تـكن تـدري قريش أنّه طــلاع كــل ثـنية مـقدامها
وهذه الاَبيات منسجمة كل الانسجام مع بطولات أبي الفضل ، فقد صوّرت بسالته ، وما قام به من دور مشرف في حماية أخيه أبي الاَحرار فقد انبرى كالاَسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملاَت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشرية ، وقد انطلق أبوالفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم أنوف أُولئك الاَوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه ، وقد استبان للقبائل القرشية في هذه المعركة ان أبا الفضل طلاع كل ثنية ، وانه ابن من أرغمها على الاِسلام وحطّم جاهليتها وأوثانها.
وبهذا العرض نأتي على الانطباعات الكريمة عن شخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) عند الاَئمة الطاهرين : ، وعند بعض أعلام الاَدب العربي.
* * * *
عناصره النفسيّة
( 54 )
( 55 )
كان سيّدنا العباس ( عليه السلام ) دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته ، وحسبه فخراً أنّه نجل الاِمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح ـ بإيجاز ـ لبعض صفاته.
1 ـ الشجاعة:
أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لاَنها تنمّ عن قوة الشخصية وصلابتها ، وتماسكها أمام الاَحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ، وعرفوا بها من بين سائر الاَحياء العربية.
لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف ولارعب في الحروب التي خاضها مع أبيه كما يقول بعض المؤرخين ، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الاِسلام ، وقد برز فيه أبوالفضل أمام تلك القوى التي ملاَت البيداء فجبَّنَ الشجعان وأرعب قلوب
( 56 )
عامة الجيش ، فزلزلت الاَرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه.
ان شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم مادي من هذه الحياة ، وانّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الاَوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
مع الشعراء
وبهر شعراء الاِسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه وما ألحقه بالجيش الاَموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيته.
1 ـ السيّد جعفر الحلّي:
ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الاَموي من الرعب والفزع من أبي الفضل ( عليه السلام ) يقول:
وقـع الـعذاب عـلى جيوش أميّة مـن بـاسل هـو في الوقائع معلم
مــا راعـهم إلاّ تـقحم ضـيغم غـيـران يـعجم لـفظه ويـدمدم
عـبست وجوه القوم خوف الموت والـعبّاس فـيهم ضـاحك يـتبسّم
قلب اليمين على الشمال وغاص في الاَوسـاط يحصد للرؤوس ويحطم
مـا كـرّ ذو بـأس لـه مـتقدماً إلاّ وفــرّ ورأســه الـمـتقدّم
صـبغ الـخيول برمحه حتى غدا سـيـان أشـقر لـونها والاَدهـم
( 57 )
مـا شدّ غضباناً على ملمومه إلاّ وحـلّ بـها البلاء المبرم
وله إلى الاقدام نزعة هارب فـكأنّما هـو بـالتقدم يسلم
بطل تورث من أبيه شجاعة فيها أنوف بني الضلالة ترغم
أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته النادرة.
أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الاَموي من الجبن الشامل ، والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الاِسلام فأنزل بهم العذاب الاَليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العباس متبسّماً مثلوج الفؤاد مما ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملاَ ساحات المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العباس ( عليه السلام ) بأهل الكوفة من الخسائر الجسيمة.
ويستمرّ السيد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل فيقول:
بـطل إذا ركـب المطهم خلْته جـبلاً أشـمّ يـخف فيه مطهم
قـسماً بصارمه الصقيل وانني في غير صاعقة السماء لا أقسم
لولا القضا لمحا الوجود بسيفه والله يـقضي مـا يشاء ويحكم
لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ، ولولا قضاء الله لاَتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود.
2 ـ الاِمام كاشف الغطاء:
وبهر الاِمام محمد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله بشجاعة أبي الفضل
( 58 )
فقال في قصيدته العصماء:
وتـعبس من خوف وجوه أميّة اذا كـرّ عـبّاس الوغى يتبسّم
عـليم بـتأويل الـمنيّة سـيفه تـزول على من بالكريهة معلم
وان عاد ليل الحرب بالنقع ألْيلا فـيوم عـداه مـنه بالشر أيوم
لقد عبست وجوه الجيش الاَموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنوياتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الاَليم.
3 ـ الفرطوسي:
وعرض شاعر أهل البيت عليهم السلام الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب قال:
عـلم لـلجهاد في كل زحف عـلم فـي الثبات عند اللقاء
قـد نـما فيه كل بأس وعزّ مـن عـليّ بـنجدة وإبـاء
هو ثبت الجنان في كل روع وهو روع الجنان من كل راء
وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة في جيوش الاَمويين قال:
فـارتقى صـهوة الجواد مطلاً عـلـماً فـوق قـلعة شـمّاء
وتـجلّى والـحرب لـيل قثام قـمراً فـي غـياهب الظلماء
فـاستطارت مـن الكماة قلوب أفـرغت من ضلوعها كالهواء
وتهاوت جسومهم وهي صرعى واسـتطارت رؤوسهم كالهباء
وهو يرمي الكتائب السود رجماً بـالمنايا مـن اليد البيضاء(1)
إن شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب المثل على امتداد التأريخ ، ومما زاد في أهميتها انّها كانت لنصرة الحق والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الاِسلام ، وانها لم تكن بأي حال من أجل مغنم مادي من مغانم هذه الحياة.
2 ـ الاِيمان بالله:
أمّا قوّة الاِيمان بالله ، وصلابته فانها من أبرز العناصر في شخصية أبيالفضل ( عليه السلام ) ، ومن أوليات صفاته ، فقد تربّى في حجور الاِيمان ومراكز التقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ، وسيّد المتّقين بجوهر الاِيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالاِيمان الناشىء عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الاِيمان الذي اعلنه الاِمام ( عليه السلام ) بقوله: « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً » وقد تفاعل هذا الاِيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من عمالقة المتقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم نفسه واخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى.
لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن دين الله ، وحماية لمبادىَ الاِسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الاَموي ، ولم يبغ بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة.
____________
(1) ملحمة أهل البيت 3: 329 ـ 330.
( 60 )
3 ـ الاِباء:
وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وهي الاِباء وعزّة النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الاَموي الذي اتخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الاَحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أن الموت تحت ظلال الاَسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً.
لقد مثّل أبو الفضل ( عليه السلام ) يوم الطفّ الاِباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الاَمويون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه ، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الاَبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته.
4 ـ الصبر:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) ومميّزاته الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وانّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها.
لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجدين الاَوفياء من
( 61 )
أصحابه وهم مجزّرون كالاَضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الاَطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي ، وهنّ يندبن قتلاهنّ ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الاَجر من عنده.
5 ـ الوفاء:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي:
أ ـ الوفاء لدينه:
وكان أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الاِسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الاَموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للاِسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار ، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الاَرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الاَرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.
ب ـ الوفاء لاَمّته:
رأى سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) الاَمّة الاِسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الاَمويين فنهبت
( 62 )
ثرواتها ، وتلاعبت في مقدراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً: (إنما السواد بستان قريش) فأي استهانة بالاَمة مثل هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل ( عليه السلام ) أن من الوفاء لاَمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الاَحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الاَحرار الممجدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم ، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل ، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟
ج ـ الوفاء لوطنه:
وغمرت الوطن الاِسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الاَموي ، فقد استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للاَمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان ، وذلّ فيه المصلحون والاَحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي ، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) إلى مقاومة ذلك الحكم الاَسود وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الاِسلامي.
د ـ الوفاء لاَخيه:
ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لاَخيه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمنافح الاَول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لاَخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني
( 63 )
أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.
6 ـ قوّة الإرادة:
أمّا قوّة الاِرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الاِرادة ، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي.
لقد كان أبو الفضل ( عليه السلام ) من الطراز الاَول في قوة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانظمّ إلى معسكر الحق ، ولم يهن ، ولم ينكل ، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الاَيّام.
7 ـ الرأفة والرحمة:
وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين ، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الاَمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولما رأى العباس ( عليه السلام ) أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء اخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم ، وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم ، سمع الاَطفال ينادون العطش العطش ، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء
( 64 )
الله حتى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده.
فتّشوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.
هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه.
* * * * *
( 65 )
مع الأحداث
( 66 )
( 67 )
ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره كثيراً من الاَحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحية ، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن المراكز السياسية في البلاد ، واخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الاِسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الاِداريه ، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط ، وحرمان بني هاشم ، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة ، وقد استولى الاَمويون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الاَزمات الحادّة بين المسلمين ، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لاَكثرهم أيّة نزعة إسلامية ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الاِسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الاِسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.
لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد ، فقد منحت الاَمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة ، وفتحت لهم الطريق لكسب
( 68 )
الاَموال ، وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب ، وانّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الاَوساط الاِسلامية ، فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الاَمويين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.
ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له ، والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً بأسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الاَخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاَسرته.
وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله ، فقَتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخليله عمّار بن ياسر.
وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الاَحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الاَمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.
إنّ أسوأ ماتركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ،
( 69 )
وحصرت الثروة عند الاَمويين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الاَحداث التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) .
* * * * *
حكومة الامام
والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الاَقاليم الاِسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر ، وبعض الاَمويين الذين أيقنوا أن الاِمام ( عليه السلام ) يبسط العدالة الاجتماعية في الاَرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لاَحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الاِمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الاِجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الاِسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.
وعلى أيّ حال فقد بويع الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الاِسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.
وفور تقلّد الاِمام ( عليه السلام ) للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه
( 71 )
أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاَخرى... كانت سعادته أن يرى الاَوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الاِمام ( عليه السلام ) فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل ( عليه السلام ) فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الاَسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الاِمام ( عليه السلام ) ، ومناهضتهم لاَبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك:
منهج حكم الاِمام
أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الاِمام ( عليه السلام ) فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الاِسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الاِنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الاِمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:
1 ـ بسط الحريّات:
وآمن الاِمام ( عليه السلام ) بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الاَمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء
( 72 )
الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:
أ ـ الحريّة الدينية:
يرى الاِمام ( عليه السلام ) أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الاَحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.
ب ـ الحريّة السياسية:
ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاِقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الاَدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يخلّوا بالاَمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والاِرهاب ، فاضطرّ الاِمام ( عليه السلام ) إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.
ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطابه ، ويخدشون
( 73 )
عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الاِمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الاِمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للاِنسان المسلم.
هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.
2 ـ نشر الوعي الديني:
واهتم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الاِسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاَولى لاِصلاح المجتمع وتهذيبه.
انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.
ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الاَخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الاَمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الاِسلامي.
( 74 )
3 ـ نشر الوعي السياسي:
أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الاِسلامي فهو من أهمّ الاَهداف السياسية التي تبنّاها الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته.
ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الاَوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الاِسلام بذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته.. » ألقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم.
ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الاَحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.. »(1).
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء ( عليه السلام ) على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الاَموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان.
____________
(1) حياة الامام الحسين 3: 80.
( 75 )
انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الاَبطال ممن غذّاهم الاِمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الاَحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين.... وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الاِصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للاِسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.
4 ـ إلغاء المحسوبيات:
وكان مما عني به الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته.
لقد ألغى الاِمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاَمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الاِسلام
( 76 )
وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الاِسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم.
5 ـ القضاء على الفقر:
أمّا فلسفة الاِمام ( عليه السلام ) في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لاَنّه كارثة مدمّرة للمواهب والاَخلاق ، ولا يمكّن الاَمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاَمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها... ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الاِسلام بصورة موضوعية وهي:
أ ـ توفير المسكن.
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.
ج ـ توفير العمل.
د ـ القضاء على الاستغلال.
هـ ـ سدّ أبواب المرابين.
و ـ القضاء على الاحتكار.
هذه بعض الوسائل التي عني بها الاِسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الاِمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للاِجهاز على حكم الاِمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الاِمام وفلسفته في الحكم.
( 77 )
القوى المعارضة للإمام
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الاِمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك.
السيّدة عائشة
وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الاَسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى: (... قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ...) الشّورَى 23وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الاَحيان كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يشير إلى أفعالها ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها.
وثمّة سبب في كراهية عائشة للاِمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن
( 78 )
الخلافة إذا رجعت للاِمام ( عليه السلام ) فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الاِسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الاِمام ( عليه السلام ) لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للاَهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الاِسلامية من حين بزوغ نورها.
وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الاَسباب في الاِطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الاَخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للاِمام ( عليه السلام ) انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة:
« قتل عثمان مظلوماً والله لاَطلبنّ بدمه.. ».
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الاِنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الاِمام ، والاِجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الاِسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لاَنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ،
( 79 )
وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.
ولما وافت الاَنباء الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الاَمصار الاِسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الاِسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الاَشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الاِسلام ، وإقامة ركائزه في الاَرض.
وسرت جيوش الاِمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاَمّهم عائشة ، فأرسل الاِمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه.
ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الاِمام ( عليه السلام ) للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الاِمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب
( 80 )
الاَحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.
واستولى جيش الاِمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الاِمام معها الاِجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الاِمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاَمور التي ليست مسؤولة عنها.
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون (بحرب الجمل) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم... ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الاِمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الاِمام كما يعامل سائر المسلمين.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.
معاوية وبنو أميّة
وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الاِمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الاِمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد
( 81 )
دخلوا في الاِسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الاَرض ، إلاّ أنّه ( صلى الله عليه وآله ) منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه.
ولم يكن للاَمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم ( صلى الله عليه وآله ) وآل الاَمر إلى الخلفاء علا نجم الاَمويين ، وذلك لاَسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الاَخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الاِسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الاِسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له: ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !! ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) لو عصيت لهويت ، ويقول الاِمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.
وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في
( 82 )
رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والاَموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء.
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الاِمام الطريق لمعاوية لاِعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الاِمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لاِغراء الغوغاء واتّهم الاِمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الاِعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الاِسلام.
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الاَحداث.
إعلان الحرب
ورفض معاوية رسمياً بيعة الاِمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الاِمام ( عليه السلام ) من
( 83 )
العناصر التالية
أ ـ الغوغاء:
أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الاَكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة.
ب ـ المنافقون:
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الاِسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الاِسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لاَنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الاِسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الاَوّل للاِسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه ، والمنافح الاَوّل عن الاِسلام.
انّ جميع من حارب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ج ـ النفعيون:
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال
( 84 )
والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الاَموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الاِمام للحكم.
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الاِسلام ، ورائد العدالة الاِنسانية.
احتلال الفرات
واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الاِمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الاَمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الاَعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ.
ولمّا علم الاِمام ( عليه السلام ) بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الاِمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الاِذن في مقارعة القوم ، فرغب الاِمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لاَن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والاَديان ، وعرض عليهم أصحاب الاِمام ذلك إلاّ أنّهم
( 85 )
أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الاِمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الاِمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الاِمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الاِمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الاَوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الاِمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم.
دعوة الاِمام إلى السلم
وكره الاِمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والاِدراية.
الحرب
ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الاِمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الاَخيرة من الحرب كاد الاِمام أن يكسب المعركة ،
( 86 )
وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاَطنابة:
أبت لي عفتي وحياء نفسي واقدامي على البطل المشيح
واعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مـكانك تحمدي أو تسريحي
فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الاَبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه.
الخديعة الكبرى
وآن النصر المحتم لجيش الاِمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الاِمام الزعيم مالك الاَشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الاِمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الاِمام وأفول دولة القرآن.
يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن.
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين
( 87 )
وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الاِسلام.
وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الاَموي الاَشعث ابن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الاِمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً:
« ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.. ».
وامتنع الاِمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الاِسلام في صميمه ، والتفّ حول الاَشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالاِمام ، وهم ينادون: أجب الاَشعث ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له:
« لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟.. »
فأجابه معاوية مخادعاً:
ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه.. ».
ورفع الاَشعث عقيرته قائلاً:
« هذا هو الحقّ.. ».
وخرج الاَشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الاَشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل
( 88 )
على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والاَشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الاَموال إن استجابوا لدعوته.
وعلى أيّ حال فقد أُرغم الاِمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي: « لا حكم إلاّ لله » واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب.
وعلى أيّ حال فقد جهد الاِمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والاِطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الاَشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الاِمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الاِطاحة بحكومة الاِمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الاِمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين.
التحكيم
وتوالت المحن والاَزمات على الاِمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى
( 89 )
الاَشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والاَشعري خبيث دنس كان حقوداً على الاِمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للاَحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الاِمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الاِمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه.
ولم يستطع الاِمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الاَوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الاِمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية.
لقد حكم الاَشعري بعزل الاِمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الاِمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الاَمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لاَهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب.
ثورة الخوارج
ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الاِمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الاِمام
( 90 )
على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الاَشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الاِمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الاِسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الاِمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
ولمّا نزح جيش الاِمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الاَمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الاَحكام التي يقاتلون من أجلها الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم « لاحكم إلاّ لله » ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق ( عليه السلام ) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ،
( 91 )
وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبدالله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الاِمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة(1) وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الاِمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الاِمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما.
النتائج الفظيعة
وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الاَحداث وأقساها
____________
(1) حياة الامام الحسن 1: 358 الطبعة الثالثة.
( 92 )
وأشقّها محنة على الاِمام ( عليه السلام ) ومن بينها:
1 ـ التمرّد الكامل في جيش الاِمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لاَوامر الاِمام.
لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الاِمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الاَحداث التي مُني بها.
2 ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والاِخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الاِمام.
3 ـ وتعرّضت البلاد الاِسلامية الخاضعة لحكم الاِمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لاِشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الاِمام لهجمات الاِرهابيين من كلاب معاوية ، والاِمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الاَمن والاِستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم.
4 ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الاِمام ، وقد أُصيبت حكومة الاِمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الاَحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم.
مصرع الاِمام
وبقي الاِمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والاَزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لايتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الاَوضاع الاجتماعية
( 93 )
المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور.
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالاِمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والاَباطيل ، واستجاب الله دعاء الاِمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الاَسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الاِسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الاِمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الاِمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الاِمام.
وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الاَرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الاَشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة
( 94 )
والاِيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس.
ولمّا أحسّ الاِمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول:
« فزت وربّ الكعبة .. ».
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين.
لقد فزت يا إمام المتّقين لاَنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم.
لقد فزت أيّها الاِمام الحكيم لاَنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى.
وحُمل الاِمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الاِمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الاَنبياء والاَوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الاَول عن رسالة الاِسلام.
وصايا خالدة
ولما شعر الاِمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده
( 95 )
بمكارم الاَخلاق ومحاسن الاَعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الاِسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته.
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الاِسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار.
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس.
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الاَهداف الاَصيلة التي ينشدها الاِسلام.
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الاَعمال وأهمّها في الاِسلام لاَن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة.
هـ ـ مراعاة الاَيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الاِسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الاِسلام في نظامه الاقتصادي.
و ـ الاِحسان إلى الجيران ، والاِغداق عليهم بالبرّ والمعروف لاَنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الاِسلامي ووحدته.
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الاِنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه.
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود
( 96 )
الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الاِنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة.
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين.
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالاَنفس والاَموال لاِقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة.
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم.
ل ـ إقامة الاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاَنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والاَشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده.
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الاِمام العظيم ، وهو على فراش الموت(1).
إلى جنّة المأوى:
وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الاِمام ( عليه السلام ) من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة
____________
(1) يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة.
( 97 )
واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الاَنبياء والاَوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد.
لقد توفّي عملاق الفكر الاِنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الاَرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الاِنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الاَمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الاِمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه.
تجهيزه
وانبرى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبوالفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الاَخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الاَشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين.
لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) خلافة أبيه ، وما رافقها من الاَحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق
( 98 )
العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الاِسلام ، والحاقدة على الاِصلاح الاجتماعي.
لقد وعى العبّاس الاَهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم.
خلافة الاِمام الحسن
وتسلّم الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قيادة الدولة الاسلامية بعد وفاة أبيه ، وكانت الاَوضاع الاجتماعية والسياسية ، كلها في غير صالحه ، فالاَكثرية الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريين كانت اتجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقهم بأمواله ، كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعية خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الاَمر الذي أوجب تريّب الاِمام الحسن منهم ، ويرى المراقبون للاَوضاع السياسية في جيش الاِمام انّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وان خطره على الاِمام كان أعظم من خطر معاوية وانّه لا يصلح بأي حال من الاَحوال لاَن يخوض الامام به أي ميدان من ميادين الحرب.
وعلى أي حال فان الاِمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وان من العسير جدّاً السيطرة
( 99 )
على الاَوضاع الاجتماعية ، وإخضاع البلاد إلى عسكره. اللهم إلاّ بسلوك أمرين:
الاَوّل: ـ إشاعة الاَحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريات العامة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الاَزمات في شِعوبهم.
أمّا أئمّه أهل البيت : فانهم لا يرون مشروعية هذه السياسة ، وان أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، واقصاء الوسائل الملتوية عنه.
الثاني: ـ تقديم الطبقة الرأسمالية وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الاَموال والامتيازات الخاصة ، والوظائف المهمة ولو فعل ذلك الاِمام الحسن لاستقرّت له الاَمور ، وما مُني جيشه بالتمرّد والانحلال ، إلاّ أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لاَنّه لا تبيحه شريعة الله.
لقد كان منهج الاِمام الحسن في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر.
إعلان معاوية للحرب
وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لاَنّه على علم بما مُني به جيش الاِمام من الانحلال والخيانة فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوجه بإحدى بناته ، فقد استعمل
( 100 )
الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الاِمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف من صالحه.
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولما علم الامام الحسن بذلك جمع قوّاته المسلّحة ، وأعلمهم بالاَمر ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف فلم يجبه أحد منهم فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب ، ولما رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عَديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الاِمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد.
وخرج الاِمام الحسن ( عليه السلام ) من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس حتى انتهى إلى النخيلة فاستقام فيها حتى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثم ارتحل حتى إنتهى إلى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثة أيام ، ثم واصل سيره لا يلوي على شيء.
في المدائن
وانتهى الاِمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والاَزمات فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من
( 101 )
قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به:
1 ـ خيانة القائد العام:
وكان من أقسى ما ابتلي به الاِمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله.
ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الاِمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الاِمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الاِمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الاَضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني.
2 ـ محاولات لاغتيال الاِمام:
ولم تقتصر محنة الاِمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الاِمام ، وقد فشلت جميعها وهي:
( 102 )
أ ـ رمي الاِمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً.
ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة.
ج ـ طعنه في فخذه.
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وطافت به المحن والاَزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال ، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاَمور فأفزعته إلى حدّ بعيد.
3 ـ الحكم عليه بالكفر:
وتمادى الخونة والعملاء في جيش الاِمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الاِمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً:
« لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل.. ».
ولم ينبر أحد من جيش الاِمام إلى معاقبة هذا الاَثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأي ضلال مثل هذا الضلال؟.
4 ـ نهب أمتعة الاِمام:
وعمد أُولئك الاَجلاف إلى نهب أمتعة الاِمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للاِمام من جيشه ، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم.
( 103 )
هذه بعض الاَحداث المروعة التي عاناها الاِمام ( عليه السلام ) في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته.
ضرورة الصلح
أمّا صلح الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الاَعراف السياسية ، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاَمة ، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة ، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين: إمّا القتل أو الاَسر ، فان قتل فلا تستفيد منه القضية الاِسلامية لاَنّ معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الاِمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية ، وأما إذا لم يقتل الامام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاَسرة النبوية ، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلي أيّ حال فان الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الاِمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية ، وقد ظهرت خفايا نفسه ، وما يكّنه من حقد وعداء للاِسلام وللمسلمين ، فانه حينما استتبّ له الاَمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الاِسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب
( 104 )
والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية.
وبعدما انتهى الاِمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الاِمام في يثرب ، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) من المحن الشاقة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة ، وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرفته هذه الاَوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع ، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم ، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الاَحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) .
* * * * *
كابوس رهيب
( 106 )
( 107 )
وتسلّم معاوية قيادة الدولة الاِسلامية بعد صلحه مع الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وتجسيداً حيّاً لاَهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الاِنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الاِسلامية صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والاَخلاق التي ينشدها الاِسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الاِسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبودية والذل.
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والاَعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي:
« ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الاِسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الاَمويين من قادة جند
( 108 )
الشام.. »(1).
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الاَسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث.
إبادة القوى الواعية
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الاِسلام ، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام ، وفيما يلي بعضهم:
1 ـ حجر بن عديّ :
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الاِسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاَمّة العربية والاِسلامية ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الاِرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الاِسلام ، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الاِسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للاِمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الاِسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن
____________
(1) روح الاسلام : 296.
( 109 )
هند ، فصدرت الاَوامر منه بإعدامهم في (مرج عذراء) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الاِعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الاَرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.
2 ـ عمرو بن الحمق:
ومن شهداء الاِسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ، كان أثيراً عند النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء(1).
وقد وعى عمرو القيم الاِسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد ، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لاَنّه من أعلام شيعة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو ، وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(2) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الاِسلام ، ثم
____________
(1) الاصابة 2: 526.
(2) المشاقص: جمع مفرده مشقص ، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.
( 110 )
أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت ، وكادت أن تموت ، ثم حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الاِنسانية ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ).
3 ـ رشيد الهجري:
رشيد الهجري علم من أعلام الاِسلام ، وقطب من أقطاب الاِيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الاِخلاص إلى وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلما مثل عنده صاح به الباغي الاَثيم:
« ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك؟.. »
فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:
« تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.. ».
فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الاِمام فقال:
« أمّا والله لاَكذبنّ حديثه خلّوا سبيله.. ».
فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:
لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: « إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه.. ».
وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوىَ بني أميّة وجورهم
( 111 )
ويحفز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالاَمر فأمرهم بقطع لسانه ، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(1) الذي نافح عن عقيدته وولائه لاَهل البيت حتى النفس الاَخير من حياته.
هؤلاء بعض أعلام الاِسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لاَنّهم كانوا ينشرون القيم الاِسلامية ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت : الذين هم مصدر الوعي والفكر في الاِسلام.
مناهضة أهل البيت
ولمّا استتبّ الاَمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أمّته ، والعصب الحسّاس في هذه الاَمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به:
1 ـ افتعال الاَخبار ضدّهم:
وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الاَخبار وافتعالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الاَخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الامام الاَعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الاَخبار في ذمّ أهل البيت عليهم السلام ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الاَمويين ، وخلق الفضائل
____________
(1) سفينة البحار 1: 522.
( 112 )
لهم ، وهم الذين ناجزوا الاِسلام في جميع مراحل تأريخهم ، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك ، وانّما عمدت لافتعال الاَخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الاِسلامية ، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الاِسلامية ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها ، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الاَخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير (اللئالي المصنوعة في الاَخبار الموضوعة) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات ، وقد سجّل المحقق الاَميني في (الغدير) أرقاماً لبعض الاَخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث ، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الاِسلام من الكوارث هي الاَخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للاِسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما أثر عنهم من الاَخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الاِسلام.
2 ـ سبّ الاِمام أمير المؤمنين:
وأعلن معاوية رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الاَذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الاِمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب ، وانّما في خطب صلاة الجمعة ، وسائر المناسبات الدينية ، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الاِمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبت أيديهم ، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من
( 113 )
رقاب المسلمين ، فقد برز الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية ، وأقام أركان الحقّ في الاَرض.
لقد عاد الاِمام في جميع الاَعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الانسان ، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الاِنسانية جناية لا تعدلها أية جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الاِنسانية ، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
3 ـ استخدام معاهد التعليم:
واستخدم معاوية معاهد التعليم ، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهم السلام الذين هم المركز الحسّاس في الاِسلام ، وغذّت هذه الاَجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وذريته ، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الاِمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا ، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الاَرض ، وهو أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الاَرض ، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير.
لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لاَهل البيت عليهم السلام واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام
( 114 )
واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والاِسلامي.
إشاعة الظلم
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الاِسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والاِساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الاِرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الاَليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والاِعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم ، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.
لقد عجّت البلاد الاِسلامية من الظلم والجور ، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهم السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسلمت منهم الاَعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لاَهل البيت عليهم السلام .
وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت ، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الاَموية ، لاِنقاذ الاَمة من محنتها ، وإعادة الحياة الاِسلامية بين المسلمين.
( 115 )
منح الخلافة ليزيد
واقترف معاوية أخطر جريمة في الاِسلام فقد منح الخلافة الاِسلامية إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرداً من جميع القيم الاِنسانية ، وغارقاً في الآثام والجرائم وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على دمشق:
نعب الغراب فقلت صح أولا تصح فلقد قضيت من النبي ديوني
نعم لقد استوفى ديون الاَمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه ، وقال مرّة اُخرى:
لست من خندف إذ لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل
هذا هو يزيد في الحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية ، وإزالة الاِسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وسبيه لذراريه.
إغتيال الشخصيات الاِسلامية
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات الاِسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الاِسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتجه إليهم الاَنظار ،
( 116 )
وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم:
1 ـ سعد بن أبي وقاص:
أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الاِسلامية ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله(1).
2 ـ عبد الرحمن بن خالد:
أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبدالرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك(2).
3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر:
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها ، وقال: لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً
____________
(1) مقاتل الطالبيين: 29.
(2) حياة الاِمام الحسين 2: 216.
( 117 )
فقتله(1).
4 ـ الاِمام الحسن:
وأقض الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مضجع ابن هند ، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه ، لاَنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه واستعرض معاوية حاشية الامام وخاصته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الاِمام ، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الاَشعث زوجة الاِمام ، فهي من أسرة لم تنجب شريفاً قطّ ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الاِنسانية ، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها ، وقدم لها الاَموال ، ومنّاها بزواج يزيد ، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة ، فناولها سمّاً فاتكاً ، فأخذته ، ودسّته للاِمام ، وكان صائماً ، ولما وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت إلى الخبيثة ، فقال لها:
« قتلتيني ، قتلك الله ، والله لا تصيبنّ منّي خلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك ، يخزيك الله ويخزيه.. ».
وأخذ سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السم فقد تفاعل مع أجزاء بدنه ، وقد ذبلت نضارته ، واصفّر لونه ، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الاَنبياء.
لقد وافاه الاَجل المحتوم ، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 216.
( 118 )
هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة ، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، واسمعه سبّه ، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه.
تجهيزه
وقام سيّد الشهداء ( صلى الله عليه وآله ) بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره.
فتنة الاُمويين
ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليوارى إلى جنبه ثار الاَمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين « أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً.. ». واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه.. ».
فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ـ لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها.. ».
والتفتت إلى المشيّعين قائلة:
« لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ.. ».
وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت عليهم السلام ، ويتساءل
( 119 )
السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ ابوها عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال:
« نحن معاشر الاَنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » فبيت النبيّ ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وانّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لاَبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية وان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) كبقيّة الاَنبياء يرثه ذرّيته ، فالامام الحسن ( عليه السلام ) هو الذي يرثه لاَنّه سبطه ، أما أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فلا يرثن من البيت ، وانّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء.
وعلى أيّ حال فقد تمادى الاَمويون بالشر ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أو عزوا إلى عملائهم برمي جنازة الاِمام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والاَمويين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى مناجزة الاَمويين ، وتمزيقهم ، فمنعه أخوه الامام الحسين ( عليه السلام ) من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في امره ملَ محجمة من دم.. وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والاِمامة.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الاَحداث المروعة التي حلّت بأخيه الامام أبي محمد ( عليه السلام ) فزهدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله.
معارضة الامام الحسين لمعاوية:
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين
( 120 )
والمعادية لاَهدافهم ، قام أبو الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالاِنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت اجهزة الاَمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتخاذ الاجراءات القاسية ضدّه ان لم يستجب له ، فأجابه أبو الاَحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الاَحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الاِسلامي.
انّ جواب الاِمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية ، فقد وضع الاِمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الاَحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية(1).
مؤتمر الامام الحسين في مكّة
وعقد الاِمام أبو عبدالله الحسين ( عليه السلام ) مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والاَنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس
____________
(1) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الاِمامة والسياسة 1|189 والكشي في رجاله.
( 121 )
قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه:
« أمّا بعد! فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتهم ، وشهدتم ، وانّي أريد أن أسألكم عن شيء ، فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذّبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم ، وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا ، فانّي أتخوّف أن يدرس هذا الاَمر ، ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ».
ويقول سُليم بن قيس: وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً مما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أبيه وأخيه ، وفي نفسه وأهل بتيه إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي: اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه ، وأئتمنه من الصحابة ، فقال ( عليه السلام ) : أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به من تثقون به وبدينه.. »(1).
وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الامام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام وستر فضائلهم ، وقد دعا الاِمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبّيتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاَمة الاِسلامية.
هلاك معاوية
واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة مما اقترفه من
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 228 ـ 229.
( 122 )
الاَحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً: ويلي من ابن الاَدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ ان يومي منه لطويل ، نعم ان يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وانّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد ، وهو الذي حارب دولة الاِسلام ، وأقام الدولة الاَموية التي اتخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الاَحداث والموبقات في الاِسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسبطه الاِمام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت عليهم السلام على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله.
وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الاِسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم.
مَعَ الثورة الحُسيْنيّة
( 124 )
( 125 )
ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) الثورة الاِسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الاَحرار وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الاَرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الانسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان.
وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابية وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً.
لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لاَمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كل موقف من ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كان العبّاس معه ، وشريكاً له ، .. ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباس العلم البارز فيها.
( 126 )
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد
وأعلن الاِمام الحسين ( عليه السلام ) رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الاِمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لانقاذه ، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثم نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة ، فاستمهله الاِمام حتى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد:
« لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، أحبسه فان بايع ، وإلاّ ضربت عنقه.. ».
ووثب أبي الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له:
« يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ ، كذبت والله ولؤمت.. ».
ثم التفت أبو الاَحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه ، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً:
« أيّها الاَمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، **** الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع
( 127 )
مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة.. »(1).
لقد أعلن الاِمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الامارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم ، وإرغامهم على ما يكرهون.
لقد كان أبو الاَحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية ، وعصف بالعقيدة الاِسلامية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الاِسلام عالية في الاَرض.
إلى مكّة المكرّمة
وصمّم أبو الاَحرار على مغادرة يثرب ، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الاَموي الذي يمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه ( صلى الله عليه وآله ) وهو حزين قد أحاطت به الاَزمات فشكى إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى ، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظرات الوداع الاَخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) ثم توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 255.
( 128 )
حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الاَمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه.
وسلك أبو الاَحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعة وثقة في النفس:
« لا والله ما فارقت هذا الطريق ، أو أنظر إلى أبيات مكة حتى يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى.. ».
وانتهى ركب الاِمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب ، وقد احتفى به المكّيون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم ، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الاِمام ( عليه السلام ) لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الاَموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم.
فزع السلطة بمكّة
وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الاِمام إليها ، واتخاذها مقراً لدعوته ، ومركزاً لاِعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الاَشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الاِمام ، وسمع ما يقولونه ان الاِمام أولى بالخلافة الاِسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا
( 129 )
يرجون لله وقاراً ، فخف مسرعاً نحو الاِمام فقال له بغيظ:
« ما أقدمك إلى البيت الحرام؟.. ».
وكأن بيت الله العظيم ملك لبني أميّة ، وليس هو لجميع المسلمين ، فأجابه الاِمام بثقة وهدوء:
« أنا عائذ بالله ، وبهذا البيت... ».
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الامام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وان ذلك يشكّل خطراً على حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الاَشدق فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لاِصلاح الاَمر وحجب الحسين عن مناهضته ، فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين ، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه.
ومكث الاِمام ( عليه السلام ) في مكّة ، والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الاَمويين ، وكانت مباحث الاَمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه.
تحرّك الشيعة في الكوفة
وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة
( 130 )
شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل ، في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الاِمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الاِمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الاَموي ويبسط في بلادهم الاَمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الاِسلامية كما كانت أيّام أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من بين ذلك الوفد عبدالله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم.
رسائل الكوفة
ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوه إلى الاِمام ، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاِسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والاِسلام التي هي غاية آمالهم وحملوا الاِمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم.
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية ، وان الواجب يحتّم عليه إجابتهم.
إيفاد مسلم إلى الكوفة
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الاِمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بُدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ،
( 131 )
وكانت مهمّته خاصة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيين ، ومعرفة أمرهم ، فان صدقوا فيما قالوا توجّه الاِمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن.
ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفوا حوله ، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الاَيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الاِمام بالاِسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاَمة ، .. ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الاَنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للاَنصار ، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.
ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الاَمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكماً حازماً
( 132 )
يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الاَمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون ، وكان دبلوماسياً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الاَوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتولّيه الاِرهابي عبيدالله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الاَوامر المشدّدة بالاِسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة ، والقضاء على مسلم.
سفر ابن زياد إلى الكوفة
وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين ، وقد اعتقدوا بذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره ، فيقتل ، ولما انتهى إلى قصر الامارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنه الامام الحسين ( عليه السلام ) فانبرى يخاطبه بلطف قائلاً:
« ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من ارب »..
فصاح به ابن مرجانة:
« افتح لا فتحت فقد طال ليلك.. ».
( 133 )
وعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير:
« انّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة.. ».
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الاَمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بن الاَشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة ، ويعرفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.
ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الاَعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والاِرهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملاَ السجون بالمعتقلين ، واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد.
ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الاَعمال الاِرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانىَ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لاَهل البيت عليهم السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ، ورحّب به كأعظم ما يكون الترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها.
المخطّطات الرهيبة
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية ، والتغلّب على الاَحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت
( 134 )
قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي:
التجسّس على مسلم
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسية ، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الاَحداث ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لاَهل البيت عليهم السلام ، وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الاِمام الحسين ( عليه السلام ) قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .
ومضى معقل في مهمته ، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيين في الثورة ، فاتصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لاَهل البيت ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ، وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الاَحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها.
( 135 )
اعتقال هانئ
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخططاته ، فقد قام باعتقال هانىَ بن عروة سيد الكوفة ، والزعيم الاَوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الاَكثرية الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والاِرهاب عند جميع الكوفيين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقة وعلى أي حال فان هانىَ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده لاَنّه أحاط أمره بكثير من السرية والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل ، فلما حضر سقط ما في يد هانىَ وأطرق برأسه إلى الاَرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالاَسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته ، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه لاَنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثم أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر.
انتفاضة مذحج
ولمّا شاع اعتقال هانىَ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة ، وقد قاد جموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج ، وهو من أذناب السلطة
( 136 )
ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً:
« أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة.. ».
وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لاِنقاذ هانئ ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الاَموي فأمره أن يدخل على هانئ ، ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً:
« ياللمسلمين أهلكت عشيرتي!! أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، أيخلوني وعدوهم.. ».
والتفت إلى شريح ، وقد سمع أصوات أسرته قائلاً:
« يا شريح انّي لاَظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، انّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني.. ».
وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج:
« نظرت إلى صاحبكم ، انّه حي لم يقتل.. ».
وبادر ابن الحجاج عميل الاَمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً:
« إذا لم يقتل فالحمد لله.. ».
وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانىَ ،
( 137 )
ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته.
لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الاِرهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أن مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة.
ثورة مسلم
ولما علم مسلم ما جرى على هانىَ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبدالله بن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملاَ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ، كما في رواية أخرى ، وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت.. ».
وقام مسلم بتنظيم جيشه فاسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والاِخلاص لاَهل البيت عليهم السلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الاِمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فأخبر أن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لم تكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للاَمويين.
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الاعلام والسيوف ، ودقّت طبول
( 138 )
الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد.
حرب الأعصاب
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل ، وأكثرها ضماناً لاِنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الاَعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف جيش مسلم ، فيذيعون الاِرهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الاَراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي:
أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم.
ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصادية.
ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام.
د ـ إن الحكومة ستعلن فيهم الاَحكام العرفية ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل اشارات الموت والدمار.
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم واضطربت قلوبهم ، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم ، وهم يقولون:
« ما لنا والدخول بين السلاطين.. ».
ولم يمض قليل من الوقت حتى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الاَعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا
( 139 )
منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أن ولاءهم لاَهل البيت عليهم السلام كان عاطفياً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم.
وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارة ، كأنّما أعلن فيها منع التجول ، فقد أغلق الكوفيون عليهم الاَبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الاَمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب.
في ضيافة طوعة
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الاَلم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانهى به السير إلى سيّدة كريمة ، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الاَحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة:
« ما حاجتك؟.. ».
« اسقيني ماءاً.. ».
( 140 )
وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثم جلس فارتابت منه فقالت له:
« ألم تشرب الماء؟.. ».
« بلى.. ».
« اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة.. ».
وسكت مسلم فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت ، فذعرت منه ، وصاحت به:
« سبحان الله!! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بابي.. ».
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات:
« ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم.. ».
وشعرت المرأة بأن الرجل غريب ، وانّه ذو شأن كبير ، ومكانه عظمى ، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة:
« ما ذاك يا عبدالله؟!! »
فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً:
« أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني.. ».
فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار:
« انت مسلم بن عقيل؟. ».
« نعم.. ».
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد
( 141 )
حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتها له.
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الاَسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الاَحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الاِمام الحسين ( عليه السلام ) الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.
ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة ، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالاَمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان والمواثيق بالكتمان ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الاَعراف ، والاَخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف ، وحمايته من كل مكروه ، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الاَخلاقية والانسانية ليس عنده فحسب ، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الاِنسان من القيم الكريمة.
وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ
( 142 )
الاَجل المحتوم منه.
الاِفشاء بمسلم
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الاِمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الاَشعث وهو من الاَسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسره بالاَمر ، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالاَمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً:
« ما قال لك: عبد الرحمن؟.. ».
فقال وقد ملاَ الفرح اهابه:
« أصلح الله الاَمير البشارة العظمى... ».
« ماذاك؟ مثلك من بشّر بخير... ».
« إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة... ».
وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة ، وأخذ يمني ابن الاَشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له:
« قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الاَوفى... ».
وسال لعاب ابن الاَشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لاِلقاء القبض على مسلم.
( 143 )
الهجوم على مسلم
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، محمد بن الاَشعث ، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية ، وينقذهم من ظلم الاَمويين وجورهم.
ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم.
واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم ، وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين ، عدا الجرحى ، وكان من قوته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر ، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الاِنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أشجع الناس ، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة.
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من
( 144 )
فوق سطوح بيوتهم ، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لاَتى عليهم مسلم ، ولكنها كانت في الاَزقة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الاَشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لاَنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندد بقيادة ابن الاَشعث قائلاً:
« سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة... ».
وثقل على ابن الاَشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً:
« أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الاَنام ». وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش ، فجعل بطل الاِسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز:
أقـسمت لا أقـتل إلاّ حرّا وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يـخلط البارد سخناً مرّا ردّ شـعاع الشمس فاستقرا
كـلّ امرىَ يوماً يلاقي شرّاً أخـاف أن أكذب أو أغرا
أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاَباة والاَحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحرية ، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبودية والذل ، لقد أردت أن تحررهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم ، ومقومات حياتهم.
( 145 )
ولمّا سمع ابن الاَشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الاَحرار والاَشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً:
« إنّك لا تكذب ، ولا تخدع ، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضاريّك.. ».
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الاَشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم:
« ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة ، كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الاَبرار ، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذريته.. ».
إنّ هؤلاء الاَجلاف قد فقدوا جميع القيم والاَعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاَمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.
وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الاَشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً:
« يا بن عقيل لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي.. ».
ولم يعن مسلم بأمان ابن الاَشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً:
« يا بن الاَشعث لا أعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً.. ».
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش
( 146 )
القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول:
« اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي.. ».
وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الاَشعث:
« إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة... ».
فحمل الاَوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الاَرض.
أسره
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد أثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الاَقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحررهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلى عبد الاَمويين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته ، وأعطته العهود والمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه.
وانتهى بمسلم إلى قصر الامارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله فقال لهم:
( 147 )
« اسقوني من هذا الماء.. ».
فانبرى له اللئيم الدنس عميل الاَمويين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له:
« أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.. ».
ودلّت هذه البادرة وغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الاِنسانية ، ومن المؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الاَنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له:
« من أنت ، .. ».
فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً:
« أنا من عرف الحق ، إذ تركته ، ونصح الاَمة والامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو الباهلي.. ».
أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والاَكثرية الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه ، قد غرقوا في الباطل والمنكر... ان غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً:
« لامك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي.. ».
وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلما أراد أن يشرب امتلاَ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال: لو كان لي الرزق المقسوم لشربته.
( 148 )
مع ابن مرجانة
وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ، ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً:
« هل تسلّم على الاَمير؟.. ».
فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولاَميره قائلاً:
« اسكت لا أمّ لك ، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه.. »
وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول:
« لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّك مقتول.. ».
إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الاَحرار أمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الاَمة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بين مسلم ، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ.
إلى الرفيق الاَعلى
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم فقال له: خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ، ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الاَرض ،
( 149 )
وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الاِنسان ، وقضاياه المصيرية ، وهو أوّل شهيد من الاَسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبوا لاِنقاذه والدفاع عنه.
إعدام هانئ
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانىَ بن عروة ، فأخرج من السجن ، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً:
« وامذحجاه.. ».
« واعشيرتاه.. ».
ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لاِنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالاَب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة.
وجيء بهانيء إلى ساحة يباع فيها الاَغنام ، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الاِعدام ، فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدم الشهادة.. لقد استشهد هانىَ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الاِسلام.
السحل في الشوارع
وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانىَ في الشوارع والاَزقّة ، وذلك لاِخافة العامة وشيوع الاِرهاب بين
( 150 )
الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والاَمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الاَحكام العرفية في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالاَغنام لاَفظع جريمة عرفها التأريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ).
* * * * *
إلى أرض الشهادة
( 152 )
( 153 )
وغادر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الاِرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالاِضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.
وسار الاِمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام الذين يمثّلون القوة والعزم والاِباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبوالفضل ( عليه السلام ) فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الاَحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.
وواصل الاِمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له:
« بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أعجلك عن الحجّ ؟ ».
( 154 )
فأحاطه الاِمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً:
« لو لم أعجل لاَخذت.. ».
وسارع الاِمام قائلاً:
« من أين أقبلت؟.. »
« من الكوفة.. ».
« بيّن لي خبر الناس.. »
كشف الفرزدق للاِمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً:
« على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ... وربّنا كل يوم هو في شأن.. ».
واستصوب الاِمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الاِسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له:
« صدقت لله الاَمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته » وأنشأ الاِمام هذه الاَبيات:
لـئن كـانت الـدنيا تـعدّ نفيسة فـدار ثـواب الله أعـلى وأنـبل
وان كـانت الاَبدان للموت أنشئت فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل
وان كـانت الاَرزاق شـيئاً مقدراً فقلة سعي المرء في الرزق أجمل
وان كـانت الاَموال للترك جمعها فـما بـال متروك به المرء يبخل
( 155 )
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله.
إنّ التقاء الاِمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.
وصول النبأ بمقتل مسلم
وسارت قافلة أبي الاَحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى (زرود) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين ( عليه السلام ) عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الاِمام عبدالله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الاَسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الاِمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما: إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىَ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الاَسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالاِمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له:
« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ».
ونظر الاِمام إلى أصحابه الممجّدين فقال:
« ما دون هؤلاء سرّ ».
( 156 )
« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس؟.. »
« نعم وأردت مسألته... ».
« والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانىَ ورآهما يجرّان في الاَسواق بأرجلهما.. ».
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الاِمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم:
« ما ترون فقد قتل مسلم؟.. ».
ووثبت الفتية كالاَسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين:
« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.. ».
راح أبو الاَحرار يقول بمقالتهم:
« لا خير في العيش بعد هؤلاء.. ».
وقال متمثلاً:
« سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مـســلمـا
فان مُتّ لم أندم وإن عشت لـــم ألم كفى بك عاراً أن تــذل وتـرغما »
لقد مضيت ـ يا أبا الاَحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع
( 157 )
الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لاَولئك الاَقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.
النبأ المفجع بشهادة عبدالله
وسار موكب الاِمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبدالله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس:
« اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك.. ».
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الاَحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاَمة ، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً:
« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ.. ».
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الاَموي الذي عمد إلى إذلال الاِنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.
( 158 )
ولمّا علم أبو الاَحرار بمصرع عبدالله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً:
« أمّا بعد: فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام.. ».
وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.
لقد صارح الاِمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الاَمر لاَنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.
لقد كان الاِمام ( عليه السلام ) ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالاَمر.
الالتقاء بالحرّ
وسار موكب الاِمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الاِمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الاِمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له:
« لمَ كبّرت؟... »
( 159 )
« رأيت النخل... ».
وأنكر عليه رجل من أصحاب الاِمام ممن عرف الطريق ، فقال له:
« ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل »...
وتأمّلها الاِمام ، فطفق يقول: وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الاِمام أنّها طلائع الجيش الاَموي جاءت لحربه فقال لاَصحابه:
« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد.. ».
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له:
« بلى هذا ذو حُسم(1) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد.. ».
ومال موكب الاِمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الاِمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الاِمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الاِمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملاَون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.
____________
(1) ذو حسم: ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك.
( 160 )
لقد تكرّم الاِمام ( عليه السلام ) على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الاَريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.
خطاب الاِمام في الجيش
وخطب الاِمام ( عليه السلام ) خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والاِسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف:
« أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.. ».
وأحجموا عن الجواب لاَن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.
وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الاِمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له:
« أتريد أن تصلّي بأصحابك؟.. ».
فقال الحرّ بأدب:
( 161 )
« بلى نصلّي بصلاتك.. ».
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:
« أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لاَهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الاَمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم... ».
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لاَنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهم السلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الاِسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الاِمام فقال له:
« ما هذه الكتب التي تذكرها؟.. ».
فأمر الاِمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للاِمام:
« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك... ».
( 162 )
ورام الاِمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له:
« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد.. ».
ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك.. ».
وأمر الاِمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين:
« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟.. ».
واطرق الحرّ برأسه إلى الاَرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:
« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه.. ».
وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول:
« ما تريد منّا..؟ »
« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد.. ».
« والله لا أتبعك.. ».
« إذن والله لا أدعك.. ».
وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للاِمام:
« إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».
( 163 )
واتفقا على هذا الاَمر فتياسر الاِمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الاِمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.
خطاب الإمام
وانتهى موكب الاِمام إلى (البيضة) فألقى الاِمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:
« أيّها الناس: إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله »..
« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم.. ».
وأعلن أبو الاَحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على
( 164 )
حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والاَغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الاَحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد ( عليه السلام ) بالاَمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والاِمام ( عليه السلام ) أحقّ وأولى من غيره بتغيير الاَوضاع الراهنة وإعادة الحياة الاِسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الاِمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الاِمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:
« أنّي أذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ... ».
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:
« أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول: كما قال أخو الاَوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نـوى خـيراً وجاهد مسلماً
ووآس الـرجال الـصالحين بنفسه وخـالف مـثبوراً وفـارق مجرما
فـان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم كـفى بـك ذلاً أن تـعيش وترغما
( 165 )
ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لاِنقاذ المسلمين من ويلات الاَمويين وجورهم:
رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ
وتابعت قافلة الاِمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:
« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.. ».
وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الاِمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الاَحداث ، وانقلاب الاَوضاع إليه ان وصل الاِمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الاِمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لاَنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الاِمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الاِمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.
في كربلاء
وكان ركب الاِمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:
« ما اسم هذا المكان ؟. . ».
« كربلاء.. ».
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول:
« اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء.. ».
وأيقن الاِمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً:
« هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، وسفك دمائنا.. ».
وسارع أبوالفضل العباس مع الفتية من أهل البيت عليهم السلام ، وسائر الاَصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الاَحداث الرهيبة على صعيد هذه الاَرض.
ورفع الاِمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً:
« اللهمّ.. انّا عترة نبيّك محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد أخرجنا ، وطردنا ، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين.. ».
( 167 )
وأقبل الاِمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم:
« الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون.. ».
يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.
ثم حمد الامام ( عليه السلام ) الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً:
« أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت ، وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاِناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما.. »(2).
لقد أعلن أبو الاَحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته... وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الاَمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الاِسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن
____________
(1) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 98.
( 168 )
القين وهو من أفذاذ الاَحرار فقال له:
« سمعنا يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاِقامة فيها.. ».
ومثلت هذه الكلمات شرف الاِنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الاَحرار من الولاء لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والتفاني في سبيله ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو برير الذي وهب حياته لله ، فقال له:
يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.. ».
ولا يوجد في البشرية مثل هذا الاِيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الاَعظم يوم يلقى الله.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الاَبطال من أصحابه ، فقال:
« أنت تعلم أن جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان شئت أو مغرباً ، فوالله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على
( 169 )
نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.. »(1).
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للاَحداث ودراسته لاَبعادها فقد أعرب أن الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الاِيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الاِسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الاِمام الحسين ( عليه السلام ) كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الاِيمان من قلوبهم.
وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الاِمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الاِخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.
خروج الجيوش لحرب الاِمام الحسين
وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الاَرجاس من أذنابه
____________
(1) مقتل المقرم : 231.
( 170 )
وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.
وعرض ابن مرجانة سليل الاَدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم خيرة من في الاَرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.
خطبة ابن زياد
وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الاَعظم فهرعوا كالاَغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلاَ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:
« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالاَموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا.. »(1).
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون
____________
(1) الطبري 6: 230.
( 171 )
أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.
واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.
احتلال الفرات
وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الاَرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم من خيرة ما خلق الله.
ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(1) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الاِمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله ، وهم ينادون: العطش ، العطش ، وذاب قلب الاِمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ، وجفّ لبن المراضع ، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:
وذئــاب الـشرور تـنعم بـالماء وأهــل الـنبيّ مـن غـير مـاء
يـالظلم الاَقـدار يـظمأ قلب الليث والـلـيث مـوثـق الاَعـضـاء
وصغار الحسين يبكون في الصحراء يــا ربّ أيـن غـوث الـقضاء
____________
(1) مرآة الزمان في تواريخ الاَعيان : 89 .
( 172 )
لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لاِنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والاَعراف ، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والاَطفال فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الاِسلامية ، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الاَموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:
« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه.. »(1).
واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً:
« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.. »(2).
وكان هذا الوغد الاَثيم ممن كاتب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالقدوم إلى الكوفة.
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبدالله بن الحصين الاَزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً:
« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
(2) أنساب الاَشراف 3: 182 ، تأريخ ابن الاَثير 4: 236.
( 173 )
حتى تموت عطشاً.. ».
فرفع الاِمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:
« اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً.. »(1).
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.
سقاية العباس لاَهل البيت
والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء ، وأخذه بالقوة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً ، وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:
« ما جاء بك؟.. ».
« جئنا لنشرب الماء الذي حلاَتمونا عنه.. »
« اشرب هنيئاً.. ».
« أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه؟. ».
« لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء.. ».
____________
(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي: 86.
( 174 )
ولم يعن به الاَبطال من أصحاب الاِمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملاَوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء.
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت ، وانقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب (السقاء) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الاَلقاب وأعزّها عنده(1).
أمان الشمر للعباس وأخوته
وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لاَبي الفضل وأخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ، ويفردهم عن أخيهم أبي الاَحرار ، وبذلك يضعف جيش الاِمام ، لاَنّه يخسر هؤلاء الاَبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب ، وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً:
« أين بنو أختنا العباس واخوته؟.. ».
وهبّت الفتية كالاَسود ، فقالوا له:
« ما تريد يابن ذي الجوشن؟.. ».
فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:
« لكم الاَمان.. ».
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
( 175 )
وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله:
« لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا أمان له... »(1).
وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الاَماجد اخوة الاِمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أن أخوة الحسين ( عليه السلام ) من أفذاذ الدنيا ، الذين صاغوا الكرامة الاِنسانية ، وصنعوا الفخر والمجد للاِنسان.
زحف الجيوش لحرب الحسين
وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، بعد أن صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الاِمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فايقظته ، فرفع الاِمام رأسه فرأى أخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات:
« إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ، فقال: إنك تروح إلينا.. ».
وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول:
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 176 )
« يا ويلتاه... »(1).
والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:
« أتاك القوم.. ».
وطلب الاِمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:
« اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم ، فتقول لهم: ما بدا لكم ، وما تريدون؟.. ».
لقد فدى الاِمام ( عليه السلام ) اخاه بنفسه ، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وانه قد بلغ قمّة الاِيمان ، وأعلى مراتب المتقين... وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له:
« جاء أمر الاَمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم... »(2).
وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:
« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلى رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقد قتلوا ذريته ، وأهل بيته ، المتهجّدين بالاَسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الاَتقياء الاَبرار.. »(3).
وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:
____________
(1) ابن الاَثير 3: 284.
(2) البداية والنهاية 8: 177.
(3) حياة الاِمام الحسين 3 : 172 .
( 177 )
« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك.. ».
وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له: « أتق الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة ، عترة خيرة الاَنبياء.. ».
فأجابه عزرة:
« كنت عندنا عثمانياً فما بالك ، .. ».
فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والاِيمان:
« والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعرفت ما تقدمون من غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا ، فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .. »(1)
لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الاِمام بالقدوم إلى الكوفة لاَنّه كان عثماني الهوى ، ولكنه حينما التقى بالاِمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الاِمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لاَنّ الاِمام من ألصق الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له:
« ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة ،
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 178 )
وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار... ».
لقد أراد ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.
ورجع أبو الفضل ( عليه السلام ) إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الاِمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.
ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والاِحجام عن إجابة الاِمام قائلاً:
« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.. »(1).
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الاَشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الاِمام ورفع صوته قائلاً:
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 285.
( 179 )
« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الاَمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم... »(1).
وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الاِمام أو يرفض ما دعوه إليه.
الاِمام يأذن لاَصحابه بمفارقته
وجمع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الاَرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:
« أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء... اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين.
أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الاَعداء غداً ، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 165.
( 180 )
القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري... »(1).
وتمثّلت روعة الاِيمان ، وسرّ الاِمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الاَحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الاَمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتخذونه ستراً دون كل عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.
جواب أهل البيت
ولم يكد يفرغ الاِمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيت عليهم السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثلهم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) فخاطب الاِمام قائلاً:
« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً.. ».
والتفت الاِمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم:
« حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم... ».
وهبّت فيتة آل عقيل كالاَسود تتعالى أصواتهم ، قائلين:
« إذن ما يقول الناس: ، وما نقول: ، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني
____________
(1) ابن الاَثير 3: 285.
( 181 )
عمومتنا خير الاَعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك... »(1).
لقد صمّموا على حماية الاِمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الاَسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.
جواب أصحابه
أمّا أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للاِمام ( عليه السلام ) الفداء والتضحية دفعاً عن المبادىَ المقدّسة التي ناضل من أجلها الاِمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الاِمام قائلاً:
« أنحن نخلّي عنك ، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك ، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك.. ».
لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الاَخير من حياته.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو سعيد بن عبدالله الحنفي فخاطب الاِمام قائلاً:
« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فيك ، أما والله لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أذرى يفعل بي ذلك
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 238.
( 182 )
سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا... ».
وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الاِمام ( عليه السلام ) ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة ، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.
وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً:
« والله لوددت أنّي قُتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة ، وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.. »(1).
أرأيتم وفاء هؤلاء الاَبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.
وأعلن بقيّة أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الاَعلى ، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً:
« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله.. »(2).
لقد أُترعت نفوس هؤلاء الاَبطال بالاِيمان العميق ، فتحرّروا من
____________
(1 و2) حياة الاِمام الحسين 3: 168 ـ 169.
( 183 )
جميع ملاذ الحياة ولهوها ، واتجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون.
إحياء الليل بالعبادة
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل.
وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.
* * * * *
يوم عاشوراء
وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الاَحزان.
دعاء الامام:
وخرج أبو الاَحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لاِراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الاَجر الزهيد من الاِرهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الاِمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً:
« اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وكفيته ،
( 185 )
فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة.. »(1).
لقد أناب الاِمام إلى الله ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.
خطبة الاِمام
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة ، فدعا براحلته فركبها ، واتجه نحوهم ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج ، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:
« أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون ، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.. ».
وحمل الاَثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العباس ، وابنه عليّاً ، وقال لهما:
سكّتاهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ ، ولما سكتن استرسل في خطابه
____________
(1) تأريخ ابن عساكر 13: 14.
( 186 )
فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وعلى الملائكة والاَنبياء ، وقال في ذلك: ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ، ولا بعده أبلغ منه في منطقه(1).
وكان مما قاله:
« أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتنته ، فلا تغرنّكم هذه الدنيا ، فانها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ».
لقد وعظ الاِمام ( عليه السلام ) أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الاَنبياء ومحنتهم في أممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته ، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الاَليم ، والسخط الدائم ، ثم استرسل الاِمام الممتحن في خطابه فقال:
« أيّها الناس: انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم ، وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي ، وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأول المؤمنين بالله ، والمصدق
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 242.
( 187 )
لرسوله ، بما جاء من عند ربّه ، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الطيّار عمّي ، أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة » فان صدّقتموني بما أقول: وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الاَنصاري ، وابا سعيد الخدري ، وسهل ابن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، .. ».
وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الاِمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه ، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الاَموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله.
وتصدّى لجواب الاِمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له:
« هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.. ».
وحقاً انه لم يع ما يقول الاِمام فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له:
« والله انّي لاَراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.. ».
( 188 )
والتفت الاِمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم:
« فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ، ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة.. ».
وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثم التفت الاِمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم:
« يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الاَشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار ، وأخضر الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة... ».
وأنكر أُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للاِمام ، فقالوا له « لم نفعل ذلك.. ».
وبهر الاِمام من ذلك وراح يقول:
« سبحان الله!! بلى والله لقد فعلتم.. ».
وأعرض الاِمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً:
« أيّها الناس: إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الاَرض.. ».
وتصدّى لجوابه قيس بن الاَشعث وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له:
« أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فانّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه.. ».
فردّ عليه الاِمام قائلاً:
( 189 )
« أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.. »(1).
ومثلت هذه الكلمات عزّة الاَحرار وشرف الاَباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام.
وتكلّم أصحاب الاِمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الامويين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة ، وقتالهم لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
خطاب آخر للامام الحسين
وانبرى سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الاَموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالاَمر ، فانطلق ( عليه السلام ) نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الاَنبياء والاَوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال:
« تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ(2) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُمْ(3)
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 43.
(2) موجفين: أي مسرعين إليكم.
(3) حششتم: أي أوقدتم النار.
( 190 )
عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(1) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ.
مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ(2) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا(3) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ(4).
فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الاَُْمَّةِ ، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ.
أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ؟!
أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ(5) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ(6) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ.
أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ(7) وَالذِّلَةِ ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ: مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ.
____________
(1) إلبا: أي قوة لاَعدائكم ، وذلك باجتماعهم.
(2) مشيم: أي السيف في غمده لا يسل.
(3) الدبا: بفتح الدال ، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير.
(4) الفراش: جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها.
(5) وشجت: أي التفت عليه أصولكم.
(6) تأزرت: أي نبتت عليه فروعكم.
(7) السلة: بكسر السين استلال السيوف.
( 191 )
أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الاَُْسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ».
ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ ( عليه السلام ) بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي:
« فَـإِنْ نَهْزِمْ فَهَزّامُونَ قِدْماً وَإِنْ نُـغْلَبْ فَـغَيْرُ مُغَلِّبينا
وَمـا إِنْ طِـبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ مَـنايانا وَدَوْلَـة آخَـرينا
إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ كَـلاكِـلَهُ أَنـاخَ بِـآخِرينا
فَـأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ قَوْمي كَـما أَفْنى الْقُرُون الاََْوَّلينا
فَـلَوْ خِلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنا وَلَـوْ بَـقِيَ الْكِرامُ إِذاً بَقينا
فَـقُلْ لِـلشّامِتينَ بِنا: أَفيقُوا سَيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا »
ثُمَّ قالَ: « أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ. إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها ، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ. أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ».
ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الاِمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه ، فقد استهان بأولئك الاَقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم ، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على
( 192 )
عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم ، كما أعلن الاِمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والممثّل الاَعلى للكرامة الاِنسانية ، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته ، وكرامة الاَمة.
وقد أخبرهم الاِمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة ، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الاَليم ، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الاِمام حتى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الاِسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلاّ القليل.
وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الاَرض.
استجابة الحرّ
واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الاِمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الاَموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ،
( 193 )
فصمم على الالتحاق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له:
« أمقاتل هذا الرجل ، .. ».
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد:
« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الاَيدي.. ».
لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ:
« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا.. ».
واندفع ابن سعد قائلاً:
« لو كان الاَمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك.. ».
ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الاِمام عزم على الالتحاق بمعسكر الاِمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له:
« والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، .. ».
وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً:
« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .. ».
وألوى بعنان فرسه نحو الاِمام(1) وكان مطرقاً برأسه إلى الاَرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الاِمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 244.
( 194 )
على خدّيه قائلاً:
« اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أباعبدالله إنّي تائب فهل لي من توبة.. ».
ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الاِمام ليمنحه التوبة قائلاً:
« جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، .. ».
واستبشر به الاِمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له:
« نعم يتوب الله عليك ويغفر.. »(1).
وملاَ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الاِمام في ذلك ، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته:
« يا أهل الكوفة لاَمكم الهبل(2) والعبر(3) أدعوتموه حتى إذا أتاكم
____________
(1) الكامل 2: 288.
(2) الهبل: الثكل.
(3) العبر: البكاء وجريان الدمع.
( 195 )
اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن ، ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالاَسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه... »(1).
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الاَرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.
____________
(1) الكامل 3 : 229 .
* * * * *
الحرب
( 198 )
( 199 )
وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الاِمام ، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالاِمام ، فزحف الباغي الاَثيم نحو معسكر الاِمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الاِمام ، وهو يصيح:
« اشهدوا لي عند الاَمير أنّي أوّل من رمى الحسين.. ».
واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للاَمويين ، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.
وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الاِمام ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها ، والتفت الاِمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً:
« قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم.. ».
وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الاِمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق ، وأن الجيش الاَموي على ضلال ، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.
لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) مع عشرات الآلاف من الجيش الاَموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة
( 200 )
كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الاَلباب.
الحملة الاُولى
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الاَموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الاَرواح والمعدّات.
وقد استشهد نصف أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) في هذه الحملة(1).
المبارزة بين المعسكرين
ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الاَعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً:
« يا حمقى أتدرون من تقاتلون ، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 203.
( 201 )
وقوماً مستميتين ، فلا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتلوه ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم.. »(1).
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الاِمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوة الاِرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الاِمام ( عليه السلام ) إلاّ على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما انّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة.
لقد توفرت في أصحاب الاِمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الاِيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون: ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم(2) وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الاِمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفاً(3)ول وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً:
« ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ».
وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى ، وقال:
« سبحان الله شيخ مضر ، وأهل المصر عامة ، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري!!. ».
____________
(1 و2) أنساب الاَشراف 3: 192.
(3) حياة الاِمام الحسين 3: 211.
( 202 )
ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفَّفة وخمسمائة من الرماة ، فسددوا لاَصحاب الحسين ( عليه السلام ) السهام فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلاّ استبسالاً في القتال ، واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار(1).
أداء فريضة الصلاة
وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده وهي أداء صلاة الظهر ، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الاِمام قائلاً:
« نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها.. ».
لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه.
ورفع الاِمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فراى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له:
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
( 203 )
« ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها.. »
وأمر الاِمام ( عليه السلام ) أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً: « أنها لا تقبل » فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية:
« زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقبل منك يا حمار!! ».
وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه(1).
واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الاِمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الاِمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبدالله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الاِمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الاِمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدمه وهو يقول:
« اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك.. »
والتفت إلى الاِمام قائلاً له بصدق وإخلاص:
« أوفيت يا بن رسول الله؟. ».
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
( 204 )
فأجابه الاِمام شاكراً له:
« نعم أنت أمامي في الجنّة.. ».
وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الاِمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن(1) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والاِيمان ، والولاء للحقّ.
مصرع بقيّة الاَنصار
وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الاِمام من شيوخ وشباب ، وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف واطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لاَي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة ، ويشعرون بالفخار.
وقد وقف الاِمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول:
« قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين.. »(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الاَمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للاِنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.
____________
(1) مقتل الحسين للمقرم : 297.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 239.
( 205 )
وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الاَنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الاِرادة والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الاَموي.
مصارع آل النبيّ
وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّت أبناء الاَسرة النبوية كالاَسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة ، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلقاً عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ ، ولما رآه الاِمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض:
« اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه... اللهمّ امنعهم بركات الاَرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا... ».
لقد تجسّدت صفات الرسول الاَعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الاِمام ( عليه السلام ) على ولده ، فصاح بابن سعد:
( 206 )
« مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم تلا قوله تعالى: (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ«33» ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1).. ».
وشيّع الاِمام ( عليه السلام ) فلذة كبده وهو غارق بالاَسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وشجاعة جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الاَعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً:
أنا عليّ بن الحسين بن علي نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي(2)
أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الاَمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الاَدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.
وأعلن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاَباة في الاَرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر
____________
(1) سورة آل عمران: 33.
(2) تأريخ ابن الاَثير 3: 293.
( 207 )
عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون: انّه ذكرهم ببطولات جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً(1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الاَخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً:
« يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الاَعداء ، .. ».
والتاع الاِمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً:
« واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً.. ».
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه(2).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق:
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي
كُـلِّ حـشاشتـه كـصالية الغضا ولسـانه ظـمأ كـشقّة مبـرد
____________
(1 و2) مقتل الخوارزمي 2: 30.
( 208 )
فانصاع يؤثره عليه بريقه لو كان ثمة ريقة لم يجمد
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة ... وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحـرب قد بانت لها حقائق وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق جموعكم أو تغمد البوارق (1)
لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق .
وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين (2) وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (3) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله فطعنه بالرمح في ظهره
____________
(1) حياة الامام الحسين 3 : 247 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 : 31 .
(3) مقتل المقرم : 316 .
( 209 )
وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
« عليك مني السلام أبا عبدالله ، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة ... ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق :
« قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا ... » (1) .
وكان العباس عليه السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبي صلى الله عليه وآله زينب عليها السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :
____________
(1) نسب قريش : 57 .
( 210 )
« وابن أخاه ... » .
« واثمرة فؤاداه .. » .
وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى :
« على الدنيا بعدك العفا يا ولدي ... » .
لك الله يا أبا عبدالله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم .
مصارع آل عقيل
وهبت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذب عنه ، فقال :
« اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة ... » (1).
وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل واندبي إن ندبت آل الرسول
____________
(1) حياة الإمام الحسين 3 : 249 .
( 211 )
سبعة كلهم لصلب علي قد أصيبوا وتسعة لعقيل (1)
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
مصارع أبناء الحسن
وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد عليه السلام إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب .
وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمي وأنا حي » (2) .
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وانطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون
____________
(1) المعارف : 204 .
(2) حياة الإمام الحسين 3 : 255 .
( 212 )
إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له :
« سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... » .
فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته :
« يا عماه أدركني .. ».
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
« بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره ... » (1).
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (2) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ،
____________
(1) البداية والنهاية 8 : 186 .
(2) حياة الامام الحسين 3 : 256 .
( 213 )
وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
« اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ... » (1) .
وبرز من بعده عون بن عبدالله بن جعفر ، ومحمد بن عبدالله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله زينب الكبرى عليها السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهم السلام إلا أخوة الإمام الحسين عليه السلام وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس عليه السلام وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .
****
____________
(1) مقتل الخوارزمي 2 : 28 .
على ضفاف العلقمي
( 216 )
( 217 )
وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أن المنيّة قد اختطفته ، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلاّ أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للاِيمان واصطفاهم على عباده.
ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الاَمويين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة ، وعقائل النبوة ، وهنّ يلطمن وجوههن ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أُولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ... ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الاِمام الحسين عليه السلام قد أحاطت به أوغاد اهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الاَدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله .
ونعرض ـ يإيجاز ـ إلى شهادته وما رافق ذلك من أحداث.
العباس مع أخوته
وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم السلام
( 218 )
فقال لهم :
«تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله ، فانه لا ولد لكم...»(1).
لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبدالله فقال له:
«تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، واحتسبك..»(2).
واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه السلام .
قول رخيص
ومن أهزل الاَقوال ، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الاَثير ان العباس عليه السلام قال لاَخوته: «تقدّموا حتى أرثكم ، فانه لا ولد لكم..»(3).
لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الاِسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى ، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الاَمويين ، وهو يستغيث فلا يغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة ، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من
____________
(1) الارشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 82.
(3) تأريخ ابن الاَثير 3: 294.
( 219 )
الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الاَمويين ، وبالاضافة لهذا كله فان السيدة أم البنين أم السادة الاَماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لاَنها من الطبقة الاَولى لو كان لاَبنائها أموال فان أباهم الاِمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الاَموال... ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه السلام «حتّى أثأركم..» أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه.
مصارع اخوة العبّاس
واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد برز عبدالله ابن أمير المؤمنين عليه السلام والتحم مع جيوش الامويين وهو يرتجز:
شيخي علي ذو الفخار الاَطول من هاشم الخير الكريم المفضل
هـذا حسين بن النبي المرسل عـنه نحامي بالحسام المصقل
تـفديه نـفسي مـن أخ مبجّل يا رب فامنحني ثواب المنزل
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الامام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله ووصيه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين عليه السلام ، وقد أعلن أنّه انّما يدافع عنه لاَنّه ابن النبيّ صلى الله عليه وآله ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة.
ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله(1).
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 262.
( 220 )
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل يقاتل قتال الاَبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله(1).
وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبيدالله بن مرجانة(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم.
ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الاَعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الاِيمان ، وأخذ يتذكّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله.
مصرع أبي الفضل
ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات:
«أنت صاحب لوائي..».
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل
____________
(1) الاِرشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 83.
( 221 )
قائلاً:
« لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم..».
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:
«يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول: « دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..».
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:
يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ،
( 222 )
وينادون:
«العطش العطش..».
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسيـن وارد المنـون وتشربيـن بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ان الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية.
ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى الله عليه وآله ،
( 223 )
وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
لا أرهـب الموت اذ المـوت زقا حتى أواري في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا إني أنا العبـاس أغـدو بالسقا
ولا أخاف الشرّ يــوم الملتقى
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ صلى الله عليه وآله .. وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
والله ان قطعتـم يميني انّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الاَمين
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف
( 224 )
الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً:
«عليك منّي السلام أبا عبدالله...».
وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:
«الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ...».
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه بـين الـخيام وبـينه مـتقسم
ألـفاه مـحجوب الـجمال كأنّه بـدر بـمنحطم الـوشيج ملثم
فـأكب مـنحنياً عـليه ودمعه صـبغ الـبسيط كأنّما هو عندم
قـد رام يـلثمه فلم ير موضعاً لـم يـدمه عضّ السلاح فيلثم
نـادى وقد ملاَ البوادي صيحة صـم الـصخور لـهولها تتألّم
أأخـي يـهنيك النعيم ولم أخل تـرضى بأن أرزى وأنت منعم
أأخـي مـن يحمي بنات محمد اذ صرن يسترحمن من لا يرحم
( 225 )
مـا خـلت بعدك أن تشلّ سواعدي وتـكف بـاصرتي وظهري يقصم
لـسـواك يـلطم بـالاَكف وهـذه بـيض الـضبا لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي إلاّ كـمـا أدعـوك قـبل وتـنعم
هـذا حـسامك مـن يذلّ به العدا ولــواك هـذا مـن بـه يـتقدم
هـونت يا باابن أبي مصارع فتيتي والـجرح يـسكنه الـذي هـو آلم
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزري وضع الاِمام عليه السلام بقوله:
وهـوى عـليه مـا هـنالك قائلاً الـيوم بـان عـن اليمين حسامها
الـيوم سـار عن الكتائب كبشها الـيوم بـان عـن الـهداة امامها
الـيوم آل إلـى الـتفرق جـمعنا الـيوم حـلّ عـن البنود نظامها
الـيوم نـامت أعـين بك لم تنم وتـسهّدت أخـرى فـعز منامها
اشقيق روحي هل تراك علمت ان غـودرت وانـثالت عليك لئامها
قد خلت اطبقت السماء على الثرى أو دكـدكت فـوق الربى أعلامها
لـكن أهـان الخطب عندي انني بـك لاحـق أمـراً قضى علامها
ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة:
«أين عمّي أبو الفضل ، ..».
فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ،
( 226 )
وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح:
«وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك...».
يالهول الفاجعة.
يالهول الكارثة.
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً:
«واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل...».
لقد شعر أبو عبدالله عليه السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
وداعاً يا قمر بني هاشم.
وداعاً يا فجر كل ليل.
وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً.
* * * * *
(وَلاَ تَحْسَبنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ ألا خَوْفُ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
الإهـداء
إلى ... الفاتح العظيم الذي احتلّ قلوب الناس وعواطفهم.
إلى ... أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان.
إلى ... أبيّ الضيم ، وسيّد الشهداء الاِِمام الحسين ( عليه السلام ) .
أرفع ـ بتواضع ـ هـذه الدراسة عن حياة أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الذي جسّد في سلوكه مع أخيه الحسين حقيق الاَخوة الصادقة ، ففداه بنفسه ، ووقاه بمهجته ، راجياً التفضّل عليَّ بالقبول.
( 9 )
بين يديك
يا قمر بني هاشم وفخر عدنان
أنت ـ يا قدوة الثوار والاَحرار ـ قد تألقت في سماء هذا الشرف ، رمزاً للبطولات ، وعنواناً للتضحية والفداء ، فقد رأيت الحكم الاَموي السحيق يسوس المجتمع نحو الدمار الشامل ، يسحق الكرامات ، ويقضي على الحريات ، ويمتصّ الاَقوات ويقود المجتمع إلى حياة بائسة لا ظلّ فيها للعدل الاجتماعي والعدل السياسي ، فرفعت راية التحرير مع أخيك أبي الاَحرار وسيّد الشهداء عليه السلام الذي جسّد آمال الشعوب وطموحاتها ، وسعى لتحرير إرادتها ، وإعادة كرامتها.
لقد وقفت مع أخيك في خندق واحد فرفعتما كلمة الله الهادفة إلى كرامة الاِنسان ، وبناء حياة آمنة مستقرّة لا ظلّ فيها للظلم والطغيان.
أمّا أنت ـ يا أبا الفضل ـ فكنت هبة من الله لهذه الاَمّة ، فقد فتحت لها آفاقاً مشرقة من الحرية والكرامة ، وعلّمتها أنّ التضحية يجب أن تكون خالصة لله ، وبعيدة كلّ البعد عن الرغبات والعواطف وسائر الميول التي مآلها إلى التراب ، وبهذه الروح الاِسلامية الاَصيلة كانت تضحيتك ـ يا أبا
( 10 )
الفضل ـ فقد اتّسمت بالدفاع عن الحق ، والذبّ عن القيم والمبادئ ـ وهذا هو السرّ في خلود تضحيتك ، وتفاعلها مع عواطف الناس على امتداد التاريخ.
أمّا أنت ـ يا قمر بني هاشم ـ فقد أقمت صروح الحق في دنيا العرب والاِسلام وشيّدت للمسلمين مجداً شامخاً بنصرتك لاَخيك سيّد الشهداء ، الذي نافح من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية في الاَرض وتوزع خيرات الله على المضطهدين والمحرومين ، وتحمّلت معه أعباء هذه الرسالة ، وبهذا كنت مع أخيك ، وسائر الشهداء الممجدين من أهل البيت وأنصارهم الطلائع المقدّسة لشهداء الحق في جميع أنحاء الاَرض.
( 11 )
تقديم
[1]
وبرز أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) على مسرح التاريخ الاِسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الاِنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الاَخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الاَرض.
لقد أبدى أبو الفضل يوم الطف من الصمود الهائل ، والارادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه ، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد ، وهزمهم نفسيّاً ، كما هزمهم في ميادين الحرب.
ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور ، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم ، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت ، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الاَفئدة والقلوب ، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً. انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز
( 12 )
والفخر ليس له وللمسلمين فحسب ، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته ، ويخضع لقيمها الكريمة.
[2]
وبالاِضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة ، والنزعات العظيمة ، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة ، فقد واسى أخاه أبا الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في أيام محنته الكبرى ، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته ، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان ، وزاده هدى.
[3]
ومثَّل أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) في سلوكه مع أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حقيقة الاَخوّة الاِسلامية الصادقة ، وأبرز جميع قيمها ومثلها ، فلم يبق لون من ألوان الاَدب ، والبرّ والاِحسان إلاّ قدّمه له ، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له ، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب ، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الاِمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت عليهم السلام ، فدفعه شرف النفس ، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده ، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة ، تصفّحوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الاَخوّة الصادقة؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل ، ومثل هذا الاِيثار؟!
( 13 )
الله أكبر أي رحمة مثل هذه الرحمة ، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة!!
إن الاِنسانية بجميع قيمها ومثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لاَخيه الاِمام الحسين أبي الاَحرار وسيّد الشهداء ( عليه السلام ) .
[4]
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لاَخيه الاِمام الحسين ، أنّها لم تكن بدافع الاَخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس ، وانّما كانت بدافع الاِيمان الخالص لله ، ذلك الاِيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل ، وصار عنصراً من عناصره ، ومقوّماً من مقوّماته ، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس ، قائلاً:
والله إن قطعتم يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
ان الرجز في تلك العصور كان يمثّل الاَهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يقاتل الشخص ، ويستشهد في سبيلها ، ورجز سيّدنا العباس ( عليه السلام ) صريح واضح في أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن الدين ، ودفاعاً عن المبادئ الاِسلامية الاَصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام الحكم الاَموي الاَسود ، كما أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين سبط رسول الله وريحانته الاِمام الحسين المدافع الاَوّل عن كرامة الاِسلام ، فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية ، وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السرّ
( 14 )
في جلال تضحيته ، وخلودها عبر القرون والاَجيال.
[5]
لقد استشهد أبو الفضل العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الاَحرار أخوه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا الشرق حكم القرآن ، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الاَرض ، فليست هي لقوم دون آخرين.
لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للاِنسان المسلم حرّيته وكرامته ، وينشر بين الناس رحمة الاِسلام ، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور ، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع ، والخوف.
لقد حمل أبو الفضل مشعل الحرية والكرامة ، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف ، وميادين العزّة ، والنصر للشعوب الاِسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور.
لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الاَرض ، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس.
[6]
وفجّر الاِمام أبو الاَحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأولي الاَلباب ، فدكّ بها حصون الظلم ، وقلاع الجور.
ولم يفجّر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً ،
( 15 )
ولا ظالماً ، ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الاَمة من جرّاء الحكم الاَموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين ، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق ، فقد عجّت البلاد الاِسلامية بجميع صنوف الجور والاِرهاب ، وكان من أعظمها محنة وأشدّها بلاءً البلاد الخاضعة لحكم زياد بن أبيه ، والي معاوية على العراق ، وأخيه اللاشرعي ، الذي أجّج نار الفتنة ، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، فأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وقتل على الظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك ، وطبّقه بالفعل على الحياة العامة بين الناس.
[7]
وأن سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمل الاِسلام ، والمسؤول الاَوّل عن رعاية المسلمين ، وصيانة حياتهم والواقع الاجتماعي الذي تعيشه الاَمة ، والذي ينذر بخطر عظيم على حياتها العقائدية ، والفكرية والاجتماعية ، فقد تحكّم في مصيرها جبابرة الاَمويين ، وطغاة الرأسمالية القرشية ، التي حملت معول الهدم على جميع ما أسّسه الاِسلام من مجد أصيل وخلق رفيع للاَمة ، بالاِضافة إلى أنّها أخذت تستنزف الموارد الاقتصادية في العالم الاِسلامي ، وتنفقها على شهواتها ، ورغباتها الخاصة ، فهبّ أبو الاَحرار لاِنقاذ المسلمين ، وإعادة الحياة الكريمة لهم ، فما أعظم عائدته على الاِسلام ، وما أكثر ألطافه وأياديه على المسلمين.
[8]
ان ملحمة كربلاء من أهم الاَحداث العالمية ، بل ومن أهمّ ما حققته
( 16 )
البشرية من إنجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان ، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الاِسلامية ، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان.
لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الاَحرار ، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبودية والذلّ ، وإنقاذه من الحكم اللاشرعي.
[9]
لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة ، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة ، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان ، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء.
ان من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنه جرّد الحكم الاَموي من الشرعية ، وأنّه لا يمثّل الاِسلام ، ولا المسلمين بأي حال من الاَحوال ، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الاَمة واختيارها.
لقد وضع أبو الاَحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الاَموي ففجّرتها ، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم ، وظلّوا مثلاً أسوداً لكل حكم منحرف عن سنن الحق والعدل.
[10]
لقد أيقظت ثورة أبي الاَحرار الشعوب الاِسلامية من تخديرها وسباتها ، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة ، وهي ترفع شعار التحرير ، وشعار الاستقلال ، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الاَسود.
( 17 )
لقد قامت الشعوب الاِسلامية في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ) ، حتى أطاحت بالحكم الاَموي ، وأزالته من دنيا الوجود.
[11]
ومن الجدير بالذكر أن كارثة كربلاء ، وما لحق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) من التنكيل ، والاعتداء الصارخ ، لم يأتِ ذلك عفواً ، وإنّما كان من النتائج المباشرة للانحرافات ، والسلوك في المنعطفات السياسية من جانب الحكام والمسؤولين الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم ، ووسيلة للظفر بالثراء العريض ، ولم يعوا أن الاِسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع ، وتطوير حياته الفكرية والاقتصادية ، وانّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الاَمة فيجب عليها الاحتياط فيه كأشدّ ما يكون الاحتياط فليس لرئيس الدولة ، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة.
وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني أمية الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، وبالاِضافة إلى ما اقترفوه من ظلم الاَمة والاعتداء على كرامتها ، فانّهم عمدوا إلى ظلم العلويين ، والاِجهاز على شيعتهم ، وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) المحن الشاقة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم ، ومما لا ريب فيه انّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن ، والآلام.
[12]
أمّا دور سيّدنا العباس ( عليه السلام ) في ملحمة كربلاء فانّه يأتي في الاَهمية بعد أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) صانع هذه الملحمة الخالدة في
( 18 )
دنيا الحقّ والعدل ، وقد فاق جميع أصحاب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأهل بيته المكرمين ، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لاَخيه ، بالاِضافة إلى مواقفه البطولية الرائعة ، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد ، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الاَفكار ويحيّر الاَلباب ، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه ، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة ، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم فاعتنقوا الشهادة ، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الاَرض.
[13]
وكان العبّاس ( عليه السلام ) أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه ، وقدّم له جميع ألوان البرّ والاِحسان ، فكان يقيه بنفسه ويفيديه بمهجته ، فهو صاحب لوائه ، ومدير شؤونه ، والمتصدّي لخدماته ، ويقول الرواة: انّه قد استوعب حبّه والاِخلاص له قلب أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حتى فداه بنفسه ، وكان عليه ضيفاً ، فلم يسمح له بالحرب حتى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، لاَنّه كان يشعر بالقوة والمنعة ، ما دام حيّاً إلى جانبه ، ولما استشهد العباس شعر الاِمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده وفقد كلّ أمل له في الحياة ، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء ، ويندبه بذوب روحه ، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد.
سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الاِنسانية ، وحسبك أنّك وحدك كنت انموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والاِسلام.
( 19 )
[14]
كان بودّي قبل حفنة من السنين أن أتشرّف بالبحث عن سيرة أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) رائد الشرف والكرامة لهذه الاَمّة ، وقد دعاني إلى ذلك ـ بإصرار ـ بعض السادة من فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاَشرف ، إلاّ أنّ انشغالي بتأليف موسوعة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد شغلني عن ذلك ، وقد ألمّت كارثة من كوارث الزمن ببعض ولدي فتوسّلت ، وتوسل ضارعاً إلى الله تعالى أن يكشف عنه ما هو فيه ، وينقذه وينجّيه فاستجاب الله دعائي ودعاءه فأنجاه مما هو فيه والحمد لله ، وقد طلب منّي أن أكتب رسالة عن حياة أبي الفضل وسيرته وشهادته ، فاستجبت له ، وجمّدت الموضوع الذي بيدي ، واتجهت صوب أبي الفضل آملاً من الله تعالى أن أُوفَّق إلى إعطاء صورة متميّزة وكاملة عن حياته ، وأن لا أكون قد جافيت الواقع أو ابتعدت عن القصد فيما كتبته عنه انّه تعالى وليّ القصد والتوفيق.
النجف الأشرف
باقر شريف القرشي
1412 هـ ـ 1992 م
ولادته ونشأتهُ
( 22 )
( 23 )
وقبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ونشأته أعرض ـ بإيجاز ـ إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الاَثر التام في بناء شخصيته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة وفيما يلي ذلك:
نسبه الوضّاح
ليس في دنيا الاَنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الاَسرة العلوية ، التي هي من أجلّ وأشرف الاَسر التي عرفتها الاِنسانية في جميع أدوارها ، تلك الاَسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والاِسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى ، والاِيمان ، وهذا عرض موجز للاَصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها.
الأب:
أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس ( عليه السلام ) فهو الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
( 24 )
وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وباب مدينة علمه ، وختنهُ على حبيبته ، وهو أول من آمن بالله ، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الاِسلام ، والمنافح الاَول عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الاَقربين والاَبعدين من أجل نشر رسالة الاِسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثلت بهذا الاِمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو غنّي عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الاَرض... ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الاِمامة ، وأخ لسبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
الاُم:
أمّا الاَم الجليلة المكرّمة لاَبي الفضل العباس ( عليه السلام ) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد.. ، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الاَضياف ، وأما أسرتها فهي من أجلّ الاَسر العربية ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد أشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم:
1 ـ عامر بن الطفيل:
وهو أخو عمرة الجدة الاولى لاَمّ البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الاَوساط العربية وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته ان قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فان كان بينه وبين عامر
( 25 )
نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلاّ أعرض عنه.
2 ـ عامر بن مالك:
وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولُقّب بملاعب الاَسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر:
يلاعب أطراف الاَسنة عامر فراح له حظّ الكتائب أجمع
وبالاِضافة إلى شجاعته فقد كان من أُباة الضيم ، وحفظة الذمار ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك.
3 ـ الطفيل:
وهو والد عمرة الجدّة الاَولى لاَمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لاَمّهم (أمّ البنين) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان:
يا واهب الخير الجزيل من سعة نـحن بـنو أمّ الـبنين الاَربعة
ونحن خير عامر بن صعصعة الـمطعمون الـجفنة المدعدعة
الضاربون الهام وسط الحيصعة إلـيك جـاوزنا بـلاداً مسبعة
تـخبر عـن هذا خبيراً فاسمعه مـهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
فتأثّر النعمان للربيع ، وأقصاه عن مسامرته ، وقال له:
شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا تكثر عليَّ ودع عنك الاَباطيل
( 26 )
قد قيل ذلك إن حقاً وان كذبا فما اعتذارك في شيء إذا قيل
ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم ، وسموّ منزلتهم الاجتماعية عند النعمان فقد بادر إلى اقصاء سميره الربيع عن مسامرته.
4 ـ عروة بن عتبة:
وهو والد كبشة الجدّة الثانية لاَم البنين ، وكان من الشخصيات البارزة في العالم العربي ، وكان يفد على ملوك عصره ، فيكرّمونه ، ويجزلون له العطاء ، ويحسنون له الوفادة(1).
هؤلاء بعض الاَعلام من أجداد السيّدة الكريمة أمّ البنين ، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة ، والصفات الرفيعة ، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة أمّ البنين ثم منها إلى أبنائها الممجدين.
قِران الاِمام بأمّ البنين:
ولما ثكل الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بوفاة بضعة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ندب أخاه عقيلاً ، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكياً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء(2) فأشار عليه عقيل بالسيّدة أمّ البنين الكلابية فانّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها ، ولا أفرس ، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم: « نحن خير عامر بن صعصعة » فلا
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 11 ـ 13 ذكر المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الاَسرة الكريمة.
(2) تنقيح المقال 2|128.
( 27 )
ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الاَسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة(1) ، فندبه الاِمام إلى خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الاَمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والاِيمان الوثيق وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها ، وأخلص لها كأعظم ما يكون الاِخلاص.
رعايتها لسبطيّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) :
وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الاَليمة التي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين ( عليهما السلام ) ما لا تكّنه لاَولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لاَبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لاَن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم ، وهما وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وريحانتاه ، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.
____________
(1) تنقيح المقال 2|128.
( 28 )
مكانتها عند أهل البيت
ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت عليهم السلام ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، يقول الشهيد الاَول وهو من كبار فقهاء الاِمامية:
كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاَربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد.. »(1).
أنّ زيارة حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وشريكة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في نهضته زينب الكبرى ( عليها السلام ) لاَمّ البنين ، ومواساتها لها بمصابها الاَليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها ، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت عليهم السلام .
مكانتها عند المسلمين:
وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وانّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلاّ كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الاَيّام ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند
____________
(1) العباس للمقرّم : 72 ـ 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الاَول.
( 29 )
الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه.
الوليد العظيم:
وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الاَسرة العلوية ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.
وحينما بُشِّر الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الاِيمان والتقوى في الاَرض ، وأنشودة ذلك الصوت.
« الله أكبر... ».
« لا إله إلاّ الله ».
وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الاَنبياء ، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، قام الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) عملاً بالسنّة الاِسلامية.
( 30 )
سنة ولادته وكنيته
أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) وُلد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان(1).
تسميته:
سمّى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لاَهل البيت عليهم السلام ، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه:
عبست وجوه القوم خوف الموت والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم
وكُنِّي سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) بما يلي:
1 ـ أبو الفضل:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه:
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والاِبا أبى الفضل إلاّ أن تكون له أب
وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى
____________
(1) قمر بني هاشم 2: 5.
( 31 )
بهذا الاِسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.
2 ـ أبو القاسم:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ألقابه
أمّا الاَلقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة ، وقد أضيفت على أبي الفضل ( عليه السلام ) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة ، وما اتصف به من مكارم الاَخلاق وهي:
1 ـ قمر بني هاشم:
كان العبّاس ( عليه السلام ) في روعة بهائه ، وجميل صورته آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم ، وكما كان قمراً لاَسرته العلوية الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الاِسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين.
2 ـ السقّاء:
( 32 )
وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض الاِرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، محرّر الاِنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية... وقد قام بطل الاِسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت ، ومن كان معهم من الاَنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.
3 ـ بطل العلقمي:
أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الاَبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الاَخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.
4 ـ حامل اللواء:
ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء انّه لواء أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده
( 33 )
أبو الفضل يرفرف على رأس الاِمام الحسين ( عليه السلام ) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من حديد ، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.
5 ـ كبش الكتيبة:
وهو من الاَلقاب الكريمة التي تُمنح الى القائد الاَعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.
6 ـ العميد:
وهو من الاَلقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لاَبرز الاَعضاء في القيادة العسكرية ، وقد قُلّد أبو الفضل ( عليه السلام ) بهذا الوسام لاَنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبدالله ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.
7 ـ حامي الظعينة:
ومن الاَلقاب المشهورة لاَبي الفضل ( عليه السلام ) (حامي الظعينة).
يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها:
حامى الظعينة أين منه ربيعة أم أين من عليـاً أبيـه مكرم
( 34 )
وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً(1).
____________
(1) جاء في العقد الفريد 3|331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى اذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الاَخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستولِ على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن سير دراج ذات جاش طامـن
ان التـأني دون قرني شائني ابلى بلائي فاخبري وعاينـي
ثم حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول:
خل سبيل الحـرة المنيعة انك لاق دونهـا ربيعـة
في كفـه خطيـة منيعة أولا فخذها طعنة سريعة
وحمل عليه فصرعه ، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجر رمحه ، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال:
ماذا ترى من شيئم عابـس أما ترى الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه ، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحي ، فوجدهم دريد قد
( 35 )
8 ـ باب الحوائج:
وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً ، وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الاَيام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى استشهد في سبيله هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الاَخلاق(1).
ملامحه:
أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه
____________
قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة: ان مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبطهم عنك ، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم: ان فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك:
ما ان رأيت ولا سمعت بمثله حـامي الظعينة فارساً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ثـم اسـتمر كـأنّه لـم يفعل
فـتهللت تـبدو أسـرة وجهه مثل الحسام جلته كفّ الصيقل
يزجى طعينته ويسحب رمحه مثل البغاث خشين وقع الجندل
(1) جاء في تنقيح المقال 2|128 أنه تحدث للعباس ستة عشر لقباً.
( 36 )
آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم(1)ورجلاه يخطان في الاَرض(2).
تعويذ أمّ البنين له:
واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوذه بالله ، وتقول هذه الاَبيات:
أعـيذه بـالواحد من عين كلّ حاسد
قـائمهم والـقاعد مـسلمهم والجاحد
صادرهم والوارد مولدهم والوالد(3)
مع أبيه:
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالاِيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوسع العباس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن
____________
(1) الفرس المطهم: هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.
(2) مقاتل الطالبيين : 56.
(3) المنمق في أخبار قريش : 437.
( 37 )
ساعديه ، فجعل الاِمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أمّ البنين ، وراحت تقول للاِمام:
« ما يبكيك ؟ »
فأجابها الاِمام بصوت خافت حزين النبرات:
« نظرت إلى هذين الكفّين ، وتذكّرت ما يجري عليهما.. »
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:
« ماذا يجري عليهما »..
فأجابها الاِمام بنبرات مليئة بالاَسى والحزن قائلاً:
« إنّهما يقطعان من الزند.. »
وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة:
« لماذا يقطعان »..
وأخبرها الاِمام ( عليه السلام ) بأنّهما انّما يقطعان في نصرة الاِسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجهشت أمّ البنين في البكاء ، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها(1).
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته.
نشأته
نشأ أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، فغذّاه بعلومه
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 19.
( 38 )
وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه ، جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، وأسس الآداب الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فكان لا يفارقه في حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الاِمام الحسين كأعظم ما يكون الاِخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الاِسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الاِنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والاِيثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادىَ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الاِمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين عليهم السلام ، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع
( 39 )
شعوب العالم وأُمم الاَرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.
* * * * *
( 40 )
انطباعات عن شخصيّته
واحتلّ أبو الفضل ( عليه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل ( عليه السلام ) .
1 ـ الاِمام زين العابدين:
أمّا الاِمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الاِسلام ، وكان هذا الاِمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الاِجلال والاِكبار تضحياته الهائلة لاَخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:
رحم الله عمّي العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت يداه ، فأبدله الله بجناحين ، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. »(1).
وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه
____________
(1) الخصال 1: 35.
( 41 )
أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الاِيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صريعاً ، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والاَجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الاِسلام وغيره.
2 ـ الاِمام الصادق:
أمّا الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
« كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. »(1).
وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:
أ ـ نفاذ البصيرة:
أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام
____________
(1) ذخيرة الدارين : 123 نقلاً عن عمدة الطالب.
( 42 )
الهدى وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ ، فما دامت القيم الاِنسانية يخضع لها الاِنسان ، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
ب ـ الصلابة في الاِيمان:
والظاهرة الاَخرى من صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) هي الصلابة في الاِيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الاَدلة على إيمانه.
ج ـ الجهاد مع الحسين:
وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس ( عليه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.
د ـ زيارة الاِمام الصادق:
وزار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الاِمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته
( 43 )
بقوله:
سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين.. ».
لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الاِجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته قائلاً:
وأشهد لك بالتسليم ، والتصديق ، والوفاء ، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم.. »
وأضفى الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الاَوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي:
أ ـ التسليم:
وسلّم العباس ( عليه السلام ) لاَخيه سيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) جميع أموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الاِيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد ، والاِخلاص في النيّة.
( 44 )
ب ـ التصديق:
وصدّق العبّاس ( عليه السلام ) أخاه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جميع اتجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
ج ـ الوفاء:
من الصفات الكريمة التي أضافها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) على عمّه أبي الفضل ( عليه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
د ـ النصيحة:
وشهد الاِمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول ( عليه السلام ) :
« فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
وحوى هذا المقطع على إكبار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل
( 45 )
الجنّة ، وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) وعن باب مدينته الاِمام أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
ويستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه:
« أشهد ، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفكّر والمبدع في الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم ، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلف لواء الاِسلام ، ويعيد الناس لجاهليتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل
( 46 )
بقيادة أخيه أبي الاَحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الاِسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ويستمرّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول:
« أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين ، والصديقين والشهداء ، والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل ، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك ، مقتدياً بالصالحين ، ومتبعاً للنبيّين ، فجمع الله بيننا ، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فانّه أرحم الراحمين.. »(1).
ويلمس في هذه البنود الاَخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيّه لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلاّ الاَنبياء ، واوصيائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِيمان.
3 ـ الاِمام الحجّة:
وأدلى الاِمام المصلح العظيم بقيّة الله في الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله )
____________
(1) مفاتيح الجنان للقمّي وغيره من كتب الزيارات والاَدعية.
( 47 )
بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس ( عليه السلام ) جاء فيها :
« السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد ، وحكيم بن الطفيل الطائي.. »(1).
وأشاد بقيّة الله في الاَرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي:
1 ـ مواساته لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.
2 ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لاِمام الهدى.
3 ـ تقديم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
4 ـ وقايته لاَخيه المظلوم بمهجته.
5 ـ سعيه لاَخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله )
4 ـ الشعراء:
وهام الاَحرار من شعراء أهل البيت : بشخصية أبي الفضل التي
____________
(1) مزار محمد بن المشهدي من أعلام القرن السادس : 553.
( 48 )
بلغت قمّة الشرف والمجد ، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الاَمّة الاِسلامية ، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة ، فيما يلي بعضهم.
1 ـ الكُمَيْت:
أمّا شاعر الاِسلام الاَكبر الكُميت الاَسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه ، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشمياته الخالدة قال:
وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو شفاء النفوس من اسقام(1)
إنّ ذكر أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وسائر أهل البيت : حلو عند كل شريف لاَنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق ، كما أنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور ، وسائر الاَمراض النفسية.
2 ـ الفضل بن محمد:
من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيدالله بن العباس فقد قال:
إنـي لاَذكـر لـلعبّاس مـوقفه بـكربلاء وهـام القوم يختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ ولا يـولّي ولا يـثني فـيختلف
ولا أرى مـشهداً يـوماً كمشهده مع الحسين عليه الفضل والشرف
____________
(1) الهاشميات : 25 ، ومن الغريب أن الشارح لهذا الديوان قال: ان المراد بأبي الفضل هو العباس بن عبد المطلب.
( 49 )
أكرم به مشهداً بانت فضيلته وما أضاع له أفعاله خلف(1)
وصوّرت هذه الاَبيات شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) وما قام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الاَحرار ، ووقايته له بمهجته ، وسقايته له ولاَفراد عائلته وأطفاله بالماء ، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبدالله ( عليه السلام ) ... وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه ، وكان من رثائه له هذه الاَبيات الرقيقة:
أحـق الناس أن يبكى عليه فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخـوه وابـن والـده علي أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومـن واساه لا يثنيه شيء وجادله على عطش بماء(2)
نعم ان أحق الناس أن يمجد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبوالفضل رمز الاِباء والفضيلة ، فقد رزأ الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بمصرعه ، وبكاه أمرّ البكاء لاَنّه فقد بمصرعه أبرّ الاِخوان ، وأعطفهم عليه.
3 ـ السيّد راضي القزويني:
وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) قال:
أبا الفضل يا من أسس الفضل والاِبا أبى الفضل إلاّ أن تكون لـه أبـا
____________
(1) قمر بني هاشم : 147 نقلاً عن المجدي.
(2) الغدير 3: 5.
( 50 )
تطلبت أسبـاب العلـى فبلغتها وما كل ساع بالغ ما تطلبـا
ودون احتمال الضيم عزّ ومنعة تخيرت أطراف الاَسنّة مركبا
انّ أبا الفضل من المؤسسين للفضل والاِباء في دنيا العرب والاِسلام فقد سما إلى طرق المجد ، وأسباب العلى ، فبلغ قمّتها ، وقد تخير أطراف الاَسّنة والرماح حتى لا يناله ذلّ ، ولا ضيم.
4 ـ محمد رضا الاَزري:
وأشاد الشاعر الكبير الحاج محمد رضا الاَزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم ، والتي احتلت عواطف الاَحرار ومشاعرهم يقول:
فانهض الى الذكر الجميل مشمّراً فـالذكر أبـقى ما اقتنته كرامها
أومـا أتـاك حديث وقعة كربلا انّـى وقـد بـلغ السماء قتامها
يوم أبو الفضل استجار به الهدى والشمس من كدر العجاج لثامها
ودعا الاَزري بالبيت من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الاِنسان فانه أبقى ، وأخلد له ، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الذي استجار به سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته ، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لاَخيه ، يقول الاَزري:
فحمى عرينتـه ودمدم دونها ويذب من دون الشرى ضرغامها
( 51 )
والبيض فوق البيض تحسب وقعها زجـل الـرعود إذا اكفهرّ غمامها
مـن بـاسل يـلقى الكتيبة باسماً والـشوس يـرشح بالمنية هامها
واشــم لا يـحتل دار هـضيمة أو يـستقلّ عـلى النجوم رغامها
أو لـم تـكن تـدري قريش أنّه طــلاع كــل ثـنية مـقدامها
وهذه الاَبيات منسجمة كل الانسجام مع بطولات أبي الفضل ، فقد صوّرت بسالته ، وما قام به من دور مشرف في حماية أخيه أبي الاَحرار فقد انبرى كالاَسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملاَت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشرية ، وقد انطلق أبوالفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم أنوف أُولئك الاَوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه ، وقد استبان للقبائل القرشية في هذه المعركة ان أبا الفضل طلاع كل ثنية ، وانه ابن من أرغمها على الاِسلام وحطّم جاهليتها وأوثانها.
وبهذا العرض نأتي على الانطباعات الكريمة عن شخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) عند الاَئمة الطاهرين : ، وعند بعض أعلام الاَدب العربي.
* * * *
عناصره النفسيّة
( 54 )
( 55 )
كان سيّدنا العباس ( عليه السلام ) دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته ، وحسبه فخراً أنّه نجل الاِمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح ـ بإيجاز ـ لبعض صفاته.
1 ـ الشجاعة:
أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لاَنها تنمّ عن قوة الشخصية وصلابتها ، وتماسكها أمام الاَحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ، وعرفوا بها من بين سائر الاَحياء العربية.
لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف ولارعب في الحروب التي خاضها مع أبيه كما يقول بعض المؤرخين ، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الاِسلام ، وقد برز فيه أبوالفضل أمام تلك القوى التي ملاَت البيداء فجبَّنَ الشجعان وأرعب قلوب
( 56 )
عامة الجيش ، فزلزلت الاَرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه.
ان شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم مادي من هذه الحياة ، وانّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الاَوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
مع الشعراء
وبهر شعراء الاِسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه وما ألحقه بالجيش الاَموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيته.
1 ـ السيّد جعفر الحلّي:
ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الاَموي من الرعب والفزع من أبي الفضل ( عليه السلام ) يقول:
وقـع الـعذاب عـلى جيوش أميّة مـن بـاسل هـو في الوقائع معلم
مــا راعـهم إلاّ تـقحم ضـيغم غـيـران يـعجم لـفظه ويـدمدم
عـبست وجوه القوم خوف الموت والـعبّاس فـيهم ضـاحك يـتبسّم
قلب اليمين على الشمال وغاص في الاَوسـاط يحصد للرؤوس ويحطم
مـا كـرّ ذو بـأس لـه مـتقدماً إلاّ وفــرّ ورأســه الـمـتقدّم
صـبغ الـخيول برمحه حتى غدا سـيـان أشـقر لـونها والاَدهـم
( 57 )
مـا شدّ غضباناً على ملمومه إلاّ وحـلّ بـها البلاء المبرم
وله إلى الاقدام نزعة هارب فـكأنّما هـو بـالتقدم يسلم
بطل تورث من أبيه شجاعة فيها أنوف بني الضلالة ترغم
أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته النادرة.
أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الاَموي من الجبن الشامل ، والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الاِسلام فأنزل بهم العذاب الاَليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العباس متبسّماً مثلوج الفؤاد مما ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملاَ ساحات المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العباس ( عليه السلام ) بأهل الكوفة من الخسائر الجسيمة.
ويستمرّ السيد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل فيقول:
بـطل إذا ركـب المطهم خلْته جـبلاً أشـمّ يـخف فيه مطهم
قـسماً بصارمه الصقيل وانني في غير صاعقة السماء لا أقسم
لولا القضا لمحا الوجود بسيفه والله يـقضي مـا يشاء ويحكم
لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ، ولولا قضاء الله لاَتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود.
2 ـ الاِمام كاشف الغطاء:
وبهر الاِمام محمد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله بشجاعة أبي الفضل
( 58 )
فقال في قصيدته العصماء:
وتـعبس من خوف وجوه أميّة اذا كـرّ عـبّاس الوغى يتبسّم
عـليم بـتأويل الـمنيّة سـيفه تـزول على من بالكريهة معلم
وان عاد ليل الحرب بالنقع ألْيلا فـيوم عـداه مـنه بالشر أيوم
لقد عبست وجوه الجيش الاَموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنوياتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الاَليم.
3 ـ الفرطوسي:
وعرض شاعر أهل البيت عليهم السلام الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب قال:
عـلم لـلجهاد في كل زحف عـلم فـي الثبات عند اللقاء
قـد نـما فيه كل بأس وعزّ مـن عـليّ بـنجدة وإبـاء
هو ثبت الجنان في كل روع وهو روع الجنان من كل راء
وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة في جيوش الاَمويين قال:
فـارتقى صـهوة الجواد مطلاً عـلـماً فـوق قـلعة شـمّاء
وتـجلّى والـحرب لـيل قثام قـمراً فـي غـياهب الظلماء
فـاستطارت مـن الكماة قلوب أفـرغت من ضلوعها كالهواء
وتهاوت جسومهم وهي صرعى واسـتطارت رؤوسهم كالهباء
وهو يرمي الكتائب السود رجماً بـالمنايا مـن اليد البيضاء(1)
إن شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب المثل على امتداد التأريخ ، ومما زاد في أهميتها انّها كانت لنصرة الحق والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الاِسلام ، وانها لم تكن بأي حال من أجل مغنم مادي من مغانم هذه الحياة.
2 ـ الاِيمان بالله:
أمّا قوّة الاِيمان بالله ، وصلابته فانها من أبرز العناصر في شخصية أبيالفضل ( عليه السلام ) ، ومن أوليات صفاته ، فقد تربّى في حجور الاِيمان ومراكز التقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ، وسيّد المتّقين بجوهر الاِيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالاِيمان الناشىء عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الاِيمان الذي اعلنه الاِمام ( عليه السلام ) بقوله: « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً » وقد تفاعل هذا الاِيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من عمالقة المتقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم نفسه واخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى.
لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن دين الله ، وحماية لمبادىَ الاِسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الاَموي ، ولم يبغ بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة.
____________
(1) ملحمة أهل البيت 3: 329 ـ 330.
( 60 )
3 ـ الاِباء:
وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وهي الاِباء وعزّة النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الاَموي الذي اتخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الاَحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أن الموت تحت ظلال الاَسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً.
لقد مثّل أبو الفضل ( عليه السلام ) يوم الطفّ الاِباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الاَمويون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه ، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الاَبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته.
4 ـ الصبر:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) ومميّزاته الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وانّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها.
لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجدين الاَوفياء من
( 61 )
أصحابه وهم مجزّرون كالاَضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الاَطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي ، وهنّ يندبن قتلاهنّ ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الاَجر من عنده.
5 ـ الوفاء:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي:
أ ـ الوفاء لدينه:
وكان أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الاِسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الاَموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للاِسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار ، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الاَرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الاَرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.
ب ـ الوفاء لاَمّته:
رأى سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) الاَمّة الاِسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الاَمويين فنهبت
( 62 )
ثرواتها ، وتلاعبت في مقدراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً: (إنما السواد بستان قريش) فأي استهانة بالاَمة مثل هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل ( عليه السلام ) أن من الوفاء لاَمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الاَحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الاَحرار الممجدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم ، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل ، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟
ج ـ الوفاء لوطنه:
وغمرت الوطن الاِسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الاَموي ، فقد استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للاَمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان ، وذلّ فيه المصلحون والاَحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي ، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) إلى مقاومة ذلك الحكم الاَسود وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الاِسلامي.
د ـ الوفاء لاَخيه:
ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لاَخيه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمنافح الاَول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لاَخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني
( 63 )
أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.
6 ـ قوّة الإرادة:
أمّا قوّة الاِرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الاِرادة ، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي.
لقد كان أبو الفضل ( عليه السلام ) من الطراز الاَول في قوة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانظمّ إلى معسكر الحق ، ولم يهن ، ولم ينكل ، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الاَيّام.
7 ـ الرأفة والرحمة:
وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين ، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الاَمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولما رأى العباس ( عليه السلام ) أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء اخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم ، وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم ، سمع الاَطفال ينادون العطش العطش ، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء
( 64 )
الله حتى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده.
فتّشوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.
هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه.
* * * * *
( 65 )
مع الأحداث
( 66 )
( 67 )
ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره كثيراً من الاَحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحية ، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن المراكز السياسية في البلاد ، واخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الاِسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الاِداريه ، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط ، وحرمان بني هاشم ، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة ، وقد استولى الاَمويون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الاَزمات الحادّة بين المسلمين ، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لاَكثرهم أيّة نزعة إسلامية ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الاِسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الاِسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.
لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد ، فقد منحت الاَمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة ، وفتحت لهم الطريق لكسب
( 68 )
الاَموال ، وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب ، وانّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الاَوساط الاِسلامية ، فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الاَمويين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.
ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له ، والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً بأسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الاَخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاَسرته.
وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله ، فقَتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخليله عمّار بن ياسر.
وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الاَحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الاَمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.
إنّ أسوأ ماتركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ،
( 69 )
وحصرت الثروة عند الاَمويين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الاَحداث التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) .
* * * * *
حكومة الامام
والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الاَقاليم الاِسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر ، وبعض الاَمويين الذين أيقنوا أن الاِمام ( عليه السلام ) يبسط العدالة الاجتماعية في الاَرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لاَحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الاِمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الاِجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الاِسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.
وعلى أيّ حال فقد بويع الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الاِسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.
وفور تقلّد الاِمام ( عليه السلام ) للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه
( 71 )
أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاَخرى... كانت سعادته أن يرى الاَوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الاِمام ( عليه السلام ) فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل ( عليه السلام ) فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الاَسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الاِمام ( عليه السلام ) ، ومناهضتهم لاَبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك:
منهج حكم الاِمام
أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الاِمام ( عليه السلام ) فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الاِسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الاِنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الاِمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:
1 ـ بسط الحريّات:
وآمن الاِمام ( عليه السلام ) بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الاَمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء
( 72 )
الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:
أ ـ الحريّة الدينية:
يرى الاِمام ( عليه السلام ) أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الاَحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.
ب ـ الحريّة السياسية:
ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاِقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الاَدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يخلّوا بالاَمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والاِرهاب ، فاضطرّ الاِمام ( عليه السلام ) إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.
ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطابه ، ويخدشون
( 73 )
عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الاِمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الاِمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للاِنسان المسلم.
هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.
2 ـ نشر الوعي الديني:
واهتم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الاِسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاَولى لاِصلاح المجتمع وتهذيبه.
انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.
ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الاَخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الاَمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الاِسلامي.
( 74 )
3 ـ نشر الوعي السياسي:
أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الاِسلامي فهو من أهمّ الاَهداف السياسية التي تبنّاها الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته.
ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الاَوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الاِسلام بذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته.. » ألقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم.
ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الاَحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.. »(1).
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء ( عليه السلام ) على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الاَموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان.
____________
(1) حياة الامام الحسين 3: 80.
( 75 )
انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الاَبطال ممن غذّاهم الاِمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الاَحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين.... وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الاِصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للاِسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.
4 ـ إلغاء المحسوبيات:
وكان مما عني به الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته.
لقد ألغى الاِمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاَمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الاِسلام
( 76 )
وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الاِسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم.
5 ـ القضاء على الفقر:
أمّا فلسفة الاِمام ( عليه السلام ) في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لاَنّه كارثة مدمّرة للمواهب والاَخلاق ، ولا يمكّن الاَمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاَمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها... ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الاِسلام بصورة موضوعية وهي:
أ ـ توفير المسكن.
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.
ج ـ توفير العمل.
د ـ القضاء على الاستغلال.
هـ ـ سدّ أبواب المرابين.
و ـ القضاء على الاحتكار.
هذه بعض الوسائل التي عني بها الاِسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الاِمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للاِجهاز على حكم الاِمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الاِمام وفلسفته في الحكم.
( 77 )
القوى المعارضة للإمام
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الاِمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك.
السيّدة عائشة
وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الاَسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى: (... قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ...) الشّورَى 23وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الاَحيان كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يشير إلى أفعالها ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها.
وثمّة سبب في كراهية عائشة للاِمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن
( 78 )
الخلافة إذا رجعت للاِمام ( عليه السلام ) فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الاِسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الاِمام ( عليه السلام ) لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للاَهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الاِسلامية من حين بزوغ نورها.
وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الاَسباب في الاِطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الاَخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للاِمام ( عليه السلام ) انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة:
« قتل عثمان مظلوماً والله لاَطلبنّ بدمه.. ».
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الاِنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الاِمام ، والاِجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الاِسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لاَنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ،
( 79 )
وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.
ولما وافت الاَنباء الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الاَمصار الاِسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الاِسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الاَشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الاِسلام ، وإقامة ركائزه في الاَرض.
وسرت جيوش الاِمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاَمّهم عائشة ، فأرسل الاِمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه.
ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الاِمام ( عليه السلام ) للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الاِمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب
( 80 )
الاَحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.
واستولى جيش الاِمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الاِمام معها الاِجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الاِمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاَمور التي ليست مسؤولة عنها.
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون (بحرب الجمل) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم... ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الاِمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الاِمام كما يعامل سائر المسلمين.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.
معاوية وبنو أميّة
وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الاِمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الاِمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد
( 81 )
دخلوا في الاِسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الاَرض ، إلاّ أنّه ( صلى الله عليه وآله ) منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه.
ولم يكن للاَمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم ( صلى الله عليه وآله ) وآل الاَمر إلى الخلفاء علا نجم الاَمويين ، وذلك لاَسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الاَخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الاِسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الاِسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له: ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !! ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) لو عصيت لهويت ، ويقول الاِمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.
وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في
( 82 )
رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والاَموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء.
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الاِمام الطريق لمعاوية لاِعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الاِمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لاِغراء الغوغاء واتّهم الاِمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الاِعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الاِسلام.
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الاَحداث.
إعلان الحرب
ورفض معاوية رسمياً بيعة الاِمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الاِمام ( عليه السلام ) من
( 83 )
العناصر التالية
أ ـ الغوغاء:
أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الاَكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة.
ب ـ المنافقون:
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الاِسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الاِسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لاَنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الاِسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الاَوّل للاِسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه ، والمنافح الاَوّل عن الاِسلام.
انّ جميع من حارب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ج ـ النفعيون:
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال
( 84 )
والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الاَموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الاِمام للحكم.
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الاِسلام ، ورائد العدالة الاِنسانية.
احتلال الفرات
واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الاِمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الاَمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الاَعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ.
ولمّا علم الاِمام ( عليه السلام ) بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الاِمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الاِذن في مقارعة القوم ، فرغب الاِمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لاَن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والاَديان ، وعرض عليهم أصحاب الاِمام ذلك إلاّ أنّهم
( 85 )
أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الاِمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الاِمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الاِمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الاِمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الاَوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الاِمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم.
دعوة الاِمام إلى السلم
وكره الاِمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والاِدراية.
الحرب
ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الاِمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الاَخيرة من الحرب كاد الاِمام أن يكسب المعركة ،
( 86 )
وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاَطنابة:
أبت لي عفتي وحياء نفسي واقدامي على البطل المشيح
واعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مـكانك تحمدي أو تسريحي
فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الاَبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه.
الخديعة الكبرى
وآن النصر المحتم لجيش الاِمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الاِمام الزعيم مالك الاَشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الاِمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الاِمام وأفول دولة القرآن.
يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن.
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين
( 87 )
وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الاِسلام.
وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الاَموي الاَشعث ابن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الاِمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً:
« ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.. ».
وامتنع الاِمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الاِسلام في صميمه ، والتفّ حول الاَشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالاِمام ، وهم ينادون: أجب الاَشعث ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له:
« لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟.. »
فأجابه معاوية مخادعاً:
ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه.. ».
ورفع الاَشعث عقيرته قائلاً:
« هذا هو الحقّ.. ».
وخرج الاَشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الاَشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل
( 88 )
على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والاَشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الاَموال إن استجابوا لدعوته.
وعلى أيّ حال فقد أُرغم الاِمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي: « لا حكم إلاّ لله » واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب.
وعلى أيّ حال فقد جهد الاِمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والاِطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الاَشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الاِمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الاِطاحة بحكومة الاِمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الاِمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين.
التحكيم
وتوالت المحن والاَزمات على الاِمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى
( 89 )
الاَشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والاَشعري خبيث دنس كان حقوداً على الاِمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للاَحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الاِمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الاِمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه.
ولم يستطع الاِمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الاَوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الاِمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية.
لقد حكم الاَشعري بعزل الاِمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الاِمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الاَمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لاَهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب.
ثورة الخوارج
ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الاِمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الاِمام
( 90 )
على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الاَشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الاِمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الاِسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الاِمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
ولمّا نزح جيش الاِمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الاَمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الاَحكام التي يقاتلون من أجلها الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم « لاحكم إلاّ لله » ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق ( عليه السلام ) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ،
( 91 )
وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبدالله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الاِمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة(1) وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الاِمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الاِمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما.
النتائج الفظيعة
وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الاَحداث وأقساها
____________
(1) حياة الامام الحسن 1: 358 الطبعة الثالثة.
( 92 )
وأشقّها محنة على الاِمام ( عليه السلام ) ومن بينها:
1 ـ التمرّد الكامل في جيش الاِمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لاَوامر الاِمام.
لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الاِمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الاَحداث التي مُني بها.
2 ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والاِخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الاِمام.
3 ـ وتعرّضت البلاد الاِسلامية الخاضعة لحكم الاِمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لاِشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الاِمام لهجمات الاِرهابيين من كلاب معاوية ، والاِمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الاَمن والاِستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم.
4 ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الاِمام ، وقد أُصيبت حكومة الاِمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الاَحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم.
مصرع الاِمام
وبقي الاِمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والاَزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لايتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الاَوضاع الاجتماعية
( 93 )
المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور.
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالاِمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والاَباطيل ، واستجاب الله دعاء الاِمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الاَسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الاِسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الاِمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الاِمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الاِمام.
وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الاَرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الاَشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة
( 94 )
والاِيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس.
ولمّا أحسّ الاِمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول:
« فزت وربّ الكعبة .. ».
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين.
لقد فزت يا إمام المتّقين لاَنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم.
لقد فزت أيّها الاِمام الحكيم لاَنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى.
وحُمل الاِمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الاِمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الاَنبياء والاَوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الاَول عن رسالة الاِسلام.
وصايا خالدة
ولما شعر الاِمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده
( 95 )
بمكارم الاَخلاق ومحاسن الاَعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الاِسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته.
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الاِسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار.
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس.
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الاَهداف الاَصيلة التي ينشدها الاِسلام.
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الاَعمال وأهمّها في الاِسلام لاَن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة.
هـ ـ مراعاة الاَيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الاِسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الاِسلام في نظامه الاقتصادي.
و ـ الاِحسان إلى الجيران ، والاِغداق عليهم بالبرّ والمعروف لاَنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الاِسلامي ووحدته.
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الاِنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه.
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود
( 96 )
الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الاِنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة.
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين.
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالاَنفس والاَموال لاِقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة.
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم.
ل ـ إقامة الاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاَنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والاَشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده.
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الاِمام العظيم ، وهو على فراش الموت(1).
إلى جنّة المأوى:
وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الاِمام ( عليه السلام ) من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة
____________
(1) يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة.
( 97 )
واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الاَنبياء والاَوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد.
لقد توفّي عملاق الفكر الاِنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الاَرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الاِنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الاَمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الاِمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه.
تجهيزه
وانبرى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبوالفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الاَخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الاَشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين.
لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) خلافة أبيه ، وما رافقها من الاَحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق
( 98 )
العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الاِسلام ، والحاقدة على الاِصلاح الاجتماعي.
لقد وعى العبّاس الاَهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم.
خلافة الاِمام الحسن
وتسلّم الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قيادة الدولة الاسلامية بعد وفاة أبيه ، وكانت الاَوضاع الاجتماعية والسياسية ، كلها في غير صالحه ، فالاَكثرية الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريين كانت اتجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقهم بأمواله ، كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعية خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الاَمر الذي أوجب تريّب الاِمام الحسن منهم ، ويرى المراقبون للاَوضاع السياسية في جيش الاِمام انّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وان خطره على الاِمام كان أعظم من خطر معاوية وانّه لا يصلح بأي حال من الاَحوال لاَن يخوض الامام به أي ميدان من ميادين الحرب.
وعلى أي حال فان الاِمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وان من العسير جدّاً السيطرة
( 99 )
على الاَوضاع الاجتماعية ، وإخضاع البلاد إلى عسكره. اللهم إلاّ بسلوك أمرين:
الاَوّل: ـ إشاعة الاَحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريات العامة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الاَزمات في شِعوبهم.
أمّا أئمّه أهل البيت : فانهم لا يرون مشروعية هذه السياسة ، وان أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، واقصاء الوسائل الملتوية عنه.
الثاني: ـ تقديم الطبقة الرأسمالية وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الاَموال والامتيازات الخاصة ، والوظائف المهمة ولو فعل ذلك الاِمام الحسن لاستقرّت له الاَمور ، وما مُني جيشه بالتمرّد والانحلال ، إلاّ أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لاَنّه لا تبيحه شريعة الله.
لقد كان منهج الاِمام الحسن في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر.
إعلان معاوية للحرب
وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لاَنّه على علم بما مُني به جيش الاِمام من الانحلال والخيانة فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوجه بإحدى بناته ، فقد استعمل
( 100 )
الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الاِمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف من صالحه.
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولما علم الامام الحسن بذلك جمع قوّاته المسلّحة ، وأعلمهم بالاَمر ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف فلم يجبه أحد منهم فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب ، ولما رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عَديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الاِمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد.
وخرج الاِمام الحسن ( عليه السلام ) من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس حتى انتهى إلى النخيلة فاستقام فيها حتى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثم ارتحل حتى إنتهى إلى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثة أيام ، ثم واصل سيره لا يلوي على شيء.
في المدائن
وانتهى الاِمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والاَزمات فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من
( 101 )
قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به:
1 ـ خيانة القائد العام:
وكان من أقسى ما ابتلي به الاِمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله.
ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الاِمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الاِمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الاِمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الاَضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني.
2 ـ محاولات لاغتيال الاِمام:
ولم تقتصر محنة الاِمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الاِمام ، وقد فشلت جميعها وهي:
( 102 )
أ ـ رمي الاِمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً.
ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة.
ج ـ طعنه في فخذه.
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وطافت به المحن والاَزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال ، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاَمور فأفزعته إلى حدّ بعيد.
3 ـ الحكم عليه بالكفر:
وتمادى الخونة والعملاء في جيش الاِمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الاِمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً:
« لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل.. ».
ولم ينبر أحد من جيش الاِمام إلى معاقبة هذا الاَثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأي ضلال مثل هذا الضلال؟.
4 ـ نهب أمتعة الاِمام:
وعمد أُولئك الاَجلاف إلى نهب أمتعة الاِمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للاِمام من جيشه ، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم.
( 103 )
هذه بعض الاَحداث المروعة التي عاناها الاِمام ( عليه السلام ) في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته.
ضرورة الصلح
أمّا صلح الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الاَعراف السياسية ، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاَمة ، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة ، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين: إمّا القتل أو الاَسر ، فان قتل فلا تستفيد منه القضية الاِسلامية لاَنّ معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الاِمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية ، وأما إذا لم يقتل الامام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاَسرة النبوية ، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلي أيّ حال فان الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الاِمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية ، وقد ظهرت خفايا نفسه ، وما يكّنه من حقد وعداء للاِسلام وللمسلمين ، فانه حينما استتبّ له الاَمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الاِسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب
( 104 )
والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية.
وبعدما انتهى الاِمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الاِمام في يثرب ، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) من المحن الشاقة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة ، وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرفته هذه الاَوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع ، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم ، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الاَحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) .
* * * * *
كابوس رهيب
( 106 )
( 107 )
وتسلّم معاوية قيادة الدولة الاِسلامية بعد صلحه مع الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وتجسيداً حيّاً لاَهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الاِنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الاِسلامية صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والاَخلاق التي ينشدها الاِسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الاِسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبودية والذل.
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والاَعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي:
« ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الاِسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الاَمويين من قادة جند
( 108 )
الشام.. »(1).
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الاَسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث.
إبادة القوى الواعية
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الاِسلام ، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام ، وفيما يلي بعضهم:
1 ـ حجر بن عديّ :
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الاِسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاَمّة العربية والاِسلامية ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الاِرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الاِسلام ، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الاِسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للاِمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الاِسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن
____________
(1) روح الاسلام : 296.
( 109 )
هند ، فصدرت الاَوامر منه بإعدامهم في (مرج عذراء) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الاِعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الاَرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.
2 ـ عمرو بن الحمق:
ومن شهداء الاِسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ، كان أثيراً عند النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء(1).
وقد وعى عمرو القيم الاِسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد ، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لاَنّه من أعلام شيعة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو ، وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(2) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الاِسلام ، ثم
____________
(1) الاصابة 2: 526.
(2) المشاقص: جمع مفرده مشقص ، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.
( 110 )
أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت ، وكادت أن تموت ، ثم حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الاِنسانية ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ).
3 ـ رشيد الهجري:
رشيد الهجري علم من أعلام الاِسلام ، وقطب من أقطاب الاِيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الاِخلاص إلى وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلما مثل عنده صاح به الباغي الاَثيم:
« ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك؟.. »
فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:
« تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.. ».
فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الاِمام فقال:
« أمّا والله لاَكذبنّ حديثه خلّوا سبيله.. ».
فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:
لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: « إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه.. ».
وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوىَ بني أميّة وجورهم
( 111 )
ويحفز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالاَمر فأمرهم بقطع لسانه ، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(1) الذي نافح عن عقيدته وولائه لاَهل البيت حتى النفس الاَخير من حياته.
هؤلاء بعض أعلام الاِسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لاَنّهم كانوا ينشرون القيم الاِسلامية ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت : الذين هم مصدر الوعي والفكر في الاِسلام.
مناهضة أهل البيت
ولمّا استتبّ الاَمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أمّته ، والعصب الحسّاس في هذه الاَمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به:
1 ـ افتعال الاَخبار ضدّهم:
وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الاَخبار وافتعالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الاَخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الامام الاَعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الاَخبار في ذمّ أهل البيت عليهم السلام ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الاَمويين ، وخلق الفضائل
____________
(1) سفينة البحار 1: 522.
( 112 )
لهم ، وهم الذين ناجزوا الاِسلام في جميع مراحل تأريخهم ، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك ، وانّما عمدت لافتعال الاَخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الاِسلامية ، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الاِسلامية ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها ، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الاَخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير (اللئالي المصنوعة في الاَخبار الموضوعة) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات ، وقد سجّل المحقق الاَميني في (الغدير) أرقاماً لبعض الاَخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث ، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الاِسلام من الكوارث هي الاَخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للاِسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما أثر عنهم من الاَخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الاِسلام.
2 ـ سبّ الاِمام أمير المؤمنين:
وأعلن معاوية رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الاَذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الاِمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب ، وانّما في خطب صلاة الجمعة ، وسائر المناسبات الدينية ، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الاِمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبت أيديهم ، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من
( 113 )
رقاب المسلمين ، فقد برز الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية ، وأقام أركان الحقّ في الاَرض.
لقد عاد الاِمام في جميع الاَعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الانسان ، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الاِنسانية جناية لا تعدلها أية جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الاِنسانية ، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
3 ـ استخدام معاهد التعليم:
واستخدم معاوية معاهد التعليم ، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهم السلام الذين هم المركز الحسّاس في الاِسلام ، وغذّت هذه الاَجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وذريته ، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الاِمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا ، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الاَرض ، وهو أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الاَرض ، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير.
لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لاَهل البيت عليهم السلام واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام
( 114 )
واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والاِسلامي.
إشاعة الظلم
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الاِسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والاِساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الاِرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الاَليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والاِعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم ، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.
لقد عجّت البلاد الاِسلامية من الظلم والجور ، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهم السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسلمت منهم الاَعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لاَهل البيت عليهم السلام .
وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت ، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الاَموية ، لاِنقاذ الاَمة من محنتها ، وإعادة الحياة الاِسلامية بين المسلمين.
( 115 )
منح الخلافة ليزيد
واقترف معاوية أخطر جريمة في الاِسلام فقد منح الخلافة الاِسلامية إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرداً من جميع القيم الاِنسانية ، وغارقاً في الآثام والجرائم وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على دمشق:
نعب الغراب فقلت صح أولا تصح فلقد قضيت من النبي ديوني
نعم لقد استوفى ديون الاَمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه ، وقال مرّة اُخرى:
لست من خندف إذ لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل
هذا هو يزيد في الحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية ، وإزالة الاِسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وسبيه لذراريه.
إغتيال الشخصيات الاِسلامية
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات الاِسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الاِسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتجه إليهم الاَنظار ،
( 116 )
وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم:
1 ـ سعد بن أبي وقاص:
أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الاِسلامية ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله(1).
2 ـ عبد الرحمن بن خالد:
أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبدالرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك(2).
3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر:
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها ، وقال: لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً
____________
(1) مقاتل الطالبيين: 29.
(2) حياة الاِمام الحسين 2: 216.
( 117 )
فقتله(1).
4 ـ الاِمام الحسن:
وأقض الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مضجع ابن هند ، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه ، لاَنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه واستعرض معاوية حاشية الامام وخاصته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الاِمام ، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الاَشعث زوجة الاِمام ، فهي من أسرة لم تنجب شريفاً قطّ ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الاِنسانية ، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها ، وقدم لها الاَموال ، ومنّاها بزواج يزيد ، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة ، فناولها سمّاً فاتكاً ، فأخذته ، ودسّته للاِمام ، وكان صائماً ، ولما وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت إلى الخبيثة ، فقال لها:
« قتلتيني ، قتلك الله ، والله لا تصيبنّ منّي خلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك ، يخزيك الله ويخزيه.. ».
وأخذ سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السم فقد تفاعل مع أجزاء بدنه ، وقد ذبلت نضارته ، واصفّر لونه ، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الاَنبياء.
لقد وافاه الاَجل المحتوم ، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 216.
( 118 )
هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة ، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، واسمعه سبّه ، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه.
تجهيزه
وقام سيّد الشهداء ( صلى الله عليه وآله ) بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره.
فتنة الاُمويين
ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليوارى إلى جنبه ثار الاَمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين « أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً.. ». واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه.. ».
فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ـ لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها.. ».
والتفتت إلى المشيّعين قائلة:
« لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ.. ».
وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت عليهم السلام ، ويتساءل
( 119 )
السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ ابوها عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال:
« نحن معاشر الاَنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » فبيت النبيّ ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وانّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لاَبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية وان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) كبقيّة الاَنبياء يرثه ذرّيته ، فالامام الحسن ( عليه السلام ) هو الذي يرثه لاَنّه سبطه ، أما أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فلا يرثن من البيت ، وانّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء.
وعلى أيّ حال فقد تمادى الاَمويون بالشر ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أو عزوا إلى عملائهم برمي جنازة الاِمام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والاَمويين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى مناجزة الاَمويين ، وتمزيقهم ، فمنعه أخوه الامام الحسين ( عليه السلام ) من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في امره ملَ محجمة من دم.. وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والاِمامة.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الاَحداث المروعة التي حلّت بأخيه الامام أبي محمد ( عليه السلام ) فزهدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله.
معارضة الامام الحسين لمعاوية:
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين
( 120 )
والمعادية لاَهدافهم ، قام أبو الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالاِنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت اجهزة الاَمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتخاذ الاجراءات القاسية ضدّه ان لم يستجب له ، فأجابه أبو الاَحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الاَحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الاِسلامي.
انّ جواب الاِمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية ، فقد وضع الاِمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الاَحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية(1).
مؤتمر الامام الحسين في مكّة
وعقد الاِمام أبو عبدالله الحسين ( عليه السلام ) مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والاَنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس
____________
(1) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الاِمامة والسياسة 1|189 والكشي في رجاله.
( 121 )
قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه:
« أمّا بعد! فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتهم ، وشهدتم ، وانّي أريد أن أسألكم عن شيء ، فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذّبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم ، وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا ، فانّي أتخوّف أن يدرس هذا الاَمر ، ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ».
ويقول سُليم بن قيس: وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً مما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أبيه وأخيه ، وفي نفسه وأهل بتيه إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي: اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه ، وأئتمنه من الصحابة ، فقال ( عليه السلام ) : أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به من تثقون به وبدينه.. »(1).
وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الامام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام وستر فضائلهم ، وقد دعا الاِمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبّيتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاَمة الاِسلامية.
هلاك معاوية
واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة مما اقترفه من
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 228 ـ 229.
( 122 )
الاَحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً: ويلي من ابن الاَدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ ان يومي منه لطويل ، نعم ان يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وانّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد ، وهو الذي حارب دولة الاِسلام ، وأقام الدولة الاَموية التي اتخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الاَحداث والموبقات في الاِسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسبطه الاِمام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت عليهم السلام على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله.
وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الاِسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم.
مَعَ الثورة الحُسيْنيّة
( 124 )
( 125 )
ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) الثورة الاِسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الاَحرار وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الاَرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الانسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان.
وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابية وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً.
لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لاَمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كل موقف من ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كان العبّاس معه ، وشريكاً له ، .. ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباس العلم البارز فيها.
( 126 )
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد
وأعلن الاِمام الحسين ( عليه السلام ) رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الاِمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لانقاذه ، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثم نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة ، فاستمهله الاِمام حتى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد:
« لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، أحبسه فان بايع ، وإلاّ ضربت عنقه.. ».
ووثب أبي الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له:
« يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ ، كذبت والله ولؤمت.. ».
ثم التفت أبو الاَحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه ، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً:
« أيّها الاَمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، **** الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع
( 127 )
مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة.. »(1).
لقد أعلن الاِمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الامارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم ، وإرغامهم على ما يكرهون.
لقد كان أبو الاَحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية ، وعصف بالعقيدة الاِسلامية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الاِسلام عالية في الاَرض.
إلى مكّة المكرّمة
وصمّم أبو الاَحرار على مغادرة يثرب ، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الاَموي الذي يمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه ( صلى الله عليه وآله ) وهو حزين قد أحاطت به الاَزمات فشكى إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى ، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظرات الوداع الاَخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) ثم توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 255.
( 128 )
حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الاَمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه.
وسلك أبو الاَحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعة وثقة في النفس:
« لا والله ما فارقت هذا الطريق ، أو أنظر إلى أبيات مكة حتى يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى.. ».
وانتهى ركب الاِمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب ، وقد احتفى به المكّيون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم ، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الاِمام ( عليه السلام ) لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الاَموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم.
فزع السلطة بمكّة
وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الاِمام إليها ، واتخاذها مقراً لدعوته ، ومركزاً لاِعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الاَشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الاِمام ، وسمع ما يقولونه ان الاِمام أولى بالخلافة الاِسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا
( 129 )
يرجون لله وقاراً ، فخف مسرعاً نحو الاِمام فقال له بغيظ:
« ما أقدمك إلى البيت الحرام؟.. ».
وكأن بيت الله العظيم ملك لبني أميّة ، وليس هو لجميع المسلمين ، فأجابه الاِمام بثقة وهدوء:
« أنا عائذ بالله ، وبهذا البيت... ».
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الامام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وان ذلك يشكّل خطراً على حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الاَشدق فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لاِصلاح الاَمر وحجب الحسين عن مناهضته ، فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين ، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه.
ومكث الاِمام ( عليه السلام ) في مكّة ، والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الاَمويين ، وكانت مباحث الاَمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه.
تحرّك الشيعة في الكوفة
وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة
( 130 )
شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل ، في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الاِمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الاِمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الاَموي ويبسط في بلادهم الاَمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الاِسلامية كما كانت أيّام أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من بين ذلك الوفد عبدالله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم.
رسائل الكوفة
ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوه إلى الاِمام ، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاِسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والاِسلام التي هي غاية آمالهم وحملوا الاِمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم.
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية ، وان الواجب يحتّم عليه إجابتهم.
إيفاد مسلم إلى الكوفة
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الاِمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بُدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ،
( 131 )
وكانت مهمّته خاصة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيين ، ومعرفة أمرهم ، فان صدقوا فيما قالوا توجّه الاِمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن.
ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفوا حوله ، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الاَيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الاِمام بالاِسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاَمة ، .. ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الاَنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للاَنصار ، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.
ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الاَمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكماً حازماً
( 132 )
يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الاَمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون ، وكان دبلوماسياً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الاَوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتولّيه الاِرهابي عبيدالله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الاَوامر المشدّدة بالاِسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة ، والقضاء على مسلم.
سفر ابن زياد إلى الكوفة
وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين ، وقد اعتقدوا بذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره ، فيقتل ، ولما انتهى إلى قصر الامارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنه الامام الحسين ( عليه السلام ) فانبرى يخاطبه بلطف قائلاً:
« ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من ارب »..
فصاح به ابن مرجانة:
« افتح لا فتحت فقد طال ليلك.. ».
( 133 )
وعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير:
« انّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة.. ».
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الاَمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بن الاَشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة ، ويعرفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.
ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الاَعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والاِرهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملاَ السجون بالمعتقلين ، واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد.
ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الاَعمال الاِرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانىَ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لاَهل البيت عليهم السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ، ورحّب به كأعظم ما يكون الترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها.
المخطّطات الرهيبة
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية ، والتغلّب على الاَحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت
( 134 )
قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي:
التجسّس على مسلم
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسية ، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الاَحداث ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لاَهل البيت عليهم السلام ، وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الاِمام الحسين ( عليه السلام ) قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .
ومضى معقل في مهمته ، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيين في الثورة ، فاتصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لاَهل البيت ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ، وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الاَحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها.
( 135 )
اعتقال هانئ
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخططاته ، فقد قام باعتقال هانىَ بن عروة سيد الكوفة ، والزعيم الاَوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الاَكثرية الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والاِرهاب عند جميع الكوفيين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقة وعلى أي حال فان هانىَ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده لاَنّه أحاط أمره بكثير من السرية والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل ، فلما حضر سقط ما في يد هانىَ وأطرق برأسه إلى الاَرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالاَسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته ، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه لاَنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثم أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر.
انتفاضة مذحج
ولمّا شاع اعتقال هانىَ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة ، وقد قاد جموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج ، وهو من أذناب السلطة
( 136 )
ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً:
« أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة.. ».
وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لاِنقاذ هانئ ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الاَموي فأمره أن يدخل على هانئ ، ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً:
« ياللمسلمين أهلكت عشيرتي!! أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، أيخلوني وعدوهم.. ».
والتفت إلى شريح ، وقد سمع أصوات أسرته قائلاً:
« يا شريح انّي لاَظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، انّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني.. ».
وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج:
« نظرت إلى صاحبكم ، انّه حي لم يقتل.. ».
وبادر ابن الحجاج عميل الاَمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً:
« إذا لم يقتل فالحمد لله.. ».
وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانىَ ،
( 137 )
ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته.
لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الاِرهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أن مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة.
ثورة مسلم
ولما علم مسلم ما جرى على هانىَ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبدالله بن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملاَ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ، كما في رواية أخرى ، وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت.. ».
وقام مسلم بتنظيم جيشه فاسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والاِخلاص لاَهل البيت عليهم السلام ، وزحف بجيشه نحو قصر الاِمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فأخبر أن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لم تكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للاَمويين.
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الاعلام والسيوف ، ودقّت طبول
( 138 )
الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد.
حرب الأعصاب
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل ، وأكثرها ضماناً لاِنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الاَعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف جيش مسلم ، فيذيعون الاِرهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الاَراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي:
أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم.
ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصادية.
ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام.
د ـ إن الحكومة ستعلن فيهم الاَحكام العرفية ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل اشارات الموت والدمار.
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم واضطربت قلوبهم ، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم ، وهم يقولون:
« ما لنا والدخول بين السلاطين.. ».
ولم يمض قليل من الوقت حتى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الاَعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا
( 139 )
منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أن ولاءهم لاَهل البيت عليهم السلام كان عاطفياً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم.
وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارة ، كأنّما أعلن فيها منع التجول ، فقد أغلق الكوفيون عليهم الاَبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الاَمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب.
في ضيافة طوعة
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الاَلم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانهى به السير إلى سيّدة كريمة ، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الاَحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة:
« ما حاجتك؟.. ».
« اسقيني ماءاً.. ».
( 140 )
وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثم جلس فارتابت منه فقالت له:
« ألم تشرب الماء؟.. ».
« بلى.. ».
« اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة.. ».
وسكت مسلم فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت ، فذعرت منه ، وصاحت به:
« سبحان الله!! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بابي.. ».
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات:
« ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم.. ».
وشعرت المرأة بأن الرجل غريب ، وانّه ذو شأن كبير ، ومكانه عظمى ، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة:
« ما ذاك يا عبدالله؟!! »
فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً:
« أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني.. ».
فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار:
« انت مسلم بن عقيل؟. ».
« نعم.. ».
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد
( 141 )
حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتها له.
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الاَسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الاَحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الاِمام الحسين ( عليه السلام ) الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.
ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة ، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالاَمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان والمواثيق بالكتمان ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الاَعراف ، والاَخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف ، وحمايته من كل مكروه ، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الاَخلاقية والانسانية ليس عنده فحسب ، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الاِنسان من القيم الكريمة.
وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ
( 142 )
الاَجل المحتوم منه.
الاِفشاء بمسلم
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الاِمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الاَشعث وهو من الاَسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسره بالاَمر ، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالاَمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً:
« ما قال لك: عبد الرحمن؟.. ».
فقال وقد ملاَ الفرح اهابه:
« أصلح الله الاَمير البشارة العظمى... ».
« ماذاك؟ مثلك من بشّر بخير... ».
« إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة... ».
وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة ، وأخذ يمني ابن الاَشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له:
« قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الاَوفى... ».
وسال لعاب ابن الاَشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لاِلقاء القبض على مسلم.
( 143 )
الهجوم على مسلم
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، محمد بن الاَشعث ، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية ، وينقذهم من ظلم الاَمويين وجورهم.
ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم.
واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم ، وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين ، عدا الجرحى ، وكان من قوته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر ، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الاِنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أشجع الناس ، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة.
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من
( 144 )
فوق سطوح بيوتهم ، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لاَتى عليهم مسلم ، ولكنها كانت في الاَزقة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الاَشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لاَنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندد بقيادة ابن الاَشعث قائلاً:
« سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة... ».
وثقل على ابن الاَشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً:
« أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الاَنام ». وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش ، فجعل بطل الاِسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز:
أقـسمت لا أقـتل إلاّ حرّا وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يـخلط البارد سخناً مرّا ردّ شـعاع الشمس فاستقرا
كـلّ امرىَ يوماً يلاقي شرّاً أخـاف أن أكذب أو أغرا
أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاَباة والاَحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحرية ، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبودية والذل ، لقد أردت أن تحررهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم ، ومقومات حياتهم.
( 145 )
ولمّا سمع ابن الاَشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الاَحرار والاَشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً:
« إنّك لا تكذب ، ولا تخدع ، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضاريّك.. ».
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الاَشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم:
« ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة ، كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الاَبرار ، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذريته.. ».
إنّ هؤلاء الاَجلاف قد فقدوا جميع القيم والاَعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاَمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.
وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الاَشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً:
« يا بن عقيل لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي.. ».
ولم يعن مسلم بأمان ابن الاَشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً:
« يا بن الاَشعث لا أعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً.. ».
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش
( 146 )
القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول:
« اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي.. ».
وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الاَشعث:
« إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة... ».
فحمل الاَوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الاَرض.
أسره
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد أثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الاَقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحررهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلى عبد الاَمويين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته ، وأعطته العهود والمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه.
وانتهى بمسلم إلى قصر الامارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله فقال لهم:
( 147 )
« اسقوني من هذا الماء.. ».
فانبرى له اللئيم الدنس عميل الاَمويين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له:
« أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.. ».
ودلّت هذه البادرة وغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الاِنسانية ، ومن المؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الاَنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له:
« من أنت ، .. ».
فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً:
« أنا من عرف الحق ، إذ تركته ، ونصح الاَمة والامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو الباهلي.. ».
أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والاَكثرية الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه ، قد غرقوا في الباطل والمنكر... ان غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً:
« لامك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي.. ».
وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلما أراد أن يشرب امتلاَ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال: لو كان لي الرزق المقسوم لشربته.
( 148 )
مع ابن مرجانة
وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ، ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً:
« هل تسلّم على الاَمير؟.. ».
فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولاَميره قائلاً:
« اسكت لا أمّ لك ، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه.. »
وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول:
« لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّك مقتول.. ».
إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الاَحرار أمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الاَمة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بين مسلم ، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ.
إلى الرفيق الاَعلى
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم فقال له: خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ، ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الاَرض ،
( 149 )
وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الاِنسان ، وقضاياه المصيرية ، وهو أوّل شهيد من الاَسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبوا لاِنقاذه والدفاع عنه.
إعدام هانئ
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانىَ بن عروة ، فأخرج من السجن ، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً:
« وامذحجاه.. ».
« واعشيرتاه.. ».
ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لاِنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالاَب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة.
وجيء بهانيء إلى ساحة يباع فيها الاَغنام ، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الاِعدام ، فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدم الشهادة.. لقد استشهد هانىَ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الاِسلام.
السحل في الشوارع
وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانىَ في الشوارع والاَزقّة ، وذلك لاِخافة العامة وشيوع الاِرهاب بين
( 150 )
الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والاَمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الاَحكام العرفية في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالاَغنام لاَفظع جريمة عرفها التأريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ).
* * * * *
إلى أرض الشهادة
( 152 )
( 153 )
وغادر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الاِرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالاِضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.
وسار الاِمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام الذين يمثّلون القوة والعزم والاِباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبوالفضل ( عليه السلام ) فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الاَحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.
وواصل الاِمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له:
« بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أعجلك عن الحجّ ؟ ».
( 154 )
فأحاطه الاِمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً:
« لو لم أعجل لاَخذت.. ».
وسارع الاِمام قائلاً:
« من أين أقبلت؟.. »
« من الكوفة.. ».
« بيّن لي خبر الناس.. »
كشف الفرزدق للاِمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً:
« على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ... وربّنا كل يوم هو في شأن.. ».
واستصوب الاِمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الاِسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له:
« صدقت لله الاَمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته » وأنشأ الاِمام هذه الاَبيات:
لـئن كـانت الـدنيا تـعدّ نفيسة فـدار ثـواب الله أعـلى وأنـبل
وان كـانت الاَبدان للموت أنشئت فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل
وان كـانت الاَرزاق شـيئاً مقدراً فقلة سعي المرء في الرزق أجمل
وان كـانت الاَموال للترك جمعها فـما بـال متروك به المرء يبخل
( 155 )
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله.
إنّ التقاء الاِمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.
وصول النبأ بمقتل مسلم
وسارت قافلة أبي الاَحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى (زرود) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين ( عليه السلام ) عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الاِمام عبدالله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الاَسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الاِمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما: إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىَ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الاَسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالاِمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له:
« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ».
ونظر الاِمام إلى أصحابه الممجّدين فقال:
« ما دون هؤلاء سرّ ».
( 156 )
« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس؟.. »
« نعم وأردت مسألته... ».
« والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانىَ ورآهما يجرّان في الاَسواق بأرجلهما.. ».
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الاِمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم:
« ما ترون فقد قتل مسلم؟.. ».
ووثبت الفتية كالاَسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين:
« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.. ».
راح أبو الاَحرار يقول بمقالتهم:
« لا خير في العيش بعد هؤلاء.. ».
وقال متمثلاً:
« سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مـســلمـا
فان مُتّ لم أندم وإن عشت لـــم ألم كفى بك عاراً أن تــذل وتـرغما »
لقد مضيت ـ يا أبا الاَحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع
( 157 )
الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لاَولئك الاَقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.
النبأ المفجع بشهادة عبدالله
وسار موكب الاِمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبدالله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس:
« اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك.. ».
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الاَحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاَمة ، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً:
« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ.. ».
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الاَموي الذي عمد إلى إذلال الاِنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.
( 158 )
ولمّا علم أبو الاَحرار بمصرع عبدالله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً:
« أمّا بعد: فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام.. ».
وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.
لقد صارح الاِمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الاَمر لاَنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.
لقد كان الاِمام ( عليه السلام ) ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالاَمر.
الالتقاء بالحرّ
وسار موكب الاِمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الاِمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الاِمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له:
« لمَ كبّرت؟... »
( 159 )
« رأيت النخل... ».
وأنكر عليه رجل من أصحاب الاِمام ممن عرف الطريق ، فقال له:
« ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل »...
وتأمّلها الاِمام ، فطفق يقول: وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الاِمام أنّها طلائع الجيش الاَموي جاءت لحربه فقال لاَصحابه:
« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد.. ».
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له:
« بلى هذا ذو حُسم(1) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد.. ».
ومال موكب الاِمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الاِمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الاِمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الاِمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملاَون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.
____________
(1) ذو حسم: ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك.
( 160 )
لقد تكرّم الاِمام ( عليه السلام ) على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الاَريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.
خطاب الاِمام في الجيش
وخطب الاِمام ( عليه السلام ) خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والاِسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف:
« أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.. ».
وأحجموا عن الجواب لاَن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.
وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الاِمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له:
« أتريد أن تصلّي بأصحابك؟.. ».
فقال الحرّ بأدب:
( 161 )
« بلى نصلّي بصلاتك.. ».
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:
« أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لاَهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الاَمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم... ».
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لاَنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهم السلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الاِسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الاِمام فقال له:
« ما هذه الكتب التي تذكرها؟.. ».
فأمر الاِمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للاِمام:
« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك... ».
( 162 )
ورام الاِمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له:
« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد.. ».
ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك.. ».
وأمر الاِمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين:
« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟.. ».
واطرق الحرّ برأسه إلى الاَرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:
« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه.. ».
وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول:
« ما تريد منّا..؟ »
« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد.. ».
« والله لا أتبعك.. ».
« إذن والله لا أدعك.. ».
وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للاِمام:
« إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».
( 163 )
واتفقا على هذا الاَمر فتياسر الاِمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الاِمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.
خطاب الإمام
وانتهى موكب الاِمام إلى (البيضة) فألقى الاِمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:
« أيّها الناس: إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله »..
« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم.. ».
وأعلن أبو الاَحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على
( 164 )
حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والاَغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الاَحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد ( عليه السلام ) بالاَمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والاِمام ( عليه السلام ) أحقّ وأولى من غيره بتغيير الاَوضاع الراهنة وإعادة الحياة الاِسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الاِمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الاِمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:
« أنّي أذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ... ».
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:
« أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول: كما قال أخو الاَوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نـوى خـيراً وجاهد مسلماً
ووآس الـرجال الـصالحين بنفسه وخـالف مـثبوراً وفـارق مجرما
فـان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم كـفى بـك ذلاً أن تـعيش وترغما
( 165 )
ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لاِنقاذ المسلمين من ويلات الاَمويين وجورهم:
رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ
وتابعت قافلة الاِمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:
« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.. ».
وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الاِمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الاَحداث ، وانقلاب الاَوضاع إليه ان وصل الاِمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الاِمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لاَنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الاِمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الاِمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.
في كربلاء
وكان ركب الاِمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:
« ما اسم هذا المكان ؟. . ».
« كربلاء.. ».
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول:
« اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء.. ».
وأيقن الاِمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً:
« هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، وسفك دمائنا.. ».
وسارع أبوالفضل العباس مع الفتية من أهل البيت عليهم السلام ، وسائر الاَصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الاَحداث الرهيبة على صعيد هذه الاَرض.
ورفع الاِمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً:
« اللهمّ.. انّا عترة نبيّك محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد أخرجنا ، وطردنا ، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين.. ».
( 167 )
وأقبل الاِمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم:
« الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون.. ».
يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.
ثم حمد الامام ( عليه السلام ) الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً:
« أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت ، وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاِناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما.. »(2).
لقد أعلن أبو الاَحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته... وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الاَمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الاِسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن
____________
(1) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 98.
( 168 )
القين وهو من أفذاذ الاَحرار فقال له:
« سمعنا يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاِقامة فيها.. ».
ومثلت هذه الكلمات شرف الاِنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الاَحرار من الولاء لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والتفاني في سبيله ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو برير الذي وهب حياته لله ، فقال له:
يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.. ».
ولا يوجد في البشرية مثل هذا الاِيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الاَعظم يوم يلقى الله.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الاَبطال من أصحابه ، فقال:
« أنت تعلم أن جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان شئت أو مغرباً ، فوالله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على
( 169 )
نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.. »(1).
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للاَحداث ودراسته لاَبعادها فقد أعرب أن الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الاِيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الاِسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الاِمام الحسين ( عليه السلام ) كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الاِيمان من قلوبهم.
وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الاِمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الاِخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.
خروج الجيوش لحرب الاِمام الحسين
وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الاَرجاس من أذنابه
____________
(1) مقتل المقرم : 231.
( 170 )
وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.
وعرض ابن مرجانة سليل الاَدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم خيرة من في الاَرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.
خطبة ابن زياد
وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الاَعظم فهرعوا كالاَغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلاَ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:
« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالاَموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا.. »(1).
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون
____________
(1) الطبري 6: 230.
( 171 )
أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.
واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.
احتلال الفرات
وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الاَرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم من خيرة ما خلق الله.
ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(1) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الاِمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله ، وهم ينادون: العطش ، العطش ، وذاب قلب الاِمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ، وجفّ لبن المراضع ، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:
وذئــاب الـشرور تـنعم بـالماء وأهــل الـنبيّ مـن غـير مـاء
يـالظلم الاَقـدار يـظمأ قلب الليث والـلـيث مـوثـق الاَعـضـاء
وصغار الحسين يبكون في الصحراء يــا ربّ أيـن غـوث الـقضاء
____________
(1) مرآة الزمان في تواريخ الاَعيان : 89 .
( 172 )
لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لاِنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والاَعراف ، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والاَطفال فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الاِسلامية ، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الاَموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:
« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه.. »(1).
واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً:
« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.. »(2).
وكان هذا الوغد الاَثيم ممن كاتب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالقدوم إلى الكوفة.
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبدالله بن الحصين الاَزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً:
« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
(2) أنساب الاَشراف 3: 182 ، تأريخ ابن الاَثير 4: 236.
( 173 )
حتى تموت عطشاً.. ».
فرفع الاِمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:
« اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً.. »(1).
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.
سقاية العباس لاَهل البيت
والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء ، وأخذه بالقوة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً ، وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:
« ما جاء بك؟.. ».
« جئنا لنشرب الماء الذي حلاَتمونا عنه.. »
« اشرب هنيئاً.. ».
« أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه؟. ».
« لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء.. ».
____________
(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي: 86.
( 174 )
ولم يعن به الاَبطال من أصحاب الاِمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملاَوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء.
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت ، وانقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب (السقاء) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الاَلقاب وأعزّها عنده(1).
أمان الشمر للعباس وأخوته
وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لاَبي الفضل وأخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ، ويفردهم عن أخيهم أبي الاَحرار ، وبذلك يضعف جيش الاِمام ، لاَنّه يخسر هؤلاء الاَبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب ، وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً:
« أين بنو أختنا العباس واخوته؟.. ».
وهبّت الفتية كالاَسود ، فقالوا له:
« ما تريد يابن ذي الجوشن؟.. ».
فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:
« لكم الاَمان.. ».
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
( 175 )
وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله:
« لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا أمان له... »(1).
وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الاَماجد اخوة الاِمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أن أخوة الحسين ( عليه السلام ) من أفذاذ الدنيا ، الذين صاغوا الكرامة الاِنسانية ، وصنعوا الفخر والمجد للاِنسان.
زحف الجيوش لحرب الحسين
وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، بعد أن صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الاِمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فايقظته ، فرفع الاِمام رأسه فرأى أخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات:
« إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ، فقال: إنك تروح إلينا.. ».
وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول:
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 176 )
« يا ويلتاه... »(1).
والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:
« أتاك القوم.. ».
وطلب الاِمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:
« اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم ، فتقول لهم: ما بدا لكم ، وما تريدون؟.. ».
لقد فدى الاِمام ( عليه السلام ) اخاه بنفسه ، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وانه قد بلغ قمّة الاِيمان ، وأعلى مراتب المتقين... وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له:
« جاء أمر الاَمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم... »(2).
وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:
« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلى رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقد قتلوا ذريته ، وأهل بيته ، المتهجّدين بالاَسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الاَتقياء الاَبرار.. »(3).
وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:
____________
(1) ابن الاَثير 3: 284.
(2) البداية والنهاية 8: 177.
(3) حياة الاِمام الحسين 3 : 172 .
( 177 )
« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك.. ».
وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له: « أتق الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة ، عترة خيرة الاَنبياء.. ».
فأجابه عزرة:
« كنت عندنا عثمانياً فما بالك ، .. ».
فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والاِيمان:
« والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعرفت ما تقدمون من غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا ، فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .. »(1)
لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الاِمام بالقدوم إلى الكوفة لاَنّه كان عثماني الهوى ، ولكنه حينما التقى بالاِمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الاِمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لاَنّ الاِمام من ألصق الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له:
« ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة ،
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 178 )
وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار... ».
لقد أراد ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.
ورجع أبو الفضل ( عليه السلام ) إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الاِمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.
ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والاِحجام عن إجابة الاِمام قائلاً:
« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.. »(1).
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الاَشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الاِمام ورفع صوته قائلاً:
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 285.
( 179 )
« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الاَمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم... »(1).
وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الاِمام أو يرفض ما دعوه إليه.
الاِمام يأذن لاَصحابه بمفارقته
وجمع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الاَرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:
« أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء... اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين.
أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الاَعداء غداً ، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 165.
( 180 )
القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري... »(1).
وتمثّلت روعة الاِيمان ، وسرّ الاِمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الاَحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الاَمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتخذونه ستراً دون كل عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.
جواب أهل البيت
ولم يكد يفرغ الاِمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيت عليهم السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثلهم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) فخاطب الاِمام قائلاً:
« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً.. ».
والتفت الاِمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم:
« حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم... ».
وهبّت فيتة آل عقيل كالاَسود تتعالى أصواتهم ، قائلين:
« إذن ما يقول الناس: ، وما نقول: ، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني
____________
(1) ابن الاَثير 3: 285.
( 181 )
عمومتنا خير الاَعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك... »(1).
لقد صمّموا على حماية الاِمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الاَسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.
جواب أصحابه
أمّا أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للاِمام ( عليه السلام ) الفداء والتضحية دفعاً عن المبادىَ المقدّسة التي ناضل من أجلها الاِمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الاِمام قائلاً:
« أنحن نخلّي عنك ، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك ، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك.. ».
لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الاَخير من حياته.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو سعيد بن عبدالله الحنفي فخاطب الاِمام قائلاً:
« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فيك ، أما والله لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أذرى يفعل بي ذلك
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 238.
( 182 )
سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا... ».
وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الاِمام ( عليه السلام ) ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة ، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.
وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً:
« والله لوددت أنّي قُتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة ، وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.. »(1).
أرأيتم وفاء هؤلاء الاَبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.
وأعلن بقيّة أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الاَعلى ، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً:
« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله.. »(2).
لقد أُترعت نفوس هؤلاء الاَبطال بالاِيمان العميق ، فتحرّروا من
____________
(1 و2) حياة الاِمام الحسين 3: 168 ـ 169.
( 183 )
جميع ملاذ الحياة ولهوها ، واتجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون.
إحياء الليل بالعبادة
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل.
وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.
* * * * *
يوم عاشوراء
وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الاَحزان.
دعاء الامام:
وخرج أبو الاَحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لاِراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الاَجر الزهيد من الاِرهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الاِمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً:
« اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وكفيته ،
( 185 )
فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة.. »(1).
لقد أناب الاِمام إلى الله ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.
خطبة الاِمام
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة ، فدعا براحلته فركبها ، واتجه نحوهم ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج ، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:
« أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون ، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.. ».
وحمل الاَثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العباس ، وابنه عليّاً ، وقال لهما:
سكّتاهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ ، ولما سكتن استرسل في خطابه
____________
(1) تأريخ ابن عساكر 13: 14.
( 186 )
فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وعلى الملائكة والاَنبياء ، وقال في ذلك: ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ، ولا بعده أبلغ منه في منطقه(1).
وكان مما قاله:
« أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتنته ، فلا تغرنّكم هذه الدنيا ، فانها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ».
لقد وعظ الاِمام ( عليه السلام ) أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الاَنبياء ومحنتهم في أممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته ، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الاَليم ، والسخط الدائم ، ثم استرسل الاِمام الممتحن في خطابه فقال:
« أيّها الناس: انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم ، وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي ، وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأول المؤمنين بالله ، والمصدق
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 242.
( 187 )
لرسوله ، بما جاء من عند ربّه ، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الطيّار عمّي ، أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة » فان صدّقتموني بما أقول: وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الاَنصاري ، وابا سعيد الخدري ، وسهل ابن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، .. ».
وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الاِمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه ، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الاَموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله.
وتصدّى لجواب الاِمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له:
« هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.. ».
وحقاً انه لم يع ما يقول الاِمام فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له:
« والله انّي لاَراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.. ».
( 188 )
والتفت الاِمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم:
« فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ، ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة.. ».
وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثم التفت الاِمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم:
« يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الاَشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار ، وأخضر الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة... ».
وأنكر أُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للاِمام ، فقالوا له « لم نفعل ذلك.. ».
وبهر الاِمام من ذلك وراح يقول:
« سبحان الله!! بلى والله لقد فعلتم.. ».
وأعرض الاِمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً:
« أيّها الناس: إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الاَرض.. ».
وتصدّى لجوابه قيس بن الاَشعث وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له:
« أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فانّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه.. ».
فردّ عليه الاِمام قائلاً:
( 189 )
« أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.. »(1).
ومثلت هذه الكلمات عزّة الاَحرار وشرف الاَباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام.
وتكلّم أصحاب الاِمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الامويين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة ، وقتالهم لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
خطاب آخر للامام الحسين
وانبرى سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الاَموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالاَمر ، فانطلق ( عليه السلام ) نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الاَنبياء والاَوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال:
« تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ(2) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُمْ(3)
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 43.
(2) موجفين: أي مسرعين إليكم.
(3) حششتم: أي أوقدتم النار.
( 190 )
عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(1) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ.
مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ(2) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا(3) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ(4).
فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الاَُْمَّةِ ، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ.
أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ؟!
أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ(5) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ(6) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ.
أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ(7) وَالذِّلَةِ ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ: مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ.
____________
(1) إلبا: أي قوة لاَعدائكم ، وذلك باجتماعهم.
(2) مشيم: أي السيف في غمده لا يسل.
(3) الدبا: بفتح الدال ، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير.
(4) الفراش: جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها.
(5) وشجت: أي التفت عليه أصولكم.
(6) تأزرت: أي نبتت عليه فروعكم.
(7) السلة: بكسر السين استلال السيوف.
( 191 )
أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الاَُْسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ».
ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ ( عليه السلام ) بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي:
« فَـإِنْ نَهْزِمْ فَهَزّامُونَ قِدْماً وَإِنْ نُـغْلَبْ فَـغَيْرُ مُغَلِّبينا
وَمـا إِنْ طِـبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ مَـنايانا وَدَوْلَـة آخَـرينا
إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ كَـلاكِـلَهُ أَنـاخَ بِـآخِرينا
فَـأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ قَوْمي كَـما أَفْنى الْقُرُون الاََْوَّلينا
فَـلَوْ خِلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنا وَلَـوْ بَـقِيَ الْكِرامُ إِذاً بَقينا
فَـقُلْ لِـلشّامِتينَ بِنا: أَفيقُوا سَيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا »
ثُمَّ قالَ: « أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ. إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها ، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ. أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ».
ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الاِمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه ، فقد استهان بأولئك الاَقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم ، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على
( 192 )
عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم ، كما أعلن الاِمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والممثّل الاَعلى للكرامة الاِنسانية ، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته ، وكرامة الاَمة.
وقد أخبرهم الاِمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة ، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الاَليم ، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الاِمام حتى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الاِسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلاّ القليل.
وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الاَرض.
استجابة الحرّ
واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الاِمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الاَموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ،
( 193 )
فصمم على الالتحاق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له:
« أمقاتل هذا الرجل ، .. ».
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد:
« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الاَيدي.. ».
لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ:
« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا.. ».
واندفع ابن سعد قائلاً:
« لو كان الاَمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك.. ».
ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الاِمام عزم على الالتحاق بمعسكر الاِمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له:
« والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، .. ».
وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً:
« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .. ».
وألوى بعنان فرسه نحو الاِمام(1) وكان مطرقاً برأسه إلى الاَرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الاِمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 244.
( 194 )
على خدّيه قائلاً:
« اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أباعبدالله إنّي تائب فهل لي من توبة.. ».
ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الاِمام ليمنحه التوبة قائلاً:
« جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، .. ».
واستبشر به الاِمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له:
« نعم يتوب الله عليك ويغفر.. »(1).
وملاَ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الاِمام في ذلك ، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته:
« يا أهل الكوفة لاَمكم الهبل(2) والعبر(3) أدعوتموه حتى إذا أتاكم
____________
(1) الكامل 2: 288.
(2) الهبل: الثكل.
(3) العبر: البكاء وجريان الدمع.
( 195 )
اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن ، ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالاَسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه... »(1).
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الاَرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.
____________
(1) الكامل 3 : 229 .
* * * * *
الحرب
( 198 )
( 199 )
وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الاِمام ، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالاِمام ، فزحف الباغي الاَثيم نحو معسكر الاِمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الاِمام ، وهو يصيح:
« اشهدوا لي عند الاَمير أنّي أوّل من رمى الحسين.. ».
واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للاَمويين ، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.
وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الاِمام ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها ، والتفت الاِمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً:
« قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم.. ».
وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الاِمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق ، وأن الجيش الاَموي على ضلال ، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.
لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) مع عشرات الآلاف من الجيش الاَموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة
( 200 )
كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الاَلباب.
الحملة الاُولى
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الاَموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الاَرواح والمعدّات.
وقد استشهد نصف أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) في هذه الحملة(1).
المبارزة بين المعسكرين
ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الاَعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً:
« يا حمقى أتدرون من تقاتلون ، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 203.
( 201 )
وقوماً مستميتين ، فلا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتلوه ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم.. »(1).
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الاِمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوة الاِرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الاِمام ( عليه السلام ) إلاّ على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما انّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة.
لقد توفرت في أصحاب الاِمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الاِيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون: ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم(2) وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الاِمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفاً(3)ول وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً:
« ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ».
وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى ، وقال:
« سبحان الله شيخ مضر ، وأهل المصر عامة ، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري!!. ».
____________
(1 و2) أنساب الاَشراف 3: 192.
(3) حياة الاِمام الحسين 3: 211.
( 202 )
ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفَّفة وخمسمائة من الرماة ، فسددوا لاَصحاب الحسين ( عليه السلام ) السهام فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلاّ استبسالاً في القتال ، واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار(1).
أداء فريضة الصلاة
وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده وهي أداء صلاة الظهر ، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الاِمام قائلاً:
« نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها.. ».
لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه.
ورفع الاِمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فراى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له:
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
( 203 )
« ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها.. »
وأمر الاِمام ( عليه السلام ) أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً: « أنها لا تقبل » فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية:
« زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقبل منك يا حمار!! ».
وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه(1).
واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الاِمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الاِمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبدالله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الاِمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الاِمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدمه وهو يقول:
« اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك.. »
والتفت إلى الاِمام قائلاً له بصدق وإخلاص:
« أوفيت يا بن رسول الله؟. ».
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
( 204 )
فأجابه الاِمام شاكراً له:
« نعم أنت أمامي في الجنّة.. ».
وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الاِمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن(1) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والاِيمان ، والولاء للحقّ.
مصرع بقيّة الاَنصار
وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الاِمام من شيوخ وشباب ، وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف واطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لاَي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة ، ويشعرون بالفخار.
وقد وقف الاِمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول:
« قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين.. »(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الاَمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للاِنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.
____________
(1) مقتل الحسين للمقرم : 297.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 239.
( 205 )
وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الاَنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الاِرادة والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الاَموي.
مصارع آل النبيّ
وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّت أبناء الاَسرة النبوية كالاَسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة ، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلقاً عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ ، ولما رآه الاِمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض:
« اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد ( صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه... اللهمّ امنعهم بركات الاَرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا... ».
لقد تجسّدت صفات الرسول الاَعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الاِمام ( عليه السلام ) على ولده ، فصاح بابن سعد:
( 206 )
« مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم تلا قوله تعالى: (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ«33» ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1).. ».
وشيّع الاِمام ( عليه السلام ) فلذة كبده وهو غارق بالاَسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وشجاعة جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الاَعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً:
أنا عليّ بن الحسين بن علي نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي(2)
أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الاَمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الاَدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.
وأعلن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاَباة في الاَرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر
____________
(1) سورة آل عمران: 33.
(2) تأريخ ابن الاَثير 3: 293.
( 207 )
عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون: انّه ذكرهم ببطولات جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً(1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الاَخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً:
« يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الاَعداء ، .. ».
والتاع الاِمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً:
« واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً.. ».
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه(2).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق:
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي
كُـلِّ حـشاشتـه كـصالية الغضا ولسـانه ظـمأ كـشقّة مبـرد
____________
(1 و2) مقتل الخوارزمي 2: 30.
( 208 )
فانصاع يؤثره عليه بريقه لو كان ثمة ريقة لم يجمد
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة ... وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحـرب قد بانت لها حقائق وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق جموعكم أو تغمد البوارق (1)
لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق .
وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين (2) وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (3) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله فطعنه بالرمح في ظهره
____________
(1) حياة الامام الحسين 3 : 247 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 : 31 .
(3) مقتل المقرم : 316 .
( 209 )
وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
« عليك مني السلام أبا عبدالله ، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة ... ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق :
« قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا ... » (1) .
وكان العباس عليه السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبي صلى الله عليه وآله زينب عليها السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :
____________
(1) نسب قريش : 57 .
( 210 )
« وابن أخاه ... » .
« واثمرة فؤاداه .. » .
وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى :
« على الدنيا بعدك العفا يا ولدي ... » .
لك الله يا أبا عبدالله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم .
مصارع آل عقيل
وهبت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذب عنه ، فقال :
« اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة ... » (1).
وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل واندبي إن ندبت آل الرسول
____________
(1) حياة الإمام الحسين 3 : 249 .
( 211 )
سبعة كلهم لصلب علي قد أصيبوا وتسعة لعقيل (1)
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
مصارع أبناء الحسن
وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد عليه السلام إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب .
وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمي وأنا حي » (2) .
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وانطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون
____________
(1) المعارف : 204 .
(2) حياة الإمام الحسين 3 : 255 .
( 212 )
إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له :
« سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... » .
فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته :
« يا عماه أدركني .. ».
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
« بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره ... » (1).
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (2) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ،
____________
(1) البداية والنهاية 8 : 186 .
(2) حياة الامام الحسين 3 : 256 .
( 213 )
وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
« اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ... » (1) .
وبرز من بعده عون بن عبدالله بن جعفر ، ومحمد بن عبدالله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله زينب الكبرى عليها السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهم السلام إلا أخوة الإمام الحسين عليه السلام وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس عليه السلام وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه .
****
____________
(1) مقتل الخوارزمي 2 : 28 .
على ضفاف العلقمي
( 216 )
( 217 )
وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أن المنيّة قد اختطفته ، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلاّ أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للاِيمان واصطفاهم على عباده.
ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الاَمويين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة ، وعقائل النبوة ، وهنّ يلطمن وجوههن ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أُولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ... ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الاِمام الحسين عليه السلام قد أحاطت به أوغاد اهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الاَدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله .
ونعرض ـ يإيجاز ـ إلى شهادته وما رافق ذلك من أحداث.
العباس مع أخوته
وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم السلام
( 218 )
فقال لهم :
«تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله ، فانه لا ولد لكم...»(1).
لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبدالله فقال له:
«تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، واحتسبك..»(2).
واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه السلام .
قول رخيص
ومن أهزل الاَقوال ، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الاَثير ان العباس عليه السلام قال لاَخوته: «تقدّموا حتى أرثكم ، فانه لا ولد لكم..»(3).
لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الاِسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى ، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الاَمويين ، وهو يستغيث فلا يغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة ، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من
____________
(1) الارشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 82.
(3) تأريخ ابن الاَثير 3: 294.
( 219 )
الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الاَمويين ، وبالاضافة لهذا كله فان السيدة أم البنين أم السادة الاَماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لاَنها من الطبقة الاَولى لو كان لاَبنائها أموال فان أباهم الاِمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الاَموال... ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه السلام «حتّى أثأركم..» أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه.
مصارع اخوة العبّاس
واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد برز عبدالله ابن أمير المؤمنين عليه السلام والتحم مع جيوش الامويين وهو يرتجز:
شيخي علي ذو الفخار الاَطول من هاشم الخير الكريم المفضل
هـذا حسين بن النبي المرسل عـنه نحامي بالحسام المصقل
تـفديه نـفسي مـن أخ مبجّل يا رب فامنحني ثواب المنزل
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الامام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله ووصيه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين عليه السلام ، وقد أعلن أنّه انّما يدافع عنه لاَنّه ابن النبيّ صلى الله عليه وآله ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة.
ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله(1).
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 262.
( 220 )
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل يقاتل قتال الاَبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله(1).
وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبيدالله بن مرجانة(2).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم.
ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الاَعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الاِيمان ، وأخذ يتذكّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله.
مصرع أبي الفضل
ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات:
«أنت صاحب لوائي..».
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل
____________
(1) الاِرشاد: 269.
(2) مقاتل الطالبيين: 83.
( 221 )
قائلاً:
« لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم..».
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:
«يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول: « دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..».
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:
يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ،
( 222 )
وينادون:
«العطش العطش..».
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسيـن وارد المنـون وتشربيـن بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ان الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية.
ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى الله عليه وآله ،
( 223 )
وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
لا أرهـب الموت اذ المـوت زقا حتى أواري في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا إني أنا العبـاس أغـدو بالسقا
ولا أخاف الشرّ يــوم الملتقى
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ صلى الله عليه وآله .. وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
والله ان قطعتـم يميني انّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الاَمين
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف
( 224 )
الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً:
«عليك منّي السلام أبا عبدالله...».
وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:
«الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ...».
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه بـين الـخيام وبـينه مـتقسم
ألـفاه مـحجوب الـجمال كأنّه بـدر بـمنحطم الـوشيج ملثم
فـأكب مـنحنياً عـليه ودمعه صـبغ الـبسيط كأنّما هو عندم
قـد رام يـلثمه فلم ير موضعاً لـم يـدمه عضّ السلاح فيلثم
نـادى وقد ملاَ البوادي صيحة صـم الـصخور لـهولها تتألّم
أأخـي يـهنيك النعيم ولم أخل تـرضى بأن أرزى وأنت منعم
أأخـي مـن يحمي بنات محمد اذ صرن يسترحمن من لا يرحم
( 225 )
مـا خـلت بعدك أن تشلّ سواعدي وتـكف بـاصرتي وظهري يقصم
لـسـواك يـلطم بـالاَكف وهـذه بـيض الـضبا لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي إلاّ كـمـا أدعـوك قـبل وتـنعم
هـذا حـسامك مـن يذلّ به العدا ولــواك هـذا مـن بـه يـتقدم
هـونت يا باابن أبي مصارع فتيتي والـجرح يـسكنه الـذي هـو آلم
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزري وضع الاِمام عليه السلام بقوله:
وهـوى عـليه مـا هـنالك قائلاً الـيوم بـان عـن اليمين حسامها
الـيوم سـار عن الكتائب كبشها الـيوم بـان عـن الـهداة امامها
الـيوم آل إلـى الـتفرق جـمعنا الـيوم حـلّ عـن البنود نظامها
الـيوم نـامت أعـين بك لم تنم وتـسهّدت أخـرى فـعز منامها
اشقيق روحي هل تراك علمت ان غـودرت وانـثالت عليك لئامها
قد خلت اطبقت السماء على الثرى أو دكـدكت فـوق الربى أعلامها
لـكن أهـان الخطب عندي انني بـك لاحـق أمـراً قضى علامها
ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة:
«أين عمّي أبو الفضل ، ..».
فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ،
( 226 )
وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح:
«وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك...».
يالهول الفاجعة.
يالهول الكارثة.
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً:
«واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل...».
لقد شعر أبو عبدالله عليه السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
وداعاً يا قمر بني هاشم.
وداعاً يا فجر كل ليل.
وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً.
* * * * *