- إنضم
- 31 يناير 2017
- المشاركات
- 2,288,576
- مستوى التفاعل
- 47,609
- النقاط
- 113
السلطنة والإعداد لفتح القسطنطينية
أفضل ما رأيناه من محمد الثاني عند ولاية الأمر أنَّه كان مرتَّبًا في خطواته، منظَّمًا في فكره، فكانت تحرُّكاته منطقيَّة، واختياراته واقعيَّة، فلم يَسْعَ إلى حلِّ كلِّ المشكلات التي واجهته دفعةً واحدة؛ إنَّما حصرها في البداية، ثم حدَّد أولويَّاته، فتعامل مع الأهم ثم المهم، ومع أنَّ مرادًا الثاني بذل جهدًا كبيرًا في تسليم ابنه دولةً مستقرَّةً فإنَّ دولةً بهذا الحجم والقدر لا يُمكن أن تخلو من مشكلات، وأحسب أنَّ السلطان محمدًا الثاني حَصَر هذه المشكلات في بداية حكمه، فكان في مقدمتها مشكلة انقسام الدولة إلى قسمين يختلفان عن بعضهما تمام الاختلاف، ممَّا يُعطيها شكل الدولتين المتَّحدتين في دولةٍ واحدة، وهذا لا شكَّ يُضعف الكيان العام للدولة، وأعني بهما القسم الآسيوي المتمثِّل في الأناضول، والقسم الأوروبي المتمثِّل في البلقان، كأنَّ البحر الذي يفصل بين القسمين قد جعل لكلِّ واحدةٍ منهما خصوصيَّةً مختلفة تمامًا عن الأخرى.
ولعلَّ أهمَّ هذه الاختلافات هو اختلاف الديموجرافيَّة السكانيَّة؛ فقسم الأناضول يكتظُّ بالمسلمين، وهم يُمثِّلون النسبة الأكبر من السكان؛ بينما يندر وجود المسلمين في القسم الأوروبي؛ فقد ذكرت بعض المصادر الموثوقة أنَّ عدد النصارى في البلقان العثماني طبقًا لإحصائيَّة في السنوات (1520-1530م) بلغ 80.7%[1]، وهذا يعني أنَّه في هذه المرحلة التاريخيَّة، أعني 1451م، قد يتجاوز عدد النصارى في هذا القسم 90%، ويختلف القسمان كذلك في التاريخ؛ فالإسلام متجذِّرٌ في القسم الآسيوي منذ ما يقرب من أربعة قرون، بينما عُمْر الإسلام في القسم الأوروبي هو قرنٌ واحدٌ فقط، كما يختلف القسمان في الجغرافيا؛ حيث تُعَدُّ الطبيعة الجغرافيَّة في البلقان أصعب بكثيرٍ من مثيلتها في الأناضول؛ وذلك لكثرة الموانع الطبيعيَّة فيه من جبال وأنهار وبحيرات، ممَّا يجعل السيطرة عليه صعبة للغاية.
كان وجود قسمين بهذا الاختلاف في الدولة يُعرِّضها لخطر الانفصال والشقاق، خاصَّةً أنَّ هناك فاصلًا جغرافيًّا صعبًا يفصل القسمين، وهو متمثِّلٌ في بحر مرمرة ومضيقي الدردنيل والبوسفور، كما أنَّ هناك فاصلًا أخطر من فاصل المضايق البحريَّة، وهو فاصل مدينة القسطنطينية الحصينة، التي تُمثِّل حجر عثرة كبير يعوق اتِّحاد القسمين بشكلٍ طبيعي، خاصَّةً أنَّ القسطنطينية تُمثِّل معقل الدولة البيزنطيَّة، وكذلك معقل الأرثوذكسية في المنطقة؛ بل في العالم، وهذا يُعطيها قوَّةً معنويَّةً تُؤكِّد انفصال الجزأين الآسيوي والأوروبي من الدولة العثمانية، خاصَّةً مع وجود تاريخٍ طويلٍ من العداء بينها وبين المسلمين يتجاوز ثمانية قرون، فوق أنَّها تُمثِّل القيادة السياسيَّة لليونانيِّين والمقدونيِّين وغيرهم من أتباع الدولة البيزنطيَّة على مرِّ العصور، بالإضافة إلى ثرائها، وقوَّة اقتصادها، وقدرتها على المطاولة في الحصار لشهورٍ بل لسنوات.
وفوق كلِّ ذلك فإنَّ القسطنطينية كانت تُمثِّل مأوًى دائمًا لكلِّ متمرِّدٍ على الدولة العثمانيَّة، وما أكثر المتمرِّدين الذين يلجئون إلى الإمبراطور البيزنطي لحمايتهم في مدينته الحصينة بعد فشل تمرُّدهم؛ بل كثيرًا ما يستخدم الإمبراطور البيزنطي هؤلاء المتمرِّدين لمساومة السلطان العثماني على بعض المصالح والشروط، وكان محمد الثاني يعلم أنَّ الإمبراطور البيزنطي يستضيف في بلاده أميرًا عثمانيًّا اسمه أورخَان، وقد اختلف المؤرِّخون في نسبه[2][3]؛ ولكن المهم أنَّه كان يُهدِّد بإطلاقه للمطالبة بالعرش العثماني، وإحداث فتنةٍ في الدولة العثمانيَّة، وهذا أمرٌ ممكنٌ ومتوقَّع؛ بل حدث في حياة أبي محمد الثاني؛ حين أطلق الإمبراطور البيزنطي آنذاك الأمير مصطفى، وهو أخو السلطان محمد چلبي، وعمُّ السلطان مراد الثاني؛ وذلك لإحداث صراعات في الدولة العثمانيَّة، وقد حدثت بالفعل فتنةٌ كبيرة، انتهت بإعدام الأمير مصطفى عام 1422م وإنهاء الفتنة[4]، ولا يضمن محمد الثاني أن يتكرَّر السيناريو المرُّ نفسه، وتتفاقم الأحداث.
لكل هذا كان الهدف واضحًا إِذَنْ في ذهن محمد الثاني عند تولِّيه العرش، وهو تكريس كلِّ إمكانات الدولة العثمانيَّة لفتح القسطنطينية، وفي حالة إتمام هذا العمل الكبير يُعيد بعد ذلك ترتيب أوراقه وَفق المعطيات الجديدة.
كانت الدولة البيزنطية على عهدٍ مع الدولة العثمانية، ولم يكن السلاطين العثمانيون ينقضون عهودهم قط، ولذلك تريَّث السلطان محمد الثاني إلى أن تأتي فرصةٌ ينقُض فيها الإمبراطور البيزنطي عهده، وعندها ستكون حركة السلطان سريعةً في اتجاه فتح القسطنطينية، ومع ذلك فانتظار محمد الثاني لم يكن هادئًا؛ فقد جاءت الأخبار بعدَّة تطوُّرات مفزعة من أكثر من مكان، وكان جميع أعداء الدولة يرون في صعود شابٍّ صغيرٍ إلى كرسي العرش فرصةً لقلب الأوضاع في الدولة العثمانية المتمكِّنة.
جاءت الأخبار بحدوث انقلابٍ في قرمان على يد زعيمها المتمرِّد دومًا إبراهيم بك (مع أنه أبو زوجة السلطان محمد الثاني!)[5]، بل استقبل مبعوثًا لجمهوريَّة البندقيَّة بغرض التعاون مع الجمهوريَّة في حرب الدولة العثمانيَّة[6].
وجاءت الأخبار كذلك بأن الإمبراطور قُسطنطين الحادي عشر أرسل مبعوثًا إلى البندقيَّة يطلب دعمها في مواجهة محمد الثاني[7]، كما جاء خبرٌ صادمٌ من صربيا؛ حيث استغلَّ حاكمها چورچ برانكوڤيتش موت مراد الثاني، فحرَّك جيوشه صوب الدولة العثمانيَّة، وضمَّ بعض الأراضي منها، ووصل في اقتحامه إلى مدينة كروشيڤاتس[8]، وهي على بُعْد مائةٍ وثلاثين كيلو مترًا فقط من حدود بلغاريا؛ أي أنَّه لم يكن محتلًّا فقط لأجزاء من الدولة العثمانيَّة، بل صار مهدِّدًا لعمقها!
رأى السلطان محمد الثاني أنَّ أخطر هذه المسائل جميعًا هي مسألة قرمان؛ فقرَّر الخروج بنفسه إليها، فكانت هذه هي حملته الهمايونيَّة الأولى، وكانت بعد شهورٍ قليلةٍ من تولِّيه الحكم، وقد حقَّق فيها نجاحًا كبيرًا، واستردَّ كلَّ ما أخذه إبراهيم بك من مدن، ومع ذلك فقد جاءه عرضٌ من إبراهيم بك بمعاهدة سلامٍ يتعهَّد فيها بعدم إثارة قلاقل من جديد، وبالعودة لتبعيَّة الدولة العثمانيَّة بشكلٍ كامل[9].
ومع أنَّ السلطان محمدًا الثاني كان راغبًا في إنهاء مشكلة قرمان بشكلٍ حاسم، إلَّا أنَّ حدثًا جديدًا غيَّر له حساباته؛ فقد جاءه أثناء حملته في قرمان مبعوثٌ من الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر يطلب مضاعفة المبلغ الذي تدفعه الدولة العثمانيَّة لرعاية أورخَان، المطالب بالعرش العثماني، والحبيس لدى البيزنطيِّين، وإلَّا سيُطلق سراحه ويدعمه في مطالبته بالعرش[10].
وَجَد السلطان محمد الثاني أنَّ الوضع خَطِر؛ ومِنْ ثَمَّ قَبِل السلامَ مع إبراهيم بك، وعاد مسرعًا إلى إدرنة العاصمة لينظر في أمر الإمبراطور البيزنطي[11].
وَجَد السلطان محمد الثاني الفرصة في هذه المخالفة البيزنطيَّة الأخيرة، واعتبر أنَّ تهديد الإمبراطور البيزنطي له بإطلاق سراح أورخَان، ومطالبته بمضاعفة المبلغ المدفوع لرعايته، فضلًا عن التنسيق مع البندقيَّة لمواجهة الدولة العثمانيَّة، كلُّ هذا إخلالٌ بما تعاهدوا عليه سابقًا؛ ومِنْ ثَمَّ رفض السلطان العثماني طلب الإمبراطور البيزنطي، وأعلن أنَّه في حِلٍّ من المعاهدة التي عُقِدت سابقًا مع البيزنطيِّين، وكان هذا شبه تصريح ببداية سعيه لفتح القسطنطينيَّة[12].
كانت هذه خطوةً مهمَّةً في تاريخ الدولة العثمانيَّة، وكان على الدولة أن تأخذ خطواتٍ جِدِّيَّةً كثيرةً في أكثر من اتِّجاهٍ لضمان نجاح مهمَّة فتح القسطنطينيَّة، وقد شملت هذه الخطوات ما يلي:
الخطوة الأولى: حماية ظهر الدولة العثمانيَّة في الأناضول عن طريق نقل مركز القيادة من أنقرة إلى كوتاهية Kütahya؛ حيث ستكون كوتاهية أقرب إلى مناطق النزاع التي يتحرَّك فيها إبراهيم بك؛ ومِنْ ثَمَّ يُمكن تحريك الجيوش إليه في وقتٍ أسرع في حال غدره مرَّةً أخرى[13].
الخطوة الثانية: معاهدات سياسية وتجارية مهمة:
عقد محمد الثاني في النصف الثاني من عام 1451م، وفي النصف الأوَّل من عام 1452م، سلسلةً طويلةً من المعاهدات مع عددٍ من القوى الإقليميَّة والعالميَّة، وكانت هذه المعاهدات تهدف في الأساس إلى أمرين؛ الأوَّل منهما هو عزل القسطنطينيَّة سياسيًّا، والثاني هو تسكين بعض الجبهات حتى لا يدخل الجيش العثماني في صراعاتٍ جانبيَّةٍ قد تشغله عن فتح المدينة الحصينة القسطنطينيَّة، ومن هذه المعاهدات ما يلي:
1. إمارة صربيا: وهذه في الواقع معاهدةٌ واقعيَّة، وإن كانت مؤلمة؛ لأنَّ حاكم صربيا چورچ برانكوڤيتش غزا بعض الأراضي العثمانيَّة، ومع ذلك فقد قَبِل السلطان محمد الثاني عقدَ معاهدة سلامٍ معه[14]، بل تلطَّف معه جدًّا عندما أرسل له زوجة أبيه مراد الثاني مارا برانكوڤِيتش -وهي ابنته- معزَّزةً مكرَّمة، محمَّلةً بالهدايا الكثيرة[15].
2. إمبراطور طرابزون Trebizond: تبادل محمد الثاني السفارة مع إمبراطور طرابزون چون الرابع John IV[16]، وإمبراطوريَّة طرابزون، وإن كانت بيزنطيَّة، إلَّا أنَّها مستقلَّةٌ عن القسطنطينيَّة، ومع ذلك فمن المتوقَّع جدًّا أن تُساعد البيزنطيِّين هناك عند حصارهم؛ ولذلك جاءت هذه السفارات كمحاولةٍ لتحييد طرابزون عن الصراع ولو مؤقَّتًا.
3. جمهوريَّة البندقيَّة: على الرغم من معرفة السلطان محمد الثاني بالعلاقات الدبلوماسيَّة بين البندقيَّة والقسطنطينيَّة، وكذلك بينها وقرمان، فإنَّه سعى للتأكيد على المعاهدة التجاريَّة التي عُقِدَت قبل ذلك في عام 1446م، وقد نجح بالفعل في تأكيد هذه المعاهدة في 10 سبتمبر عام 1451م[17]، وكانت هذه محاولةً منه لتقليل فرصة تعاون البندقيَّة مع القسطنطينيَّة.
4. مملكة المجر: عَقَد السلطان محمد الثاني معاهدةً مع چون هونيادي حاكم المجر في سبتمبر 1451م بعد اتِّفاقيَّة البندقيَّة بعدَّة أيَّام، وفيها اتُّفِق على هدنةٍ لمدَّة ثلاث سنوات[18].
5. جمهوريَّة راجوزا (دوبروڤنيك): وقد جُدِّد الاتفاق التجاري معها، مع زيادة الجزية التي كانت تدفعها للدولة العثمانيَّة[19].
6. إمارة الإفلاق: نقلت المصادر استقبال السلطان محمد الثاني لسفارةٍ من الإفلاق[20]، وهي في الواقع سفارةٌ عجيبة؛ لأنَّ أمير الإفلاق ڤلاديسلاڤ الثاني شارك في الحملة العسكريَّة التي قادها هونيادي ضدَّ الدولة العثمانيَّة في كوسوڤو عام 1448م، ومن المتوقَّع أن يرفض السلطان محمد الثاني التعامل سلميًّا معه؛ ولكن بمراجعة هذه المرحلة التاريخيَّة نجد أنَّ هناك صراعًا قد نشب في هذا التوقيت بين حاكم المجر هونيادي وبين ڤلاديسلاڤ الثاني أمير الإفلاق[21]، وقد يكون هذا هو الذي دفع ڤلاديسلاڤ إلى محاولة التواصل مع محمد الثاني، والحقيقة أنَّ المصادر لم تنقل الاتِّفاق الذي دار بين الطرفين في هذه المباحثات، وإن كان على الأرجح أنَّه اتُّفِق على الهدنة بين الطرفين، لأنَّنا لم نسمع عن أيِّ صداماتٍ بين الدولة العثمانيَّة والإفلاق في هذه المرحلة.
7. فرسان القديس يوحنا في رودس The Order of Saint John (Knights Hospitaller): استقبل السلطان محمد الثاني سفارةً من چيوڤاني دي لاستيك Giovanni de Lastic السيد الأكبر لرودس[22]، وهي سفارةٌ مهمَّةٌ لأنَّ فرسان القديس يوحنا -وهم من أشدِّ المقاتلين، ومن أصحاب التاريخ العدائي الطويل مع المسلمين- كانوا يُسيطرون على جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، وهم قريبون جدًّا من ساحل الأناضول؛ ومِنْ ثَمَّ يمثِّلون خطرًا حقيقيًّا على الدولة العثمانيَّة، فكان الاتِّفاق السلمي معهم مهمًّا لتفريغ الطاقة لفتح القسطنطينيَّة.
8. جمهوريَّة چنوة الإيطاليَّة: عَقَد السلطان محمد الثاني عدَّة معاهدات مع قادة جمهوريَّة چنوة، فهناك معاهدات مع أمير جزيرة خيوس، وأخرى مع أمير جزيرة ليسبوس[23]، كما عقد معاهدةً مع الچنويين في جالاتا Galata[24]، وهي تُعتبر من ضواحي القسطنطينيَّة الشماليَّة، وكلُّ هذه المعاهدات كانت بهدف وقوف چنوة على الحياد في حال الصدام مع الدولة البيزنطيَّة، في مقابل تسهيلاتٍ تجاريَّةٍ تُقدِّمها الدولة العثمانيَّة لتجَّار چنوة.
الخطوة الثالثة: بناء قلعة روملي حصار Rumeli Hisar:
تُعَدُّ هذه الخطوة هي أوَّل خطوةٍ عمليَّةٍ في حصار القسطنطينيَّة؛ حيث اختار السلطان محمد الثاني مكان هذه القلعة بنفسه على الشاطئ الأوروبِّي لمضيق البوسفور، وفي مواجهةٍ مباشرةٍ لقلعة أناضولو حصار Anadolu Hisar المبنيَّة على الشاطئ الآسيوي للمضيق نفسه، وهي على بُعد حوالي ثمانية أميال من شمال القسطنطينيَّة[25].
وقد بدأ العثمانيُّون في بناء القلعة في 15 أبريل 1452م، وأتمُّوه في 31 أغسطس من السنة نفسها، وهذا وقتٌ قياسيٌّ بالنظر إلى حجم القلعة وحصانتها، وقد اشترك في عمليَّة البناء أكثر من خمسة آلاف عامل، وكان السلطان يُشرف على عمليَّة البناء بنفسه[26].
كان بناء القلعة بهذه الصورة إعلانًا شبه صريح بالحرب على الدولة البيزنطيَّة، فمن الآن وصاعدًا لن تمرَّ سفينةٌ في مضيق البوسفور إلَّا بإذن الجيش العثماني، وهذا يعني أنَّ المعونات من إمبراطور طرابزون، أو من مستعمرات چنوة الموجودة في البحر الأسود، ستكون مستحيلةً بغير السيطرة على هذه القلعة؛ لأنَّ كلَّ السفن التي ستمرُّ في المضيق ستكون في مرمى المدافع العثمانيَّة الموجودة في القلعتين: روملي حصار وأناضولو حصار، ومن هنا فإنَّ القسطنطينيَّة بدأت في استعداداتها لتوقَّع الحصار بمجرَّد انتهاء العثمانيِّين من بناء القلعة.
الخطوة الرابعة: الإعداد العسكري للجيش العثماني:
اهتمَّ السلطان محمد الثاني كثيرًا بتحسين مدفعيَّته وتطويرها لكي يتمكَّن من إحداث الثغرات في الأسوار العملاقة، ثم شاء الله عز وجل أن يُبارك في خطواته الجادَّة فيسَّر له مقابلةً مع أحد المهندسين المجريِّين المشهورين في صناعة المدافع العملاقة، وهو أوروبان Orban (ويُكتب -أيضًا- Urban)، حيث سعى هذا المهندس لتقديم خدماته إلى الإمبراطور البيزنطي أوَّلًا، فلم يتم الاتفاق بينهما؛ للمبالغ الباهظة التي طلبها أوروبان، بالإضافة إلى عدم توفُّر الموادِّ اللازمة لصناعة مدافعه؛ ومِنْ ثَمَّ اتَّجه المهندس المجري إلى السلطان محمد الثاني الذي أحسن استقباله، وغمره بالمال الوفير، وأمدَّه بما يلزمه من مواد، فصَنَع مدفعًا عملاقًا لا يوجد مثله في العالم في ذلك الوقت[27]، وقد أسهبت المصادر في وصف قدرات هذا المدفع وحجمه، والقذائف التي يقصفها[28][29]. ومع ذلك فلم يكن هذا هو المدفع الوحيد الذي امتلكته العسكريَّة العثمانيَّة؛ إنَّما حرص السلطان محمد الثاني على تزويد جيشه بمدافع كثيرة تضمن استمرار عمليَّة الحصار، ودكَّ الأسوار.
كذلك اهتمَّ السلطان محمد الثاني بتزويد الجيش العثماني بعددٍ وافرٍ من السفن المقاتلة، وزاد ترسانة الأسلحة البحريَّة في جاليبولي، وأمر بصناعة عددٍ من السفن يُمكن لها أن تضرب حصارًا بحريًّا حول القسطنطينيَّة، وتُسهم في منع سفن أوروبَّا الغربيَّة في حال قدومها من دخول المضايق البحريَّة، وقد ذكرت المصادر أنَّه صنَّع في ربيع 1452م ثلاثين سفينةً حربيَّة، هذا غير السفن المعدَّة للنقل[30].
يُضاف بالطبع إلى هذا الإعداد التقني توفير العدد اللازم من الجنود المدرَّبين على القتال والحصار، وتقديرات العدد في هذا الشأن متفاوتةٌ جدًّا بين المؤرِّخين؛ فبعضهم يُقدِّر الجيش بثمانين ألف مقاتل[31]، وذكر آخرون أنَّه مائة ألف[32]، بينما وصل بعضهم بالأرقام إلى مائتي ألفٍ أو أكثر[33]، والتقديرات التركيَّة تميل إلى التقليل، والتقديرات اللاتينيَّة والبيزنطيَّة تميل إلى التكثير، وهذه مبالغاتٌ مشهورةٌ عند المؤرِّخين القدماء، وغالبًا ما تكون الحقيقة بينهما، وغالب الأمر أنَّ الجنود يتراوحون بين مائة ألفٍ ومائةٍ وخمسين ألفًا؛ وذلك بالنظر إلى الأعداد المقاتلة في هذه المرحلة التاريخيَّة من عمر الدولة.
الخطوة الخامسة: حملة عسكريَّة إلى المورة:
كان من المتوقَّع للأخوين ديمتريوس وتُوماس أن يهبَّا لنجدة أخيهما الإمبراطور قُسطنطين الحادي عشر عند حصاره في القسطنطينيَّة، ولذلك حرَّك السلطان الجيش العثماني إلى المورة بقيادة القائد المخضرم توراهان بك Turahan Bey، ومعه ولداه أحمد وعمر؛ بهدف السيطرة على الطرق التي تقود من المورة إلى القسطنطينيَّة، وكان ذلك في أكتوبر 1452م[34]، وهذا أدَّى إلى عزل اليونان عن القسطنطينيَّة بنجاح.
الخطوة السادسة: تصعيد حربي مع البندقيَّة:
كان أوَّل اختبارٍ واقعيٍّ لقلعة روملي حصار في يوم 25 نوفمبر 1452م، عندما أرادت سفينةٌ بندقيَّةٌ أن تمرَّ من البحر الأسود إلى البحر الأبيض عن طريق مضيق البوسفور، فأمرها الجيش العثماني بالتوقُّف، فعاندت ومرَّت، فاعتُبِر هذا خرقًا للسيادة، وإعلانًا للحرب، ومِنْ ثَمَّ قُصِفَت السفينة، فأُغْرِقَت بطلقة مدفعيَّة واحدة، وقُتِل طاقمها بالكامل[35][36]. كان هذا هو الاختبار الحقيقي الأوَّل لقلعة روملي حصار، وكان في الوقت نفسه تصعيدًا حربيًّا مع البندقيَّة. بعد هذا الحدث الصادم عَلِم الجميع أنَّ جدِّيَّة الدولة العثمانيَّة في حصار القسطنطينيَّة حقيقيَّة، وأنَّ المسألة لن تتعدَّى شهورًا من وقت قصف سفينة البندقيَّة، ومِنْ ثَمَّ يُمكن اعتبار هذا الحدث أنَّه المقدِّمة الفعليَّة لعمليَّة فتح القسطنطينيَّة.
استغاث الإمبراطور البيزنطي بألدِّ أعدائه: الكاثوليك! فأرسل إليه البابا نيكولاس الخامس Nicholas V مبعوثه الكاردينال إيزيدور -الذي كان كاردينالًا سابقًا لأوكرانيا- ولذلك عُرف بإيزيدور كييڤ (عاصمة أوكرانيا) Isidore of Kiev، الذي حمل شرط البابا للمساعدة العسكريَّة، وهو تنفيذ توصيَّات مؤتمر فلورنسا المنعقد سابقًا في عام 1439م الذي اتُّفق فيه على دمج الكنيستين الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة تحت زعامة البابا الكاثوليكي، وكان هذا بالطبع شرطًا مذلًّا، خاصَّةً في هذا التوقيت، ولكن إزاء الوضع المزري الذي وصلت إليه الدولة البيزنطيَّة، فقد وَافَق الإمبراطور البيزنطي على دعم هذا الدمج، وأُقِيم لذلك احتفالٌ وَفق المذهب الكاثوليكي قاده الكاردينال إيزيدور في 12 ديسمبر 1452م[37][38]! ولم يكن هذا الوضع يحظى بموافقةٍ شعبيَّة؛ بل كان له معارضون من القادة والزعماء، وكان على رأس الرافضين له رئيس الوزراء البيزنطي لوكاس نوتاراس Loukas Notaras، الذي قال جملته الشهيرة: «إنَّني أُفَضِّل أن أرى في مدينتنا العمامة التركيَّة على أن أرى القبَّعة اللاتينيَّة»[39][40]!
وبهذا انقسمت بيزنطة على نفسها في مقابل الدعم الباباوي؛ ومع ذلك كانت معونة البابا -بعد التنازل المخزي من الإمبراطور البيزنطي- لا تزيد عن مائتي جندي من قاذفي السهام أرسلهم من جزيرة كريت القريبة[41]!
كان ردُّ فعل البندقيَّة متباطئًا للغاية؛ ويبدو أنَّها كانت حريصةً على استمرار علاقاتها التجاريَّة مع الدولة العثمانيَّة، ومع ذلك فقد شارك بعض البحَّارة البنادقة في الدفاع عن المدينة[42]، ويبدو أنَّ هذا كان بشكلٍ فرديٍّ منهم دون اتِّفاقٍ مع الحكومة، بينما نقضت چنوة عهدها مع السلطان محمد الثاني، وأرسلت فرقةً عسكريَّةً مؤلَّفةً من سبعمائة مقاتل محترف من چنوة وجزيرة خيوس التابعة لها، وذلك تحت قيادة القائد الچنوي الشهير چيوڤاني چوستينياني Giovanni Giustiniani[43]، وتقديرًا لمهارة هذا القائد فقد أعطاه الإمبراطور البيزنطي القيادة العامَّة للقوَّات المدافعة عن الأسوار[44]، كما وعد بإعطائه جزيرة ليمنوس Lemnos في حال الانتصار على العثمانيِّين[45].
أمَّا بالنسبة إلى مستعمرة چنوة في منطقة جالاتا Galata شمال القسطنطينيَّة فإنها آثرت الإعلان الرسمي بعدم مساعدة القسطنطينيَّة في حصارها، لكيلا تُغْضِب السلطان محمدًا الثاني، ومع ذلك فقد سرَّبت سرًّا بعض رجالها غير الاحترافيِّين إلى القسطنطينيَّة عبر القرن الذهبي؛ وذلك من باب تكثير العدد، والحفاظ على شيءٍ من العلاقة مع بيزنطة[46]!
وعلى الناحية الأخرى فإنَّ الاستعدادات في الجيش العثماني كانت تجري على قدمٍ وساق، وقد نجح أوروبان في تصنيع مدفعه العملاق، وجربه السلطان محمد الثاني في إدرنة، فكان قادرًا على إيصال قذيفته الكبرى إلى مسافة ميلٍ تقريبًا[47]، وهكذا اكتملت استعدادات الجيش العثماني، وأُرسلت فِرَق عديدة من العمَّال لتمهيد الطريق بين إدرنة والقسطنطينية[48]، وذلك لكي تستوعب الجيوش الكبيرة، وكذلك المدافع العملاقة التي ستُستخدم في الحصار، كما كان السلطان مهتمًّا كذلك بالدور العظيم الذي يقوم به العلماء في تحقيق النصر، ولذلك أرسل إليهم ليصحبوا الجيش في مهمَّته الكبرى، وليقوموا بتحميس المقاتلين على الجهاد في سبيل الله، وتبشيرهم بتحقيق النصر في المعركة، وذكرت المصادر أنَّه أرسل إلى الشيخ آق شمس الدين ليدعوه إلى الجهاد في سبيل الله وصحبة الجيش المقاتل[49]![50].