كان مصدر التشريع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وسنة رسوله: ينزل الوحي، فيبلغه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الناس كافة، ويبين مقاصده، ثم يطبق أحكامه، فكان صلى الله عليه وسلم المرجع الأعلى في جميع أمور الأمة، في القضاء والفتوى، والتنظيم المالي والسياسي والعسكري، يعالج الأمور على مرأى من أصحابه رضي الله عنهم، وعلى ضوء القرآن الكريم، فإن وجد حكماً للقضية فصل فيها، وإن لم يجد اجتهد فيها حيناً، أو انتظر الوحي أحياناً، ليعرف حكم الله تعالى، وقد يجتهد صلى الله عليه وسلم فينزل الوحي مصححاً لاجتهاده.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين»: «ما لبث أن انتقل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وانقطع الوحي. ولم يبق أمام الأمة إلا القرآن العظيم والسنة الشريفة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي». وتمسك الصحابة والتابعون بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام اتباعاً لأوامر الله تعالى بطاعته وقبول حكمه في قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»، وقوله: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً». وقوله: «وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون». وصية رسول الله
والاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد وفاته. وقد امتثل الصحابة لأومر الله سبحانه وتعالى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ونفذوها مخلصين وحموا الشريعة بالمال والدماء، وكذلك فعلوا بعد وفاته، وقوفاً عند وصيته عليه الصلاة والسلام، التي سمعها منه الصحابة رضوان الله عليهم، ويرويها المرباض بن سارية رضي الله عنه فيقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة مودع، فأوصانا. قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» فأخذوا بسنته عليه الصلاة والسلام، وتمسكوا بها، وأبوا أن يكونوا ذلك الرجل الذي ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)، بل وقفوا من السنة موقفاً عظيماً، وردوا على كل من فهم ذاك الفهم. روى أبو نضرة عن عمران بن حصين: «أن رجلاً أتاه فسأله عن شيء، فحدثه، فقال الرجل: حدثوا عن كتاب الله عز وجل، ولا تحدثوا عن غيره. فقال: إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله صلاة الظهر أربعاً لا يجهر فيها؟ وعد الصلوات، وعد الزكاة ونحوها، ثم قال: أتجد هذا مفسراً في كتاب الله، كتاب الله قد أحكم ذلك، والسنة تفسر ذلك». وقال رجل للتابعي الجليل مطرف بن عبدالله بن الشخير: لا تحدثوا إلا بالقرآن. فقال له مطرف: «والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا».
الأسوة الحسنة
ويذكر أبو عمر يوسف بن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله»، أن المسلمين الأوائل استجابوا لقوله عز وجل: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» فتفانوا في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساروا على هديه، وهذه صور سريعة عن تمسكهم بالسنة النبوية، تتناول أحوال الرعية والرعاة في مختلف جوانب الحياة.
فها هو ذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعقد لواء أسامة بن زيد، ويأبى أن يحتفظ بجيشه وهو في أشد الحاجة إليه، يقول: «ما كان لي أن أحل لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ويعقد اللواء لخالد بن الوليد رضي الله عنه ليقاتل المرتدين، ويقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم عبدالله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين».
وتأتيه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطلب سهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقول لها: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل إذا أطعم نبياً طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده» فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت: «فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم».
يأمر بعضهم بعضاً
وكان الصحابة جميعاً يحرصون على سنن النبي عليه الصلاة والسلام، ويأمر بعضهم بعضاً باتباعها، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى زيداً بن خالد الجهني يركع بعد العصر ركعتين فمشى إليه وضربه بالدرة، فقال له زيد: يا أمير المؤمنين، اضرب فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، فقال له عمر: يا زيد، لولا أني أخشى أن يتخذ الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيها.
ويرى عمر رضي الله عنه الناس قد أقبلوا على طيبات الدنيا مما أحل لهم الله سبحانه وتعالى فيذكرهم برسولهم صلى الله عليه وسلم، فيقول: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلاً يملأ به بطنه».
لقد كان عمر رضي الله عنه وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأسون بالرسول الكريم ما استطاعوا في جميع أحوالهم، فلما طعن عمر رضي الله عنه قيل له: ألا تستخلف؟ فقال: «إن أترك فقد ترك من هو خير مني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني: أبوبكر».
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأسون بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويحافظون على سنته، سواء عرفوا علة ذلك أم لم يعرفوا، وسواء توقعوا حكمة لما يفعلون أم لم يتوقعوا، وقد اشتهر عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بمحافظته الشديدة على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول أسوته في كل شيء، في صلاته وحجه وصيامه، وحتى في قضاء حاجته وكان كثيراً ما يقول: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»، وكان إذا سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، أو شهد معه مشهداً، لم يقصر دونه أو يعدوه؛ بل كان يقف عند الحد الوارد في الحديث أو الفعل النبوي من غير إفراط ولا تفريط.