- إنضم
- 31 يناير 2017
- المشاركات
- 2,288,582
- مستوى التفاعل
- 47,619
- النقاط
- 113
سقراط وعشق الشباب.. هل انطلقت الفلسفة الغربية من تجربته الغرامية؟
لم يترك أول الفلاسفة اليونان الكبار كتابات ولا سيرة ذاتية، والمتداول عنه هو ما رواه أفلاطون وزينوفون اللذان عرفاه فيلسوفا للأخلاق وحكيما مشهورا بمنهجه السقراطي ومذهبه الفلسفي في أثينا التي مزقتها الحرب.وتبدأ قصة سقراط المتداولة على لسان تلامذته في منتصف عمره، واشتهر منذ كان ثلاثينيا بمحاوراته واستجوابه ومقولاته وحتى قصة إعدامه المأساوي الذي شكل نهاية عصر أثينا الذهبي، لكن المصادر التي تتناول حياته المبكرة قليلة ومبعثرة للغاية، بما في ذلك حياته العاطفية المبكرة وتأثير وقوعه في حب أسبازيا الذي أدى به إلى أن يصبح "أكثر الرجال حكمة في العالم القديم" كما كان يسمى.
وباستخدام مصادر مكتوبة قديمة تم تجاهلها أو إساءة تفسيرها، حاول أرماند دانجور أستاذ الكلاسيكيات في جامعة أكسفورد رسم الصورة المفقودة لسقراط عندما كان شابا في العشرينيات من عمره، وهي المرحلة التي يجب البحث فيها عن دليل على تغيير اتجاهه ليصبح المفكر والفيلسوف الذي يتجنب النجاح المادي بدلا من أن يحتفظ بمكانته كإحدى شخصيات نخبة أثينا.
ويستنتج دانجور في كتابه الجديد "سقراط في الحب.. صناعة فيلسوف" أن العناصر المهمة في تفكير سقراط نتجت عن معرفته وإعجابه بأسبازيا التي كانت قريبة من عمره، ويسلط الكتاب الضوء على شباب سقراط ونشأته غير التقليدية بين نخبة أثينا التي كانت تتلقى دروس الشعر والموسيقى والخطابة والفلسفة والرقص والمصارعة والقتال.
ويلفت النظر لصورة سقراط غير المألوفة كمصارع وراقص رياضي، ويروي كذلك قصته كعاشق رفضت محبوبته الزواج منه، لكنها بالمقابل ألهمته لتطوير الأفكار التي أسرت الفلاسفة طوال 2500 عام حتى الآن.
هكذا تعلم سقراط الحب
في محاورة أفلاطون الشهيرة يقول سقراط "منذ فترة طويلة (أي عندما كنت شابا) تعلمت كل شيء عن الحب من امرأة ذكية".
ورغم أن مثل هذه الحقائق المذكورة عن حياة سقراط كانت متاحة للمؤرخين فإن تحليلها لم يكن كافيا، فقد أعطيت المرأة التي يفترض أن سقراط أحبها اسم "ديوتيما"، وافترض كثير من الباحثين والمؤرخين أنها شخصية خيالية.
غلاف كتاب "سقراط في الحب.. صناعة فيلسوف" للكاتب أرماند دانجور(الجزيرة)
لكن التدقيق في نص المحاورة والأدلة التاريخية ذات الصلة يشير إلى أن "ديوتيما" كانت شخصية حقيقية ربما تعرضت للتمويه من قبل أفلاطون الذي روى سيرة ومحاورات سقراط، ويرجح الكتاب الجديد أن هذه الشخصية هي أسبازيا من ميليتوس التي وصفها أفلاطون بـ"الفيلسوفة"‘ في محاورة منكسينوس.
وعرفت أسبازيا بجمالها وذكائها، ورغم أن المعلومات عنها شحيحة فقد اشتهرت بعلاقتها مع واحد من أعظم الساسة اليونان هو بريكليس الذي كان أبرز أعضاء حكومة أثينا طوال ثلاثين عاما.
ويقال إن بريكليس اتخذ أسبازيا عشيقة له لأكثر من عقد من الزمان حتى وفاته عام 429 قبل الميلاد، وأتاح ذلك لها أن تؤثر على مواقفه وقراراته وعلى السياسة أثينا برمتها، وأصبحت جزءا من دائرة المثقفين المحيطين بالقائد اليوناني لكن بعض كتاب عصرها وصفوها بأنها كانت مومسا وصاحبة ماخور.
وعرفت أسبازيا كذلك بأنها مدربة خبيرة في البلاغة ومستشارة في العلاقات الزوجية، أو بمعنى آخر شخصية معروفة بمذهبها في الحب، تماما كما تم تصوير "ديوتيما" في محاورة أفلاطون.
ما الذي حول سقراط الشباب إلى فيلسوف؟
يفترض الكتاب الجديد أن تكون هذه المرأة الذكية ذات تأثير فكري رئيسي في حياة سقراط المبكرة ولم تعلمه الخطابة أو معنى الحب فقط، بحسب الكتاب المذكور الصادر عن دار بلومزبري للنشر في مارس/آذار 2019.
وتعتبر المفاهيم المنسوبة في المحاورة إلى "ديوتيما" أساسية في فلسفة سقراط، وكذلك تتسق مع طريقة الحياة الزاهدة التي كان يعتنقها، وتعتبر هذه المفاهيم أن العالم المادي ينبغي أن ينحى جانبا لصالح المثل العليا، وأن إذكاء الروح وليس إرضاء الجسد هو واجب الحب الأساسي.
وكان سقراط قد بدأ كلامه عن الحب في محاورة المأدبة، ذاكرا "ديوتيما" التي قال إنها معلمته في فن الحب، معتبرا أنه وسط بين الجمال والخير، وتوسط بين الإلهي والفاني، وأنه يمثل الاقتناء الأبدي السرمدي للخير.
واعتبرت "ديوتيما" كذلك أن من يبحث عن الجمال الجسدي سينتهي به الحال متغلبا على حب الجسد ومنتقلا للحب الروحي، ثم يرتقي في حب الحكمة غير المحدود نحو الجمال.
وأشار سقراط إلى أنه تلقى البلاغة على يد إسبازيا، لكنه ذكر "ديوتيما" باعتبارها معلمته في الحب وليس إسبازيا، ويرى الأكاديمي الإنجليزي دانجور أنهما شخص واحد في الحقيقة.
وفي واحد من حوارات أفلاطون وأسبازيا، وصفت الأخيرة دورها في تدريب سقراط على الخطابة الجنائزية، وبعبارة أخرى كانت أسبازيا معروفة بمهارتها في البلاغة والخطابة مثل "ديوتيما"، ولا سيما الحديث عن الحب العذري.
الكاهنة المجازية المثيرة للجدل
وصفت "ديوتيما" في المحاورة بأنها كاهنة واعتبرت شخصية مجازية، لكن أفلاطون يترك بعض الأدلة التي يمكن تحديد شخصيتها من جمعها.
وجاءت إسبازيا من عائلة راقية تنتمي لأثينا لها علاقة بعائلة بريكليس التي استقرت قبل عقود من مجيء أسبازيا في مدينة ميليتوس اليونانية الواقعة في آيدن غرب تركيا حاليا.
وعندما هاجرت أسبازيا إلى أثينا عام 450 قبل الميلاد تقريبا كانت في العشرين من عمرها تقريبا، وفي ذلك التاريخ كانت سقراط أيضا في العشرين من عمره.
بعد ذلك بسنوات قليلة أصبحت أسبازيا مرتبطة ببريكليس الذي كان آنذاك سياسيا بارزا في أثينا وفي ضعف عمرها تقريبا، ويسجل كليرشوس -وهو أحد تلامذة أرسطو- أنه "قبل أن تصبح أسبازيا رفيقة بريكليس كانت مع سقراط".
ويتلاءم هذا مع أدلة أخرى على أن سقراط كان أحد القريبين من بريكليس عندما كان شابا، وقد كان السياسي الكبير معجبا بمذهب الفيلسوف الذي كان آمنا في عهده، ولهذا كان بلا شك قادرا على التعرف على أسبازيا في تلك البيئة حتى قبل أن يطلق بريكليس زوجته الأولى ويرتبط بالفيلسوفة المثيرة للجدل.
الفيلسوف والزوج
تزوج سقراط لاحقا من الفتاة اليونانية زانثيبي التي كانت تصغره في السن بكثير، وأنجبت منه ثلاثة أبناء، ويبدو أن روايات الفلاسفة الذين كتبوا عن سقراط تختلف في وصف زوجته التي وصفها أفلاطون بأنها زوجة وأم مخلصة، في حين اعتبرها زينوفون امرأة قاسية وصعبة المراس، ونقل عن أفلاطون أنه اختارها بالتحديد بسبب روحها الجدالية.
ويبدو أن صورة زينوفون هي التي صارت سائدة، وروي عن سقراط أنه قال إنه أصبح فيلسوفا وحكيما بفضل مشاكساتها.
والمعروف أن سقراط -الذي طرح مفهوم "الفضيلة هي المعرفة"- ولد عام 469 قبل الميلاد لأب بنّاء وأم قابلة، وتوفي عام 399 قبل الميلاد في سجنه الذي زج فيه بعد محاكمته واتهامه بإفساد الشباب.
وقد قضى سقراط أغلب وقته في جدل فلسفي متبوعا بتلاميذه في الساحة الرومانية بالقرب من السوق القديم، حيث كان يقدم الشعب أضاحيهم لآلهة الأولمب، لكن سقراط لم يكتب شيئا من تعاليمه، إنما سجل بعضها تلميذه الفيلسوف أفلاطون والمؤرخ زينوفون.
وكان سقراط يعتقد أن الغاية من حياته هي التدريس والتشكيك في المعتقدات السائدة، وهو ما كان يقوم به أيام العصر الذهبي في أثينا، في الوقت الذي تمتعت فيه المدينة بقدر هائل من الحرية الفلسفية والسياسية والفنية، ورغم ما كان يعتقده فإنه قاتل بشجاعة في ثلاث معارك خاضها ضمن جيش أثينا.
يشار إلى أن علاقة سقراط بتلاميذه -الذين ساءت سمعتهم بين سكان أثينا من أفلاطون إلى إقليدس أبي الهندسة والسيبياديس السياسي سيئ السمعة، إضافة إلى بعض الطغاة الذين عطلوا الديمقراطية في أثينا عام 404 قبل الميلاد دفعت أعداءه إلى محاكمته واتهامه بإفساد الشباب والتبشير بآلهة جديدة.
وقد تحدى سقراط متهميه في خطاب الاعتذار أو مرافعة الدفاع كما كتبها أفلاطون، وفند ادعاءاتهم واحدا تلو الآخر بالمنهج السقراطي البارع المتمثل في توجيه أسئلة معينة بحيث يحصل على الإجابات المطلوبة، لكن القضاة حكموا عليه بالموت فشرب كأسا من عصارة نبات "الشوكران" السام وسط بكاء تلاميذه.