ناطق العبيدي
Well-Known Member
- إنضم
- 16 نوفمبر 2013
- المشاركات
- 5,189
- مستوى التفاعل
- 1,631
- النقاط
- 113
سورة الناس تفسير الآيات1 - 6 الاستعاذة بالله ووسوسة الشياطين .
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً:
أيها الأخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الناس وهي آخر سورة في كتاب الله، وسورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً.
وفي الدرس الماضي، في سورة الفلق تَوَجَّهَتْ الآيات إلى أنَّ الإنسان إذا خاف عَدُوّاً، وخطراً قريباً، وشَبَحَ مُصيبةٍ، وأشْرار الناس فَلْيَسْتَعِذ بِرَبِّ الفلق، والفلق هو الكون، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّه آيات اليوم توْجيهاً آخرَ إضافَةً إلى ما تحْتَمِلُهُ أيْضاً من تَوْجيهات السورة السابقة.
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم والكمال الذي ظَهَر منه، وعَقْلُهُ الراجح، وحِلْمُهُ الذي لا حُدود له، وشَجاَعَتُه: أنا النبي لا كذب، أنا النبي لا كذِب، أنا ابن عبد المطَلِّب، ورأفَتُهُ، ورحْمَتُهُ، ورِفْقُهُ بالحيوان، وعطْفُهُ على الإنسان، ورجاحَةُ تفْكيره، كيف كان أباً ناجِحاً، وقائِداً ناجِحاً، وسِياسِياً مُحَنَّكاً، وأخاً كبيراً للمؤمنين، كيف جمع هذه الصِّفات من الرحمة إلى العِلْم، إلى الحِكْمة والحِلم والتواضع والفِطْنة والذكاء، إلى قُوَّة الحدْس، وإلى إشْراق النفْس، وإلى دِقَّةِ النظْر ورجاحة الرأيْ، حتى إنَّ الله سبحانه وتعالى وصَفَهُ وصْفاً ينْفرِدُ به، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم: 4 ]
ولم يُقْسم الله سبحانه وتعالى بِعُمُرِ نَبِيٍّ إلا بعمره صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
[ سورة الحجر: 72 ]
العِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة :
ولم يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام إلا بِقَوْله: يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، فَهُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد يسأل سائِل: من أين جاءَت هذه العَظَمَة؟ ومن أين جاء هذا الخُلُق العظيم؟ ومن أين جاء هذا الحِلْمُ والمروءة والرحمة والحِكمة والتواضع؟ فكان الجواب: قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
أنا كذلك لأنَّني عُذْتُ بِرَبِّ الناس، فهذا الخُلُقُ العظيم وهذه النفْسُ المُشْرِقَة والعَقْلُ الراجح والصِّفات النامِيَة إنما اشْتَقَّها النبي عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه وتعالى عن طريق الاتِّصال به تعالى والعِياذِِ به، فكلمة أعوذ مُضارع ماضيها عاذَ ومصْدَرُها عِياذ وعَوْذٌ، فالعِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة.
والآن فإنك ترى أنّ الصورة قد انْقَلَبَتْ من وصْفٍ للنبي عليه الصلاة والسلام إلى طريقٍ سالِكٍ إلى الله عز وجل، فَكُلُّ واحِدٍ يسْمعُ هذا الكلام إذا أراد الخُلُق الرفيع والمقام المحْمود عند الله، وإذا أراد أنْ تكون له سعادته الأبَدِيَّة، وأن يكون حليماً كريماً ومُتواضِعاً وجريئاً وصاحِبَ مُروءة، حكيماً وذَكِياً وفَطِناً فالطريق أنْ يتَّصِل بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
فلا تعْجبوا:
(( أدَّبني ربي فأحْسن تأديبي))
[كنز العمال عن ابن مسعود]
هُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم :
في السورة الماضِيَة وُجِّهَت الآياتُ على أساس أنَّك إذا خِفْتَ من مخْلوق شِرير، أو إذا بدَتْ لك مُصيبة أو شبَحُ مصيبة، أو خِفْتَ مرَضاً عُضالاً أو جُرْثوماً فتاكاً وعَدُوّاً قهاراً، إذا خِفْتَ من أمْثال هؤلاء فقُلْ أعوذ بِرَبِّ الفلق، اليوم هذا الكمال العظيم، وهذا الخُلُق العظيم، الرِّفْعَة العالية، والثبات على المبْدأ، وهذه السعادة التي لا توصَف، لو بقيتُم على الحال التي أنتم فيها عندي لَصافَحَتْكُم الملائِكة، ولزارَتْكُم في بُيوتِكم، فَمَن مِنا لا تسْتَهْويهِ أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن منا إنْ كان صادِقاً فعليه أنْ يذْهب إلى الحرَمِ النبوي الشريف ويقف أمام حُجْرَتِهِ الشريفة ولا يبْكي؟ ما الذي جَمَعَكَ به؟ فأنت لم ترَهُ! بعد ألف وأربعمئة عام تقِفُ أمام حُجْرَتِهِ فَتَبْكي، أليس لأنَّهُ على خلُقٍ عظيم، أليْس لأنَّ رحْمته وسِعَتْ أُمَّتَهُ كُلَّها؟ أليس لأنَّهُ كان نَبِيَّ هذه الأُمَّة؟ أليس لأنَّهُ لم يقُل شيئاً بلِسانِهِ إلا طَبَّقَهُ في سُلوكِهِ؟ يكْفيهِ بعضُ المواقف! ففي رحلة العمُر التي انتهت عند الحديبية كانت الرواحل ثلاثمئة، والجُنود أكثر من ألف فما الحيلة؟! فقال عليه الصلاة والسلام وهو قائِدُ الجَيْش: لِيَتَناوَبْ كُلُّ ثلاثةٍ على راحِلَة، وأنا وعَلِيٌّ وأبو لُبابة على راحِلَة، فلما جاء دَوْرُهُ في المَشْيِ قال له صاحِباهُ: يا رسول الله اِبْقَ راكِباً، فقال عليه الصلاة والسلام- وهو نَبِيُّ هذه الأُمَّة كلماتٍ لو أعَدتُها آلاف المرات لا أشْبَعُ منها: ما أنا بأغْنى منكما عن الأجْر، ولا أنتما بِأقْوى منِّي على المَشْي! وكان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصْحابِهِ في نُزْهَة، فقال أحدهم: عَلَيَّ ذَبْحُ الشاة، وقال الآخر: علَيَّ سَلْخُها، وقال الثالث: وعَلَيَّ طبْخُها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعَلَيَّ جمْعُ الحَطَب، فقال له أصْحابُهُ: يا رسول الله نكْفيكَ ذلك، فقال: أعلم ذلك، ولكِنَّ الله يكرهُ أنْ يرى عَبْدَهُ مُتَمَيِّزاً على أقْرانه!قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم: 4 ]
ما هذا التواضع؟! دخل مكَّةَ مُطَأطِئ الرأس تواضعاً لله عز وجل.
خلق النبي الكريم مع أزواجه وأصحابه :
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَاماً فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ:فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ – تكلم ما في نفوسهم - أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْماً وَحَظّاً ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا ))
[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
ما هذا الموقف الحكيم؟! كيف ألَّف قلوبهم وجمعهم عليه وكيف أزال من أنفسهم الألمَ؟ كيف أرضاهم؟! كيف أكرمهم؟! ما هذا الخُلُقُ العظيم؟ وهذا شأنه مع أزواجه الطاهرات، ومع أصحابه الكِرام، وكلُّ صحابيٍّ كان يظُنُّ أنَّه أقربُ الناس إليه، عرفَ قدرَ أصحابه، يقول لأحدهم: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ويقول له إذا دخل عليه: هذا سعدُ هذا خالي أرُوني خالاً مثلَ خالي، ويقول لِأحدهم: واللَّهِ يا معاذ إنِّي لأُحبُّك، ويقول عن سيِّدنا أبي بكرٍ: لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ، ما دعوْتُ أحداً إلى الإسلام إلاَّ كانت له كَبوةٌ إلاَّ أخي أبا بكرٍ، ويقول عنه: ما طلعتْ شمسٌ بعد نبيٍّ على أفضلَ من أبي بكر، ويقول: ما ساءني قط فاحفظوا له ذلك، ويقول: تسابقْتُ أنا وأبو بكر فكُنَّا كهاتين، عرف قدرَه عليه الصلاة والسلام.
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه ووصَفه وصفاً دقيقاً وهذا من عظمة خلقه :
يقول عليه الصلاة والسلام: لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر، يا عمر ما سلكتَ فجّاً إلاَّ سلك الشيطانُ فجّاً غيرَ فجِّك، أمّا سيدُنا عثمان:
((عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعاً فِي بَيْتِي كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ))
[مسلم عن عَائِشَةَ ]
سيدنا عليُّ قال فيه عليه الصلاة والسلام: أنا مَدِينةُ العلم، وعليٌّ بابُها، سيدنا أبو عبيدة قال فيه:
(( أمينُ هذه الأُمَّة))
[ متفق عليه عن أنس ]
سيدنا خالد قال فيه:
(( نِعم عبد الله خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله))
[البخاري عن أبي هريرة]
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه، ووصَفه وصفاً دقيقاً، ما هذا الخلُق العظيم؟! ما هذه الصفات العالية؟! ومكانة هذه النفسُ السَّامية؟! من أين جاء بهذا كلِّه؟
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
لأنه التجأ إلى الله عز وجل واتَّصل به واشتقَّ من كماله واقتبس من أسمائه الحسنى، قال الله تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان :
وصْفٌ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام، وسِرٌّ لعظمة النبي عليه الصلاة والسلام وطريقٌ لأن تكون عظيماً بنوعٍ من أنواع العظمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تحبُّ أن تكون رحيماً حقيقة؟ هناك من يتظاهر بالرحمة أمام الناس، وهو ينطوي على قلبٍ قاسٍ كالحجر، هناك من يحكم حكماً عادلاً لِيُقال عنه عادل ولو خلا إلى نفسه لم يحكم هذا الحكم، لذلك إذا أردتَ أن تكون أخلاقياًّ حقيقةً، وأخلاقك أصيلةً فلتكنْ نابعةً من الإيمان لا من الذكاء، إنَّ هذا طريقُه الاِتصالُ بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾
ربُّ الناس، و ملك الناس، وإله الناس جُمِعتْ في قوله تعالى:
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
[ سورة الزمر: 6 ]
وقال تعالى:
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 9 ]
عندنا سؤالان: لماذا ربُّ الناس مع أنَّهُ رب العالمين؟ ولماذا ملكُ الناس مع أنَّهُ ملِكُ المُلْك كُلِه؟ ولماذاَ إله الناس مع أنَّهُ إله العالمين؟ لأنّ هذا تخْصيصَ تشْريف للإنسان، هو رب العالمين، ولكن في هذه السورة جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس، تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان.
الله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم :
لماذا التَّكْرار؟ هو تَكْرار تَوْكيد، فما معنى ربُّ الناس؟ وما معنى ملِكُ الناس؟ وما معنى إله الناس؟
الربُّ أيها الأخوة الأكارم هو المُربي، ولا يتَّضِحُ معنى الربوبيَّة إلا بِمَثَلٍ نضْربه: لو أنَّ مُزارِعاً زرع فسيلَةً، زرع نباتاً فَعَليه أنْ يسْقيه، وأن يُمِدَّهُ بالسماد، وإذا ظهر عليه مرضٌ فعليه أنْ يُكافِحَ هذا المرض بالمُبيدات، وعليه أنْ يعرِفَ طبْعَ النبات، أيُحِبُّ الشمْس الساطعة؟ أم الشمس المُخَفَّفَة؟ أم ظلاً ظليلاً؟ أَتَكون السُّقْيا كُلَّ يوم؟ أم في الأُسْبوع مَرَّتان أو مَرَّة؟ فَسَقيُ هذا النبات وتَقْليمُهُ، وتسْميدُهُ، ونقْلُهُ من مكانٍ لآخر، ومُكافحة أمْراضِهِ هذا نَوْعٌ من الترْبِيَة، فماذا تحْتاجُ التَّربية؟ إلى العِلْم، ما مِن مُرَبٍّ إلا وهو عليمٌ بِطَبيعَة الذي يُرَبيه، ماذا يحْتاج؟ وماذا يُصيبُهُ؟ وكيف تُكافَحُ هذه الأمْراض؟ ما طبيعة هذا النبات؟ فالله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم، وفَرْقٌ دقيق بين العِلْم والخِبْرة فقد تكون عالِماً ولَكِنَّك لا تسْتطيع أنْ تتنبَّأ بما سَيكون، وقد تصْنَعُ هذه الأداة، ولكن لا تعرِفُ أين نِقاطُ ضَعْفِها، عند الاسْتِعْمال تبْدو لك نِقاط الضَّعْف فَتُقَوِّيها، فأنت لا تمْلكُ الخِبْرة الكافِيَة، معنى الخِبْرة: الحقائِق المُسْتَمَدَّة من التجارب الطويلة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ أزَلِّي، وخِبْرَتُهُ أزَلِيَّة، فلا بدّ أن يكون ربُّ الناس عالِماً، ولا بدّ أن يكون ربُّ الناس خبيراً بِهذه النَّفْس، ولا بدَّ أن يكون قديراً وغَنِياً وحكيماً، فقد تَصُبُّ على نبْتَةٍ ماءً بقوة فَتَكْسِرُها! تقول: هي تحتاج إلى الماء! نعم تحْتاج إلى الماء ولكن إلى ماءٍ خفيف، لا بد من أنْ يكون عليماً وخبيراً وقديراً وحكيماً، ولا بدَّ أن يكون إشْرافُهُ مُسْتَمِراً، فلَوْ غاب صاحبُ هذه الفسيلة، وسافر ثمَّ عاد، قد يجِدُها ماتَتْ لِسَبَبِ غِيابِهِ عنها، فلا بد من إشْرافٍ دائِم، فالإشْرافُ الدائِم والغِنى والقدرة والحكمة والعلم والخبرة هذه بعض الأسْماء التي لا بد من توافُرِها في المُرَبي، فإذا قلت:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
فَرَبُّ الناس هو الذي يُمِدُّهُم بِحاجاتِهم فإذا احْتَجْتَ إلى الهواء فَنِسْبَةُ الأُكْسجين إلى غاز الفَحْم نِسْبَةُ مدْروسة، فَلَو زاد هذا الغاز على حِساب ذاك الغاز لاختَلَّ التوازن في الأرض، فلو زاد الأُكْسجين لاشْتَعَل كُلُّ شيءٍ في الأرض، ولو زاد غاز الفحْم لاخْتَنَقَ كُلُّ شيء، ولكن هذه النِّسْبَة دقيقة، وكيف أنَ النبات يُعْطينا الأكسجين في النهار، ويسْتهلكُ غاز الفحم، وكيف أنَّ الإنسان يُعْطي الأُكْسجين للنبات ليلاً ويستهلكُ غاز الفحْم وكذا.
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً:
أيها الأخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الناس وهي آخر سورة في كتاب الله، وسورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً.
وفي الدرس الماضي، في سورة الفلق تَوَجَّهَتْ الآيات إلى أنَّ الإنسان إذا خاف عَدُوّاً، وخطراً قريباً، وشَبَحَ مُصيبةٍ، وأشْرار الناس فَلْيَسْتَعِذ بِرَبِّ الفلق، والفلق هو الكون، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّه آيات اليوم توْجيهاً آخرَ إضافَةً إلى ما تحْتَمِلُهُ أيْضاً من تَوْجيهات السورة السابقة.
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم والكمال الذي ظَهَر منه، وعَقْلُهُ الراجح، وحِلْمُهُ الذي لا حُدود له، وشَجاَعَتُه: أنا النبي لا كذب، أنا النبي لا كذِب، أنا ابن عبد المطَلِّب، ورأفَتُهُ، ورحْمَتُهُ، ورِفْقُهُ بالحيوان، وعطْفُهُ على الإنسان، ورجاحَةُ تفْكيره، كيف كان أباً ناجِحاً، وقائِداً ناجِحاً، وسِياسِياً مُحَنَّكاً، وأخاً كبيراً للمؤمنين، كيف جمع هذه الصِّفات من الرحمة إلى العِلْم، إلى الحِكْمة والحِلم والتواضع والفِطْنة والذكاء، إلى قُوَّة الحدْس، وإلى إشْراق النفْس، وإلى دِقَّةِ النظْر ورجاحة الرأيْ، حتى إنَّ الله سبحانه وتعالى وصَفَهُ وصْفاً ينْفرِدُ به، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم: 4 ]
ولم يُقْسم الله سبحانه وتعالى بِعُمُرِ نَبِيٍّ إلا بعمره صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
[ سورة الحجر: 72 ]
العِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة :
ولم يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام إلا بِقَوْله: يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، فَهُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد يسأل سائِل: من أين جاءَت هذه العَظَمَة؟ ومن أين جاء هذا الخُلُق العظيم؟ ومن أين جاء هذا الحِلْمُ والمروءة والرحمة والحِكمة والتواضع؟ فكان الجواب: قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
أنا كذلك لأنَّني عُذْتُ بِرَبِّ الناس، فهذا الخُلُقُ العظيم وهذه النفْسُ المُشْرِقَة والعَقْلُ الراجح والصِّفات النامِيَة إنما اشْتَقَّها النبي عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه وتعالى عن طريق الاتِّصال به تعالى والعِياذِِ به، فكلمة أعوذ مُضارع ماضيها عاذَ ومصْدَرُها عِياذ وعَوْذٌ، فالعِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة.
والآن فإنك ترى أنّ الصورة قد انْقَلَبَتْ من وصْفٍ للنبي عليه الصلاة والسلام إلى طريقٍ سالِكٍ إلى الله عز وجل، فَكُلُّ واحِدٍ يسْمعُ هذا الكلام إذا أراد الخُلُق الرفيع والمقام المحْمود عند الله، وإذا أراد أنْ تكون له سعادته الأبَدِيَّة، وأن يكون حليماً كريماً ومُتواضِعاً وجريئاً وصاحِبَ مُروءة، حكيماً وذَكِياً وفَطِناً فالطريق أنْ يتَّصِل بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
فلا تعْجبوا:
(( أدَّبني ربي فأحْسن تأديبي))
[كنز العمال عن ابن مسعود]
هُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم :
في السورة الماضِيَة وُجِّهَت الآياتُ على أساس أنَّك إذا خِفْتَ من مخْلوق شِرير، أو إذا بدَتْ لك مُصيبة أو شبَحُ مصيبة، أو خِفْتَ مرَضاً عُضالاً أو جُرْثوماً فتاكاً وعَدُوّاً قهاراً، إذا خِفْتَ من أمْثال هؤلاء فقُلْ أعوذ بِرَبِّ الفلق، اليوم هذا الكمال العظيم، وهذا الخُلُق العظيم، الرِّفْعَة العالية، والثبات على المبْدأ، وهذه السعادة التي لا توصَف، لو بقيتُم على الحال التي أنتم فيها عندي لَصافَحَتْكُم الملائِكة، ولزارَتْكُم في بُيوتِكم، فَمَن مِنا لا تسْتَهْويهِ أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن منا إنْ كان صادِقاً فعليه أنْ يذْهب إلى الحرَمِ النبوي الشريف ويقف أمام حُجْرَتِهِ الشريفة ولا يبْكي؟ ما الذي جَمَعَكَ به؟ فأنت لم ترَهُ! بعد ألف وأربعمئة عام تقِفُ أمام حُجْرَتِهِ فَتَبْكي، أليس لأنَّهُ على خلُقٍ عظيم، أليْس لأنَّ رحْمته وسِعَتْ أُمَّتَهُ كُلَّها؟ أليس لأنَّهُ كان نَبِيَّ هذه الأُمَّة؟ أليس لأنَّهُ لم يقُل شيئاً بلِسانِهِ إلا طَبَّقَهُ في سُلوكِهِ؟ يكْفيهِ بعضُ المواقف! ففي رحلة العمُر التي انتهت عند الحديبية كانت الرواحل ثلاثمئة، والجُنود أكثر من ألف فما الحيلة؟! فقال عليه الصلاة والسلام وهو قائِدُ الجَيْش: لِيَتَناوَبْ كُلُّ ثلاثةٍ على راحِلَة، وأنا وعَلِيٌّ وأبو لُبابة على راحِلَة، فلما جاء دَوْرُهُ في المَشْيِ قال له صاحِباهُ: يا رسول الله اِبْقَ راكِباً، فقال عليه الصلاة والسلام- وهو نَبِيُّ هذه الأُمَّة كلماتٍ لو أعَدتُها آلاف المرات لا أشْبَعُ منها: ما أنا بأغْنى منكما عن الأجْر، ولا أنتما بِأقْوى منِّي على المَشْي! وكان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصْحابِهِ في نُزْهَة، فقال أحدهم: عَلَيَّ ذَبْحُ الشاة، وقال الآخر: علَيَّ سَلْخُها، وقال الثالث: وعَلَيَّ طبْخُها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعَلَيَّ جمْعُ الحَطَب، فقال له أصْحابُهُ: يا رسول الله نكْفيكَ ذلك، فقال: أعلم ذلك، ولكِنَّ الله يكرهُ أنْ يرى عَبْدَهُ مُتَمَيِّزاً على أقْرانه!قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم: 4 ]
ما هذا التواضع؟! دخل مكَّةَ مُطَأطِئ الرأس تواضعاً لله عز وجل.
خلق النبي الكريم مع أزواجه وأصحابه :
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَاماً فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ:فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ – تكلم ما في نفوسهم - أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْماً وَحَظّاً ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا ))
[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
ما هذا الموقف الحكيم؟! كيف ألَّف قلوبهم وجمعهم عليه وكيف أزال من أنفسهم الألمَ؟ كيف أرضاهم؟! كيف أكرمهم؟! ما هذا الخُلُقُ العظيم؟ وهذا شأنه مع أزواجه الطاهرات، ومع أصحابه الكِرام، وكلُّ صحابيٍّ كان يظُنُّ أنَّه أقربُ الناس إليه، عرفَ قدرَ أصحابه، يقول لأحدهم: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ويقول له إذا دخل عليه: هذا سعدُ هذا خالي أرُوني خالاً مثلَ خالي، ويقول لِأحدهم: واللَّهِ يا معاذ إنِّي لأُحبُّك، ويقول عن سيِّدنا أبي بكرٍ: لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ، ما دعوْتُ أحداً إلى الإسلام إلاَّ كانت له كَبوةٌ إلاَّ أخي أبا بكرٍ، ويقول عنه: ما طلعتْ شمسٌ بعد نبيٍّ على أفضلَ من أبي بكر، ويقول: ما ساءني قط فاحفظوا له ذلك، ويقول: تسابقْتُ أنا وأبو بكر فكُنَّا كهاتين، عرف قدرَه عليه الصلاة والسلام.
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه ووصَفه وصفاً دقيقاً وهذا من عظمة خلقه :
يقول عليه الصلاة والسلام: لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر، يا عمر ما سلكتَ فجّاً إلاَّ سلك الشيطانُ فجّاً غيرَ فجِّك، أمّا سيدُنا عثمان:
((عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعاً فِي بَيْتِي كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ))
[مسلم عن عَائِشَةَ ]
سيدنا عليُّ قال فيه عليه الصلاة والسلام: أنا مَدِينةُ العلم، وعليٌّ بابُها، سيدنا أبو عبيدة قال فيه:
(( أمينُ هذه الأُمَّة))
[ متفق عليه عن أنس ]
سيدنا خالد قال فيه:
(( نِعم عبد الله خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله))
[البخاري عن أبي هريرة]
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه، ووصَفه وصفاً دقيقاً، ما هذا الخلُق العظيم؟! ما هذه الصفات العالية؟! ومكانة هذه النفسُ السَّامية؟! من أين جاء بهذا كلِّه؟
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
لأنه التجأ إلى الله عز وجل واتَّصل به واشتقَّ من كماله واقتبس من أسمائه الحسنى، قال الله تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان :
وصْفٌ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام، وسِرٌّ لعظمة النبي عليه الصلاة والسلام وطريقٌ لأن تكون عظيماً بنوعٍ من أنواع العظمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تحبُّ أن تكون رحيماً حقيقة؟ هناك من يتظاهر بالرحمة أمام الناس، وهو ينطوي على قلبٍ قاسٍ كالحجر، هناك من يحكم حكماً عادلاً لِيُقال عنه عادل ولو خلا إلى نفسه لم يحكم هذا الحكم، لذلك إذا أردتَ أن تكون أخلاقياًّ حقيقةً، وأخلاقك أصيلةً فلتكنْ نابعةً من الإيمان لا من الذكاء، إنَّ هذا طريقُه الاِتصالُ بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾
ربُّ الناس، و ملك الناس، وإله الناس جُمِعتْ في قوله تعالى:
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
[ سورة الزمر: 6 ]
وقال تعالى:
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 9 ]
عندنا سؤالان: لماذا ربُّ الناس مع أنَّهُ رب العالمين؟ ولماذا ملكُ الناس مع أنَّهُ ملِكُ المُلْك كُلِه؟ ولماذاَ إله الناس مع أنَّهُ إله العالمين؟ لأنّ هذا تخْصيصَ تشْريف للإنسان، هو رب العالمين، ولكن في هذه السورة جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس، تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان.
الله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم :
لماذا التَّكْرار؟ هو تَكْرار تَوْكيد، فما معنى ربُّ الناس؟ وما معنى ملِكُ الناس؟ وما معنى إله الناس؟
الربُّ أيها الأخوة الأكارم هو المُربي، ولا يتَّضِحُ معنى الربوبيَّة إلا بِمَثَلٍ نضْربه: لو أنَّ مُزارِعاً زرع فسيلَةً، زرع نباتاً فَعَليه أنْ يسْقيه، وأن يُمِدَّهُ بالسماد، وإذا ظهر عليه مرضٌ فعليه أنْ يُكافِحَ هذا المرض بالمُبيدات، وعليه أنْ يعرِفَ طبْعَ النبات، أيُحِبُّ الشمْس الساطعة؟ أم الشمس المُخَفَّفَة؟ أم ظلاً ظليلاً؟ أَتَكون السُّقْيا كُلَّ يوم؟ أم في الأُسْبوع مَرَّتان أو مَرَّة؟ فَسَقيُ هذا النبات وتَقْليمُهُ، وتسْميدُهُ، ونقْلُهُ من مكانٍ لآخر، ومُكافحة أمْراضِهِ هذا نَوْعٌ من الترْبِيَة، فماذا تحْتاجُ التَّربية؟ إلى العِلْم، ما مِن مُرَبٍّ إلا وهو عليمٌ بِطَبيعَة الذي يُرَبيه، ماذا يحْتاج؟ وماذا يُصيبُهُ؟ وكيف تُكافَحُ هذه الأمْراض؟ ما طبيعة هذا النبات؟ فالله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم، وفَرْقٌ دقيق بين العِلْم والخِبْرة فقد تكون عالِماً ولَكِنَّك لا تسْتطيع أنْ تتنبَّأ بما سَيكون، وقد تصْنَعُ هذه الأداة، ولكن لا تعرِفُ أين نِقاطُ ضَعْفِها، عند الاسْتِعْمال تبْدو لك نِقاط الضَّعْف فَتُقَوِّيها، فأنت لا تمْلكُ الخِبْرة الكافِيَة، معنى الخِبْرة: الحقائِق المُسْتَمَدَّة من التجارب الطويلة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ أزَلِّي، وخِبْرَتُهُ أزَلِيَّة، فلا بدّ أن يكون ربُّ الناس عالِماً، ولا بدّ أن يكون ربُّ الناس خبيراً بِهذه النَّفْس، ولا بدَّ أن يكون قديراً وغَنِياً وحكيماً، فقد تَصُبُّ على نبْتَةٍ ماءً بقوة فَتَكْسِرُها! تقول: هي تحتاج إلى الماء! نعم تحْتاج إلى الماء ولكن إلى ماءٍ خفيف، لا بد من أنْ يكون عليماً وخبيراً وقديراً وحكيماً، ولا بدَّ أن يكون إشْرافُهُ مُسْتَمِراً، فلَوْ غاب صاحبُ هذه الفسيلة، وسافر ثمَّ عاد، قد يجِدُها ماتَتْ لِسَبَبِ غِيابِهِ عنها، فلا بد من إشْرافٍ دائِم، فالإشْرافُ الدائِم والغِنى والقدرة والحكمة والعلم والخبرة هذه بعض الأسْماء التي لا بد من توافُرِها في المُرَبي، فإذا قلت:
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾
فَرَبُّ الناس هو الذي يُمِدُّهُم بِحاجاتِهم فإذا احْتَجْتَ إلى الهواء فَنِسْبَةُ الأُكْسجين إلى غاز الفَحْم نِسْبَةُ مدْروسة، فَلَو زاد هذا الغاز على حِساب ذاك الغاز لاختَلَّ التوازن في الأرض، فلو زاد الأُكْسجين لاشْتَعَل كُلُّ شيءٍ في الأرض، ولو زاد غاز الفحْم لاخْتَنَقَ كُلُّ شيء، ولكن هذه النِّسْبَة دقيقة، وكيف أنَ النبات يُعْطينا الأكسجين في النهار، ويسْتهلكُ غاز الفحم، وكيف أنَّ الإنسان يُعْطي الأُكْسجين للنبات ليلاً ويستهلكُ غاز الفحْم وكذا.