- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 118,879
- مستوى التفاعل
- 120,000
- النقاط
- 2,508
في ليلةٍ لم تعرف القمر، اجتمع الغرباء عند أطلال مدينةٍ منسية، وكلٌّ منهم يخفي سرًّا لو كُشف، غيَّر مصير العالم.
تنفّست التلال تلك الليلة كصدرٍ عجوزٍ يوشك أن يبوح بسرٍّ احتفظ به ألف عام.
الريح كانت المترجم الوحيد لذلك الصمت، والسماء مُعلَّقة على حافة الغياب، بلا قمر يرشد الغريب أو يفضح الخائف. كانت الليلة ليلة تتويجٍ لا يعرف أحد لمن، ولا لأي كائن، أهو تتويج حيٍّ أم اختيار ميت، أم مجرّد طقس لمدينةٍ آثرت أن تختبئ خلف حدقات رجلٍ أشعث الشعر، كأنما حمل على كتفيه جميع الغيوب.
عيناه كانتا مرآتين لمكانٍ لا تراه العيون، يثبت بصره في الفراغ كمن يحصي خطوات كائنٍ يقترب من العدم. من حوله كانوا يركعون، لا سجودًا ولا عبادة، بل انتظارًا لما لا يُنتظر. الريح تداعب ثيابه كما تداعب نسمات الفجر أكتاف الجبال، بينما الكثبان من حوله تتكور كصدور الجبابرة النائمين.
هم أولئك… ينهضون من بطن الأرض كل سبعةٍ وعشرين شهرًا، يولدون بلا أرحام ولا طفولة، يولدون كبارًا، مقلوبين، أقدامهم في السماء ورؤوسهم في التراب، كأن العالم رفض أن يضعهم في موضعه الطبيعي.
يقول الشيوخ الذين لا ينامون إلا على حجرٍ دافئ، إإن الرقم لم يأتِ صدفة، وإن الأرض تحفظه في عروقها كما تحفظ الأم ملامح وليدها.
يقولون: قبل ألف عام وسبعة وعشرين شهرًا، جرى في هذه التلال دمٌ لم يجف، دمُ ملكٍ قُتل في ليلةٍ بلا قمر، فسقط تاجه بين الرمال. ومنذ تلك الليلة، تُعيد الأرض حكايتها كلما مرّ عليها سبعة وعشرون شهرًا، كأنها تُحصي عمر الملك المقتول، أو تعدّ أنفاسه الباقية تحت التراب.
لكلٍّ منهم سرّ، سرّ واحد، لكنه لو خرج من فمه لارتجّت أركان الأرض. ثلاثة أقمارٍ فقط هي حصّتهم من العمر، ثم يعودون إلى الصمت الذي خرجوا منه.
من أراد شيئًا جاء إلى صاحب الحدقة، يضع بين يديه شيئًا، ليأخذ في المقابل ما ليس في اليد. الطلبات لم تكن صعبة… لكنها غامضة، غموضٌ يجعل كلّ طالبٍ يظن أنه الوحيد الذي فهم، حتى لو كان الفهم خدعة.
في ذلك الليل، مشت هي بقدمين عاريتين، حدبتها الصغيرة تسبقها كظلٍّ أثقل من جسدها. اقتربت منه، ومدّت يدًا إلى خصلات ذقنه، وهمست بما تريد.
حينها سال الضوء البنفسجي من أناملها، تسلّل إلى عينيه، فأظلمت السماء، وابيضّت عيناه كثلجٍ قادم من زمنٍ لم يُعرف بعد. الرمال ارتفعت، تدور حولهم كأنها تحرس السر من أن يتسرب.
ارتفعت الفتاة عن الأرضارتفعت الفتاة عن الأرض، حتى صارت في منتصف المسافة بين التراب والغياب، وهناك، عند الحدّ الذي لا تصله الكلمات، همس إليها الجبابرة بسرّهم.
مدّت يدها إلى شعرها الذهبي، وقصّت خصلاته بنصلٍ حاد، فانهمرت على الأرض كسهام برقٍ تنغرس في الرمل. من كل خصلةٍ نبتت شجرة، حتى إذا هبطت إلى الأرض، دوّى الرعد، وصوتٌ عميقٌ قال:
> "ثلاث ليالٍ… تسقط الأشجار، تجمعين الدرنات تحتها، تجففينها وتنثرينها… عندها تعود الأمور كما كانت."
ثلاث ليالٍ مرّت كما يمر الحلم حين يُحكى بعد صحوٍ ثقيل.
في الليلة الأولى، كانت الأشجار واقفةً كجنودٍ لا تعرف معنى النوم، والريح تدور حولها كأنها تحفظ قسمًا قديمًا.
في الليلة الثانية، بدأت الأغصان تهمس بلغاتٍ لا تُسمع إلا لمن كان قلبه خاليًا من النوايا.
أما الليلة الثالثة، فقد سقطت الأشجار دفعةً واحدة، كمن قرر الانحناء في صلاةٍ لم تُكتب في أي كتاب.
انحنت الفتاة تجمع الدرنات، واحدة تلو الأخرى، تضعها في سلةٍ منسوجة من ظلّها، تجففها بلهيب أنفاسها، ثم تذرّها في الهواء، فتتفتت إلى غبارٍ يختلط بالرمال، ويتسرب في شقوق التلال.
عند الفجر، لم يبقَ شيء من الجبابرة، ولا من الرجل صاحب الحدقة،عند الفجر، لم يبقَ شيء من الجبابرة، ولا من الرجل صاحب الحدقة، ولا من الأشجار، إلا أثرٌ يشبه الحلم الذي لا يستطيع أحدٌ أن يتذكر بدايته.
لكن التلال كانت أخفّ… وكأن سرًّا واحدًا على الأقل، قد غادر قلبها.
وقفت الفتاة على الحافة، تراقب الأفق الفارغ، وهمست:
> "ربما… لم يتغير شيء، وربما تغير كل شيء."
ثم مشت… تاركةً آثار أقدامها على الرمل، آثارًا سيبحث عنها العابرون بعد سبعةٍ وعشرين شهرًا، حين تنهض التلال لتتنفس من جديد.
الجوري.....
تنفّست التلال تلك الليلة كصدرٍ عجوزٍ يوشك أن يبوح بسرٍّ احتفظ به ألف عام.
الريح كانت المترجم الوحيد لذلك الصمت، والسماء مُعلَّقة على حافة الغياب، بلا قمر يرشد الغريب أو يفضح الخائف. كانت الليلة ليلة تتويجٍ لا يعرف أحد لمن، ولا لأي كائن، أهو تتويج حيٍّ أم اختيار ميت، أم مجرّد طقس لمدينةٍ آثرت أن تختبئ خلف حدقات رجلٍ أشعث الشعر، كأنما حمل على كتفيه جميع الغيوب.
عيناه كانتا مرآتين لمكانٍ لا تراه العيون، يثبت بصره في الفراغ كمن يحصي خطوات كائنٍ يقترب من العدم. من حوله كانوا يركعون، لا سجودًا ولا عبادة، بل انتظارًا لما لا يُنتظر. الريح تداعب ثيابه كما تداعب نسمات الفجر أكتاف الجبال، بينما الكثبان من حوله تتكور كصدور الجبابرة النائمين.
هم أولئك… ينهضون من بطن الأرض كل سبعةٍ وعشرين شهرًا، يولدون بلا أرحام ولا طفولة، يولدون كبارًا، مقلوبين، أقدامهم في السماء ورؤوسهم في التراب، كأن العالم رفض أن يضعهم في موضعه الطبيعي.
يقول الشيوخ الذين لا ينامون إلا على حجرٍ دافئ، إإن الرقم لم يأتِ صدفة، وإن الأرض تحفظه في عروقها كما تحفظ الأم ملامح وليدها.
يقولون: قبل ألف عام وسبعة وعشرين شهرًا، جرى في هذه التلال دمٌ لم يجف، دمُ ملكٍ قُتل في ليلةٍ بلا قمر، فسقط تاجه بين الرمال. ومنذ تلك الليلة، تُعيد الأرض حكايتها كلما مرّ عليها سبعة وعشرون شهرًا، كأنها تُحصي عمر الملك المقتول، أو تعدّ أنفاسه الباقية تحت التراب.
لكلٍّ منهم سرّ، سرّ واحد، لكنه لو خرج من فمه لارتجّت أركان الأرض. ثلاثة أقمارٍ فقط هي حصّتهم من العمر، ثم يعودون إلى الصمت الذي خرجوا منه.
من أراد شيئًا جاء إلى صاحب الحدقة، يضع بين يديه شيئًا، ليأخذ في المقابل ما ليس في اليد. الطلبات لم تكن صعبة… لكنها غامضة، غموضٌ يجعل كلّ طالبٍ يظن أنه الوحيد الذي فهم، حتى لو كان الفهم خدعة.
في ذلك الليل، مشت هي بقدمين عاريتين، حدبتها الصغيرة تسبقها كظلٍّ أثقل من جسدها. اقتربت منه، ومدّت يدًا إلى خصلات ذقنه، وهمست بما تريد.
حينها سال الضوء البنفسجي من أناملها، تسلّل إلى عينيه، فأظلمت السماء، وابيضّت عيناه كثلجٍ قادم من زمنٍ لم يُعرف بعد. الرمال ارتفعت، تدور حولهم كأنها تحرس السر من أن يتسرب.
ارتفعت الفتاة عن الأرضارتفعت الفتاة عن الأرض، حتى صارت في منتصف المسافة بين التراب والغياب، وهناك، عند الحدّ الذي لا تصله الكلمات، همس إليها الجبابرة بسرّهم.
مدّت يدها إلى شعرها الذهبي، وقصّت خصلاته بنصلٍ حاد، فانهمرت على الأرض كسهام برقٍ تنغرس في الرمل. من كل خصلةٍ نبتت شجرة، حتى إذا هبطت إلى الأرض، دوّى الرعد، وصوتٌ عميقٌ قال:
> "ثلاث ليالٍ… تسقط الأشجار، تجمعين الدرنات تحتها، تجففينها وتنثرينها… عندها تعود الأمور كما كانت."
ثلاث ليالٍ مرّت كما يمر الحلم حين يُحكى بعد صحوٍ ثقيل.
في الليلة الأولى، كانت الأشجار واقفةً كجنودٍ لا تعرف معنى النوم، والريح تدور حولها كأنها تحفظ قسمًا قديمًا.
في الليلة الثانية، بدأت الأغصان تهمس بلغاتٍ لا تُسمع إلا لمن كان قلبه خاليًا من النوايا.
أما الليلة الثالثة، فقد سقطت الأشجار دفعةً واحدة، كمن قرر الانحناء في صلاةٍ لم تُكتب في أي كتاب.
انحنت الفتاة تجمع الدرنات، واحدة تلو الأخرى، تضعها في سلةٍ منسوجة من ظلّها، تجففها بلهيب أنفاسها، ثم تذرّها في الهواء، فتتفتت إلى غبارٍ يختلط بالرمال، ويتسرب في شقوق التلال.
عند الفجر، لم يبقَ شيء من الجبابرة، ولا من الرجل صاحب الحدقة،عند الفجر، لم يبقَ شيء من الجبابرة، ولا من الرجل صاحب الحدقة، ولا من الأشجار، إلا أثرٌ يشبه الحلم الذي لا يستطيع أحدٌ أن يتذكر بدايته.
لكن التلال كانت أخفّ… وكأن سرًّا واحدًا على الأقل، قد غادر قلبها.
وقفت الفتاة على الحافة، تراقب الأفق الفارغ، وهمست:
> "ربما… لم يتغير شيء، وربما تغير كل شيء."
ثم مشت… تاركةً آثار أقدامها على الرمل، آثارًا سيبحث عنها العابرون بعد سبعةٍ وعشرين شهرًا، حين تنهض التلال لتتنفس من جديد.
الجوري.....