أداة تخصيص استايل المنتدى
إعادة التخصيصات التي تمت بهذا الستايل

- الاعلانات تختفي تماما عند تسجيلك
- عضــو و لديـك مشكلـة فـي الدخول ؟ يــرجى تسجيل عضويه جديده و مراسلـة المديــر
او كتابــة مــوضـــوع فــي قســم الشكـاوي او مـراسلــة صفحتنـا على الفيس بــوك

عبد السلام محمد عارف(خاص بالمسابقة)

احمد _الربيعي

Well-Known Member
إنضم
26 أبريل 2014
المشاركات
776
مستوى التفاعل
5
النقاط
18
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبد السلام محمد عارف
26125450_77.JPG





عبـد السلام محمد عارف.. ضابط عراقي عربي، دخل التاريخ من أوسع أبوابه في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958 عندما قاد اللواء العشرين من جلولاء وهو آمر فوج ويحمل رتبة عقيد ركن، وفجر ثورة في العراق، توجت نضالات وتضحيات العراقيين ضد الاستعمار والقوي الرجعية وسياسات الأحلاف والمعاهدات التي كبلت العراق وعزلته عن أمته العربية، وشكلت علامة مضيئة على طريق التحرر والانطلاق نحو آفاق التقدم والتنمية الوطنية والوحدة العربية، لذلك ليس غريبا ان تقترن ثورة تموز (يوليو) باسم هذا الرجل الذي ضرب أروع الدلالات في الإيثار الوطني والالتزام الاخلاقي، عندما تنحى عن موقعه الفعلي قائدا للثورة ومنفذها الاول الى زميله ورفيقه الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر، وفاء منه لكلمة شرف واتفاق اخوة وقسم على التعاضد والتعاون بما يخدم العراق والأمة العربية، علما بأن الاخير الذي وصل الى بغداد بعد نجاح الثورة بخمس ساعات واحتل مكانه في وزارة الدفاع كرئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة ووزير للدفاع، لم يقابل صنيع عبدالسلام وفروسيته، الا بالجحود والتعالي، الامر الذي أدى الى انتكاسة الثورة وانحرافها عن الأهداف الوطنية والقومية التي قامت من أجلها، واعتقال مفجر الثورة ومحاكمته وسجنه وإصدار حكم باعدامه في سياق عملية كيدية للانتقام من دوره البطولي في انبثاق الثورة ونجاحها.
وكما عانى عبدالسلام عارف ظلما واجحافا من زميله السابق عبدالكريم قاسم، فانه واجه غبنا وتهميشا من رفاقه الجدد عقب حركة الثامن من شباط (فبراير) 1963 عندما حاول البعثيون استغفاله والتجاوز على مكانته وموقعه، وهم الذين استعانوا به اسما وطنيا لامعا ووجها قوميا بارزا، لصدارة الحركة واستثمار رصيده الثوري في مواجهة المعسكر المناوئ للوحدة والتيارالقومي من شيوعيين واكراد وبقايا العهد الملكي المباد، ولأن عبدالسلام استوعب درس عبدالكريم قاسم جيدا، وأدرك بعد سنوات القهر الخمس التي أعقبت ثورة تموز (يوليو)، أن الاخوة والرفقة التي جمعته مع البعثيين لها التزامات مشتركة عليه وعليهم، وكل طرف يتهاون أو لا يحترم ما التزم به، يتحمل نتائج أعماله، لذلك اضطر عبدالسلام الى حسم الامر معهم في الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 وأنقذ العراق مرة أخري من الفوضي وتناحر البعثيين وانشقاقاتهم.
والذين يستذكرون العامين والشهور الخمسة التي كان فيها عبدالسلام عارف رئيسا للعراق من معاصرين له، او مؤرخين منصفين لعهده، لا بد أن يتوقفوا إزاء سلسلة انجازات تحققت في هذه الفترة القصيرة، على صعيد الأمن والاستقرار في البلاد والسلم الاجتماعي وسيادة القانون، والقرارات الاشتراكية والتشريعات التقدمية في استثمار الموارد والثروات الوطنية واتساع الخدمات البلدية والتعليمية والصحية والاجتماعية، وكلها موثقة لا تحتاج الى اثباتات.
وقد تعرض عبدالسلام عارف في حياته وبعد وفاته في ذلك الحدث الجلل في الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1966 الى ظلم كبير من قيادات حزبية وطائفية وعرقية تجنت عليه بدوافع سياسية، نتيجة استقامته وتواضعه، وثباته على منهجه الوطني والقومي، وقد اتهم ولا يزال، بأنه طائفي سني، وتنسى او تتناسى انه هو من سمح لآية الله الخميني رجل الدين المعارض للشاه، بالقدوم الي العراق من منفاه في تركيا مطلع عام 1964، والاقامة والتدريس في النجف معززا ومحميا من عملاء الشاه البهلوي الايراني، واتهمته أطراف أخرى بالدكتاتورية، رغم ان سيرته في الحكم والسلطة تؤكد عدالته ونزاهته اضافة الى بساطته ونقاء سريرته، واتهمه بعض قيادات القوميين بعدم الحماس للوحدة وأثبتت الايام انه قومي صلب ووحدوي أصيل.
عبدالسلام عارف رحل الى جوار ربه، نظيف اليد والجيب والوجدان، لم يترك لبناته وأولاده أرصدة وعقارات وممتلكات، ولعلها من المصادفات الجميلة ان يصدر كتاب يؤرخ لجانب من حياة الرئيس الراحل عبدالسلام عارف وفي هذا الزمن الذي صار فيه العراق يرزح تحت الاحتلال الامريكي، وأجمل ما في الامر ان صاحب الكتاب أكاديمي عراقي ومن القومية التركمانية، ليس محسوبا على حزب أو جماعة سياسية معينة، بدأ حياته عسكريا وقادته وظيفته ليكون قريبا من رئيس الجمهورية مسؤولا عن حماية داره وضابطا في الحرس الجمهوري، فكتب مشاهداته وانطباعاته بتجرد وحيادية، مدفوعا بموضوعية شديدة ووطنية مخلصة، بعيدا عن المبالغات واصطناع الحوادث والروايات. لقد سرد الدكتور صبحي ناظم توفيق أحداثا عايشها، أو كان قريبا منها أو عارفا ببعض تفاصيلها، وقدمها الي قراء كتابه كما جرت بدون تزويق ومغالاة، وهو جهد يشكر عليه، ومبادرة تستحق الثناء.
استطلاع المنطقة ليلة الواجب الأولى
فكرت بادئ ذي بدء، ان أستطلع المنطقة التي تحيط بدار رئيس الجمهورية جيداً وبشكل أفضل مما أجريناه علي عجل قبل نحو ساعة واحدة.. فقمت بجولة جديدة حول الثكنة، وبصحبتي عريف الفصيل رأس العرفاء كامل عبدالحسن، ملقياً نظرة خاصة وفاحصة على مبنى القسم الداخلي لطلبة دار المعلمين الابتدائية الذي يكتظّ بعشرات الطلاب الشباب، وسرت في الشوارع الفرعية المحيطة بالدار وركزت نظرى على السطوح العالية للدور ذات الطابقين بشكل خاص، لأعود الى سطح قاعة منام الجنود داخل الثكنة ومكتب آمر الفصيل. وثبتّ في بالي المواقع المحددة التي يمكن توجيه الجنود اليها في حالة فتح نيران أسلحة نحو دار رئيس الجمهورية، ذلك قبل ان اطلب من عريف الفصيل جمع ضباط الصف والجنود لأتعرف عليهم شخصياً، ويتعرفوا هم ايضا على آمرهم الجديد وبعد ذلك، دخلت الى المشجب للتأكد من كميات العتاد المتوفرة لدى فصيل الحماية.
مضى الوقت سريعاً حتى حل الليل لأشعر معه برهبة تسري في نفسي، فإنها وإن لم تكن شديدة فحسب، فقد كانت كبيرة ومؤثرة، فها انا وحدي في بقعة تنأى عن القصر الجمهوري مسافة قد تصل الى نحو عشرة كيلومترات، ولا اتصال لي معه سوى ذلك الهاتف اليتيم الذي يمكن ان يعطل او ينقطع بكل سهولة ويسر، فهو يرتبط بسلك رفيع معلق في الهواء بين أعمدة واضحة لكل عين، ولا سيارة تحت إمرتي أستطيع التحرك بها أو توجيهها أو تحريكها في مواقف طارئة معينة، وقد راودتني أسئلة وتساؤلات عديدة لم أجد لها جواباً يشفي غليلي.
وهكذا ظللت في الفراش متقلباً ذات اليمين وذات الشمال، وبملابسي العسكرية وسلاحي قرب رأسي حتى مطلع الفجر، انتقل الى خارج الثكنة مرة في كل ساعة لأتأكد من يقظة الجنديين الحارسين وضابط الصف الخافر بينهما، وأسأل وأتاكد من عدم وجود أي تجمع لأشخاص هنا او هناك، فقضيت تلك الليلة الثقيلة في تفكير دؤوب بحظي الذي حلّ بي وأتاني الى الحرس الجمهوري، ولكن عندما استعرضت شخوص الضباط الذين تعرفت عليهم وعرفت معظمهم عن كثب وبشكل فضولي لا أنكره، توصلت الى ان جلّهم (لا ناقة لهم ولا جمل) بالنظام الحاكم، فالذي كان يقال في المجالس الخاصة والعامة وأحيانا في الشارع العراقي عن عبدالسلام محمد عارف انه يعتمد على (عشائر الدليم) للحفاظ على سلطته، وإسناده مناصب متنفذة لأشخاص ينتمون الي تلك المنطقة وقبائلها، أو هم من سكان مدن لواء (محافظة) الانبار، لم أجد له أثرا يذكر في فوج الحرس الجمهوري الاول الذي أتبعه وهو الفوج المسؤول وبشكل مباشر عن حماية القصر الجمهوري ودار رئيس الجمهورية، فآمر الفوج الرئيس الاول (الرائد) عبدالرزاق صالح العبيدي والملازم سعد عبدالهادي من حي الاعظمية والرئيس (النقيب) كاظم عزيز من حي الكرادة والملازم حامد جاسم ـ على الرغم من كونه يحمل لقب الدليمي فإنه من عشيرة البوعلوان القاطنة في لواء الحلة، والملازم الاول سلمان شجاع الندواي من منطقة الكريعات، والملازم الاول يوسف خليل والملازمان عبد محمود البنا وقاسم علي من لواء الموصل، والملازمون وليد جسام وعبدالجبار جسام وقاسم فرحان كرخيون، والملازم عبدالامير عبيد من قضاء النعمانية التابع للواء الكوت، والملازم فاهم مالك من الديوانية، والملازم الاول قاسم محمد صكر من الناصرية، والملازمان سعد شمس الدين وعدنان العزاوي من لواء ديالى، والملازم عبد مطلك الجبوري من قضاء الحويجة التابع للواء كركوك، وانا من مدينة كركوك فلا يبقى هناك سوى ستة ضباط ما بين دليمي وعاني وحديثي من مجموع اربعة وعشرين ضابطاً، وتوصلت ايضا الى ان فوجنا اعتيادي ولكنه مكلف بواجب خاص، ولذلك فمن الأخلاقيات والتقاليد العسكرية التي تربيت عليها في الكلية العسكرية، ان اُؤدي واجباتي ضمنه كأي ضابط في وحدات الجيش العراقي، وتذكرت جيدا أنني قد اقسمت اليمين بالله العظيم وبالشرف العسكري أن اُؤدي واجباتي على خير ما يرام خدمة للوطن والجيش، لذلك حصلت لدي القناعة التامة بأنه يتحتم علي أن أقوم بهذه المهمة وغيرها على خير ما يرام وعلي ان أتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وجها لوجه مع الرئيس
مضت ساعات الصباح ليوم الثاني والعشرين من آب (اغسطس) 1964 بين تدريب وفطور ومحاضرة ألقيتها على الجنود وهم جالسون على أسّرتهم في قاعة منامهم ظهراً حتى موعد طعام الغداء، وحلّت الساعة الثانية بعد الظهر، إذ كنت جالساً في المكتب، حين رن جرس الهاتف:
ـ نعم، تفضلوا.
ـ مساء الخير.. انا الرائد عبدالله مجيد سكرتير ديوان الرئاسة.
ـ نعم سيدي تفضل.. انا الملازم صبحي ناظم.
ـ كيف حالك يا ملازم صبيح؟ هل أنت من الضباط الاحداث؟
ـ بخير سيدي.. واسمي صبحي وانا من الضباط الاحداث.
ـ حسناً يا ملازم صبحي.. الآن سيغادر السيد رئيس الجمهورية القصر، وعليك اتخاذ اجراءاتك الاعتيادية حسب التعليمات.
ـ حسناً سيدي.
وصل الموكب إلى الشارع الفرعي الذي كنت واقفاً في مدخله.. كانت سيارة رئيس الجمهورية واضحة تماماً، أديت التحية العسكرية وكذلك ضباط الصف والجنود الحراس، سار الموكب دون توقف فسُرت معه حتى استقر امام باب دار رئيس الجمهورية، عندها نزل الملازم رشيد علوان المهداوي مرافق الرئيس من السيارة ووقف بالاستعداد مؤدياً التحية العسكرية، قبل ان يفتح رئيس الجمهورية الباب الخلفي الايمن بنفسه ويترجل.
وقفتُ بالاستعداد وأديت التحية العسكرية، وقدمت نفسي بالاسلوب المتعارف عليه امام السيد الرئيس، الذي وقف قبالتي بالاستعداد، وهو يرتدي بدلة مدنية كحلية اللون، وقميصا ناصع البياض، وربطة عنق من لون البدلة. لم يتفوه بأية كلمة ودخل الي داره فيما غادر الموكب بضمنه افراد الحماية الخاصة.
وفوراً سمعت اصوات أولاد رئيس الجمهورية لأول مرة، وهم يستقبلون أباهم قرب الحديقة، ودفعني الفضول ان أتقدم بضع خطوات الى مقربة من سياج الدار المنخفض لأرى عبدالسلام محمد عارف وقد انحنى عليهم يقبلهم ويقبلّونه، فتعلق الصغيران التوأمان (محمد ومحمود) برقبته قبل ان يحملهما معاً بين ذراعيه متجهاً الى داخل البيت.
واتباعاً للتعليمات، عدت الى مكتبي داخل الثكنة بخطى سريعة، لأخُبر سكرتير ديوان الرئاسة هاتفياً بوصول السيد الرئيس الي بيته، قبل ان أعود مسرعاً الي الخارج لأراقب مواضع الجنود الحراس المحددة، وأطمئن على اوضاع الحماية والشوارع والأسطح المشرفة، فأصدرت أوامري بفتح الشارع الفرعي امام السيارات الاهلية بشكل اعتيادي.
الرئيس يرتب كراسي الجلوس في حديقة منزله
اقتربت الساعة من السادسة عصراً، وكنت ما أزال خارج الثكنة، والجنود ما برحوا في مواقعهم، وقد اجريت بعض التبديل بين اولئك الذين رابطوا في نقاطهم اكثر من ساعتين بآخرين كانوا في القاعة متهيئين، وسمحت لآخرين بإجازة تسمي النزول الى بغداد، اذ طرق سمعي صوت رئيس الجمهورية وهو يتكلم مع اولاده في حديقة البيت.. فتعمدت السير قريباً من سياج الدار، حين شاهدت عبدالسلام عارف وهو يرتّب عدداً من الكراسي الخفيفة المصنوعة من الالمنيوم مغطاة بشرائط النايلون، ومن ذلك النوع الذي كان معظم اهالي العراق يستخدمونه في حدائقهم.
كان الرئيس مرتدياً (بيجاما) صيفية صفراء اللون مقلمة بخطوط خضر.. وبينما جلس الاولاد علي الكراسي، فقد فرش عبدالسلام سجادة صغيرة ليؤدي صلاة العصر قبل ان يتناول الشاي مع أسرته.
شددت علي الجنود بوجوب اليقظة والحذر ومراقبة المنطقة المحيطة جيداً، حتي حل موعد صلاة المغرب بعد الساعة السابعة بقليل، إذ جاءني السائق الحاج أحمد ليخبرني ان السيد الرئيس يطلب ان تحضر سيارته لتعود به الى القصر الجمهوري، على ان تنتظره في ساحة عنتر.
فوجئت بالطلب، فساحة عنتر تبعد عن موقع الدار الذي نحن فيه أكثر من كيلومتر واحد، والملازم فاهم مالك لم يتطرق لمثل هذا الأمر عندما ابلغني يوم امس بتعليمات الحماية ولم يذكر سوي حضور السيارة الى هذا المكان بالذات.. فكيف سأتصرف والحالة هذه؟.
توجهت الى حيث الهاتف في مكتبي، واتصلت بـالعميد زاهد محمد صالح وأبلغته بالامر فلم يستغرب!! ولكنه طلب وكّرر أن اُرافق السيد الرئيس الى حين وصوله الى ساحة عنتر، وان يسير معنا بعض جنودي لتأمين حماية سيادته.
مرت بضع دقائق قبل ان يخرج عبدالسلام عارف من باب داره، لأؤدي له التحية العسكرية المعتادة، وفاجأني بدخوله الي الثكنة من باب الخروج.. سرتُ على يساره متخلفاً وراءه بخطوة واحدة، وتلك هي عادة العسكر.. توجه الى مكتب ضابط الحماية وألقى نظرة فاحصة عليها وعلى زواياها ومحتوياتها وغرفة النوم والحمام.. ثم الى قاعة منام الجنود، فنهض الجميع احتراماً له.. قبل ان نعود الى الشارع حتى بادرني بالسؤال: هل انت راض عن وضعك ووضع جنودك؟ أجبته نعم سيدي، فلا يوجد لدينا نقص يذكر، وسألني مرة أخري: وكم عدد جنودك؟ أجبت: الموجود الكلي خمسة وعشرون، والحالي ثمانية عشر، وهناك سبعة جنود نزلوا الى بغداد في استراحة بعد الظهر كما هي العادة يومياً سيدي. عند ذلك بدأ الرئيس يوجّه نصائحه وتوجيهاته اليّ قائلا: قبل كل شيء، اُريدك يا ملازم صبحي، ان تكون حريصاً علي جنودك وعلى راحتهم وضبطهم ونظامهم ونظافتهم.. وان لا تأكل قبل ان يأكلوا جميعاً، ولا ترتاح قبل ان تريحهم، ولا تنام قبل ان يناموا.. عندها تجدهم يحبونك ويتعلقون بك.. فالعسكرية ليست اصدار أوامر فحسب، بل هي حب واحترام ونظام.. فأنت ضابط قد تخرجت حديثاً، وعليك ان تتعلم مثل هذه الامور جيداً وتتخذها نهجاً في حياتك اليومية، مثلما تعلمنا نحن من الضباط الذين سبقونا ممن عملنا بإمرتهم في ظروف السلم والحرب.. فمهنة العسكر هي مهنة الموت، فلا ينبغي ان تصدق ان جندياً يمكن ان يقذف بنفسه نحو الموت في المعركة لمجرد أوامر أصدرها اليه ضابطه، لو لم يحبه من صميم قلبه، كن لهم أباً وأخاً كبيراً، حتي لو كان هناك فارق عمر بينك وبين بعض جنودك وضباط صفك خصوصاً.
نعم سيدي ـ قلت ـ واستطردت قائلا: انه ليشرفني ان اسمع مثل هذه النصائح من سيادتك. سكت الرئيس عبد السلام قليلاً قبل ان يسأل وكأنه انتبه الى (لكنة) في نطقي:
ـ من اين انت يا ملازم صبحي؟.
ـ من كركوك سيدي.
ـ أتركماني أنت أم كردي؟.
ـ تركماني سيدي.
ـ بارك الله فيكم.. فأنتم أبطال، انتم اولاد عمر علي بطل معركة جنين في فلسطين 1948. وقد عانيتم أنتم الأمرّين علي أيدي الشيوعيين في مذبحة كركوك عام 1959، وقاومتم ببطولة.
شكراً سيدي ـ قلت، واردفت: ان اللواء الركن عمر علي صديق لوالدي وعمي، ولنا معه صلة قرابة. وسألني الرئيس: ومن هما والدك وعمك؟ أجبته: والدي من موظفي مديرية النفط في كركوك وعمي الذي أقصده هو ابن عم والدي العقيد المتقاعد مصطفي عبدالقادر. رد علي الرئيس إن كان المقصود (مصطفي بيك) الذي كان آمراً لأحد افواج المجاهدين الفلسطينيين، فأرجو تبليغ سلامي الخاص له، وان بابي مفتوح له وللواء عمر علي متى يشاءان دون قيد او شرط، قلت: شكراً سيدي سأبلغمها بذلك. ثم سألني هل يصل الطعام الي الجنود بشكل منتظم؟ أجبت: نعم سيدي.. وقد وصلت وجبات اليوم في مواعيدها المقررة. قال: على اية حال إذا لم تصل اليهم وجبة، فأنني اُخوّلك ان تبعث سائقي الحاج احمد بسيارتي ليجلب لهم (الكباب) على عددهم، وعلى نفقتي الخاصة. قلت شكراً سيدي وهذه التفاتة طيبة من سيادتكم وسأبلغهم بذلك.
كلا.. رد الرئيس لا اريد تبليغهم، لأن ذلك يعتبر (منـّة)، فمن حقهم علينا ذلك، فهم يحرسون بيتي ليل نهار. ولولا ظروف البلد الحالية لما سمحت لجندي واحد ان يبقي في هذا المكان.
الرئيس منعني من مرافقته
كنت أسير مع الرئيس عبد السلام عارف في ممر مقر الحماية ذهاباً وإياباً حتى حل ظلام الليل بعض الشيء، اذ كانت الساعة قد قاربت الثامنة، وهو يرتدي الملابس نفسها التي حضر بها ظهر ذلك اليوم، والحقيقة أن مشاعر الرهبة والاستغراب وبعض السعادة قد تملكتني، علي الرغم من أن ذراعيّ ويديّ كانتا (مُتسمرتين) علي جانبي تماماً، وكيف لا؟ فأنا ملازم (آمر فصيل) وهو مشير ركن وقائد عام للقوات المسلحة ورئيس البلاد، وكان نشطاً في مشيته وحركاته، واضحاً في كلامه مسترسلاً في أفكاره وطروحاته.
أسرع رئيس الجمهورية في مسيره بعض الشيء، وخرج الى الشارع العام، وأمسى يمشي على الرصيف المتاخم لسياج مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية، فسار خلفنا اربعة جنود من حملة البنادق كنت قد هيأتهم مسبقاً لغرض الحماية، حتى التفت نحونا وشاهدني والجنود، فقال: شكرا ملازم صبحي، عد مع جنودك الى مقرك.
أعود الى مقري! قلت لنفسي كيف ذلك؟ رئيس الجمهورية وحده في شارع عام مكتظ بالناس والسيارات! كيف لي ان لا اُنفذ ما أمرني به المرافق العسكري الاقدم للرئيس قبل أقل من ساعة واحدة؟ ولكن كيف أتصرف والسيد الرئيس أصدر امراً مباشراً لي بالعودة الي الثكنة؟.
وفوراً أمرت الجنود الاربعة بالعودة الي الثكنة، بينما قررت ألا أترك رئيس الجمهورية وحده مهما كانت النتائج، بل ان أسير خلفه، ولكن على بعد، لا سيما انه من المحتمل ان لا يراني بعد ان حل ظلام أول الليل.
عبد السلام عارف وحيدا في شوارع الاعظمية
وضعت السيد الرئيس ضمن مدي النظر أمامي، سار على الرصيف حتى اجتاز الشارع الفرعي المحاذي لحديقة النعمان فدخلها من بوابة ركنها القريب.. كانت الحديقة مليئة بعشرات العائلات، وقد فرشت نساؤها الارض بالحصران او البطانيات القديمة، ونصبت الكراسي والمقاعد المتنوعة، وجلس الرجال والنساء يتحدثون أو يتناولون طعام العشاء في تلك الامسية من الليالي العشر الاخيرة من شهر آب (اغسطس) 1964 ومجاميع من الاطفال والصبية يلعبون هنا وهناك، وفتيان يسيرون قريبا من فتيات أنيقات يرتدين ملابس قصيرة ـ تقليعة الستينيات ـ وبعض منهم يتبادل نظرات حالمة وبعض الابتسامات مع فتيات أحلامهم.
اخترق عبدالسلام عارف الحديقة حتى ركنها القريب من سينما الاعظمية، ولربما من دون ان ينتبه اليه أحد او يكترث به.. كنتُ أسير خلفه على بعد نحو عشرين متراً بحذر وقلق، فأنا لا أحمل غير مسدس واحد مع ست وعشرين رصاصة ليس إلا! حتى خرج نحو محطة الوقود (البنزين) المتاخمة للسينما، وسار علي رصيف شارع الامام الاعظم أمام مقهي النعمان، اذ انتبه اليه بعض الجلوس، فقاموا احتراماً له، فسلّم عليهم، وردوا عليه: هله بالحجي.
واستمر بالسلام علي بعض الأشخاص والمسير، حتى وصل الى مجموعة دكاكين من ضمنها محل لبيع المعلبات والبقوليات وبعض الحبوب وقد علق في واجهته قطعة خشبية مكتوب عليها (وكيل مصلحة المبايعات الحكومية) حيث نهض رجل كبير السن يرتدي (دشداشة) بيضاء اللون واستقبله، فتحاضنا وتبادلا القبلات بحرارة ثم دفع الرجل اليه صفيحة فارغة تسمي في اللهجة العراقية (تنكة) عليها قطعة مربعة من الاسفنج الاصطناعي وجلس رئيس الجمهورية على الصفيحة وهو يتبادل الحديث معه، وانا أنظر اليه عن بعد محاولاً الاختفاء بين المارة من الناس، وهم بالمئات بين ذاهب وآت، لكنها كانت دقائق مُتعبة على نفسي وسط هذه الجموع من البشر.
أسرع الرئيس في خطاه، بعد ان ودع صديقه وخرج من محله وقد وضع يديه خلف ظهره وهو يسير على الرصيف بين أناس ينظرون إليه بسكوت أو ذهول، وبين آخرين لا يثير انتباهم، يسير بين اشخاص يحيونه بالسلام وآخرين لا يكترثون به بتاتاً، وهو يتجه نحو ساحة عنتر ولم تمض سوى دقائق حتى شاهدتُ من بعد السيارة الرسمية لرئيس الجمهورية وقد وقفت فى جانب من الساحة، حياه الجميع بالتحية العسكرية وعلي رأسهم مرافقه الشخصي، فيما وقف جمع من الناس وسط ساحة عنتر وأرصفتها ينظرون الى الرئيس، فاستقل سيارته وسار موكبه وهم يصفقون له ويهتفون.
تنفست الصعداء حقيقة، وأحسست تماماً أن خفقان قلبي الذي عانيت منه لساعات عديدة، وبالأخص خلال نصف الساعة الاخيرة، قد خفّ، وذلك قبل ان اعود راجعاً، وحامداً العلي القدير ان يوماً واحداً ـ لا أنساه أبداً ـ قد مر بسلام.
اللواء عمر علي وآراؤه في السياسة
رأيت من الواجب والأمانة، وبعد أن أطرى عبدالسلام عارف ذلك المديح بحق اللواء الركن المتقاعد عمر علي في أول لقاء لي معه، أن أبلغ ذلك الي الشخص المعني في أول فرصة ممكنة، لأعود بما يطرحه ويتحدث فيه الى رئيس الجمهورية في لقاء قادم لا بد ان يقع طالما كنت مكلفا بمهمة حماية داره. وبعد انقضاء عدة أيام، وحالما حضر ضابط بديل تسلّم مني المهمة، ارتديت أفضل بدلة مدنية صيفية امتلكها، وذهبت الى داره في الوزيرية، ضغطت على جرس المنزل فأطل أبو بارز بقوامه المهيب ووجهه البخيل في الابتسامة، وشاربه الكث، وصلعته التي تحتل الجزء الاكبر من رأسه الكبير.
دخلت متعقبا إياه الى غرفة الاستقبال المهيبة، وبعد دقائق من الترحاب والمجاملات والتهنئة لمناسبة تخرجي من الكلية العسكرية، وانتسابي الى صنف المشاة، سيد الصنوف العسكرية وأصعبها وأرقاها وأقربها الى الرجولة ـ حسب رأيه ـ بادرت الي القول:
ـ يا عم عمر.. جئت لأبلغك ان السيد رئيس الجمهورية ذكرك بالخير وشهد لك بأنك كنت بطلاً من أبطال حرب فلسطين، كما تحدث خيراً عن عمي مصطفي وطلب ان أبلغكما ان بابه مفتوح لكما متي شئتما.
نظر اليّ اللواء عمر علي وقد تجهّم وجهه قائلا: أي رئيس جمهورية، ومن الذي أوصلك إليه؟.
ـ لقد نسبت الي الحرس الجمهوري بعد تخرجي، وكلّفت بحماية دار رئيس الجمهورية خلال الايام الماضية.
ـ علي أية حال.. والآن يبعث عبدالسلام معك سلامه وتحياته لي؟!.
ـ نعم يا عم.
وهنا تحول عمر علي الى كتلة من نار، وبات يزأر كالأسد وبأعلى صوته: ان هذا (الأرعن الأهوج) في تصرفاته، والصبياني في طموحاته، قد قاد عراقنا العزيز الى ما أمسى عليه الآن.. وإنه لو لم يهجم على بغداد وقصور العائلة الهاشمية ودار نوري السعيد، ولو لم يقترف خطأه في ذلك اليوم المشؤوم، لما كان عبدالكريم قاسم قد استطاع قلب نظام الحكم واستحوذ على كرسي السلطة عام 1958، ان عبدالسلام هو المسؤول الاول عما قاسيناه وما عاناه هذا الشعب المسكين وتعرض له هذا البلد المعطاء وما سيتعرض له من مآس ومذابح ومجازر هنا وهناك، وعما سيصيبنا من أوضاع غير مستقرة لسنوات طويلة قادمة.
ـ ولكن يا عم عمر، الا تقدّر أن اية ثورة تقوم في أي بلد، تعقبها سنوات من عدم الاستقرار ريثما تعود الامور الي مجاريها؟.
ـ ولماذا الثورة.. لماذا الثورة يا صبحي؟ واية ثورة تلك التي تتحدث عنها؟ ان الثوار لم يكونوا سوي حفنة من الضباط المجازفين والطامعين في تسلّم مناصب ليسوا أهلاً لها، أرادوا السيطرة على مقاليد الحكم، فسيطروا، وكان ما كان.
ـ ألم يخلّصونا من الاستعمار؟.
ـ اوه.. أي استعمار؟ لم يكن العراق مستعمراً بشكل مطلق منذ قيام الحكم الوطني عام 1921، نحن لم نقبل أن يستعمرنا الانكليز وغيرهم، ولم نكن مثل العديد من الدول العربية الإسلامية التي رضخت لإنكلترا او خضعت لفرنسا او سارت في ركاب هولندا.
ـ يا عم.. اقولها بصراحة، إني لست بمستوي هذا الكلام الكبير، ولا يمكن ان أتحدث مع السيد رئيس الجمهورية إلاّ بقدر إجاباتي المحددة على أسئلة معينة قد يطرحها.. ولكننا نسينا تحيات سيادته اليك.
ـ إني لست على استعداد أن أرتبط مع عبدالسلام بأية علاقة، فقد عانيت الضيم من ثورتهم، وأدخلتُ في قفص الاتهام بهذا العمر وبتلك الرتبة، وبعد كل تلك التضحيات لسبب تعرفه جيداً.. وحُكم عليّ بالإعدام شنقاً بعد ما خدمت هذا الجيش وهذا الوطن اكثر من ثلاثين سنة خدمة نظيفة لا شائبة فيها.. وتوفي ولدي من جراء سماعه حكم الإعدام عليّ، انا الآن لست بحاجة اليه ولا الى غيره، ولن أتقرّب اليهم مهما كانت الظروف إن شاء الله.. ولكن لكي لا تحرج أمامه، رد اليه السلام فقط اذا ما طرح ذكري مرة اخري.
ودعت العم اللواء عمر علي، بعد أن قبلت يده اليمني احتراماً واعتزازاً.. ولم أنس في ذلك المساء ان أتوجه الى مكتبة في حي راغبة خاتون لأقتني أول (أجندة) في حياتي بسعر خمسمائة وخمسين فلسا، ليكون حديث أول السطور التي سجلتها في اوراقها عن ليلة 29/28آب (اغسطس) 1964.

 

ملآئكية

Well-Known Member
إنضم
5 مايو 2014
المشاركات
718
مستوى التفاعل
4
النقاط
18
الإقامة
العراق
رد: عبد السلام محمد عارف(خاص بالمسابقة)

نثرت روائع من اليآقوت اللآمع
سلمت حروفكـ الزآخرهـ بعذوبتهآ
لقلبكـ ولروحكـ الطآهرهـ آطيب آلمسكـ
لكـ فااائق تقديري
 
إنضم
23 أبريل 2014
المشاركات
82,276
مستوى التفاعل
1,624
النقاط
113
الإقامة
العراق
رد: عبد السلام محمد عارف(خاص بالمسابقة)

سيره رائعه لقائد تراس الحكم في العراق

لفتره قليله له تاريخ عريق


عااشت الايادي ودووم الابداع مشرفنه
 

MS.Shaghaf

مشرفه عامه و مسووله المسابقات
إنضم
8 سبتمبر 2013
المشاركات
247,192
مستوى التفاعل
998
النقاط
113
الإقامة
سليمانية
رد: عبد السلام محمد عارف(خاص بالمسابقة)

شكرا عزيزي ع الطرح

تحياتي
 

الذين يشاهدون الموضوع الآن 1 ( الاعضاء: 0, الزوار: 1 )