أكتب الآن هذه الكلمات في يوم مشمس من صيف عام 2020، وهو اليوم التالي لوصولي إلى مونتريال، إحدى أغنى مدن أمريكا الشمالية، وهي بالطبع أيقونة من أيقونات الرأسمالية الحديثة، ولها تاريخ تعتز به، بدأ قبل خمسة قرون مع «اكتشاف» الأوروبيين للمنطقة وبناء أولى المستعمرات فيها، كبقية مدن هذه القارة القائمة على الغزو في مطلع
عصر الحداثة. استيقظت صباحًا على صراخ أحد سكان المبنى المقابل في وجه مشرد مسن، لم أفهم شيئًا مما قاله الشاب الغاضب ولا من دفاع العجوز عن نفسه لأن الحوار كان باللغة الفرنسية، واكتفيت بمشاهدته من شرفة غرفتي، لكن هذا المشهد الاستهلالي لزيارتي الأولى إلى قارة العالم الجديد كان كفيلا بإثارة مخاوفي التي صارحت بها صاحبة الفندق، فسارعَتْ لطَمأنتي بأن المشردين لا يتعرضون لأحد بالأذى، وأن جارها الذي يقطن في المبنى الآخر يحق له طرد أي مشرد قد يعتدي على حدود ملكيته الخاصة، إلا أنها لا تستطيع بدورها
منع أي مشرد من افتراش المناطق المحيطة. اختلطت مشاعري بين الشفقة على المشردين الذين يفترشون زوايا مختلفة تطل عليها شرفتي، وبين خوفي الفطري منهم، فسارعت لاستخراج كتاب الخوف السائل» من حقيبتي، وراجعت أحد أعمق أطروحات النقد الغربي للخوف في عالم ما بعد الحداثة. يستهل زيغمونت باومان الفصل الخامس إطلاق عنان الخوف بمفارقة ذكرها عالم الاجتماع الفرنسي الراحل روبرت كاستل، وهي أن سكان الدول المتقدمة يعيشون في أحد أعظم المجتمعات الآمنة التي شهدها التاريخ البشري، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بأنهم أكثر عرضة للخطر والخوف وفقدان الأمان من كل المجتمعات السابقة. وهذا الشعور لا يصدر عن ندرة الحماية - بحسب كاستل - بل عن عدم وضوح نطاقها في مجتمع بات
يتمركز حول بحث مسعور عن الأمن (1).
يعقب باومان بأن الهوس المتزايد بالأمن هو أثر جانبي للوعد الحديث بإمكانية تحقيق أمن تام، وكأن هذه الحياة الدنيا قد صيغت في عقول أنبياء الحداثة على غرار الجنة التي فقدت العلمانية الأمل بها، فالإنسان الحداثي سيظل يعاني - في رأي باومان - طالما ظل تحقق هذا الوعد بعيد المنال، وسيؤدي الإحباط والشعور بإهانة العجز إلى تحويل القلق المتزايد إلى رغبة عارمة في تحديد المتهمين ومعاقبتهم ، ثم طلب التعويض عن الآمال
المفقودة.
احمد دعدوش
عصر الحداثة. استيقظت صباحًا على صراخ أحد سكان المبنى المقابل في وجه مشرد مسن، لم أفهم شيئًا مما قاله الشاب الغاضب ولا من دفاع العجوز عن نفسه لأن الحوار كان باللغة الفرنسية، واكتفيت بمشاهدته من شرفة غرفتي، لكن هذا المشهد الاستهلالي لزيارتي الأولى إلى قارة العالم الجديد كان كفيلا بإثارة مخاوفي التي صارحت بها صاحبة الفندق، فسارعَتْ لطَمأنتي بأن المشردين لا يتعرضون لأحد بالأذى، وأن جارها الذي يقطن في المبنى الآخر يحق له طرد أي مشرد قد يعتدي على حدود ملكيته الخاصة، إلا أنها لا تستطيع بدورها
منع أي مشرد من افتراش المناطق المحيطة. اختلطت مشاعري بين الشفقة على المشردين الذين يفترشون زوايا مختلفة تطل عليها شرفتي، وبين خوفي الفطري منهم، فسارعت لاستخراج كتاب الخوف السائل» من حقيبتي، وراجعت أحد أعمق أطروحات النقد الغربي للخوف في عالم ما بعد الحداثة. يستهل زيغمونت باومان الفصل الخامس إطلاق عنان الخوف بمفارقة ذكرها عالم الاجتماع الفرنسي الراحل روبرت كاستل، وهي أن سكان الدول المتقدمة يعيشون في أحد أعظم المجتمعات الآمنة التي شهدها التاريخ البشري، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بأنهم أكثر عرضة للخطر والخوف وفقدان الأمان من كل المجتمعات السابقة. وهذا الشعور لا يصدر عن ندرة الحماية - بحسب كاستل - بل عن عدم وضوح نطاقها في مجتمع بات
يتمركز حول بحث مسعور عن الأمن (1).
يعقب باومان بأن الهوس المتزايد بالأمن هو أثر جانبي للوعد الحديث بإمكانية تحقيق أمن تام، وكأن هذه الحياة الدنيا قد صيغت في عقول أنبياء الحداثة على غرار الجنة التي فقدت العلمانية الأمل بها، فالإنسان الحداثي سيظل يعاني - في رأي باومان - طالما ظل تحقق هذا الوعد بعيد المنال، وسيؤدي الإحباط والشعور بإهانة العجز إلى تحويل القلق المتزايد إلى رغبة عارمة في تحديد المتهمين ومعاقبتهم ، ثم طلب التعويض عن الآمال
المفقودة.
احمد دعدوش
