دراسة جديدة: الجينات المفقودة في الخفافيش مصاصة الدماء تحدد نمط حياتها الغريب
الحديث عن الخفافيش في الوقت الذي لا يزال العالم فيه واقعا تحت تأثير جائحة "كوفيد-19″، قد يضع الملح على الجرح. لكن الخفافيش، التي سنتحدث عنها هنا هي من نوع لا علاقة له بفيروسات كورونا، فهي تتغذى على الدم، وهي خفافيش مصاصة الدماء.
هذا النوع من الخفافيش يعتبر الثدييات الوحيدة التي تتبع هذا النظام الغذائي، المرتبط عادة بالبعوض أو بالوحوش الخيالية في الأدب والسينما، وبعيدًا عن دراكولا وآن رايس وبافي و"توايلايت"، فإن هذه الحيوانات الطائرة من نوع معين هي موضوع دراسة في دورية "ساينس أدفانسز" (Science Advances)، والتي سلطت الضوء على جيناتها بالتحديد.
وفي مقال نشره الصحفي جون بول فريتز، في مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" (L’OBS) الفرنسية، قال إن هناك في الواقع 3 أنواع من الخفافيش تشترك في نظام غذائي يعتمد على الدم، وتساءل عن كيفية تحول الخفاش الذي يبدو عاديا إلى مصاص للدماء؟ وكانت الإجابة تكمن في الحمض النووي الخاص به، ولكن بدلا من اكتشاف "جينات لمصاصي الدماء"، توصل مؤلفو الدراسة إلى جيناتهم المفقودة.
وجبة مصاص الدماء
ويوضح الكاتب أن الخفاش المفترس يزحف ويسحب نفسه على الأرض بأصابعه طويلة المخالب إلى موقع فريسته من خلال سمعه وإحساسه بالصدى، ومع قدرته على الرؤية الليلية الكاملة، يستطيع الخفاش مصاص الدماء أن يرى مثل الإنسان في وضح النهار، حتى وإن كان بالأبيض والأسود فقط، حيث يطير بعيدا فجأة ويهبط على كتف الفريسة، ثم تلتقط المستشعرات الحساسة للأشعة تحت الحمراء بالقرب من أنفه الحرارة من الوريد، وتثقب أسنانه الحادة الجلد، فيتدفق الدم، وتساعد مضادات التخثر من سم الخفاش على بقائه سائلا، وفي النهاية يحصل الخفاش على طعامه بهدوء حتى يحقق الاكتفاء.ويبين الكاتب أن الخفاش مصاص الدماء يتمتع بشهية كبيرة ويمكن أن تستغرق وجبته نصف ساعة، لأن نظامه الغذائي يتطلب الكثير، ولأن الدم شديد السيولة وله قيمة منخفضة نسبيا من السعرات الحرارية، فإن ذلك يتطلب أن يستهلك ما يعادل 1.4 مرة من وزنه في كل وجبة. وللسماح بامتصاص مثل هذه الكمية من الطعام، تحولت معدته، وأصبحت أكثر مرونة، حيث أصبحت مثل خزان مُعد خصيصا لامتصاص هذه الكميات الهائلة من السوائل الحيوية.
ويتابع الكاتب قائلا إنه بعد إحساس الخفاش بالشبع يعود إلى مكان استراحته والذي قد يكون كهفا، أو جذع شجرة مجوفا، أو بئرا جافة، أو منجما وأحيانا مبنى مهجورًا، حيث يتقاسم المكان مع مجموعات من الخفافيش تصل إلى عدة آلاف، فهو حيوان اجتماعي لا يعيش وحده.
وذكر الكاتب أيضا أن النظام الغذائي الخاص بالخفّاش مصاص الدماء يتطلب تكيفات بيولوجية، ولفهمها بشكل أفضل، قام فريق دولي من الباحثين بقيادة موريتز بلومر، وهو الآن طالب دكتوراه في جامعة كامبريدج (University of Cambridge)، بدراسة جينوم "ديسمودوس روتوندوس"، وهو النوع الأكثر شيوعًا من بين الأنواع الثلاثة من مصاصي الدماء، وقارنوه مع 26 نوعا من أنواع الخفافيش العادية.
الجينات المفقودة
وبحسب الكاتب فإنه على عكس ما كان متوقعا، لم يكتشف العلماء الجينات الإضافية أو المعدلة وإنما توصلوا إلى الجينات المفقودة، أو بشكل أدق الجينات التي دمرتها الطفرات ولم تعد مفيدة، وعددها 13 جينا مفيدا للخفافيش الأخرى والتي لم يعد مصاصو الدماء يمتلكونها، و3 منها معروفة من دراسات سابقة، وتتعلق بمستقبلات التذوق المخصصة للنكهات الحلوة والمرة، والـ10 الباقية غير معروفة حتى الآن، والتي ستساعد في تفسير الطبيعة الخاصة لخفاش ديسمودوس.ويلفت الكاتب إلى أن العديد من هذه الجينات المفقودة مرتبطة بعملية الهضم، فعلى سبيل المثال، اثنان منها مرتبطان بإفراز الإنسولين، والذي ينظم مستويات السكر بالدم في الثدييات الأخرى، حيث لا يحتاج مصاصو الدماء إليه، فهم يستخدمون القليل جدا من الإنسولين، بسبب احتواء نظامهم الغذائي الخاص على نسبة قليلة جدًّا من السكر.
ويتابع الكاتب قائلا إن مستوى الحديد في نظام ديسمودوس الغذائي يمثل مشكلة من الناحية النظرية، حيث يستهلك الخفاش مصاص الدماء الحديد، في المتوسط، 800 مرة أكثر من الإنسان، وقد كانت وظيفة أحد الجينات المفقودة هي منع نقل الحديد من الدم إلى الخلايا في البطانة الداخلية للأمعاء، ونظرا لعدم وجود هذا الجين، فإن مصاص الدماء سيجمع الحديد الزائد في هذه الخلايا المعوية قصيرة العمر، والتي يتم تفريغها بعد ذلك مع البراز، وهكذا، يتم حل مشكلة الحديد الزائد، حيث يؤكد موريتز بلومر أن تعطيل هذه الجينات ربما يمثل تكيفا مع نظامهم الغذائي الغني بالحديد في الدم.
ويستمر الكاتب قائلا إن أحد الجينات المفقودة تضمن عملية تكوين الجليكوجين، وهي عملية تسمح للجسم بتحويل الغلوكوز إلى جليكوجين لأغراض التخزين، وبما أنه لا يوجد جين ولا تخزين، يتعين على مصاص الدماء أن يتغذى كل يوم تقريبا، حيث يقول مايكل هيلر، أستاذ علم الجينوم المقارن والمؤلف المشارك للدراسة، إن التكيف مع هذا النظام الغذائي الفريد لا يرجع فقط إلى فقدان الجينات، مبينا أن هدف فريقه، الذي بدأ أيضا في دراسة تسلسل جينات النوعين الآخرين، هو الحصول على صورة كاملة للتغيرات الجينومية في الأنواع الثلاثة من الخفافيش مصاصة الدماء، وأكد أنه لا يزال هناك الكثير لتعلمه.
اختلافات في الجهاز المناعي
ووفقا لما ذكره المؤلفون، فإن جينا آخر مفقودا يمكن أن يشير إلى اختلافات في الجهاز المناعي بين الخفافيش "ديسمودوس روتوندوس" (Desmodus rotundus) وغيرها من الخفافيش، وهو الأمر الذي يستحق مزيدا من الدراسة، فمن غير المعروف ما إذا كان "ديسمودوس روتوندوس" معرضا لمجموعة مختلفة من مسببات الأمراض، وبشكل خاص تلك التي تنتقل عن طريق الدم، بحسب ما نقل الكاتب.ويستطرد الكاتب مع البحث مبينا أنه من الملاحظ أيضًا فقدان الجين المرتبط بالرؤية بواسطة المخاريط، الأمر الذي يسمح برؤية الألوان، وهذا الجين المفقود يجعل مصاص الدماء ليليًّا تماما، ولا يخرج إلا خلال أحلك جزء من الليل.
ونوه الكاتب إلى أن هذه الدراسة اكتشفت أن التعديلات في الحمض النووي لمصاصي الدماء يمكن أن تفسر القدرات المعرفية والتنظيم الاجتماعي الأكثر تفصيلا لدى مصاصي الدماء منه لدى الخفافيش ذات النظام الغذائي التقليدي.
ففي هذا الأخير، يقوم الجين المرقّم "سي واي بي 39 إيه1" (CYP39A1) بتفكيك المستقلب المعروف باسم "24 إس-هيدروكسي كوليسترول"، الموجود في الدماغ، ومع ذلك، إذا كان موجودا بكميات كافية، فإنه سيعزز الذاكرة والتعلم والسلوك الاجتماعي، كما لوحظ في الثدييات الأخرى. وبالتالي، فإن غياب الجين الذي يدمر هذا الجزيء في مصاص الدماء سيسمح له بالتراكم في الدماغ، مع كل الفوائد التي تأتي معه.
ويشرح الكاتب بعضا من عادات ذلك الخفاش الغذائية، فيقول إنه نظرا لأن الخفاش مصاص الدماء حساس جدا للصيام، ومع صعوبة ضمان الغذاء في الطبيعة، فبإمكان الخفاش الذي يتمتع بتغذية جيدة مشاركة جزء من الدم الذي استهلكه مع أحد الخفافيش التي لم تأكل جيدا عن طريق التجشؤ "أو التقيؤ" (حيث يخرج الخفاش الأكثر تغذية جزءًا من الدم الذي امتصه ليأخذه الخفاش الأقل تغذية).
وقد لاحظت إحدى الدراسات بالفعل هذا السلوك في مصاصي الدماء من المناطق الزراعية في بنما، لكن غالبا ما تكون هذه المشاركة بين الخفافيش التي ساعدت بعضها بعضا في الماضي، مما يشير أيضا إلى وجود ذاكرة اجتماعية جيدة، كما يمكن لمصاص الدماء الذي وجد فريسة فاتحة للشهية أن يشاركها وذلك من خلال إطلاق صرخة محددة، غير مسموعة للبشر، والتي تعتبر بمثابة دعوة إلى العشاء.
ملامح سلوكية
وأشار الكاتب إلى أن للإناث، في مجتمع مصاصي الدماء، تنظيما اجتماعيا، يرتبط بإناث أخريات في المستعمرة، ففي هذه الأعشاش، يتسم مجتمع مصاصي الدماء بالمساواة، ولا توجد هيمنة أو تسلسل هرمي كما نراه في الحيوانات الأخرى، وذلك وفقا لفريق راشيل كريسب، من جامعة إكستر (University of Exeter)، إنجلترا، التي قامت بدراستها، مبينة أنه يمكن أن تكون هناك بعض العشوائية عندما يتعين عليها القتال من أجل الطعام.وإذا وقعت في الأسر، ستركز الإناث الأسيرات سلوكهن أكثر على التعاون، وإقامة الثقة والصداقة مع الآخرين، والروابط الاجتماعية التي يتم الحفاظ عليها بعد إطلاق سراحهن، وذلك على عكس الذكور الذين لا يملكون أصدقاء، فهم أكثر عزلة ويميلون إلى الدفاع عن مواقعهم ضد الذكور الآخرين، حتى الذين ينتمون إلى نفس المجموعة، مما قد يؤدي إلى معارك.
وتحدث الكاتب في مقاله أيضا عن التفضيل الملحوظ لمصاصي الدماء لدماء الحيوانات الأليفة، وخاصة الأبقار والخنازير، مما قد يثير مخاوف بشأن كونهم ناقلين لداء الكلب، موضحا أن فريقا من العلماء، بقيادة الأستاذة كريستين بومان من متحف التاريخ الطبيعي في الدانمارك (Natural History Museum of Denmark)، قد طوروا طريقة للتعرف على الحيوانات التي يتغذى عليها مصاصو الدماء من خلال التحليل السريع لعينات الدم والبراز.
وينقل الكاتب عن الدكتور دانيال ستريكر، من جامعة غلاسكو (University of Glasgow) والمؤلف المشارك لتقنية تحديد الهوية الجديدة، قوله إنه قد يكون هذا مفيد بشكل خاص عند انتقال الحيوانات المفترسة إلى مناطق جديدة، فالخفافيش مصاصة الدماء هي من الأنواع القابلة للتكيف بشكل لا يصدق من حيث الفرائس أو الأماكن التي يمكن أن تعيش فيها، فيما يقول البروفيسور بومان إنه يمكن أن يساعد هذا في تطوير إستراتيجيات لتجنب التعرض لداء الكلب لدى البشر والحيوانات.
ويختتم الكاتب تقريره بأنه عند الإصابة بمرض معد، يمارس الخفاش مصاص الدماء التباعد الاجتماعي، حيث أظهرت دراستان أن المرضى معزولون جسديًّا عن البقية، ولديهم اتصال اجتماعي أقل بنسبة 30% من نظرائهم الأصحاء، فيما تظل فقط الأمهات وأطفالهن على تواصل أثناء المرض.
