- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 88,925
- مستوى التفاعل
- 86,747
- النقاط
- 1,698


كأنها ندبة لا تُرى، لكنها تحكّ روحي كلما حاولت أن أنسى.
"لا يهم أين أكون، الغربة كانت دائمًا داخلي."
قلتها وأنا أشعل سيجارة ثالثة لم أكن بحاجةٍ إليها.
السماء فوقي ليست سمائي، والشارع تحت قدمي لا يحفظ خطواتي، ولا الجدران تحفظ صدى صوتي.
كل شيء مؤقت، حتى وجهي في المرآة، حتى اسمي على الباب.
المنفى ليس حدودًا، بل إزاحة خفية تحدث في داخلي، دون جواز سفر، دون جنود.
كنت أمشي، لا إلى مكان، بل بعيدًا عن نفسي التي تركتها ذات يوم على عتبة بيتٍ لم يُغلق بابه أبدًا.
وكنت أعرف... أن الغربة لا تبدأ حين أُغادر، بل حين أعود فلا يعرفني أحد.
حين أفقد البيت في داخلي، لن أتمكن من العثور عليه خارجي مهما طفت الأرض.
لكن ربما نحن لا نبحث عن وطن... بل عن طريقة لنحتمي من البرد الذي صار في عروقنا.
ومضات من البعيد كبرق يخطف النظر تظهر لثوانٍ وتبهت لتختفي، لا أتمكن من الإمساك بها ولا بطرفها، كانت معاناة يومية.
الشارع يشبه الآخر، والباب لا يختلف كثيرًا عن الذي قبله، لكن المفتاح لا يدخل، ويدي ترتجف رغم أن البرد لم يبدأ بعد.
همست "ربما أخطأت الطابق"، لكنني أعرف أنني لم أخطئ، بل تعبت من الصعود.
كعب حذائي انكسر منذ أسبوع ولم أصلحه، أمشي به مائلًا وكأن المدينة كلها تنحدر تحت قدمي،
تحمّلت، كعادتي.
ليست مسألة كعب.
بل مسألة كاهل.
نظرت إلى قدميّ وأنا أمسح اليمنى باليسرى، لا يهم، ليست أقدام أميرة في النهاية.
أخيرًا تحرك المفتاح في القفل.
دخلت، رميت الحقيبة على الكنبة، وحين جلست، شعرت كأنني أتفتت من الداخل، كأن عظامي تتكسر بلا صوت.
"لم كل شيء ساكن من الخارج وصاخب من الداخل والعكس صحيح؟"
لم أقلها أو أجهر بها، اكتفيت بأن أغمضت عيني كما تفعل الأم حين لا تجد تفسيرًا لبكاء طفلها.
في المطبخ، كان هناك كوب قهوة قديم، وورقة كتبَت عليها شيئًا لم أعد أذكره.
أحرف مشطوبة، جمل ناقصة، ونقطة في آخر السطر كأنها نهاية عمر.
أظن أن هذه الجماعة وفية لي أكثر منك.
رفعت قدمي على منضدة صغيرة أمامي، كانت محمرة من ضيق الحذاء.
لقد ابتعته بالتنزيلات، لم أجد مقاس قدمي فأخذت الأصغر بنفس أسلوب الحياة.
أحلامنا كبيرة لا نقدر على صنعها وتحقيقها، لذا نأخذ الأصغر الذي يلائم العالم ولا يلائمنا،
ونعاني بقية حياتنا من تقرحات بالأقدام وتفاقم للأوهام.
نهضت أتكئ على الجدار، أمشي بروية. الأرضية غير المفروشة ترسل قشعريرة في جسدي، لكن أواصل.
مرآة الحمام مغبشة.
وجهي ضبابي.
"لم لا أستطيع أن أرى نفسي؟ هل يكون منك أيتها المعلقة؟ يحق لك أن تكوني مجرد قطعة ملصقة بمكان كئيب لا يعانقك إلا بخار الماء حين نستحم وبقية حياتك جافة بلا حياة."
تساءلت وأنا أمسح وجهي، لا بالماء، بل بكمّ القميص، كأنني أمحو ملامحي القديمة.
كأنني كنت كارهة لما أنا عليه، وجه يغزو ملامحة فراشي الألوان.
العمل يحتم هكذا، سمعت صوتًا في رأسي. واصلت إلى أن مسحت وجهي، ونظرت إلى المرآة.
لا شيء سوى وجه مبهم لم أعرفه.
ابتسمت.
فهذا شكلي بلا ملامح أو انتماء.
كنت أعرف أن الوطن ليس خارطة.
وليس له نشيد، ولا يحتاج جواز سفر.
الوطن كان صوت جدتي وهي تقرأ لي سورة مريم قبل النوم.
لماذا كانت تفعل ذلك؟
قلتها وأنا أتمدد على فراشي.
أمسكت المصحف وفتحته على سورة يوسف، وقبل أن أقرأ قلت: "ليتك كنتِ تقرأين لي هذه يا جدتي أو آل عمران لما كنت أقبع اليوم وحيدة بين روائح الماضي، دون حاضر، دون ونس. كأنك في كل ليلة كنت تؤكدين أنني سأعيش وحيدة بلا ونيس، لا زوج ولا أخ، كمريم العذراء."
لكن أين أنا منها؟ هي وهبها الرب يسوع وأنا حتى نبضًا لم أوهب.
كان رائحة التين اليابس في حقيبتي بالمدرسة سببًا سابقًا لكرهي البقاء عند جدتي.
أغمضت عيني وأنا أضم القرآن لي.
"ليت التين يعود، لن أتذمر أو ألقيه في القمامة بعد أن أخرج للمدرسة. أقسم لن أفعلها."
لكن كل ذلك غاب، حتى ذاكرتي صارت تغرب عني.
لا شيء أقسى من أنك لا تعود تتذكر كيف كنت تضحك.
قلتها بصوتٍ خافت وأنا أنظر إلى الفضاء أمامي، من تلك التي سميت نافذة بعقد الإيجار.
"نافذة مطلة." تمنيت أن أعرف على ماذا تطل.
أم نحن في زمنٍ حتى رؤية السماء من شق بالجدار يحسب علينا؟
بقيت النافذة مفتوحة، وعيوني معلقة بالفراغ، كأنني أنتظر أحدًا لن يعود.
لا أعرف كم مرّ من الوقت، وأنا أحدق في الفراغ.
قرآني موضوع على صدري.
فتحت عينيّ همسًت، يبدو أنني غفوت. لكن كم من الوقت؟
لا أعلم. إنه النهار بلا شك.
بضع خيوط تمردت على الشمس ونسابت من شق الجدار لتصل إلى عيني.
ساعة الجدار تعطلت.
ربما منذ البارحة أو الأسبوع الماضي.
لم أعد أميز بين اليوم والأمس، لأن كل اللحظات باتت تشبه الفراغ: بيضاء، بلا حواف، بلا حرارة، كصفحة طويت دون أن تقرأ.
نهضت، أنزلت قدمي على الأرضية الجرداء.
سمعتها تتنهد، كانت حرارة قدمي تداعب قلب الأرضية، فامتزج بها الفرح والدفء الذي يسكنني.
أمشي حافية على أرضية باردة، تدفئ كل مكان أضع فيه قدميّ وترحل، وأنا أحمل برودتها.
البرد لا يأتي من الجو، بل من الداخل.
الذاكرة مشوشة، كمرآة مضببة بالبخار.
كان هناك صوت ما، نداء، ربما اسمي، أو صيحة قادمة من ماضٍ لم يكتمل.
لكنها تلاشت.
هاجس الضباب يطرق فكري ويبدأ بسحب بقية الأنفاس التي حيكتها كل ليلة من ذكرى ورائحة.
ثم يأتي هاجس الصباح ويأخذني، ليترك فجوة في داخلي.
الوطن ربما لحظة.
أو رائحة، أو شخص نسي أن يغلق الباب بعد خروجه.
نقرة من هاتفي توحي بأنه وصلني تنبيه.
فتحت الهاتف كما في كل سنة بهذا اليوم.
لا شيء سوى تهنئة بعيد مولدي، ليس اليوم، بل منذ سبعة أعوام.
كان تذكيرًا من الفيس بوك، والتهنئة كانت منه، من ذاك القابع بالأعلى، الذي شعرت معه، ولو لفترة بسيطة، أن لي انتماء.
جلست على طرف السرير.
لم أخلع مئزري.
الشتاء يسكنني، حتى حين أرتدي الصوف.
أنظر إلى الحائط، إلى الشق الرفيع في الزاوية.
أتذكره؟ لا.
أتخيّله؟
بل يمر طيفه بي كما رسالته تؤلمها.
هو لم يكن موجودًا قبل أسبوع.
لم يكن قبل ليلة، لكنه ظهر الآن من العدم، كأن تلك الهاربة من الشمس قد حملته ليكون عندي.
نظرت للشق، رأيته واقفًا مبتسمًا، وردة بيضاء بيده.
وانتهى.
كأن الشق يبتلع الغرفة ببطء.
كما ابتلعها سابقًا.
تمر صورة في رأسي.
ركضت في زقاق ضيق، كنت أضحك، الفستان يتسخ، يد صغيرة تمسك يدًا أكبر، يدًا مألوفة.
لكن لا وجه.
لا صوت.
فقط الركض.
وأنا أضحك.
هل كنت أنا؟
أم ذاكرة زرعها أحدهم في داخلي عن طريق الخطأ؟
لا أعلم، لكنني أحببتها.
خبأت رسالة في أسفل جاروي منذ سبع سنوات.
نسيَتها.
لكن ذلك اليوم، فجأة، كأن أحدهم دفعني لفتح الدرج وسحبها.
رسالة بلا توقيع.
"حين تفقدين القدرة على البكاء، ستكونين قد فقدتِ نفسك."
أكان يعلم أنني سأبقى أبكيه عمراً؟ ولم هو متأكد أنني عند تجاوزي له سأفقد نفسي؟
الحبر جاف، لكنني قرأت الجملة بصوتٍ مسموع، كما لو أنها نُزفت مني الآن.
أغلقت الرسالة.
ورميتها.
ولم أبحث عنها حين سقطت تحت السرير.
لم أعد أرغب في البحث عن شيء.
ولا حتى عن نفسي.
فقط تمنيت أن تبتلع الشقوق تحت السرير تلك الورقة، وتسكنني حيث تستحق.
"الغربة ليست خيانة الوطن، بل خيانة الذاكرة."
قلت ذلك وأنا أضع يدي على صدري، أتحسس نبضًا لم أعد متأكدة إن كان لي،
أم هو مجرد ارتداد قديم لجرح لم يُشفَ أبدًا.
شعرت أن جلدي ضاق علي.
كأنني ألبس جسدًا ليس جسدي.
كأن الغربة ليست حولي، بل في داخلي.
مقيمة.
هادئة.
تنتظر فقط أن تتوقف عن المقاومة.
هل هذا ما أراده برسالته تلك؟ أن أتوقف عن المقاومة وأتقبل البرودة التي تبتلعني؟
لكن لا. لن يحدث.
شددت المئزر إلى خصره الرقيق، وانحنيت تحت السرير تفتش بين الشقوق عن الرسالة.
وفي آخر الليل،
جلست على الأرض، قرب ذلك الشق المدعو نافذة،
أمزق الرسالة ببطء، قطعة تلو الأخرى.
القصاصات لم تكن كبيرة،
كانت صغيرة جدًا، كأنني أحاول إخفاء ما كُتب، لا بتمزيقه، بل بتفتيته.
وضعت القصاصات في كوب الماء،
تركتها تغرق، تتحول إلى عجينة رمادية.
وبهدوء، دون أن أنظر،
أخذت ملعقة خشبية،
وحركت الخليط بحركة دائرية،
بطيئة، رتيبة، مهووسة.
وقفت،
فتحت النافذة،
وسكبت الماء الورقي على حافة الشارع،
شاهدت كيف تنزل القطع المبللة كأنها رماد خفيف،
دون صوت تمتمت،
"هيّا، عودي إلى لا شيء."
وأغلقت النافذة.
وفي الداخل،
كان الضوء الوحيد هو ضوء الثلاجة،
مفتوحٌ منذ زمن،
وفي داخلها تفاحة واحدة،
ذبل نصفها،
والنصف الآخر...
ينتظر دوره.
الجوري ...."لا يهم أين أكون، الغربة كانت دائمًا داخلي."
قلتها وأنا أشعل سيجارة ثالثة لم أكن بحاجةٍ إليها.
السماء فوقي ليست سمائي، والشارع تحت قدمي لا يحفظ خطواتي، ولا الجدران تحفظ صدى صوتي.
كل شيء مؤقت، حتى وجهي في المرآة، حتى اسمي على الباب.
المنفى ليس حدودًا، بل إزاحة خفية تحدث في داخلي، دون جواز سفر، دون جنود.
كنت أمشي، لا إلى مكان، بل بعيدًا عن نفسي التي تركتها ذات يوم على عتبة بيتٍ لم يُغلق بابه أبدًا.
وكنت أعرف... أن الغربة لا تبدأ حين أُغادر، بل حين أعود فلا يعرفني أحد.
حين أفقد البيت في داخلي، لن أتمكن من العثور عليه خارجي مهما طفت الأرض.
لكن ربما نحن لا نبحث عن وطن... بل عن طريقة لنحتمي من البرد الذي صار في عروقنا.
ومضات من البعيد كبرق يخطف النظر تظهر لثوانٍ وتبهت لتختفي، لا أتمكن من الإمساك بها ولا بطرفها، كانت معاناة يومية.
الشارع يشبه الآخر، والباب لا يختلف كثيرًا عن الذي قبله، لكن المفتاح لا يدخل، ويدي ترتجف رغم أن البرد لم يبدأ بعد.
همست "ربما أخطأت الطابق"، لكنني أعرف أنني لم أخطئ، بل تعبت من الصعود.
كعب حذائي انكسر منذ أسبوع ولم أصلحه، أمشي به مائلًا وكأن المدينة كلها تنحدر تحت قدمي،
تحمّلت، كعادتي.
ليست مسألة كعب.
بل مسألة كاهل.
نظرت إلى قدميّ وأنا أمسح اليمنى باليسرى، لا يهم، ليست أقدام أميرة في النهاية.
أخيرًا تحرك المفتاح في القفل.
دخلت، رميت الحقيبة على الكنبة، وحين جلست، شعرت كأنني أتفتت من الداخل، كأن عظامي تتكسر بلا صوت.
"لم كل شيء ساكن من الخارج وصاخب من الداخل والعكس صحيح؟"
لم أقلها أو أجهر بها، اكتفيت بأن أغمضت عيني كما تفعل الأم حين لا تجد تفسيرًا لبكاء طفلها.
في المطبخ، كان هناك كوب قهوة قديم، وورقة كتبَت عليها شيئًا لم أعد أذكره.
أحرف مشطوبة، جمل ناقصة، ونقطة في آخر السطر كأنها نهاية عمر.
أظن أن هذه الجماعة وفية لي أكثر منك.
رفعت قدمي على منضدة صغيرة أمامي، كانت محمرة من ضيق الحذاء.
لقد ابتعته بالتنزيلات، لم أجد مقاس قدمي فأخذت الأصغر بنفس أسلوب الحياة.
أحلامنا كبيرة لا نقدر على صنعها وتحقيقها، لذا نأخذ الأصغر الذي يلائم العالم ولا يلائمنا،
ونعاني بقية حياتنا من تقرحات بالأقدام وتفاقم للأوهام.
نهضت أتكئ على الجدار، أمشي بروية. الأرضية غير المفروشة ترسل قشعريرة في جسدي، لكن أواصل.
مرآة الحمام مغبشة.
وجهي ضبابي.
"لم لا أستطيع أن أرى نفسي؟ هل يكون منك أيتها المعلقة؟ يحق لك أن تكوني مجرد قطعة ملصقة بمكان كئيب لا يعانقك إلا بخار الماء حين نستحم وبقية حياتك جافة بلا حياة."
تساءلت وأنا أمسح وجهي، لا بالماء، بل بكمّ القميص، كأنني أمحو ملامحي القديمة.
كأنني كنت كارهة لما أنا عليه، وجه يغزو ملامحة فراشي الألوان.
العمل يحتم هكذا، سمعت صوتًا في رأسي. واصلت إلى أن مسحت وجهي، ونظرت إلى المرآة.
لا شيء سوى وجه مبهم لم أعرفه.
ابتسمت.
فهذا شكلي بلا ملامح أو انتماء.
كنت أعرف أن الوطن ليس خارطة.
وليس له نشيد، ولا يحتاج جواز سفر.
الوطن كان صوت جدتي وهي تقرأ لي سورة مريم قبل النوم.
لماذا كانت تفعل ذلك؟
قلتها وأنا أتمدد على فراشي.
أمسكت المصحف وفتحته على سورة يوسف، وقبل أن أقرأ قلت: "ليتك كنتِ تقرأين لي هذه يا جدتي أو آل عمران لما كنت أقبع اليوم وحيدة بين روائح الماضي، دون حاضر، دون ونس. كأنك في كل ليلة كنت تؤكدين أنني سأعيش وحيدة بلا ونيس، لا زوج ولا أخ، كمريم العذراء."
لكن أين أنا منها؟ هي وهبها الرب يسوع وأنا حتى نبضًا لم أوهب.
كان رائحة التين اليابس في حقيبتي بالمدرسة سببًا سابقًا لكرهي البقاء عند جدتي.
أغمضت عيني وأنا أضم القرآن لي.
"ليت التين يعود، لن أتذمر أو ألقيه في القمامة بعد أن أخرج للمدرسة. أقسم لن أفعلها."
لكن كل ذلك غاب، حتى ذاكرتي صارت تغرب عني.
لا شيء أقسى من أنك لا تعود تتذكر كيف كنت تضحك.
قلتها بصوتٍ خافت وأنا أنظر إلى الفضاء أمامي، من تلك التي سميت نافذة بعقد الإيجار.
"نافذة مطلة." تمنيت أن أعرف على ماذا تطل.
أم نحن في زمنٍ حتى رؤية السماء من شق بالجدار يحسب علينا؟
بقيت النافذة مفتوحة، وعيوني معلقة بالفراغ، كأنني أنتظر أحدًا لن يعود.
لا أعرف كم مرّ من الوقت، وأنا أحدق في الفراغ.
قرآني موضوع على صدري.
فتحت عينيّ همسًت، يبدو أنني غفوت. لكن كم من الوقت؟
لا أعلم. إنه النهار بلا شك.
بضع خيوط تمردت على الشمس ونسابت من شق الجدار لتصل إلى عيني.
ساعة الجدار تعطلت.
ربما منذ البارحة أو الأسبوع الماضي.
لم أعد أميز بين اليوم والأمس، لأن كل اللحظات باتت تشبه الفراغ: بيضاء، بلا حواف، بلا حرارة، كصفحة طويت دون أن تقرأ.
نهضت، أنزلت قدمي على الأرضية الجرداء.
سمعتها تتنهد، كانت حرارة قدمي تداعب قلب الأرضية، فامتزج بها الفرح والدفء الذي يسكنني.
أمشي حافية على أرضية باردة، تدفئ كل مكان أضع فيه قدميّ وترحل، وأنا أحمل برودتها.
البرد لا يأتي من الجو، بل من الداخل.
الذاكرة مشوشة، كمرآة مضببة بالبخار.
كان هناك صوت ما، نداء، ربما اسمي، أو صيحة قادمة من ماضٍ لم يكتمل.
لكنها تلاشت.
هاجس الضباب يطرق فكري ويبدأ بسحب بقية الأنفاس التي حيكتها كل ليلة من ذكرى ورائحة.
ثم يأتي هاجس الصباح ويأخذني، ليترك فجوة في داخلي.
الوطن ربما لحظة.
أو رائحة، أو شخص نسي أن يغلق الباب بعد خروجه.
نقرة من هاتفي توحي بأنه وصلني تنبيه.
فتحت الهاتف كما في كل سنة بهذا اليوم.
لا شيء سوى تهنئة بعيد مولدي، ليس اليوم، بل منذ سبعة أعوام.
كان تذكيرًا من الفيس بوك، والتهنئة كانت منه، من ذاك القابع بالأعلى، الذي شعرت معه، ولو لفترة بسيطة، أن لي انتماء.
جلست على طرف السرير.
لم أخلع مئزري.
الشتاء يسكنني، حتى حين أرتدي الصوف.
أنظر إلى الحائط، إلى الشق الرفيع في الزاوية.
أتذكره؟ لا.
أتخيّله؟
بل يمر طيفه بي كما رسالته تؤلمها.
هو لم يكن موجودًا قبل أسبوع.
لم يكن قبل ليلة، لكنه ظهر الآن من العدم، كأن تلك الهاربة من الشمس قد حملته ليكون عندي.
نظرت للشق، رأيته واقفًا مبتسمًا، وردة بيضاء بيده.
وانتهى.
كأن الشق يبتلع الغرفة ببطء.
كما ابتلعها سابقًا.
تمر صورة في رأسي.
ركضت في زقاق ضيق، كنت أضحك، الفستان يتسخ، يد صغيرة تمسك يدًا أكبر، يدًا مألوفة.
لكن لا وجه.
لا صوت.
فقط الركض.
وأنا أضحك.
هل كنت أنا؟
أم ذاكرة زرعها أحدهم في داخلي عن طريق الخطأ؟
لا أعلم، لكنني أحببتها.
خبأت رسالة في أسفل جاروي منذ سبع سنوات.
نسيَتها.
لكن ذلك اليوم، فجأة، كأن أحدهم دفعني لفتح الدرج وسحبها.
رسالة بلا توقيع.
"حين تفقدين القدرة على البكاء، ستكونين قد فقدتِ نفسك."
أكان يعلم أنني سأبقى أبكيه عمراً؟ ولم هو متأكد أنني عند تجاوزي له سأفقد نفسي؟
الحبر جاف، لكنني قرأت الجملة بصوتٍ مسموع، كما لو أنها نُزفت مني الآن.
أغلقت الرسالة.
ورميتها.
ولم أبحث عنها حين سقطت تحت السرير.
لم أعد أرغب في البحث عن شيء.
ولا حتى عن نفسي.
فقط تمنيت أن تبتلع الشقوق تحت السرير تلك الورقة، وتسكنني حيث تستحق.
"الغربة ليست خيانة الوطن، بل خيانة الذاكرة."
قلت ذلك وأنا أضع يدي على صدري، أتحسس نبضًا لم أعد متأكدة إن كان لي،
أم هو مجرد ارتداد قديم لجرح لم يُشفَ أبدًا.
شعرت أن جلدي ضاق علي.
كأنني ألبس جسدًا ليس جسدي.
كأن الغربة ليست حولي، بل في داخلي.
مقيمة.
هادئة.
تنتظر فقط أن تتوقف عن المقاومة.
هل هذا ما أراده برسالته تلك؟ أن أتوقف عن المقاومة وأتقبل البرودة التي تبتلعني؟
لكن لا. لن يحدث.
شددت المئزر إلى خصره الرقيق، وانحنيت تحت السرير تفتش بين الشقوق عن الرسالة.
وفي آخر الليل،
جلست على الأرض، قرب ذلك الشق المدعو نافذة،
أمزق الرسالة ببطء، قطعة تلو الأخرى.
القصاصات لم تكن كبيرة،
كانت صغيرة جدًا، كأنني أحاول إخفاء ما كُتب، لا بتمزيقه، بل بتفتيته.
وضعت القصاصات في كوب الماء،
تركتها تغرق، تتحول إلى عجينة رمادية.
وبهدوء، دون أن أنظر،
أخذت ملعقة خشبية،
وحركت الخليط بحركة دائرية،
بطيئة، رتيبة، مهووسة.
وقفت،
فتحت النافذة،
وسكبت الماء الورقي على حافة الشارع،
شاهدت كيف تنزل القطع المبللة كأنها رماد خفيف،
دون صوت تمتمت،
"هيّا، عودي إلى لا شيء."
وأغلقت النافذة.
وفي الداخل،
كان الضوء الوحيد هو ضوء الثلاجة،
مفتوحٌ منذ زمن،
وفي داخلها تفاحة واحدة،
ذبل نصفها،
والنصف الآخر...
ينتظر دوره.