الطائر الحر
Well-Known Member
"إن السؤال عن إيجاد أرض جديدة لم يعد يتعلق بـ هل، ولكنه يتعلق بـ متى"
(توماس زيربوكن)
(توماس زيربوكن)
بهذه الكلمات يستهل توماس زيربوكن الرئيس المساعد لمديرية المهام العلمية بناسا إعلانه عن الكشف الجديد الذي توصلت إليه مجموعة بحثية بقيادة د. ميكل جيلون من جامعة لوج البلجيكية مستخدمين "سبيتزر" التلسكوب التابع لناسا، حيث تم التأكد من أن النجم "ترابيست1" (TRAPPIST-1) من كوكبة الدلو والذي يبتعد عنّا 39 سنة ضوئية، يحتوي في محيطه على سبعة كواكب تقترب في أقطارها وأحجامها من كوكب الأرض، وكانت المفاجأة أن من بينها ثلاثة كواكب قابلة للحياة عليها، فماذا تقول؟!
النظام الشمسي ترايبست1 ، الكواكب e وf وg هي الأكثر قبولا للحياة (مواقع التواصل)
دعنا الآن من الجدل حول الحدث نفسه، سوف نعود إلى عالم ترابست1 السحري بعد قليل، لكن ربما في هذه المرحلة من حديثنا معًا سوف تدور في دماغك أسئلة أخرى، فمثلا: ماذا يعني قولنا "نطاق صالح للحياة"؟ كيف نعرف ذلك؟ كيف يمكن للعلماء في ناسا أو غيرها أن يرصدوا تلك الكواكب البعيدة للغاية؟ وهل تستطيع تلسكوباتهم تصويرها؟ كيف نعرف تركيب وحجم وعمر هذا النجم هناك والذي يقع على مسافة 400 تريليون كيلومتر؟ ثم، ما فائدة ذلك كله؟
سبعة عوالم حيّة
نميل نحن البشر لتفضيل طقس متوسط، فدرجة حرارة بين 22 و25 مئوية مع سماء صافية سوف تكون مناسبة للغاية كي نتجول صباحا في المدينة، قد نتنازل قليلًا عن ذلك النمط فنقبل بدرجة حرارة 35 في الصيف أو 6 في الشتاء، قد نتنازل لأكثر من ذلك، لكن ما لا يمكن أن تتنازل عنه الحياة3 – كما نعرفها – هو وجود الماء السائل على سطح الكوكب، يتأثر ذلك بعدة عوامل أهمها هو المسافة بين هذا الكوكب ونجمه وعلاقة ذلك بدرجة حرارة النجم، فلا يجب أن يكون الكوكب قريب جدًا من النجم فترتفع درجة حرارته عن الحد الذي يسمح بوجود ماء أو بعيد جدا حد التجمد، كأورانوس مثلا، دعنا نحاول فهم تلك النقطة عبر ترابست1.
مقارنة بين حجم ترابست1 وحجم الشمس في الفضاء
ترابست1 هو قزم أحمر شديد البرودة، يعني ذلك أن درجة حرارة سطحة تقع تحت 2700 درجة مئوية، بينما تبلغ درجة حرارة سطح الشمس 5800 درجة مئوية تقريبا، هنا قد يتبادر لذهنك سؤال آخر، وهو: كيف يمكن إذا أن تتواجد الحياة حول نجم بتلك البرودة؟ خاصة حينما نعرف أن كتلته تساوي تقريبا 8% فقط من كتلة الشمس، والإجابة هنا تتعلق بالمسافة بين الكواكب الصالحة للحياة والنجم الذي تدور حوله، تبتعد الأرض 150 مليون كيلومتر تقريبا عن الشمس، في حين توجد الكواكب الثلاثة الواقعة في النطاق الصالح للحياة على مسافة تقترب من 6 مليون كيلومتر فقط من ترابست1.
ما يثير الدهشة هنا هو أن أبعد كواكب النظام ترابست1 يقع فقط على بعد 112 مليون كيلومتر من النجم، بينما أقرب الكواكب للنجم يقع فقط على بعد حوالي مليون ونصف كيلومتر، إذن فالكواكب السبعة التي يتضمنها النظام الشمسي الجديد تقع جميعها في نطاق صغير جدا، ما يعني أنك على أي من تلك الكواكب الصالحة للحياة سوف تستطيع أن ترى بقية المجموعة الشمسية في سمائك بوضوح، أليس ذلك رائعا؟!
سبعة كواكب تدور حول ترابست1 على مسافات قريبة من بعضها البعض (مواقع التواصل)
في تلك النقطة يجب أن نضيف أن علاقة المسافة ودرجة حرارة النجم ليست هي فقط ما يحدد إمكانية وجود ماء سائل، وبالتالي حياة، على الكوكب. في المجموعة الشمسية مثلا يقع المريخ – وربما الزهرة – في النطاق الذي يمكن أن تتواجد الحياة عليه بالنسبة للشمس، لكن -كما ترى- فالمريخ هو صحراء حمراء قاحلة ممتدة والزهرة هو أقوى أفران المجموعة الشمسية، في الحقيقة إذا قررت يوما أن تنزل إلى الزهرة فمشكلتنا سوف تكون في تحديد أي الأسباب قد قتلك -خلال عشر ثوان- أولا، الاختناق أم الاحتراق أم الذوبان.
لذلك، يلعب مناخ الكوكب أيضًا دورا هاما في تحديد صلاحيته للحياة، كذلك هناك عوامل أخرى مهمة كعمر النجم مثلا والذي يجب أن يكون طويلا للغاية ليقبل وجود وتطور حياة عليه، على الأرض تكلف ذلك 4.5 مليار عام، لذلك لا يمكن أن نحصل على حياة على نجم بعمر 300 مليون عام مثلا، أما عن ترابست1 فيمكن أن تستمر حياته حتى -ربما- 4 تريليونات عام للأمام، هنا يمكن القول أن الأقزام الحمراء تحقق فرص جيدة لنطاقات صالحة للحياة، وما أكثرها حولنا، على الأقل كوكب كريبتون مسقط رئس السيد سوبرمان يدور حول أحدها.
كيف نعرف كل تلك المعلومات؟
تظهر كل النجوم في كل التلسكوبات كرأس دبّوس صغير، مهما كان قطر أو ارتفاع ذلك التلسكوب عن سطح الأرض أو قوته، لذلك فحينما تقول أحد الهيئات الفضائية أنها استطاعت كشف كوكب جديد يدور حول نجم ما فذلك ليس لأن التلسكوبات استطاعت تصوير ذلك الكوكب، ولكن لأن هناك عدة طرق غير مباشرة تساعدنا على ذلك، هنا يجب توضيح أن كل تلك الصور التي تجول السوشيال ميديا العربية في مناسبات كتلك هي وحي خيال.
هل تلاحظ انخفاض كمية الضوء أثناء عبور الكوكب؟
دعنا هنا نتحدث عن ترابست1، لقد تمكن العلماء من رصده عن طريق قياس كمّية الضوء5 أثناء وبعد عبور الكوكب أمام النجم، لنتخيل أننا نقوم بتمرير كرة حديدية صغيرة أمام مصباح مضيء، في أثناء مرور الكرة بينك وبين المصباح سوف تقل كمّية الضوء القادمة منه إلى عينيك، هذا هو بالضبط – على مستوى غاية في الصغر والدقة – ما يحدث حينما نوجّه تلسكوباتنا إلى نجم ما لمدة طويلة، فبين فترات محددة نجد أن كم الإشعاع الضوئي يقل لمدة محددة ثم يرتفع مرة أخرى، يحدث ذلك لأن الكوكب يمر أمام النجم، ويمكننا ذلك من التعرف على نصف قُطر مدار الكوكب.
ليس ذلك فقط، بل إن قياسات دقيقة أخرى قد تمكننا من التعرف على حجم الكوكب الذي يمر أمام هذا النجم عبر قياس كمّية الضوء التي تنخفض أثناء مروره، كذلك يمكن لنا التعرف على مناخ هذا الكوكب، عبر التحليل الطيفي الدقيق جدا للكم الضئيل للغاية من الضوء الذي يمر عبر غلافه الجوي قادمًا ناحيتنا، يمكننا التغير الطفيف في شعاع الضوء القادم من النجم أيضا من التعرف على العناصر الموجودة في غلاف ذلك الكوكب، هنا يمكن لنا التعرف على المزيد من المعلومات عن قابلية كوكبنا لوجود حياة عليه، دعنا الآن نتأمل تلك الأشكال التي سجلتها مجموعة الباحثين لكل كوكب منهم:
قام الباحثون بتسجيل ومقارنة انخفاضات في كمية الضوء لسبعة كواكب تدور حول ترابست1 (مواقع التواصل)
تمتد الحيرة بالبعض في تلك النقطة للتساؤل عن النجم نفسه، كيف نعرف نوعه وحجمه وكتلته وعمره وهو على تلك المسافات الشاسعة؟ ترتبط الإجابة على أسئلة كتلك بالطيف الذي نحصل عليه من النجم، والطيف هو مخطط لكثافة الإشعاع الذي يصدر من نجم ما، يمكن لنا استقباله وقراءته بآليات عدة، لكن ما يهمنا هنا هو أن ذلك الطيف يحتوي على خطوط تعطينا الفرصة لمعرفة أنواع العناصر الموجودة على سطح ذلك النجم، وكثافتها، ودرجة حرارتها. يمكننا ذلك -عبر العديد من قوانين الفيزياء- من استنتاج كم ضخم من المعلومات عن النجوم، إن ضوء تلك النجمة الصغيرة التي تقف هناك في سماء ليلة شتوية هو كتاب ضخم يمكن لنا أن نقرأ فيه تفاصيل حياة ذلك النجم، في الحقيقة يدفعنا ذلك للكثير من التأمل حول قوة المنهج العلمي في التفكير، كيف يمكن لحفنة من المعادلات صممها فيزيائي ما أن تكشف كوناً كاملا من المعارف؟
ماذا بعد؟
في مناسبات كتلك يتوقف البعض ليسأل عن أهمية ذلك كله، ألم يكن من الأفضل أن ننفق كل تلك النقود في دعم قضايا الفقر والجهل والمرض في العالم؟ يمكن القول أن هذا التساؤل المشروع يطرح نفسه بقوة ما بين أروقة البرلمانات وسطور الصحف دائما، لكن أيضا يمكن القول أن هناك عدة أسباب وجيهة تدفعنا للمضي قدما في هذا النوع من البحث.
بجانب تمكننا كبشر من سبر أغوار المجهول، وبحثنا الحثيث عن وجود حيوات أخرى عاقلة على هذا الكوكب البعيد، وتلك القوة الناعمة التي تكتسبها الولايات المتحدة من وراء التفوق العلمي، وقدرتنا على دراسة عوالم تشبه عوالمنا لنرى ما يمكن أن يحدث لنا في المستقبل أو ندرس تاريخنا، يبقى أمر آخر غاية في الأهمية.
في مقال سابق تحدثنا عن ضرورة الهروب5 سريعا من كوكب الأرض وحتمية النهاية، يدفع ذلك بنا خلال -قُل- السنوات الخمسمائة القادمة للبحث عن أماكن يمكن لها أن تكون ملاذًا آمنا للبشر، بالفعل يمكن للنظام ترابيست-1 أن يمثل حلا مثاليا، فهو قريب نسبيا، 39 سنة ضوئية تعتبر مسافة قصيرة حينما نتحدث عن مجرة قطرها يقترب من 100 ألف سنة ضوئية، كذلك وجود أكتر من كوكب قد يسمح بوجود مياه/حياة على سطحه يضاعف من احتمالات نجاح رحلة كتلك، هل تقول رحلة؟!
نعم، لكن إلى الآن لا نمتلك أي قدرة لقطع كل تلك المسافة بسرعة، ان أسرع مركباتنا في الفضاء حاليا هي "فويجر"، والتي تصل سرعتها لحوالي 65 ألف كم/الساعة، حتى مع تلك السرعة المهولة سوف نقطع المسافة إلى النظام ترابيست-1 في 750 ألف عام تقريبا، أي بعمر مائة حضارة بشرية كاملة، نحتاج إذن أن نطور منظور جديد للسفر الكوني، منظور لا يتعلق بوقود أو سفر، لكن عبر العبث في عوالم الجاذبية والكوانتم يمكن لنا -ربما- التوصل لطريقة نخترق بها الزمكان، ثقب دودي ما، لنصل إلى عالم ترابست1 الساحر في مدة قصيرة.
بالفعل عالم ترابست1 سوف يكون ساحرا، سماء حمراء كالشفق، و6 كواكب تراها كأقمار صغيرة تدور في سمائك، يشبه الأمر تلك الأحلام التي كانت تراودنا حينما كنّا أطفال، يشبه عوالم الأفلام والروايات التي طالما اصطحبتنا لمجرات ومجموعات نجمية أخرى، يشبه رغبتنا التي تزداد يوما بعد يوم بازدياد معارفنا كبشر، ها نحن نتمكن من الخوض في المجهول لمسافات شاسعة، يحدونا ضعفنا المُحمّل بمخاوفنا من الفقد، فنحن كائن وحيد يشعر بالضجر، يدفعنا ذلك للمزيد من البحث حول ماهية وجودنا، هل سوف نجد يوما ما حياة عاقلة على ترابيست-1؟ هل سوف نصل إلى هناك؟ هل سوف نراقب غروب شمس كوكب آخر يدور حول نجم ملقى به على بعد تريليونات الكيلومترات يوما ما؟.. من يدري يا صديقي؟ من يدري؟!!