عطري وجودك
Well-Known Member
- إنضم
- 5 أغسطس 2019
- المشاركات
- 81,740
- مستوى التفاعل
- 2,757
- النقاط
- 113
شذرات من تاريخ الصناعة الوطنية وروادها .. عائلة فتاح باشا نموذجاً..
نشرت شبكة الاقتصادين العراقيين على موقعها بتاريخ 12/11/2014 خاطرة اقتصادية للأستاذ الدكتور مظهر محمد صالح تحت عنوان «مسّاح الاحذية» والتي ألهمتنا لكتابة هذه السطور عن رائد من رواد الصناعة العراقية وهو شخصية معروفة بل (أشهر من نار على علم)، يعنى نار على جبل.
كان جده واسمه (سليمان) من ساكني قرية تسعين في ضواحي كركوك يقوم بصنع (نعل الخيل) يعنى (نعلبند) باللهجة العامية. لكن يبدو أن جده سليمان كان رجلاً ذكياً وطموحاً ومتحضراً تماماً مثل أخونا الفطن (ماسح الاحذية) حيث أدخل ولده واسمه (فتاح) في المدرسة التي فُتحت من قبل السلطة العثمانية وتخرَّج من الثانوية العسكرية (رشدي عسكري) والتحق بالكلية العسكرية في إسطنبول.
وبعد تخرجه تدرج في المناصب العسكرية العثمانية حتى أصبح لواء ومن هنا حاز لقب (الباشوية) وصار يعرف باسم فتاح باشا. ويذكر أن فتاح باشا زوَّج ابنته الوسطى إلى السيد صالح إبراهيم وهو ضابط عثماني وكان مديراً لمعمل نسيج العبخانة الكائن، كما تعلمون، قرب جسر الأحرار. وهذا المعمل أنشأه، كما يقال، مدحت باشا والى بغداد الشهير.
في بداية عشرينيات القرن الماضي قام فتاح باشا بإيفاد زوج ابنته الوسطى (صالح أفندي) إلى ألمانيا لشراء مكائن نسيج، فذهب صالح إبراهيم إلى هناك واشترى مكائن نسيج مستعملة، وتمَّ نصبها في بستان في الكاظمية على الطريق ما بين شاطئ دجلة مقابل الأعظمية وباب الدروازة وما يزال المعمل هناك في واخر الثلاثينيات كما ذكر لنا الأستاذ عبد اللطيف الشواف، وشمل بالتأميم عام 1964.
تأسس معمل فتاح باشا بشكل شركة تضامنية من قبل فتاح باشا وكل من ولديه نوري وسليمان ولكل منهما 10% من أسهم الشركة. وفى عام 1943 تم تغيير الاسم من معمل فتاح باشا إلى شركة فتاح للغزل والنسيج المحدودة وذلك بناء على طلب أولاد فتاح باشا.
في عام 1950 قامت الشركة بإدخال مكائن حديثة بلغت سعتها الإنتاجية نصف مليون متر من المنسوجات الصوفية. لقد كان اختيار مدينة الكاظمية موقعاً للمعمل لكونها كانت مركزاً تتواجد فيه أغلب معامل ومشاغل النسيج اليدوي مما ساعد على رفد المعمل الجديد بالأيدي العاملة ذات الخبرة السابقة بالصناعة الصوفية حيث كان في حينه يقوم بإنتاج الغزل الصوفي فقط (صلاح عريبي العبيدي، ملاحق جريدة المدى اليومية – “هل تتذكرون اقمشة وبطانيات فتاح باشا،” الأحد 19 شباط 2013) .
إن الشخصية الصناعية الفذة التي أُريدُ أن أحدثكم عنها هي شخصية (سليمان ابن فتاح باشا) المولود عام 1891 في محلة (جامع على أفندي) الواقعة في بغداد، وفي بيئة اجتماعية بغدادية ذات أصول تركمانية. هذا الرجل، سليمان فتاح باشا، كما يقول الأستاذ عبد اللطيف الشواف في كتابه الموسوم شخصيات نافذة كان الشخصية الأولى من عائلة رائدة ترمز إلى بناء الصناعة الوطنية وتوطيد مكانها في الاقتصاد الوطني الحديث. ويقول عنه أستاذنا عبد اللطيف الشواف “كانت علاقته بالسلطة وبالسوق والمعارف وذوي القربى والأصدقاء علاقات طبيعية وبسيطة وصادقة وكان في ذلك كله قريباً من خصائص رجال الصناعة الأوربيين أمثال سيمنز وبوهلر دينزدتك وكاردمن وفورد ودوج” (المصدر السابق). وحسب المعلومات التاريخية كان هناك معملان مهمان للنسيج في بغداد: الأول، معمل عزيز عزرا يعقوب وشركاه (ألماني الصنع)؛ والثاني، معمل فتاح باشا وأولاده الذي سبق ذكره.
ويشير الدكتور عماد عبد اللطيف سالم في كتابه الموسوم الدولة والقطاع الخاص في العراق 1921-1990: كان معمل فتاح باشا يستخدم 300 عامل تتراوح أجورهم بين 50 فلس و 250 فلس وفقاً لكمية عملهم وفى مواجهة ضارية من بضائع مانشستر والمنسوجات اليابانية الرخيصة. كان المعمل يبيع الاقمشة الصوفية المختلفة ما بين 200 و 300 فلساً للياردة. وما يلفت النظر ان المعملين ليسا من صنع بريطاني .
ومع ذلك أسهمت الإجراءات والقوانين والتسهيلات التي وفرتها الدولة في دعم الصناعة الوطنية أسواق مضمونة أو أفضلية في عقود الدولة لبعض المصانع أو إعفاءات كلية أو جزئية من ضريبة الدخل وضريبة الأملاك والرسوم الكمركية أو قروض مُيسَّرة من المصرف الصناعي (د. عبد اللطيف سالم، مصدر سابق، صفحة 134). وقد حصل كل من معمل فتاح باشا ومعمل عزيز ميرزا يعقوب وشركاه على إعفاءات من الضرائب، وتمَّ شمول المعملين بقانون تشجيع الصناعة الوطنية رقم 14 لسنة 1929.
ومما يذكر أن المندوب السامي البريطاني لبرت كلايتون Gilbert Clayton اعترض على منح سلفة إلى معمل فتاح باشا على أساس أنها مخالفة للقانون الأساسي العراقي لأن المبلغ يتطلب موافقة البرلمان، لكن الملك فيصل أبلغ المندوب السامي بأن المبلغ ليس سلفة بقدر ما هو استثمار مبلغ يُودع لدى المعمل مقابل ضمانة وفائدة محددة. وبناء على ذلك وافق مجلس الوزراء على منح المعمل سلفة قدرها 75 ألف ربية من تخصيصات وزارة الدفاع في الميزانية العامة لقاء تزويد الوزارة باحتياجاتها. وبالمقابل وافق نوري فتاح على تسليم منتجات المعمل إلى الوزارة بسعر يقل عن سعر المنتوج الأجنبي .
ومما هو جدير بالإشارة أن الملك فيصل الأول افتتح معمل فتاح باشا للنسيج عام 1926. وكانت بعض الصناعات الوطنية تحظى باهتمام الملك فيصل الأول وفى مقدمة ذلك صناعة النسيج والدباغة والصابون والورق ثم السمنت وكان يدعو الحكومة إلى حماية المنتجات الوطنية بزيادة الرسوم الجمركية على المصنوعات المستوردة. وقد خطى الملك في هذا الجانب خطوات عديدة إذ وافق على منح سلف للبضائع والشركات الأهلية كشركة حلج الأقطان وشركة فتاح باشا للغزل والنسيج وبعض المصانع الأهلية الصغيرة .
لنعد إلى موضوع بحثنا (سليمان فتاح باشا). اشترك الرجل وهو ضابط مدفعي في حروب البلقان في أواخر عهد ما قبل الحرب العالمية الأولى في بلغاريا (وهناك تعرَّف على نوري السعيد وتوطدت بينهما صداقة وطيدة (الشواف، مصدر سابق). لقد تفرغ سليمان فتاح باشا للصناعة بعد الحرب العالمية الثانية، فعلاوة على موقعه في معمل فتاح باشا:
- أسس شركة الدخان الأهلية وبعض المشاغل والمصانع الصغيرة كمحلج عطار باشا.
- أسس شركة المنصور التي أسست مدينة المنصور في بغداد.
- أسس شركة سباق المنصور.
- وأسس شركة المنصور الإنشائية.
ولابد من عقد مقارنة بين عقد الثلاثينيات من القرن الماضي وما حصل من تغيّير في سياسة الحكومة العراقية تجاه الصناعة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية. شهدت ثلاثينيات القرن الماضي توسعاً كبيراً في صناعة الغزل والنسيج وحلج الأقطان وإنتاج الصوابين وغيرها من الصناعات المحلية ولكن ما أن انتهت الحرب حتى بادرت الحكومة إلى فتح باب الاستيراد على مصراعيه وصارت وزارة الدفاع ووزارة الداخلية تفضلان المنسوجات الأجنبية على المنسوجات الوطنية في مناقصاتها الأمر الذي أثَّر سلبياً على صناعة المنسوجات المحلية في العراق.
لقد استطاع سليمان فتاح باشا توسيع وتطوير وتحويل شركة فتاح باشا من معمل لغزل الصوف إلى معمل لإنتاج الاقمشة والبطانيات الصوفية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي والتي كانت تصدر منتوجاتها إلى الدول المجاورة. لقد بدأ معمل فتاح باشا بغزل الصوف العراقي وتوزيع الغزول ببيعها إلى المناسج اليدوية المنتشرة في مناطق العراق ولا سيما الكاظمية والنجف التي تقوم بحياكة العبي (جمع عباءة)، ويتمتع ما يصنع منها في العراق وفى النجف بصورة خاصة بسمعة جيدة وقبول واسع لكنه أخذ بالتطور تبعاً لتطور الأسواق .
وكما يذكرعبد اللطيف الشواف فإن سليمان فتاح باشا تبوأ منصب رئيس اتحاد الصناعات العراقي بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 وحاول من خلال منصبه أن يدفع بالاستثمار والإنتاج الصناعي نحو الزيادة والكفاءة، كما حاول استخلاص المنافع الحقيقية الاقتصادية من العلاقات الجديدة التي فتحتها ثورة تموز أمام الاقتصاد العراقي والصناعة العراقية في أسواق الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية والعالم الثالث إلى أن توفاه الله في حزيران 1960 بعد أن أمضى (30) ثلاثين عاماً من عمره في قطاع الصناعة والأعمال.
عن : شبكة الاقتصادين العراقيين /فاروق يونس - المدى