الخطبة الأولى
انتهينا - ضمن "سلسلة أنواع القلوب" في جزئها الواحد والثلاثين - إلى القسم الخامس من أقسام "القلب الورع"، الذي ربطنا علاقته بالجوارح، التي تبينا أنها تستمد صلاحها من صلاحه، وورعها من ورعه، فوقفنا على علاقة هذا القلب بجارحة البصر، بعد الانتهاء من بيان علاقته بجارحة اللسان.
ونود اليوم - إن شاء الله تعالى - أن نرصد علاقة القلب الورع بجارحة السمع، باعتبارها من أعظم النعم التي تفضل الله - سبحانه وتعالى - بها علينا، إذ بها ندرك الأصوات من حولنا، ونستطيع الحوار مع غيرنا، ونرفع الجهل عن ذواتنا، فتستقيمَ حياتنا، وتنضبطَ علاقاتنا، ويسهلَ قضاءُ حوائجنا. قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
والله - عز وجل - مَنَّ على الإنسان بهذه النعمة الجليلة، التي ذكرها في كتابه 185 مرة، وخصها بذِكرِ ما تستوجبه من شكر المُنعِم في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الملك: 23]. والبدء - في الآية - بالسمع دليل على أنه أول ما خلق الله من حواس الإنسان، بل أول ما يتكون من الأعضاء، بحيث يبدأ الجنين في بطن أمه يسمع مع بداية الشهر الرابع، ثم يولد وقد اكتمل سمعه. ولذلك كان من السنة التأذين في أذن المولود عند ولادته، حتى يكون أولَ ما يطرق سمعه في هذه الحياة الشهادتان.
وتجل في عينك هذه النعمة العظيمة، حين تعلم أن الأُذن الواحدة تتكون من 100 ألف خلية سمعية، تقوم بتنظيم دخول الصوت بذبذباته المختلفة، مع وجود آلاف الأعصاب والأهداب والشعيرات، كل جزء منها يقوم بوظيفةٍ قدرها الله له. وهي نعمة تفقدها 5% من سكان العالم، أي: 360 مليون شخص، 32 مليوناً منهم من الأطفال. كما يعاني منه نحو ثُلث الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً.
ولقد ربط الله - عز وجل - حسن السماع في الآخرة ولذتَه، بحسن استخدام السمع في الدنيا، ولذلك المؤمنون الصالحون الذين أعملوا هذه النعمة في ما يرضي الله - تعالى - محجوبون - يوم القيامة - عن سماع ما يضرهم، أو ما به يتأثمون. قال - تعالى -: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ﴾. أما الذين يطلقون سمعهم في المحرمات، ويستعملونه في الموبقات، فيجزون يوم القيامة بنقيض أفعالهم. قال تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ﴾، لأنهم في الدنيا لم يكونوا يسمعون على الحقيقة، وإن كانت لهم آذان، ﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ﴾. كانت تعرض عليهم الآيات والنذر، فيعرضون، يحذَّرون من سوء العواقب، فيكذبون، تلقى عليهم العظات والنصائح، فلا يكترثون. قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، فلا يملكون - يوم القيامة حين يرون العذاب - إلا أن يعترفوا على أنفسهم بذلك ويقولوا: ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].
ويقسو القلب حين تنغلق دونه قناة السمع، فلا يتلقى الخير الذي ينفعه، ولا يصل إليه الصالح الذي يحييه ويوقظه، منكوسا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. قال - تعالى - : ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22].
ويرق هذا القلب ويلين حين تسوق إليه الأذن الكلام الطيب، من القرآن الكريم، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الصالحين، وحكم العابدين. قال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. ويقولون: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193].
يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لا خيرَ في الحياة إلاّ لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ، أو متكلِّمٍ عالم". ويقول بعضُ الحكماءِ: "إذا جالستَ العالمَ فأنصت، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِت، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم".
ولذلك أناب الله تعالى السمع عن باقي الحواس في تحقيق الاستجابة المطلوبة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36]، لأن السمع طريق الحق، وسبيل الآيات والبراهين، التي تنير الدروب، وتزيل الكروب.
فكيف يسمع المسلم كلام الله، وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرف عنهما كأن لم يسمعهما؟ قال - تعالى - محذرا هذا الصنف من الناس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾. ولربما انشرحت صدورهم لكلام أعداء الله وأكاذيبهم وتلبيساتهم، واستثقلوا كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].
ومن الاستعمالات الباطلة لحاسة السمع، القعود مع الذين يخوضون في آيات الله بالتأويل المتعسف، والتوجيه المتحرف، استخفافا واستهزاء، وإثارة للشبه، وزرعا للفتن. قال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ [النساء: 140].
ومن هذه الاستعمالات التنصت والتجسس، زراية على الناس وتشنيعا، ونقلا للأخبار عنهم وترويعا. وفي الحديث: "ولا تحسسوا" متفق عليه، ومن معاني التحسس: استراق السمع، والتنصت على الناس.
ومن هذه الاستعمالات، استماع الغيبة، وهذا مما ابتلي به كثير من الناس اليوم، حيث يستلذون بسماع كلام الناس حول بعضهم بخير وبشر، لا يكفونهم، ولا يزجرونهم.قال رجل للحسن البصري: "إن فلاناً قد اغتابك". فبعث إليه طبقاً من الرطب وقال: "بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها".
ومن هذه الاستعمالات، الاستماع للهو الحديث، كالغناء الفاحش، والشعر الماجن، والكلام القبيح. قال - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6]، ولهو الحديث: كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي. قال الحسن: "لهو الحديث : المعازف والغناء". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هو والله الغناء".
وليس غريبا أن يتعرض 10 ملايين شاب في بلد كمصر، لفقدان السمع، بسبب استخدامهم سماعات المحمول الخارجية، غير موثوقة المصدر، وأن تزيد النسبة ب 20% في الأطفال من سن 12 إلى 19 سنة، وقد استهوتهم الموسيقى الصاخبة، والأصوات النافرة.
وسمعَك صن عن سماع القبيح
كصون اللسان عن النطق بهْ
فإنك عند سماع القبيح
شريكٌ لقائله فانتبهْ
الخطبة الثانية
ها نحن - اليوم - نسمع بآذاننا، ونبصر بأعيننا ما يحصل لإخواننا في سوريا وفي مدينة حلب خصوصا، الذين أصبحوا يعيشون ما سمي بأسوأ أزمة إنسانية عرفتها هذه الحرب العدوانية المقيتة. قرابة ثمانين ألفا من اللاجئين المستضعفين - اليوم - على الحدود يفترشون الثرى، ويلتحفون السماء، تحت قصف البرد القارس، بعد أن أمعن المسؤولون الظلمة فيهم قصفا بالقنابل العنقودية، والبراميل المتفجرة فوق رؤوسهم بلا رحمة ولا شفقة، دون تمييز بين المساجد، والمستشفيات، والمدارس. بالإضافة إلى أزيد من 260 ألفا بينهم أكثر من 75 الف مدني قتلوا منذ بداية الحرب قبل أزيد من خمس سنوات، أكثر من 55 ألفا منهم قتلوا في السنة الماضية وحدها، منهم قرابة 13 ألفا من المدنيين، من بينهم ما يقرب من 2600 طفل، ها هي مدينة حلب تضيف إلى هذه الحصيلة المروعة أزيد من 300 قتيل في أقل من أسبوعين، منهم نساء وأطفال، بل أزيد من 50 منهم قتلوا مرة واحدة في مستشفى واحد بعد قصفه بالطائرات، كانوا ينتظرون الدواء والعلاج، أملا في حياة كريمة، وغد مشرق. كل ذلك يحصل، والعالم يسمع، فلا يزيد على ألفاظ الشجب والتنديد، لأن القلوب ماتت، والغيرة وئدت، والآذان صمت.
فاللهم إن الشقة بعدت، والحيلة ضعفت، فاجعل منا أصحاب الركب الجاثية، والأعين الباكية، والقلوب الضارعة، أن تنصر إخواننا المسلمين في الشام، وأن تثبتهم على دينك، وتنصرهم على عدوك. ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
انتهينا - ضمن "سلسلة أنواع القلوب" في جزئها الواحد والثلاثين - إلى القسم الخامس من أقسام "القلب الورع"، الذي ربطنا علاقته بالجوارح، التي تبينا أنها تستمد صلاحها من صلاحه، وورعها من ورعه، فوقفنا على علاقة هذا القلب بجارحة البصر، بعد الانتهاء من بيان علاقته بجارحة اللسان.
ونود اليوم - إن شاء الله تعالى - أن نرصد علاقة القلب الورع بجارحة السمع، باعتبارها من أعظم النعم التي تفضل الله - سبحانه وتعالى - بها علينا، إذ بها ندرك الأصوات من حولنا، ونستطيع الحوار مع غيرنا، ونرفع الجهل عن ذواتنا، فتستقيمَ حياتنا، وتنضبطَ علاقاتنا، ويسهلَ قضاءُ حوائجنا. قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
والله - عز وجل - مَنَّ على الإنسان بهذه النعمة الجليلة، التي ذكرها في كتابه 185 مرة، وخصها بذِكرِ ما تستوجبه من شكر المُنعِم في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الملك: 23]. والبدء - في الآية - بالسمع دليل على أنه أول ما خلق الله من حواس الإنسان، بل أول ما يتكون من الأعضاء، بحيث يبدأ الجنين في بطن أمه يسمع مع بداية الشهر الرابع، ثم يولد وقد اكتمل سمعه. ولذلك كان من السنة التأذين في أذن المولود عند ولادته، حتى يكون أولَ ما يطرق سمعه في هذه الحياة الشهادتان.
وتجل في عينك هذه النعمة العظيمة، حين تعلم أن الأُذن الواحدة تتكون من 100 ألف خلية سمعية، تقوم بتنظيم دخول الصوت بذبذباته المختلفة، مع وجود آلاف الأعصاب والأهداب والشعيرات، كل جزء منها يقوم بوظيفةٍ قدرها الله له. وهي نعمة تفقدها 5% من سكان العالم، أي: 360 مليون شخص، 32 مليوناً منهم من الأطفال. كما يعاني منه نحو ثُلث الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً.
ولقد ربط الله - عز وجل - حسن السماع في الآخرة ولذتَه، بحسن استخدام السمع في الدنيا، ولذلك المؤمنون الصالحون الذين أعملوا هذه النعمة في ما يرضي الله - تعالى - محجوبون - يوم القيامة - عن سماع ما يضرهم، أو ما به يتأثمون. قال - تعالى -: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ﴾. أما الذين يطلقون سمعهم في المحرمات، ويستعملونه في الموبقات، فيجزون يوم القيامة بنقيض أفعالهم. قال تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ﴾، لأنهم في الدنيا لم يكونوا يسمعون على الحقيقة، وإن كانت لهم آذان، ﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ﴾. كانت تعرض عليهم الآيات والنذر، فيعرضون، يحذَّرون من سوء العواقب، فيكذبون، تلقى عليهم العظات والنصائح، فلا يكترثون. قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، فلا يملكون - يوم القيامة حين يرون العذاب - إلا أن يعترفوا على أنفسهم بذلك ويقولوا: ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].
ويقسو القلب حين تنغلق دونه قناة السمع، فلا يتلقى الخير الذي ينفعه، ولا يصل إليه الصالح الذي يحييه ويوقظه، منكوسا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. قال - تعالى - : ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22].
ويرق هذا القلب ويلين حين تسوق إليه الأذن الكلام الطيب، من القرآن الكريم، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الصالحين، وحكم العابدين. قال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. ويقولون: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193].
يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لا خيرَ في الحياة إلاّ لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ، أو متكلِّمٍ عالم". ويقول بعضُ الحكماءِ: "إذا جالستَ العالمَ فأنصت، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِت، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم".
ولذلك أناب الله تعالى السمع عن باقي الحواس في تحقيق الاستجابة المطلوبة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36]، لأن السمع طريق الحق، وسبيل الآيات والبراهين، التي تنير الدروب، وتزيل الكروب.
فكيف يسمع المسلم كلام الله، وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرف عنهما كأن لم يسمعهما؟ قال - تعالى - محذرا هذا الصنف من الناس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾. ولربما انشرحت صدورهم لكلام أعداء الله وأكاذيبهم وتلبيساتهم، واستثقلوا كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].
ومن الاستعمالات الباطلة لحاسة السمع، القعود مع الذين يخوضون في آيات الله بالتأويل المتعسف، والتوجيه المتحرف، استخفافا واستهزاء، وإثارة للشبه، وزرعا للفتن. قال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ [النساء: 140].
ومن هذه الاستعمالات التنصت والتجسس، زراية على الناس وتشنيعا، ونقلا للأخبار عنهم وترويعا. وفي الحديث: "ولا تحسسوا" متفق عليه، ومن معاني التحسس: استراق السمع، والتنصت على الناس.
ومن هذه الاستعمالات، استماع الغيبة، وهذا مما ابتلي به كثير من الناس اليوم، حيث يستلذون بسماع كلام الناس حول بعضهم بخير وبشر، لا يكفونهم، ولا يزجرونهم.قال رجل للحسن البصري: "إن فلاناً قد اغتابك". فبعث إليه طبقاً من الرطب وقال: "بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها".
ومن هذه الاستعمالات، الاستماع للهو الحديث، كالغناء الفاحش، والشعر الماجن، والكلام القبيح. قال - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6]، ولهو الحديث: كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي. قال الحسن: "لهو الحديث : المعازف والغناء". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هو والله الغناء".
وليس غريبا أن يتعرض 10 ملايين شاب في بلد كمصر، لفقدان السمع، بسبب استخدامهم سماعات المحمول الخارجية، غير موثوقة المصدر، وأن تزيد النسبة ب 20% في الأطفال من سن 12 إلى 19 سنة، وقد استهوتهم الموسيقى الصاخبة، والأصوات النافرة.
وسمعَك صن عن سماع القبيح
كصون اللسان عن النطق بهْ
فإنك عند سماع القبيح
شريكٌ لقائله فانتبهْ
الخطبة الثانية
ها نحن - اليوم - نسمع بآذاننا، ونبصر بأعيننا ما يحصل لإخواننا في سوريا وفي مدينة حلب خصوصا، الذين أصبحوا يعيشون ما سمي بأسوأ أزمة إنسانية عرفتها هذه الحرب العدوانية المقيتة. قرابة ثمانين ألفا من اللاجئين المستضعفين - اليوم - على الحدود يفترشون الثرى، ويلتحفون السماء، تحت قصف البرد القارس، بعد أن أمعن المسؤولون الظلمة فيهم قصفا بالقنابل العنقودية، والبراميل المتفجرة فوق رؤوسهم بلا رحمة ولا شفقة، دون تمييز بين المساجد، والمستشفيات، والمدارس. بالإضافة إلى أزيد من 260 ألفا بينهم أكثر من 75 الف مدني قتلوا منذ بداية الحرب قبل أزيد من خمس سنوات، أكثر من 55 ألفا منهم قتلوا في السنة الماضية وحدها، منهم قرابة 13 ألفا من المدنيين، من بينهم ما يقرب من 2600 طفل، ها هي مدينة حلب تضيف إلى هذه الحصيلة المروعة أزيد من 300 قتيل في أقل من أسبوعين، منهم نساء وأطفال، بل أزيد من 50 منهم قتلوا مرة واحدة في مستشفى واحد بعد قصفه بالطائرات، كانوا ينتظرون الدواء والعلاج، أملا في حياة كريمة، وغد مشرق. كل ذلك يحصل، والعالم يسمع، فلا يزيد على ألفاظ الشجب والتنديد، لأن القلوب ماتت، والغيرة وئدت، والآذان صمت.
فاللهم إن الشقة بعدت، والحيلة ضعفت، فاجعل منا أصحاب الركب الجاثية، والأعين الباكية، والقلوب الضارعة، أن تنصر إخواننا المسلمين في الشام، وأن تثبتهم على دينك، وتنصرهم على عدوك. ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].