مهند الانباري
Well-Known Member
- إنضم
- 17 مايو 2012
- المشاركات
- 157
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
سليم مطر ـ جنيفملاحظة: هذا النص التعريفي، لا يدعي بأنه نص علمي تاريخي، بل هو (سيرة ادبية) مزيج من التاريخ والادب، وهو مدخل لمشروع اكبر لكتابة السيرة الروائية لهذا الملك العراقي المنسي : في القرن السادس قبل الميلاد، عاش (نبونيد) آخر ملوك بابل. كان متعلقا بأمه التقية التي تقدس(سين) اله القمر اكثر من (مردوخ) ملك الآلهة، حتى انها عملت على إنشاء المعابد الخاصة به في كل انحاء مملكة بابل التي كانت تشمل آنذاك العراق والشام. كان هذا الملك منذ فتوته يميل الى الإعتزال بعيدا والتفكير بأسرار الخليقة وطرح الأسئلة المصيرية. وكان يحب التجوال في البوادي والإختلاط بقبائلها. كانت مملكة بابل ومجتمعات المشرق بالاضافة الى مصر، تعيش آنذك اكثر حقبها انحطاطا، كأي حضارة مريضة هرمة تتهيأ للسقوط امام القبائل الرعوية الآرية الآسيوية الفتية التي اجتاحت غرب آسيا واوربا وبدأت تنشأ الممالك الواعدة في ايران والأناضول واليونان وايطاليا..كان(نبونيد) حائرا حزينا وهو ينظر الى مملكته قد انهكتها الطوفانات والطواعين. بالاضافة الى هجمات القوى الرعوية الآرية من الشرق والشمال، مع الغزوات البدوية السامية من الغرب والجنوب. بينما استشرى الانحطاط في نفوس الناس وماتت ضمائرهم وتخلفت عقولهم وصاروا حيوانات ضارية تنهشهم الغيرة والتحاسد فيفتكون ببعضهم البعض بلا رحمة: القوي ينهش الضعيف، والضعيف ينهش نفسه والضعيف مثله.. اصيب (نبونيد) بصدمة كبيرة بعد موت امه، جعلته يستعيد الأسئلة العصية الأبدية عن معنى الحياة وسر الموت. تقديرا لأمه القديسة جهد من اجل الإعلاء من شأن(سين ـ القمر) كإله لقوى الإنوثة والمشاعر الروحية الداخلية، بخلاف(مردوخ) اله الفحولة والقوة والجبروت المادي. انكب على دراسة جميع ما كتبه الأسلاف من اجل العثور على اجوبة للأسئلة المحيرة وللخلاص من هذا الإنحطاط المستشري. لهذا يعتبر المؤرخون المعاصرون هذا الملك اول باحث ومنقب آثار في التاريخ، لأنه قام بحملة في انحاء العراق والشام من اجل البحث عن كتابات الأسلاف وترجمتها وإعادة الحياة الى الآثار المندثرة منذ آلاف السنين.
بعد تفكير وحوارات طويلة مع الحكماء إقتنع(نبونيد) ان لا خلاص للناس من هذه الكارثة المستشرية الا بخلاص النفوس وتنقية الضمائر من الآثام التي تفسدها. ادرك ان المشكلة تكمن في إنحطاط ديانة المشرق الى طقوس شكلية يتعيش عليها الكهنة الذين صار همهم الأكبر تبرير ظلم الأقوياء وعبودية الضعفاء وتمجيد الحياة الدنيا والقوة والعنف والحث على الحروب وتشريد المنهزمين من مدنهم وقراهم، من اجل المغانم والعبيد والجواري. لقد فقد الناس كل روحانيتهم وتم إختصار الإيمان بماديات الحياة والحاجيات الدهرية. لقد سيطرت الفردية والأنانية والغيرة والنميمة والتحاسد بعد إن انتفى الإيمان بأي قوى عليا ووازع اخلاقي وتلاشى أي مبرر للدفاع عن الوطن والكفاح من اجل المستقبل والمجتمع الأسمى.
قرر (نبونيد) ان يكون معتقده الجديد جامعاً لأفضل ما في اديان المنطقة من محاسن. بعد بحث ومداولات مع الكثير من الفقهاء والمطلعين قرر تبني فكرة اقترحها عليه بعض حكماء الشام الذين كانوا اكثر من غيرهم على دراية بديانة اهل مصر بالإضافة الى ديانة اهل المشرق ومذاهبهم المتناحرة: ان افضل مافي ديانة العراق والشام هي فكرة (المنقذ) المسمى بـ (تموزـ بعل) اله الخصب والذكورة، الذي يهبط كل ربيع مبعوثا من الإله الأب (ايل) رب السماء لكي يخصب الأم الأرض (عشتار) الهة الأنوثة. اما مشكلة هذه الديانة فأنها دهرية لا تؤمن بالحياة الآخرى بل تعتقد بأن الجنة والنار هنا في الحياة الدنيا. لا يمكن سد هذا الفراغ الا بالإعتماد على ديانة مصر التي كان افضل ما فيها هي فكرة (البعث والحساب) وخلود المؤمن في الجنة الموعودة. بدأ الحكماء يدمجون بين هذين الدينين، ومع الزمن بدأت تسمية (منداعيةـ العرفانية) تفرض نفسها كتعبير بسيط عن المعرفة الحدسية الطبيعية بالإله (الأب) الذي يرسل (ابنه) المنقذ لينذر الناس بيوم الحساب القريب ويخلص (ارواحهم) من مفاسد الحياة الدنيا الفانية ويسمو بهم الى الحياة العليا الخالدة.
***
قرر (نبونيد) ان يكون معتقده الجديد جامعاً لأفضل ما في اديان المنطقة من محاسن. بعد بحث ومداولات مع الكثير من الفقهاء والمطلعين قرر تبني فكرة اقترحها عليه بعض حكماء الشام الذين كانوا اكثر من غيرهم على دراية بديانة اهل مصر بالإضافة الى ديانة اهل المشرق ومذاهبهم المتناحرة: ان افضل مافي ديانة العراق والشام هي فكرة (المنقذ) المسمى بـ (تموزـ بعل) اله الخصب والذكورة، الذي يهبط كل ربيع مبعوثا من الإله الأب (ايل) رب السماء لكي يخصب الأم الأرض (عشتار) الهة الأنوثة. اما مشكلة هذه الديانة فأنها دهرية لا تؤمن بالحياة الآخرى بل تعتقد بأن الجنة والنار هنا في الحياة الدنيا. لا يمكن سد هذا الفراغ الا بالإعتماد على ديانة مصر التي كان افضل ما فيها هي فكرة (البعث والحساب) وخلود المؤمن في الجنة الموعودة. بدأ الحكماء يدمجون بين هذين الدينين، ومع الزمن بدأت تسمية (منداعيةـ العرفانية) تفرض نفسها كتعبير بسيط عن المعرفة الحدسية الطبيعية بالإله (الأب) الذي يرسل (ابنه) المنقذ لينذر الناس بيوم الحساب القريب ويخلص (ارواحهم) من مفاسد الحياة الدنيا الفانية ويسمو بهم الى الحياة العليا الخالدة.
***
شرع (نبونيد) اولا بتكوين الأنصار والأتباع لهذه المعتقد الجامع في بابل عاصمة مملكته. لكنه فوجئ بردود فعل عنيفة من قبل رجال الكهنوت الذين شعروا بأن هذه المعتقد الجديد يهدد سلطانهم وجبروتهم. راحوا يتهمونه بالمروق والهرطقة وتفضيل الإله (سين) على الأله الأعظم (مردوخ) . بلغ بهم الأمر انهم راحوا يتآمرون مع الدولة الفارسية التي كانت تهدد بإجتياح البلاد. بعد جهود كثيرة غير مثمرة إقتنع(نبونيد) بأنه ليس هنالك أي أمل لنشر معتقده، لا في بابل ولا في اية حاضرة من العراق والشام، لأن الإنحطاط قد بث سمومه في ارواح الناس كالداء القاتل الذي لا رجعة منه.لكنه لم يفقد الأمل بل راح يبحث مع حكمائه عن افضل البدائل الممكنة. اخيراً قر القرار على اللجوء الى حياة الإعتزال في الأماكن النائية التي لم تفسدها بعد هذه الحضارة المحتضرة. انتشر الأنصار في البوادي والجبال يبتنون الصوامع البسيطة التي تمنحهم بعض الإستقرار والأمان. بنفس الوقت كانوا ينشرون دعوتهم بين الناس المحيطين بهم. لم يكونوا مهتمين بلون الإنسان او لغته لأنهم أعتقدوا ان(ايل ـ الله) هو اله جميع البشر في كل مكان وزمان، بل هو اله الكون بأجمعه. اما (نبونيد) فأنه فضل الإستقرار في البادية التي كان متولعاً بها منذ طفولته. بعد ان كلف ولده (بيلشاصر) نائبا عنه في إدارة بابل، ابتنى له عاصمة (دينية) في جنوب بادية الشام (التيماء) . جمع حوله الزهاد والمريدين وراح يمضي وقته وهو يصلي لـ (إيل) كي يبعث رسوله (البعل المخلص) ليهدي شعبه ويمنحه الحب والأمل وينقذه من الإنحطاط المستشري والخراب الزاحف. تحولت (التيماء) مع عموم بادية الشام الى مركز نشر الدعوة العرفانية وانتشرت فيها الأديرة والصوامع للنساك والمبشرين. المشكلة ان موقع هذه المدينة الدينية في اطراف البادية جعلها عرضة لهجمات القبائل البدوية الطامعة او المدفوعة من قبل كهنة واغنياء بابل الناقمين على ملكهم الرافض لمفاسدهم. كانت قبائل البادية، بسبب الجهل المستشري بينها والإحتقار الذي تجابه به من قبل اهل الحواظر، لا تكل عن العبث ونهب الممتلكات وقطع الطرق وسلب القوافل والإشتراك في الحروب والمؤامرات بين الملوك والأمراء. فكر (نبونيد) ان افضل طريقة لحماية مدينته ان يقوم ببث دعوته العرفانية بين القبائل البدوية من اجل كسبها وابعادها عن خصومه. مع الزمن تحولت (التيماء) الى قبلة للقبائل البدوية التي راحت تنتشر بينها هذه الديانة الجديدة.
***
***
ان العيش بين القبائل البدوية ومتابعة اوضاعها جعلت (نبونيد) يدرك حقيقة استراتيجية لم يكن يحسب لها حساب. ان دراسة اوضاع العالم في تلك الحقبة دلت على ان قبائل الرعاة الآرية التي إنبثقت من اواسط آسيا قد استثمرت اهم الميزات التي تمتلكها: (الحصان).. شرعت بهذه الماكنة الجبارة الجديدة تجتاح آسيا واوربا وتكسر الدول وتنشر الخراب. لا يمكن ان يقف بوجه هؤلاء الرعاة البدو الا بدو مثلهم لم تدجنهم الحضارة ولم تفسدهم الرفاهية. إذن ليس هنالك من منقذ لهذا المشرق من اجتياحات القوى الرعوية الآسيوية والأوربية الجامحة الا قبائل البادية التي شرعت هي الأخرى قبل قرون تستثمر افضل اكتشافاتها: (الجمل)، كماكنة جبارة لها دورا حاسما في التنقل في البوادي والسهول والإجتياح والغزو..ادرك (نبونيد) ان هذه القبائل هي التي تمتلك المستقبل لأنها الوحيدة القادرة على مجابهة اجتياحات الفرسان الآسيويين والأوربيين. لهذا يتوجب تطويع هذه القبائل وتهيأتها للعب دورها الحربي التاريخي المطلوب كمخلصة للمشرق من هزيمته المحتمة. منذ ذلك الحين شرع (نبونيد) بالتركيز على نشر اتباعه وانصاره في جميع بوادي وصحارى المنطقة ابتداءا من بادية الشام حتى اليمن والجزيرة العربية وسيناء، بل هنالك اتباع امتد بهم الترحال والتبشير الى قبائل صحارى شمال افريقيا حتى سواحل الأطلسي. لكن الوقت لم يمهل هذا الملك، لأن الفساد كان من القوة بحيث لم يترك أي فرصة للنهوض والصلاح. اجتاح الأخمينيون بابل بعد خيانة رجال الكهنوت والدولة وتعاونهم مع الغازي الذي اوعدهم بالإبقاء على مصالحهم وسلطانهم.
***
***
خلال قرون تعمق المعتقد العرفاني وانتشر في جميع انحاء الأرض بين مختلف الأقوام، في آسيا وافريقيا واوربا. وقد شاعت عنه ايضا التسمية الإغريقية(الغنوصية ـ GNOSTICISM) التي تعني(العرفانية). لكن شعوب المشرق ومصر وشمال افريقيا، ظلت اشد تمسكا بهذا المعتقد، لأنه يمثل ديمومة لميراثها الديني الأصلي. شرع المبشرون الشاميون ينشرون العرفانية في بلاد الإغريق والرومان وفي كل ضفاف البحر المتوسط. اما المبشرون العراقيون فأنهم كعادتهم اتجهوا نحو آسيا حيث نشروا العرفانية بين الإيرانيون والترك والهنود حتى حدود الصين. في كل مكان تشكلت الطوائف العرفانية التي تنوعت طوائفها وتسمياتها مثل العيسانية والصابئية والهرمزية والمانوية وغيرها. لقد اتخذت هذه العرفانية بعدا فلسفيا عميقا في مصر، حيث اصبحت الأسكندرية مركز هذه الدعوة بعد ان دخلت فيها بعض المؤثرات الآسيوية الهندية والايرانية وكذلك الإغريقية، وما(الأفلاطونية الجديدة) المصرية الا التعبير الفلسفي عن هذه المعتقد. بلغت هذه العرفانية ذروة سلطانها وإنتشارها مع إنبثاق المسيحية الشامية التي تمكنت من التعبير عن التطلعات العرفانية الأصيلة لسكان الضفاف الشرقية للمتوسط والتعويض عن خضوعهم السياسي للدول الأجنبية. كذلك قام (ماني البابلي) بنشر دعوته العرفانية في انحاء العالم، وقد دفع حياته ثمنا لذلك، إذ تم صلبه وحرقه من قبل الملك الفارسي بهرام.
***
***
اما بالنسبة للملك ـ النبي (نبونيد) فلا احد يعرف مصيره بعد سقوط بابل. هنالك من يعتقد بأنه قد قتل بعد اسره، ولكن الحقيقة انه هرب واعتزل في البادية مع الكثير من مريديه واتباعه وظل ينشر دعوته من هناك. مع الزمن امتزج هؤلاء العرفانيون البابليون مع قبائل البادية وتزاوجوا وانحدروا الى الجنوب في اعماق الحجاز على سواحل البحر الأحمر. هذه السلالة العرفانية البابلية هي التي اسست مدن يثرب ومكة. لقد ظل دائما هذا الملك النبي مقدساً لدى الرهبان والنساك والمتصوفة العرفانيين. والكثير منهم يعتقدون بأنه هو المهدي المنتظر صاحب الزمان الذي سيظهر ذات يوم لينقذ الناس من الظلم والفساد. يُعتقد ان قصة (نبونيد) وهجرته الصحراء العربية، هي التي اوحت للعرب بحكاية (اسماعيل) وامه الذين قطنوا الصحراء ومنهم انحدر اجداد العرب الشماليين (المستعربة) ! من هذه السلالة البابلية انحدرت قبيلة قريش التي حافظت على ميراث الأسلاف ومعتقدهم وراحت تلعب دورا قياديا توحيديا بين قبائل الجزيرة العربية. حتى انبثق الاسلام ليحقق احفاد بابل نبوءات سلفهم الجليل (نبونيد) ويقودوا قبائل البادية صعودا نحو الشمال ليعيدو امجاد بابل في دمشق ثم في بغداد.
***
***
العرفانية ليست ديناً بل هي طريقة تفكير قابلة للإنسجام مع أي دين او معتقد يتقبل فكرة الخير والمحبة. العرفانية هي التي شكلت الأساس المعتقدي الذي انبثقت من جميع الأديان والمذاهب السماوية (التوحيدية). ترى العرفانية شديدة الحضور والوضوح في الرهبنة المسيحية والقبالا اليهودية ومذاهب التشيع والمتصوفة والإشراقيين المسلمين. من أوليات هذا المعتقد انه ليس مهما الأسماء التي تقدسها، الآلهة والانبياء والقديسين، بل المهم هو جوهر الفكرة، اما الاسماء والتفاصيل والحكايات فهي اغطية ورموز ووسائل توضيح تتناسب مع ظروف وزمان كل انسان ومجتمع. ان الإيمان بـ (وحدة الوجود) هو جوهر هذا المعتقد. ان الخالق غير منفصل عن المخلوق. انه خالق ومخلوق من خليقته.. ومن يبتغي التعبد للإله عليه ان يتعبد لذاته ولقوى الحياة في داخله، لأن الله هو الضمير وهو إرادة الخير والنور الكامنة في أعماق كل إنسان. . ان الخالق يكمن في كل المخلوقات، ومن يريد ان يتعبد للإله عليه ان يتعبد لكل الوجود، لأن الله هو النور والخير والإبداع والجمال الكامن في اعماق كل شيء.