أعہشہقہ أنہفہاسہكہ
Well-Known Member
فيلسوف العراق الكبير جميـل صدقي الزهــاوي
جميـل صدقي الزهــاوي فيلسوف العراق الكبير في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وشاعرهـا في بداية القرن العشرين وحتى وفاته عام 1936 .. تميز منهجه الفلسفي بالاستناد إلى علم الطبيعة والظواهر وخاصة نسبية انشتاين ومنهجه الإجتماعي بالتحرر واحترام المرأة وتقدير دورها في بناء الوطن وشعره بالواقعية ورقة المشاعر ونبل الآراء وجرأة القول والتحريض على التحرر من قيود الدين والتقاليد والمفاهيم المتخلفة وعلى تبني الفكر الإشتراكي ..
كان الزهاوي محبوبــاً كشاعر ومعلم وفيلسوف وإنسان في الأوساط الشعبية والأدبية والسياسية النهضوية في بلاد الشام ومصر والبلدان العربية الأخرى فضلاً عن مكانته الكبيرة لدى الشعب الكردي، فهو ابن لأبوين كرديين من بغــداد. وقد كتب فيه طه حسين:
" لم يكن الزهــاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار .. لقد كان شاعر العقل .. وكان معري هذا العصر .. ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم .."
الفكر المادي واتساع الأفق والإيمان بقوى الطبيعة والتسلح بالعلم عند الزهــاوي سببها استيعابه لمفهوم اللانهاية في الكون، لقد قــــال:
لا تقبــل الأجــــرام عــدا كلا ولا الأبعــــــاد حـــدا
إن المجــــــرة لـم تــــكن إلا عــــوالم فقـن عــــــدا
والسحب فيهـــا أنجـــــــم هـن الشموس بَعـُدن جـدا
والأرض بنت الشمــــس تلـــــزم أمهــا جريــاً وتحـْـدى
وتــدور في أطرافهــــــــا مشــدودة بالجذب شــــدا
ويــدور محورها تـوجــــه نحــو نـــور الشمــس خـــدا
ويؤكــــد:
تحوي السماء نجومــــاً ذات أنظمة من الشمــوس كثاراً ليس تنحصـــر
نخــالها ثــــابتـات وهي مســـرعـة كأنهــا الخيـل في البيــداء تحتضـــر
أما نتيجة هذا المستوى الرفيع من فهم المادة والكون فقد انعكس تماماً على مواقفه من المجتمع والعادات والحياة العامة. كان الزهــاوي نصيراً عنيداً للمرأة وكتب في حريتها ومساواتها بالرجل الكثير من النثر والشعر. إحدى مقالاته في الدفاع عن المرأة نشرت في عام 1910 سببت له المتاعب وانتهت بتسريحه من وظيفته في إحدى مدارس بغداد وشن حملات كبيرة من قبل الكتاب المتشددين الذين وصفوه بالمارق .. قصـائده في تحـرر المرأة كـانت أشد وقعـاً على الرجعيين والمتخلفين ..
في مقالته المذكورة أعـلاه عبر الزهاوي عن اعترافه الكامل بدور المرأة الهام والكبير في الحياة الأسرية والمجتمع وبناء الوطن وأشار إلى مساوئ المفاهيم السائدة التي تحط من قدرها وتظهرها كمتاع يمتلكه الرجل ويفعل به ما يشاء ويحق له التخلي عنه أو استبداله متى رغب في ذلك، تلك المفاهيم التي لا تعترف للمرأة بمقوماتها كإنسان وبالتالي بحقوقها البشرية .. واستشهد بأمثلة من نمط الحياة الأوروبية التي تتمتع المرأة في ظلها بحريتها مما يجعلها عنصراً فعالاً مساهماً في بناء المجتمع والحضارة ويوفر لها الكرامة الإنسانية واحترام كامل حقوقهــا .. في حين يرى بأن الدين الإسلامي أجـاز قسوة الرجل على المرأة وسمح له باعتبارها سقط متاع فلا رادع عنده من أن يكيل لها اللعنات والشتائم واللكمات ويعيدها إلى بيت أهلها مطلقة محرومة من الحياة الهادئة المستقرة .. وتساءل الزهاوي عن العدالة المزعومة في حق الرجل بتعـداد الزيجـات وفق معيار كمـي وبإعلان الطلاق متـى شـاء وحرمان المرأة من هذا الحق ..
وأشار الشاعر والفيلسوف الكبير إلى الظلم المتعدد النواحي الذي تتعرض له المرأة إضافة إلى الزواج والطلاق .. فحق الميراث وقيمة الشهادة وشروط المظهر خارج المنزل وأسهـامها في الشأن العـام تثبت امتهاناً كبيراً للمرأة تبدو معه عبـدة لا وزن لها ولا حقوق .. أما في السماء فليس الأمر بأحسن .. فللمرأة المؤمنة في رحاب الجنة زوجها في أحسن الحـالات بينما لـه من حور العين سبــــعون إلى سبعيــن ألف ما يكرس اعتبار المرأة ملكاً ومتعة لا أكثر يكافأ الرجل بها، متـى حق له ذلك، وبالمعيار الكمـي أيضــاً ..
عن حجاب المرأة وتسترها أمام الرجال تحدث الزهاوي مبيناً أن في الأمر امتهاناً فظيعاً لها وتكريس لثقافة الخوف والضعف والخيانة وانعدام الثقة بين بني البشر ومحدداً سلبيات الحجاب على كافة الأصعدة وإيجابيات السفور التربوية والإجتماعية وانعكاسه على قدرة المرأة على التفاعل مع الرجل في تطوير المجتمع وبناء الحضارة ..
كان الحجــاب يسومها خســـــــفأ ويرهقهـــا عـذابــــــــــــــــا
إن الأ ُلى قد أذنبــــــــــوا هـم صيـروه لها عقـــــــــابـا
وسيطلب التــــــــاريخ من نــاس لهـــا ظلمـــــــوا الحســـابــا
ويضيـف في قصيـدة أخرى:
مزقي يا ابنة العراق الحجابا واسفـري فالحيـاة تبغـي انقلابا
مـزقيـــه واحرقـيه بلا ريــث فقــد كــــان حـارسـاً كـــــذابـا
لقـد أثار الزهـاوي واقع وصور اضطهاد الرجل للمرأة في المجتمع العراقي وسلوكية العنف والإرهاب التي تمارس بحقها والاستهتار بإنسانيتها وتعامله غير اللائق مع العذوبة والرقة الأنثوية:
ما أتعـس الحسنـــــــــاء يمـلك أمرهــا الــزوج العنيـــف
وهو إذ يرى في الشرق استهانة بقدر المرأة وتهميشاً لها خارج حياة العمل والعطاء والإبداع ومشاركة الرجل في تطوير المجتمع وبناء الوطن فإنه يقارن الحال بما هو عليه في الغرب حيث للمرأة احترامهـا ومكانتهـا وفرصها المتكافئة مع فرص الرجل وبالتالي تمتع المجتمعات الأوروبية بإسهام الجنسين بالعمل والبنــاء وإضفاء مظاهر الطبيعيـة والتحضر والرفاهية على الحياة الإجتماعية:
في الغرب حيث كلا الجنسين يشتغل لا يفـْضل المرأة َ المقدامةَ َ الرجــلُ
كلا القرينيــن معتـز بصـــــــــــاحبه عليه إن نـال منـه العجزُ يتــــــــكل
وكـل جنس لــه نقصٌ بمفـــــــــــرده أما الحيــاة فبــــالجنسيــن تكتمـــــل
أما العـراق ففيـه الأمــــــر مختلـــف فقــد ألـم بنصف الأمـــة الشلــــــــل
ويقارن بحسرة تطور الغرب وسعي أبنائه إلى التقدم في حين يغط شرقنا بالسبـــــات العميق:
الشرق ما زال يحبو وهو مغتمض والغرب يركض وثبــاً وهو يقظـان
والغـرب أبنـاؤه بالعلـم قد سعـــدوا والشرق أهلـوه في جهـل كما كانوا
ويرى أن السبب الرئيس في نقص حياتنا واكتمـال الحياة في الغرب هو موقع المرأة في المجتمـع:
وكـل جنس لــه نقص بمفـــــــــرده أما الحيـاة فبــــالجنسيــن تكتمــــل
ذلك الموقع الذي يجعل الناس مشغولين بالعمل والإبـداع والإنتـاج الوفيـر بينما نحن مشغولون بالترهات وبتبادل الإتهام في قضايا الديــــن:
الغـرب يشغلـه مــــــال ومتربــة والشــرق يشغلـه كفـــرٌ وإيمـــان
ولذلك نحن ضعفـــاء وقريبــون من الهوان:
الغـرب عـزٌ بنــوه أينمــا نزلــوا والشــرق إلا قليــلاً أهلـُه هـانــوا
ولكنه لم يفقد الأمل بنهضة العرب إن هم استيـــــــــــقظوا:
سترقى بلاد الشرق بعـد انحطـاطها لو ان بنيــها استيـقظوا وتعلمـوا
يـزول تمـاماً ما بها من تـــــــــأخر لو ان حكـومات البــــلاد تـُنظــم
وفي معرض آخــر يعيد تأخر العرب إلـى التعصـب والتمسـك بمفاهيم الماضي المتخلفة وبمواقف الرجال الأنانيـة من المرأة بالتحديــد، تركت آثارها السيئـة على كل شيء:
هو التعصب قـد واللــه أخـركــم عن الشعوب التي تسعى فتقـتــرب
وفي الزواج غير المتكافيء من حيث السن ولا القائم على أساس من المودة والحب والإحترام والإعتراف للمرأة بإنسانيتهــا يصور الحياة الجحيمية وما تمتليء به من مآس:
كـم قـد تــزوج ذو الستين يــافعـة والشيب في رأسه كــالنـار يشتعـل
يقـضي لبانتـَـه منهـــــا إلى أجــل وقــد يكـون قصيــراً ذلك الأجــــل
ولا يبــالي بحـبل الــــــود بعـد ئذ أكان متصـــلاً أم ليـس يتصـــــــل
تزوجتْ وهي لا تـدري لشقوتهــا أزوجـُهــا أحـد الغيــلان أم رجــل
يسبهــا لا لذنب ثـــــــم يركلــــها بالرجل مـنـه مهيــناً وهي تحتمــل
وبعـد ذلك يعــــــدو كالنعــام إلـى أصحابـه وهو ممــا جـاءه جــزل
ولــم تكـن أربـعٌ يشبــعن نهمتــه والذئب يشبعــه مــن جوعـه حمــل
وهو يجـد في مستندات المجتمـع المتخلف سبـباً صريحـاً لاستمرار مظاهر قهر النساء واضطهادهن وحرمانهن من الحرية والمساواة:
وددت من كل قلبي غير مختشــع لـو عـاد يـومـاً علـى أعقـابه الأزل
فأســأل اللــه تقديــــــراً يغيـر مــا قضــــاه قبــلاً فـلا ظلـمٌ ولا دخـــل
وأحد أكثر مظاهر قهر المرأة يتجلى في سهـولة الطلاق عند الرجـل، والعصمة في يـده، يلوح به حينمـا يشــاء وتحت أية حجـة أو حالة دون رادع أو تحسب لمـا يتركه هذا العمل الأنـاني من إهانة للمرأة وتحطيم للأسرة وبؤس وحرمـان:
وقـد يطلقــها فـي حانة ثملاً وليـس تدري لماذا طلـق الثمـــل
الظلم الواقـع على المرأة كمـا يراه الزهــاوي يبدأ في البيت وهي طفلة عنـد أهلهــا الذين أرضعوها الخوف والدونية مع حليب الطفولة وهيؤوهـا للزواج المبكر القسري في حالة تشبه بيع النعـاج بعيـداً عن أية قيمة إنسانية وفي بيئـة متخلفة ظالمة تتكرس فيهــا كل أشكـال العبودية والقهر:
لقـــد روعـوها ثم نـامت عيــونـهـــمُ وليـس ســواء نـــــائم ومـــــروع
وقـــد زوجــوهـا وهي غير مريـــدة بشيــخ كبيـــر جاء بالمـال يطمـع
وفـي الــدار أزواج لـه غيــر هــــذه ثــلاث فـود الشيـــخ لو هـن أربع
تضـاجعــه في البيت وهــو كـأنـــــه أبوها فـقـل في أمرها كيف تصنع
هنــاك ستشــقى أو تمــوت كئيبـــــة على أن موت المـرء في الهم أنفع
هناك سيبدو اليأس والبؤس والأسى لهـــــــا وتـلقــاها المصـائب أجمـع
وفـي قصيـدة أخرى ينتهي الأمر بمأســاة حقيقيــة :
جلـوهـا عروسـاً بعد سبع فزمـروا وفي مرح الأفـراح خبوا وأوضعـوا
جلوهـا عروسـاً ما بها من غميـزة سوى صفرة فــوق الأسيليــن تلمـع
وزفت إلى الشيخ الذي لشقـــــــائها أتـــى طــالباً كيمـا بهــــــا يتمتــــع
فقــالت له لا تـدنُ يـاشيـخ راغبـــاً فأنت أبــي بل أنت فـي الســن أرفع
فإن كان منك الشيب ليس بـــرادع لجهــلك يـا هـــــــــــــذا فإنـي أردع
ولكــن ما بالشيـخ من شهـوة غلت أبى أن يعاف الشيـخ ما هو مـزمع
فقطـب منه الوجــه ينفـخ غــاضبـاً ومـــد يديـه جــاذبـاً وهـــي تـدفـــع
يقــول لهــا (أسماء) أنت حليلتـــي ولا بــد مــن أن الحليــــلة تخضــع
أحلــك لــي رب السمـــاوات إنـــه حكيـــم وإن الحق ما هـــو يشــرع
فلمــا رأت أن لا مناص يصـونهـا من الشيخ لما أوشك الشيخ يصرع
أحالــــت على كأس هنــــاك معـدة من الســم واهتشــت لهــا تتجــرع
ومـاتت (أسمــاء) وبكــتهـا أمهــا وبكى أبــوها نـادماً .. وهيهــات أن ينفع الندم بعدمـا حلت الفاجعة وتحـولت الفتــاة إلى جثة هـامدة لم يبق لهــا سوى ما يغطي جسدهـا من أزهار الربيــع:
فلما بدا صبــح وشاعت فجيعــة وصـاح بها الناس والناس أسرعوا
أتت أمها تجثو إلى الجنب رأسها وتلطم حر الوجه والوجــه أسفـــع
وعـض أبــوهـا للنـدامة كفـــــــه ومــا أن لــه هذي النــدامة تنفــــع
وهو إذ ذاك لا ينسى أن يخبرنــا بأن أسمــاء فتـاة ذات قلب ومشــاعر وقـد كان في قلبهــا خفقــات حب لشــاب هــام بهـا ولكنــه حرم من أبسط حق له في الحيــاة وهو أن يحظى بحبيبتـه فيعيشان حيــاة سعيدة متكــافئة:
أكب (نعيم) باكيــاً فــوق قبرهــا وقـــال فأبكى كل من كـان يسمـــع
وعــادوا به ذا رجفــة يسنــدونه بهم ليس فيـــــه للسلامـــة مـوضـع
فعاش سقيـم الجسـم خمسة أشهر ومـات.. كذاك الحب بالناس يصنع
فـواروه في قبر يجــاور قبرهــا على ربـــوة .. إنـا إلى الله نرجـــع
هكذا صور الزهــاوي المجتمــع العراقي المتخلف تكبله قيـود المفاهيـم الرجعية والموقف اللاإنساني من المرأة ومن التحرر الإجتمــاعي .. وهو إذ يضع الإصبـع على الجراح في مرحلة مبـكرة نسبيــاً فإنه يرى أن الخلاص من هذا الواقع السيء ممكن والنهوض بالوطن والمجتمع ممكن بشرط التخلص من أسباب ومسوغات الظلم والتمييز المفروض على المرأة الإذعان لهمـا والخضوع للرجل على أساس هذه المسوغات ..
إنـه، لقناعة راسخة عنده مبنية على أسس ومعايير إنسانية أثبتت الحضارة صحتهـا وجدواهـا، فخـور بدفـاعه عن المرأة وبربطـه تحرر الوطن وتقدمه بتحرر المرأة .. وقـد عرف الزهـاوي بين شعراء وفلاسفة وسياسيي العراق ومصر وبـلاد الشام بموقفه المتميز والصريـح تجـاه مسائل المرأة والدفاع عن حقوقهـا وقد قيل عنه الكثير .. فهذا الدكتور عبد الرحمن الشهبندر يقـول في تأبينه:
" إذا أردنـا أن نكبر الزهــاوي ونخلد ذكـراه فعلينـا أن ننشئ باسمه في مسقط رأسه مدرسة للإنـاث يعلمن فيهـا من فنـون الأدب والعلم ..."
دفاع الزهـاوي عن المرأة جلب له المتاعب وقد هجـاه لذلك كثيرون فيما لم ترقْ لأصدقـائه حملات الحاقدين .. فولي الدين يكن قال راداً هجوم المتشددين على الزهـاوي لشعره في تحرر المرأة:
ألا قد بغت هذي العمــائم بغيهـــــــا فدارت علـى القـــوم الكـرام دوائـره
بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يجـازى على قول الصـواب معـاشره
بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يريــدون طـي الحــــق إن قام نـاشره
سـلام على الدنيا سلام على الورى ســــلام علـى العهـد الذي قـل شـاكره
ولكنه نـال بالمقـابل الكثير من المديح من قبل شعراء شاطروه الآراء التقدمية مثل معـروف الرصـافي:
ومـا الآداب فـي بغــــــداد لـــولا يـــراعَ جميلـهــا إلا دعـــــــاوي
إذا مـا قــــال فـي بغـــداد شعـراً رواه لــه بأقصـى الأرض راوي
أعيــذك يا جميل الشعــر من أن يســوءك نقـد أربـاب المســــاوي
وليسوا محوجيـــك إلـى معيــــن وهـم مـا بيــن مهزول وضـــاوي
فنفـخ منـــك يجعلهــــم هبـــــــاء ويسقطهـــم إلى سفـــل المهـــاوي
ومــــا احتــاج القـوي إلى معين إذا كــان الضعيــف هـو المقــاوي
وبـــدوي الجبـــل، يحييه في دمشق ضيفـاً عزيـزاً ويحيي العراق فيه ويؤكـد تأييده للزهـاوي في فكـره الكفاحي:
يــاشـاعر التــاج المضيء علـى جبيـن أغـــر فـاتح
وفتـى القريحــة أعطيت عرش الإمـارة في القـرائح
طيــب العـراق وإنـه للمسـك مـن برديـــك فـــــــائح
أهــوى العــراق وإن تكن طاحت بسؤدده الطــوائح
حــدث فقـد طــاب الحـديث ونام عن نجــواه كـاشح
واذكــر لنـا عبر الحيــاة فأنـت مـأمــــون النصــائح
هـذي الحيــاة لمـن كالليث مرهــــوب الجوانـــــــــح
والعيـش معنــــاه الكفـــــاح وهــالك مـن لا يكــــافح
لقد أحب شعراء الشرق جميل صدقي الزهـاوي ولم يفوتوا فرصة لإظهـار إعجـابهم به فكراً وشعراً وفلسفة وشخصية أيضــاً وهـو لذلك متفائـل رغـم مـا أحاط به من متاعب طالمــا الأمــل بـاق في النفـوس:
تبقى الحيـاة على الأرزاء طيبة مـادامت النفــس بالآمال تتصل
ومن لم تأته فرصة مديح الزهـاوي ومكانته الكبيرة في حياته أبنـه ورثــاه كمـا يستحق .. من بشارة الخـوري إلى علي الجـارم والجواهري وغيرهم ..
محمد مهدي الجواهري قـال قصيدة رائعة في رثــاء الزهـاوي مطلعهـا:
على رغم أنف الدهر ذكراك خالد ترن بسمع الدهر منك القصائد
ومؤكـداً المكـانة الفكرية والعلمية الكبيرة للزهـاوي والتي كان يتمنى أن يستفيد الوطن والمجتمع منها أكثر قفل قصيدته قائلاً:
أضاعوك حيـــاً وابتغــوك جنازة وهذا الذي تأبــاه صيد أمـــاجد
ربـط الزهــاوي رؤيتـه للطبيعة والحيــاة والمجتمـع بصدق أحـاسيسه وبالتصـاقه الشـاعري بالطبيعة النقية السـاحرة والقويــة والكريمـة .. وهو لذلك يحب الغزل ويعشق الفن والغنـاء على الأخص .. أحب أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهمــا .. وقــال في أم كلثوم لدى زيارتهــا بغـداد سنة 1932:
الفــن روض أنيـق غير مســـــؤوم وأنـت بلبـلــــه يـــــا أم كلثــــوم
لأنت أقــدر من غنـــى بقـافيــــــــة لحنـــاً يرجعــه من بعـد ترنيـــم
إني أخـــاف افتنانـاً فيه مفتضحـــي فــإنمـا أنـا شيــخ غير معصـوم
سلــي بــي القوم قبل اللــوم باحـثـة وبعــــد ذلك يــا لوامتــي لـومي
لا تفزع الكاعب الحسناء من كلمي فإن نصل سهــامي غير مسموم
ويضيف ابن الخمسة والستين عـامـاً دون حـرج:
يــا أم كلثــوم غنـي فالهوى نغــــــم تلــذه الشيب والشبــان كلــــــــــهمُ
مـن أجل صـوت رخيـم منك يسمعه يـا أم كلثـوم جــاء الجمع يـزدحـم
قد هــزه صـوتك المــوار يطربـــــه فهاج كالبحـر ذي الأمواج يرتطـم
أشعار الزهــاوي في العلم والفلسفة والمجتمع وقصائده في فضح الاحتلال العثمـاني والمرتبطين به سياسة وثقافة لم تمنعه من قـول الغزل والتفنن في وصف الطبيعة والتعايش الرومانسي مع القيم الجمـالية ..
وأعاد الشحـرور ألحــان وجــــد طــائراً مـن نهـد هنــاك لنهـــــــــد
بيـن نبت يضــور عرفــــاً وورد مـن خزامـى ويـاسمين ورنـــــــــد
وشقيــــق ونرجـــس وعـــــــرار
قرب جــورية يفـــــــوح شـذاهــا ذات لـــون مـن السمـــاء أتاهـــــا
في شعاع من الشمس طبق هواها قبلـت فــاه وهـو قبــــل فـاهــــــــا
لتــــلاق مـن بـعـد شحـط المـزار
إن حســن الربيـــع للعين فـاتـــن كـم بـه من زهـر كثيـر المحــاسن
غـير أن الزمـــان يـا قوم خــائن فـلأزهـــاره جمـــال ولكــــــــــن
هي آه قصيــــــــــرة الأعمـــــار
لقـد كانت للزهـاوي صداقات وعلاقات مودة انطـلاقـاً من أرضية التفاهم الفكري مع العديد من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية والنضـالية في مختلف بلدان العـالم .. لقد قـال في طاغور، شاعر الهند الكبير وشاعر الحب والسلام وكان له صديقاً .. وقـال في جبران خليل جبران وأحمد شوقـي وفي أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهـم .. كمـا كتب لعظمـاء راحلين، كمـا هي الحـال في المتنبي وتولستوي وفي المعري أيضاً حيث قال مؤكداً التأثر الكبير به:
إني تتلمـذت فـي بيتي عليك وإن أبلت عظـامك أدهـار وأزمــان
تتوج أعمــال الشاعر والفيلسوف الحكيم جميل صدقي الزهــاوي ملحمتــه الشعرية الخالدة (ثـورة جهنميــة – نزعــات الشيطــان – منكر ونكيــر) ..
ثورة أهــل الجحيــم ملهـاة حوارية شعرية خيـالية فلسفية واجتمـاعية ألفهــا وهو في بداية عقده السابع عـام (1929) يقـاوم بعنفوانه ملامح الشيخوخة التي داهمته والمرض وتباشير العجز بالمزيد من المرح وروح الفكــاهة والمجون، يعرض فيهـا رؤاه وفلسفتـه ونظرته للحيـاة وأدبهـا والنـاس ومعتقداتهم من خـلال سجـل زيـارته للجحيــم والنعيــم على طريقة أبي العـلاء المعـري في (رســالة الغفـران) ودانتـي في (الكوميديـا الإلهيـة) ..
لقـد أراد الزهــاوي، كمـا يقـول الأستـاذ أمين الريحــاني، أن "يشعل أنوار العقـل والعـدل والحب الإنسـاني على شواطئ الشك والتهكــم" .. و (ثـورة جهنميـة)، وإن كانت تشبه إلى حـد مـا رسـالة المعري أو كوميديا دانتي الإلهيــة أو الزوابـع والتـوابع لابن شهيــد الأندلسـي فإن لهــا خصوصيتها وشخصيتهــا المستقلة في التصوير والحوار والمرتكزات ارتباطـاً مع خصوصية المعايير وحدودهـا، فالمعنيون بالمكان وبالخطوات والجولات مسلمون يحاورهم ويحـاكمهم مـلائكة مسلمـون ..
وملحمة الزهـاوي هذه هي "أنفس أعماله وأحقهــا بطـول البقـاء" كمـا يقول أمين الريحــاني .. وتستحق أن تخصص لهـا الدراسـات، فليس من السهل أو العـدل استعراض كافة جوانبهـا في عمــل غير مستقـل ..
واختصاراً .. تبـدأ رحـلة الزهـاوي لحظة إيداعه في القبــر:
بعد أن مت واحتـواني الحفيــر جــاءنـي منكــــر وجاء نكيـــر
ملكــان اسطـــاعـا الظهـــور ولا أدري لماذا وكيف كان الظهــور
كنت في رقدة بقبــــري إلى أن أيقظـــاني منهـا وعاد الشعــور
فبـــــدا القبــر ضيقــاً ذا وخوم ما به للهــواء خـــرم صغيـــــر
إن تحت الأرض إلا قليـــــــلاً منزل المرء ذي الطموح الأخير
أتيا للســـؤال فظيـــــن حيـــث الميت بعد استيقــاظه مذعــــور
عـن أمـور كثيـــــرة قــد أتاها يوم كان في الأرض حيـاً يسيـر
خار عزمي ولـم أكن أتظنـــى أن عزميَ يـومــاً لشيء يخــور
. . . .
قال من أنت وهو ينظر شزراً قلـت شيــــخ في لحــده مقبـــور
قال مــاذا أتيــت إذ كنت حيــاً قلـت كـــل الذي أتيـــت حقيــــر
ليس في أعمــالي التي كنـت آتيهــا على وجه الأرض أمر خطير
كنت عبداً مسيـــراً غير حـــر لا خيـــارَ لـــــه ولا تخـييــــــر
مـا حبــوني شيئــاً من الحــول والقــدرة حتى أديــرَ مـا لا يـــدور
كان خيراً مني الحجـارة تثوى حيـث لا آمـــرٌ ولا مـأمــــــور
ويستمر الإستجواب الذي يتناوب فيه الملكـان بطرح الكثير من الأسئلة في جميـع مواضيع وفرائض الديــن وشروطه بـدءاً بالشهـادة والصلاة والصوم والزكــاة والحج وانتقــالاً إلى العقيدة والإيمـان بكل مــا جــاءت به رسـالة السمـاء .. وإذ أثقـــل الملكــان على الميت بالأسئلـة العديـدة المتتاليـة قــال:
قلـــت مهـــلاً يـا أيهــا المــــلك الملحـــف مهـــلاً فإن هـــذا كثيـــــر
كـان إيماني فـي شبــابي جمـــاً مـــا به نـــذرة ولا تقصيـــــــــر
غيـــر أن الشكـــوك هبـت تــلاحقنـــي فلــم يستقــر منـي الشعــــور
ثـم عـــاد الإيمــــــــــان إلى أن ســله الشيطــان الرجيـم الغرور
ثـم آمنت ثـم ألحـــدت حتـــــــى قيــــل هــــذا مـذبـذب ممــــرور
ثـم أنـي في الوقت هــذا لخـوفي لست أدري ماذا اعتقادي الأخير
ويتــابع الملكــان مهمتهمــا دون اكتـراث لخوف الميت وارتجــافه وترقبــه:
قال ماذا رأيت في الجــن قبــلاً ومن الجــن صــــــالح شريــــــر
ثم في جبـريلَ الذي هو بين الله ذي العـرش والرســــول سفيــــر
ثــم في الخنــاس الذي ليــس من ســواه في الحيــاة تخلــو الصـــدور
. . . .
قلـت لله مـا فـي السمـــاوات والأرض ومــــا بينهـــن خلـــق كثيـــــر
غيــر أني أرتاب فـي كـل ما قد عجــــز العقـــل عنــه والتفكيـــر
لم يكن في الكتاب من خطأ كـلا ولكــــــنْ أخطـــــأ التفسيـــــــــر
ويحين وقت السؤال عن المــرأة والحجــاب:
قـال هــل في السفـور نفع يرجـى قلت خير من الحجاب السفـــور
إنمـا في الحجــاب شــــــلٌ لشعب وخفــاءٌ وفي السفــور ظهــــور
كيـف يسمـو إلى الحضـارة شعب منه نصف عن نصفـه مستـــور
ليـس يأتي شعبٌ جـــلائـلَ مـالــم تـتـقـــدم إنــأثـه والذكـــــــــــــور
إن فـي رونـــق النهــــار لنــاسـاً لم يـُزلْ عن عيـونهـا الديجــــور
لعــل مـا جاء في هذه الأبيات القليلة من أكثر مـا قاله الزهاوي قوة وصراحة وإصـراراً على إرجـاع ضعف المجتمــع وتخلفــه إلى مسألة الموقف من المرأة لكونها جاءت في مواجهـة صريحـة مع ممثلين لثقـافة أحدُ أهم عنـاوينهــا عزلُ المـرأة عن المجتمـع والحط من قيمتهـا ودورهـا في الحيـاة .. فالميت في قبـره وأمـام التحقيق لـم يستطع المراوغة وإخفـاء قناعته بأن الموقف من المرأة يمثل الحـد الفـاصل بين من يريد لوطنه التحضر ولمجتمعه التطـور وبين أولئك الذيــن ما زال الديجـور يغطي عيــونهم ويعمي أبصـارهم ..
وجوابـاً على سؤاله حول الإيمـان بالله يجيب الميت رابطـاً الله بالكـون الفسيـح وبالطبيعة .. ولكنــه يؤكـد في نفس الوقت شكــه وحيرتـه:
قـال مـــاذا هو الله فهـل أنــــت مجيبي كمــا يجيـب الخبيـــــــر
قلــت إن الإلــه فوق منـــال العقــــل منــا وهــو العزيــز الكبيـــــر
إنه فـي الجبال والبــر والبـحر مــن الأرض والسمــاوات نـور
وهــو إن قال كــنْ لشــيء سيكــون الشـيءُ من فـوره فـلا تـأخيـر
إن هــذا مــا قــد تلقنتـــــــه والقلـــب مـن شكـــه يكـــاد يخــــــور
مـــا لكـل الأكــــوان إلا إلــــه واحد لا يــزول وهو الأثيـــــــر
ليـس بين الأثيــر والله فــــرقٌ في سوى اللفـظ إن هداك شعور
ويشكو الميت من كثـرة الأسئلة التي تحرجه وتزعجــه:
لا تكــونـا علـي فظيــــن فـي قبــري فإنيَ شيخ بعطـف جديـر
وإذا لــــم أرد لأُبْســط رأيي فـــي جـوابي فإننـي معــــذور
إن قول الحـق الصـراح على الأحرار حتى في قبرهم محظور
فدعاني في حفرتي مستريحاً أنا من ضـوضاء الحياة نفور
اتركاني ولا تزيــدا عنـــائي بســــــؤال فإنـــني مـــوتــور
لــم تصــن مـن جرأة المستبـــدين على الهالكين حتى القبور؟؟
ويحتـد الحــوار بين الميت والملكيــن فيعبـر عن غيظــه واحتجــاجه:
إنما سألتـمــاني عن أمــــور هي ليست تغني وليست تضير
ولماذا لم تسألا عن ضميري والفتـى من يعـفُ منه الضمير
ولماذا لم تسـألا عن جهـادي في سبيل الحقــوق وهو شهيـر
ولماذا لم تســألا عن زيادي عـن بـلادي أيام عــزَ النصيـر
ولماذا لم تســألا عن وفـائي ووفائي لمن صحبــت كثيــــــر
ولماذا لم تســـألا عن مساعي لإبطــال الشــر وهــو خطيــــــر
عـن دفــــاعي عن النســـاء عليهــن من الشقــوة الرجالُ تجور
وســلاني عما نظمـت من الشعــر فبـالشعــور يرتقي الجمهـور
وســلاني عن جعليَ الصدقَ كالصخر أساساً تبنى عليه الأمور
أسكوتٌ عن كـل ما هو حقٌ وسـؤالٌ عن كل ما هو زور؟!
وهنــــا ينهـي الملكــان التحقيـق ويصــلان إلى الإستنتــاج الخطيـــر:
قال ما أنــت أيها الرجس إلا مـلحدٌ قد ضل السبيـــل كفــور
مـا جزاء الذين كـُفــــروا إلا عــذابٌ مبــرح وإلا سعيــــــر
قـُضي الأمر فاستعـد لضرب منه تدمى بعد البطون الظهور
وتبدأ رحـلة العقــاب والعذاب:
وأمضاني بالمقــامع ضربــــاً كدت منه في أرض قبري أغور
ثـم صــبا فـــــوق رأســـــي قطــرانــــاً لســــــــــوء حظـي يفـــور
فشـوى رأسي ثم وجهي حتى بــان مثــل المجــدور فيـه بثـور
وأطــالا فـي عــذابـي إلى أن غاب وعيي وزال عني الشعـور
وإمعــانـاً في إذلال الميت وقهـره يذهب الملكــان به إلى الجنـة كي يشــاهد نعيمهــا فتزداد حسرته وندمـه في جهنــم:
ثم طارا بي في الفضاء إلى الجنة حتى يغرى بلومي الضميـــــر
وأســرا في أذن رضــوانَ شيئـــاً فــأباح الجــــواز وهو عسيــر
لمسـت إذ دخلتهــا الوجـهُ منــــي نفحة ً فـاح عطرها والعبيـــــر
أخذتنـــي منهــا المشــاهد حتـــى خـلـْت أنيَ سكـرانُ أو مسحور
جنة عرضها السماوات والأرض بها من شتـى النعيـــــم الكثيــر
فطعــــام للآكليـــــــــــن لذيـــــــذ وشراب للشـاربيـــن طهــــور
سمـك مقلـــي وطيــر شــــــــوي ولـذيـــــذ من الشــواء الطيــور
وبهــا بعـــد ذلكـــــم ثمــــــــرات وكـؤوس مليئـــــــة وخمـــــور
وبهــا دوحــة يقال لهــا الطوبــى لهــا ظــل حيث سـرتَ يسيـر
تـتـدلــى غصــونهـا فــوق أرض عرضها من كل النواحي شهور
وجـرت تحتهــــا مـن العســـل المشتــار أنهــار مـا عليهـــا خفيـــــر
ومــن الخمـرة العتيـــــقة أخـرى طعمهــــا الزنجبيـــل والكافــور
ومــن الألبــان اللذيـــذة مــا يشربـــه خلـــقٌ وهـو بعــــد غـزيـــــــر
كـــل مـا يرغبــون لهــم حـــلال كـــل مـا يشتهــــونـه ميســــور
وعلــى أرضهـــا ذرابـي َ قــد بثـــت حســــــــــانـاً كأنهـن زهـــــور
وعليهــــا أسـرة وفــــــــــــراش مثلمــا يهـوى المؤمنـــون وثيــر
وعـلى تلكـــم الأســرة حــــــورٌ فـي حلـــي لهـــا ونعــمَ الحـــور
ليس يخشيـن فـي المجانة عـاراً وإن اهتـــز تحتهـــن السريــــر
كل مـن صـلى قـائمــاً وتـزكــى فمـــن الحـــور حظـه مـوفــــور
ولقــد يعطـــى المـــرء سبعيــن حــوراءَ عليهــــن سندسٌ وحريـــــر
يتهــاديــن كـالجـُمـــان حسـانـاً فـوق صـــــرح كأنــــه البلــــور
إئت ما شئـت ولا تخــش بـأساً لا حـــــرامُ فيهـــا ولا محظـــور
ليس فيهــا مـوتٌ ولا مــوبقاتٌ ليس فيهـــا شمسٌ ولا زمهريـــــر
لا شتــاءٌ ولا خريفٌ وصيــفٌ أترى أن الأرض ليسـت تــــدور؟
جنـــةٌ فــوق جنة فوق أخــرى درجـــــــــاتٌ فـي كلهــن حبـــور
ولكن الجنــة ليست للميت الضيف وقـد جيء به إليهــا كـي يرى الفرق بينهــا وجهنـم حيث لا شيء ممـا رأى .. حتى ولا شربة مــاء تروي ظمــأه:
ولقــد رمـت شربــةً من نمير فتيممتــه ففــــر النميـــــــــــر
وكــأن الماء الــذي شئـت أن أشربه بـابتعـــاده مـأمـــــــور
وتذكـرت أنني رجــل جــيء بـه كي يُـراعى منه الشعـــور
أي حق في أن أنـال شــرابي بعــد أن صـح أننــي مثبــور؟
قلت عودا من حيث جئتماني إنمـــا هذه لهمــي تـُثيــــــــــر
وبانتهـــاء زيــارة الجنـة يتوجه الركب إلـى جهنـم يتعرف فيهـا الميت المحكـوم على سعير نـارهـا وألم العذاب في جحيـمها:
أخـرَجانيَ منهــا وشـدا وثاقي بنســـوع كمـا يُشـــد البعيـــر
ثـم قــامـا فـدليـاني ثــلاثـــــــاً في صميم الجحيـم وهـي تفور
وأخيـراً فــي جـوفهــا قذفا بي مثلمــا يقـذف المتــاع الحقيــر
لسـت أسطيــع وصـفَ ما أنا قـــد قــاسيـت منهــا فإنـه لعسيـــر
إنهـــا فـي أعماقها طبقــــــاتٌ بعضُهــا تحت بعضها محفور
وأشــدُ العذاب ما كان في الهــاوية السفلــى حيث يطغى العسيـر
الطعـــام الزقــوم فـي كل يوم والشراب اليحمـوم واليحمــور
ثـم فيـــها عقـارب وأفـــــــاع ثـم فيــها ضــراغـم ونمــــــور
لست أنسى نيـرانهــا مائجات تتلظــــــــى كأنهـــن بحــــــور
فـي جهنـم يلتقــي الزهــاوي شخصيــــــات افتخــر التـاريخ بهـم والعلـم والأدب .. شعراء وفـلاسفة وعلمــاء .. فها هم الفرزدق والأخطل وجريــر وإلى جـانبهم المعري والمتنبــي وشكسبيـر ودانتــي وغيرهم من أصحـاب العقـول ومـن المبدعيـــن:
ولقد أبصرت الفرزدق نضواً يتلـــوى ووجـهــــه معصــــور
وإلى جنبـــه يقـاسي اللظـــى الأخطلُ مستعبراً ويشكو جرير
ولقـد كــان آخـــرون حـواليــهم جثــــــــومـاً وكلــهم مـوتــــــور
منهـــم العـــالم الكبيـــر ورب الفــن والفيلســــوف والنحـريـــــر
لـم أشاهد بعـد التــلفت فيهــا جـــــاهلاً ليـس عنـده تفكيــــــر
إنمـــا مثـوى الجاهلين جنانٌ شاهقــاتُ القصـور فيها الحـور
ثـم حيــاني أحمــدُ المتنبــــي والمعــري الشيخ وهــو ضرير
وكلا الشاعرين بحــرٌ خضم وكــلا الشاعرين فحـــلٌ كبيـــر
ولقــد كــان يخنــق الغيــظ بشـــاراً وفي وجهــه الدميــم بثــــور
ويليـــهمْ أبـو نواس كئيــبــــاً وهـو ذلــك الممــراحة السكيــر
. . . .
وسمعـت الخيــام فـي وسط الجمــع يغنــي فيطــرب الجمهــــور
حبـــذا خمــرةٌ تـُعيـــن على النيــران حتى إذا ذكت لا تضيـــــر
اسقنــي خمــرة لعلــي بهــا أرجــع شيئــاً ممـــا سـبتني السعيــر
واصليـــني بـاللــــــه أيتهــا الخمــرة إنــي امــرؤ إليــك فقيــــــر
أنت لـــو كنـت فـي الجحيــم بجنبــي لم ترعني نار ولا زمهرير
ويتــابع الزهـــاوي رحلتـه في جهنــم وقــد خففت لقـاءاتـه بالعظمـاء مـن بني البشر مـن فلاسفة وشعراء وعلمـــاء قسوةَ الجحيــم ولظى نيــرانه. ثـم يروي لنــا كيف تجمهر النــاس حول سقراط وأفــلاطون وأرسطو وكـوبيرنيكوس ودارويــن وهيغــل وسبنسر ونيوتن وروسو وفولتيــر وزارادشت .. وابن سينــا وابـن رشد والراونـدي وغيرهــم .. وفي خطبة أمـام الجميع شرح سقراط مـاهية النـار ومنشأهـا مـُرجعاً تغذيتهـا وسعيرهـا إلى البترول الذي سينضب من بـاطن الأرض فينطفيء سعيرهــا:
ولقد تنضب العيـون فلا نار ولا ساعر ولا مسعـــور
ولـم يفت الزهـاوي تصوير احتجــاج أولئك الذين كـانوا أصلاً ضحـايا في الحياة فلمــاذا هم أيضـاً من نزلاء جهنــم، وقد كانوا بالجنة أجدر.. فجــاء هذا على لسـان مصطفـى الحــلاج الذي قـال:
لمْ شئت العـــــــذابَ لي ولمـــاذا لم تـُجــرني وأنت منه المجيـــر
كان في الدنيا القتلُ منهم نصيبي ونصيبي اليـومَ العـذابُ العسيــر
الشعـراء والفلاسفة والعلمــاء بعد أن طـاب لقاؤهـم وتباحثوا في شؤون النهـاية السيئة الذي آلت إليها أوضـاعهم تبادلوا الآراء والمقترحات لإيجـاد حل يريحهم من عذاب النار فخرج منهم حكيـم اخترع آلات عديدة وعتـاداً حربياً وآلـة تطفيء السعير:
مكثوا حتى جاء منهم حكيم باختراع لم تنتظــره الدهور
آلــة تطفـيء السعيـــر إذا شاء فلا تحرقُ الجســـومَ السعير
وأتـى آخــــرُ بخارقة يهلك فــي مـرة بهــــا الجمهـــــور
واهتدى غيـره إلى ما به الإنســان يخفى فلا يراه البصيــــر
اختراعات العلمــاء حفزت إلى درجــة كبيرة الشبابَ المظلومين والمقهورين والمعذبين وقـد امتلأت نفوسهم غيظـاً وحقداً وثـارت ثائرتهـم:
ولقد قام فـي الأخيــر فتى يخطب فيهـم والصـــوت منــه جهــــور
وأحــاطت به المـــلايـــــن يصغــون إليــه وكلهــم مـوتـــــــــــور
قــال يـاقـومنــا جهنــمُ غصت بالألـى يُظلمـــون منكم فثـوروا
قال يـاقومنــا أرى الأمـــر من ســـــوء إلى الأســوأ الأمض يسير
قـــال يـا قـوم إننا قد ظـُلمنــــا شــر ظلــم فما لنا لا نثــــــــور
فهــــــل الحـق أن يخلـــد فـي النـــار على الكفر ســاعةًً ً مجبــور
قـــال يـا قـوم لا تخــافوا فمـــا فـــــوق شرور تكـــابدون شــرور
اجســـروا أيهــا الرفـــاقُ فمــا نــال بعيــدَ الآمــــال إلا الجســـور
أنتــم اليــوم في جهنــمَ أسـرى وليكــن منـكم لكـــم تحــــــرير
أيهــــا النـــاس دافعــوا عن حقــوق غصبــوها والكاثر المنصـور
ألأهـــل الجحيــم بؤس وتعـس ولمن حل في الجنـان سرور؟!
ألنـــا أسفـل الجحيــــــم مقـــامٌ ولهم في أعلى الجنان قصور؟!
إن أهل القضـــاء ما أنصفوكـم فكـــأن القلــوب منهـــم صخور
قد خـدمـْنـا العلـــومَ شتــى بدنيانا فهل من حسن الجـزاء السعيــــر
فعلا من أهل الجحيـم ضجـيـجٌ رجـف الوادي منـــه والساعور
ولقد هاجوا في الجحيم وماجوا كخضــم مـرت عليــــه الدهور
أطفــأوا جمـرةَ الجحيـم فكـانت فتنـــةٌ مـا جرى بهـــا التقديـــر
ثورةٌ في الجحيــم أرجفت العـــرش وكـــادت منهــــا السماء تمور
وهنـــا تهتز مشــاعر الثـوري الأعمى وقـد حرضتـه أصوات الجمـاهير وهتـافاتها فتصدرَ الحشودَ محمـولاً على الأكتـاف يهتـف ويـردد الجمـاهير خلفـَه بحمـاس وجـرأة:
المعري:
غصبـوا حقكم فيـا قوم ثـوروا إن غصب الحقــوق ظلـم كبيـــــر
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحن للحقــــوق نثـــــــــــور
المعري:
لكــــم الأكـــواخ المشيـــدة بـالنـــار وللبلـْــه في الجنــان القصــــور
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحــن للحقــــوق نثـــــــــور
المعري:
إن خضعتم فما لكم من نصيب فـي طوال الدهور إلا السعيــــــر
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحــن للحقــــوق نثـــــــــور
وإذ عـم الغضب أطـراف جهنــم تحركت قوات الأمـن (الزبــانية) بدعـم من الملائكــة فاندلعت حرب ضروس بين الجمـاهير الغاضبة وزبانيـة النــار:
ولقــد أسرعــت زبانيــةُ النــــــــار إليهــم وكلهـــــــم مذعــــــــــور
يالها في الجحيم حرباً ضروسـاً ما لها في كل الحروب نظيـــر
ولقــد عـاضد الذكــورَ إنـــــاثٌ ولقد عاضد الإنــاثَ ذكـــــــور
ثـم جـاءتهـم الشيـاطين أنصاراً ومـا جيــش المـــاردين حقيـــر
ولقــد جــاء مـن ملائكـــة العــرش لإرجــاع الأمن جـــمٌ غفيــــــر
وتـــلاقى فـوق الجحيــــم الفريقـــان وهـذا نــــــار وهـذا نـــــــــور
وتستمر الحـرب ومعاركهـا التي تفتك بالمتحــاربين وتضاعفت حمية الجمــاهير المنتصرة واندحرت المـلائكـة المجنـدلة :
وقـد اهتــز عـــرش ربــــك مـن بعـــد سكـــون والدائـــــراتُ تــــدور
ولقــد كـــادت السمـــاء تهـــــــوي ولقـــد كـادت النجــوم تغــــــور
كـانت الحـرب في البــداء سجــال مــا لصبـح النصر المبين سفور
ثــم للنــاظريـــــــن بــان جليـــــاً أن جيش المــــلائك المدحــــــور
هزمـــوهم إلـى معـاقلهــم فـي الليـــــل حتــى بـدا الصبـــح المنيـــــــر
ولأهـــل الجحيـــــم تـــم بإنجـــاد الشيـــاطين في القتال الظهــــور
فاستراحوا من العذاب الذي كانوا يقـــــاسونه وجــــاء الســــــرور
ولــم يكتف أهل الجحيــم بدحر عدوهــم وإعلان النصر عليـه بـل هـم قرروا استخـدام الشيـاطين والذهــاب إلى الجنــة لاحتــلالهـا وطرد البلــه والمجــانين من ربـوعهـا .. فهــم بميزاتهـا أحق:
ثم طاروا على ظهور الشـياطين خفــــافاً كمـا تطير النســــــور
يطلبــون الجنــانَ حتى إذا مــــا بلغوهـا جـرى نضــــالٌ قصيـر
ثـم فـــــــازوا بهـــا وقـاموا بمـا يوجبـه النصـر والنهي والتدبير
طردوا من بها من البله واحتلوا القصور العليــا ونعــمَ القصـور
غير مـن كـانوا مصلحيـن فهـذا القسـم منهـم بالإحتــرام جديـــر
فـــر رضـوانُ للنجـــاة ومـن أتبــاع رضــــوانَ مســـرعاً جمهــــور
وأقــاموا لفتحهــم حفلــةً أعقبـها منهــــمُ الهُتــــــــاف الكثيـــــــر
إنـــه أكبـــر انقـلاب به جــادت علـــــى كـرها الطويــل الدهور
هكـذا تنتهي ثورة أهـل الجحيم التي قلبت المفـاهيم وقوانين الجنة وجهنـم رأسـاً على عقب .. وهكـذا تنتهـي ملحمــة الزهـاوي التي أراد لهــا أن تكون ملهــاة َ فلسفة الدنيـا والآخـرة بالمفهوم السائد في بلاده طـامحـاً لتضمينهـا مفاهيمه الثورية والإنسـانية وقنـاعاته العلميـة كــافة .. ولقد وصـل إلى مـا أراد فكـانت الملحمة الشعرية الفلسفية الوحيدة باللغة العربية واستناداً إلى أدب العرب ومعتقداتهم بعد رسـالة المعري ..
ثــورة أهـل الجحيـم ملحمـة ُ الأدب الثوري العربي في الربع الأول من القرن العشرين، حيث كانت ثورة البلاشفة وكــان ألقـُهـا وتأثيرهـا على البلدان الرازحة تحت نير الإحتـلال العثمــاني .. وقد اتصفت بيئة الكفاح من أجل الإستقلال بارتباطهـا الجوهري بالنضـال من أجل الحرية والتقدم الإجتمـاعي ومحاربة التخلف والرجعية وسيطرة الإقطـاعية ورأس المـال على المجتمع والتحكم بمظاهره وتكريس الأمية والتخلف والخوف من حرية الفكر ضمـانـاً لنفوذهم واستمرارية مصـالحهم .. لقد عبرت ملحمة الزهــاوي عن رفض ومعـارضة أكثر النـاس نزاهة وخـُلـُقـاً وعطـاءً ووطنيــة، من أدبــاء وعلمــاء وفنـانين وسياسيين ومثقفيـن ومنتجيــن عبر مـراحل التـاريخ، لثقـافـات الخوف والغيب والرجعية والتعصب والتقاليد الأسطورية وطقوسهـا ومـا تجلبه هذه الثقـافات من عبودية وأميــة واضطهاد وحرمـان وجـوع وتفش للأمراض الإجتماعية والفسـاد .. ومـا ينجم عنهـا من حيف وجـور:
إنما في الدارين عسف وحيف غيــر أن السمــاء ليست تمــور
فلنـــاس تعـاســــة وشقـــــــاء ولنـاس سعــــادة وحبـــــــــــور
اكتمـال الملحمة بانتصـار أهل الجحيــم، وكلهم من أهل الفلسفة والعلم والمعرفة والفن الإنساني الخـلاق، إنمـا يؤكــد ان من يبنـي الأوطـان وينعش أرضهـا ويحيي مجدهـا هم أولئك النـاس العقلاء والمخلصون، رجـالاً ونسـاءً ممن يوصفـون ظلمـاً بالكفار والمـارقين وهم الأكثر إيمـاناً بالعدالة والسلام والتطور وسعادة البشرية وهـم الأكثر عطـاءً واستعداداً للعمـل من أجل ذلك ..
ولا يتردد الزهــاوي، فنـاننا المرح واللطيف، وهو يودعنــا بعد انتصـاره ورفـاقه في معركة الفلسفة والمرأة والمجتمع، في مـداعبتنـا وإثارة الرغبة في الضحك بعد هذه الحرب المخيفة وهذه الآراء الجريئة إلى حد الخطـورة وإخبارنـا حقيقة الأمـر، فهو كـابــــــوس أصــابه بعـد وجبة دسمـة ليس إلا:
وتنبهــت من منامي صبــحـاً
فــإذا الشمـس في السمــاء تنير
وإذا الأمر ليس في الحق إلا
حلــم قـد أثــاره الجـرجيــــــــر
كان الزهاوي محبوبــاً كشاعر ومعلم وفيلسوف وإنسان في الأوساط الشعبية والأدبية والسياسية النهضوية في بلاد الشام ومصر والبلدان العربية الأخرى فضلاً عن مكانته الكبيرة لدى الشعب الكردي، فهو ابن لأبوين كرديين من بغــداد. وقد كتب فيه طه حسين:
" لم يكن الزهــاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار .. لقد كان شاعر العقل .. وكان معري هذا العصر .. ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم .."
الفكر المادي واتساع الأفق والإيمان بقوى الطبيعة والتسلح بالعلم عند الزهــاوي سببها استيعابه لمفهوم اللانهاية في الكون، لقد قــــال:
لا تقبــل الأجــــرام عــدا كلا ولا الأبعــــــاد حـــدا
إن المجــــــرة لـم تــــكن إلا عــــوالم فقـن عــــــدا
والسحب فيهـــا أنجـــــــم هـن الشموس بَعـُدن جـدا
والأرض بنت الشمــــس تلـــــزم أمهــا جريــاً وتحـْـدى
وتــدور في أطرافهــــــــا مشــدودة بالجذب شــــدا
ويــدور محورها تـوجــــه نحــو نـــور الشمــس خـــدا
ويؤكــــد:
تحوي السماء نجومــــاً ذات أنظمة من الشمــوس كثاراً ليس تنحصـــر
نخــالها ثــــابتـات وهي مســـرعـة كأنهــا الخيـل في البيــداء تحتضـــر
أما نتيجة هذا المستوى الرفيع من فهم المادة والكون فقد انعكس تماماً على مواقفه من المجتمع والعادات والحياة العامة. كان الزهــاوي نصيراً عنيداً للمرأة وكتب في حريتها ومساواتها بالرجل الكثير من النثر والشعر. إحدى مقالاته في الدفاع عن المرأة نشرت في عام 1910 سببت له المتاعب وانتهت بتسريحه من وظيفته في إحدى مدارس بغداد وشن حملات كبيرة من قبل الكتاب المتشددين الذين وصفوه بالمارق .. قصـائده في تحـرر المرأة كـانت أشد وقعـاً على الرجعيين والمتخلفين ..
في مقالته المذكورة أعـلاه عبر الزهاوي عن اعترافه الكامل بدور المرأة الهام والكبير في الحياة الأسرية والمجتمع وبناء الوطن وأشار إلى مساوئ المفاهيم السائدة التي تحط من قدرها وتظهرها كمتاع يمتلكه الرجل ويفعل به ما يشاء ويحق له التخلي عنه أو استبداله متى رغب في ذلك، تلك المفاهيم التي لا تعترف للمرأة بمقوماتها كإنسان وبالتالي بحقوقها البشرية .. واستشهد بأمثلة من نمط الحياة الأوروبية التي تتمتع المرأة في ظلها بحريتها مما يجعلها عنصراً فعالاً مساهماً في بناء المجتمع والحضارة ويوفر لها الكرامة الإنسانية واحترام كامل حقوقهــا .. في حين يرى بأن الدين الإسلامي أجـاز قسوة الرجل على المرأة وسمح له باعتبارها سقط متاع فلا رادع عنده من أن يكيل لها اللعنات والشتائم واللكمات ويعيدها إلى بيت أهلها مطلقة محرومة من الحياة الهادئة المستقرة .. وتساءل الزهاوي عن العدالة المزعومة في حق الرجل بتعـداد الزيجـات وفق معيار كمـي وبإعلان الطلاق متـى شـاء وحرمان المرأة من هذا الحق ..
وأشار الشاعر والفيلسوف الكبير إلى الظلم المتعدد النواحي الذي تتعرض له المرأة إضافة إلى الزواج والطلاق .. فحق الميراث وقيمة الشهادة وشروط المظهر خارج المنزل وأسهـامها في الشأن العـام تثبت امتهاناً كبيراً للمرأة تبدو معه عبـدة لا وزن لها ولا حقوق .. أما في السماء فليس الأمر بأحسن .. فللمرأة المؤمنة في رحاب الجنة زوجها في أحسن الحـالات بينما لـه من حور العين سبــــعون إلى سبعيــن ألف ما يكرس اعتبار المرأة ملكاً ومتعة لا أكثر يكافأ الرجل بها، متـى حق له ذلك، وبالمعيار الكمـي أيضــاً ..
عن حجاب المرأة وتسترها أمام الرجال تحدث الزهاوي مبيناً أن في الأمر امتهاناً فظيعاً لها وتكريس لثقافة الخوف والضعف والخيانة وانعدام الثقة بين بني البشر ومحدداً سلبيات الحجاب على كافة الأصعدة وإيجابيات السفور التربوية والإجتماعية وانعكاسه على قدرة المرأة على التفاعل مع الرجل في تطوير المجتمع وبناء الحضارة ..
كان الحجــاب يسومها خســـــــفأ ويرهقهـــا عـذابــــــــــــــــا
إن الأ ُلى قد أذنبــــــــــوا هـم صيـروه لها عقـــــــــابـا
وسيطلب التــــــــاريخ من نــاس لهـــا ظلمـــــــوا الحســـابــا
ويضيـف في قصيـدة أخرى:
مزقي يا ابنة العراق الحجابا واسفـري فالحيـاة تبغـي انقلابا
مـزقيـــه واحرقـيه بلا ريــث فقــد كــــان حـارسـاً كـــــذابـا
لقـد أثار الزهـاوي واقع وصور اضطهاد الرجل للمرأة في المجتمع العراقي وسلوكية العنف والإرهاب التي تمارس بحقها والاستهتار بإنسانيتها وتعامله غير اللائق مع العذوبة والرقة الأنثوية:
ما أتعـس الحسنـــــــــاء يمـلك أمرهــا الــزوج العنيـــف
وهو إذ يرى في الشرق استهانة بقدر المرأة وتهميشاً لها خارج حياة العمل والعطاء والإبداع ومشاركة الرجل في تطوير المجتمع وبناء الوطن فإنه يقارن الحال بما هو عليه في الغرب حيث للمرأة احترامهـا ومكانتهـا وفرصها المتكافئة مع فرص الرجل وبالتالي تمتع المجتمعات الأوروبية بإسهام الجنسين بالعمل والبنــاء وإضفاء مظاهر الطبيعيـة والتحضر والرفاهية على الحياة الإجتماعية:
في الغرب حيث كلا الجنسين يشتغل لا يفـْضل المرأة َ المقدامةَ َ الرجــلُ
كلا القرينيــن معتـز بصـــــــــــاحبه عليه إن نـال منـه العجزُ يتــــــــكل
وكـل جنس لــه نقصٌ بمفـــــــــــرده أما الحيــاة فبــــالجنسيــن تكتمـــــل
أما العـراق ففيـه الأمــــــر مختلـــف فقــد ألـم بنصف الأمـــة الشلــــــــل
ويقارن بحسرة تطور الغرب وسعي أبنائه إلى التقدم في حين يغط شرقنا بالسبـــــات العميق:
الشرق ما زال يحبو وهو مغتمض والغرب يركض وثبــاً وهو يقظـان
والغـرب أبنـاؤه بالعلـم قد سعـــدوا والشرق أهلـوه في جهـل كما كانوا
ويرى أن السبب الرئيس في نقص حياتنا واكتمـال الحياة في الغرب هو موقع المرأة في المجتمـع:
وكـل جنس لــه نقص بمفـــــــــرده أما الحيـاة فبــــالجنسيــن تكتمــــل
ذلك الموقع الذي يجعل الناس مشغولين بالعمل والإبـداع والإنتـاج الوفيـر بينما نحن مشغولون بالترهات وبتبادل الإتهام في قضايا الديــــن:
الغـرب يشغلـه مــــــال ومتربــة والشــرق يشغلـه كفـــرٌ وإيمـــان
ولذلك نحن ضعفـــاء وقريبــون من الهوان:
الغـرب عـزٌ بنــوه أينمــا نزلــوا والشــرق إلا قليــلاً أهلـُه هـانــوا
ولكنه لم يفقد الأمل بنهضة العرب إن هم استيـــــــــــقظوا:
سترقى بلاد الشرق بعـد انحطـاطها لو ان بنيــها استيـقظوا وتعلمـوا
يـزول تمـاماً ما بها من تـــــــــأخر لو ان حكـومات البــــلاد تـُنظــم
وفي معرض آخــر يعيد تأخر العرب إلـى التعصـب والتمسـك بمفاهيم الماضي المتخلفة وبمواقف الرجال الأنانيـة من المرأة بالتحديــد، تركت آثارها السيئـة على كل شيء:
هو التعصب قـد واللــه أخـركــم عن الشعوب التي تسعى فتقـتــرب
وفي الزواج غير المتكافيء من حيث السن ولا القائم على أساس من المودة والحب والإحترام والإعتراف للمرأة بإنسانيتهــا يصور الحياة الجحيمية وما تمتليء به من مآس:
كـم قـد تــزوج ذو الستين يــافعـة والشيب في رأسه كــالنـار يشتعـل
يقـضي لبانتـَـه منهـــــا إلى أجــل وقــد يكـون قصيــراً ذلك الأجــــل
ولا يبــالي بحـبل الــــــود بعـد ئذ أكان متصـــلاً أم ليـس يتصـــــــل
تزوجتْ وهي لا تـدري لشقوتهــا أزوجـُهــا أحـد الغيــلان أم رجــل
يسبهــا لا لذنب ثـــــــم يركلــــها بالرجل مـنـه مهيــناً وهي تحتمــل
وبعـد ذلك يعــــــدو كالنعــام إلـى أصحابـه وهو ممــا جـاءه جــزل
ولــم تكـن أربـعٌ يشبــعن نهمتــه والذئب يشبعــه مــن جوعـه حمــل
وهو يجـد في مستندات المجتمـع المتخلف سبـباً صريحـاً لاستمرار مظاهر قهر النساء واضطهادهن وحرمانهن من الحرية والمساواة:
وددت من كل قلبي غير مختشــع لـو عـاد يـومـاً علـى أعقـابه الأزل
فأســأل اللــه تقديــــــراً يغيـر مــا قضــــاه قبــلاً فـلا ظلـمٌ ولا دخـــل
وأحد أكثر مظاهر قهر المرأة يتجلى في سهـولة الطلاق عند الرجـل، والعصمة في يـده، يلوح به حينمـا يشــاء وتحت أية حجـة أو حالة دون رادع أو تحسب لمـا يتركه هذا العمل الأنـاني من إهانة للمرأة وتحطيم للأسرة وبؤس وحرمـان:
وقـد يطلقــها فـي حانة ثملاً وليـس تدري لماذا طلـق الثمـــل
الظلم الواقـع على المرأة كمـا يراه الزهــاوي يبدأ في البيت وهي طفلة عنـد أهلهــا الذين أرضعوها الخوف والدونية مع حليب الطفولة وهيؤوهـا للزواج المبكر القسري في حالة تشبه بيع النعـاج بعيـداً عن أية قيمة إنسانية وفي بيئـة متخلفة ظالمة تتكرس فيهــا كل أشكـال العبودية والقهر:
لقـــد روعـوها ثم نـامت عيــونـهـــمُ وليـس ســواء نـــــائم ومـــــروع
وقـــد زوجــوهـا وهي غير مريـــدة بشيــخ كبيـــر جاء بالمـال يطمـع
وفـي الــدار أزواج لـه غيــر هــــذه ثــلاث فـود الشيـــخ لو هـن أربع
تضـاجعــه في البيت وهــو كـأنـــــه أبوها فـقـل في أمرها كيف تصنع
هنــاك ستشــقى أو تمــوت كئيبـــــة على أن موت المـرء في الهم أنفع
هناك سيبدو اليأس والبؤس والأسى لهـــــــا وتـلقــاها المصـائب أجمـع
وفـي قصيـدة أخرى ينتهي الأمر بمأســاة حقيقيــة :
جلـوهـا عروسـاً بعد سبع فزمـروا وفي مرح الأفـراح خبوا وأوضعـوا
جلوهـا عروسـاً ما بها من غميـزة سوى صفرة فــوق الأسيليــن تلمـع
وزفت إلى الشيخ الذي لشقـــــــائها أتـــى طــالباً كيمـا بهــــــا يتمتــــع
فقــالت له لا تـدنُ يـاشيـخ راغبـــاً فأنت أبــي بل أنت فـي الســن أرفع
فإن كان منك الشيب ليس بـــرادع لجهــلك يـا هـــــــــــــذا فإنـي أردع
ولكــن ما بالشيـخ من شهـوة غلت أبى أن يعاف الشيـخ ما هو مـزمع
فقطـب منه الوجــه ينفـخ غــاضبـاً ومـــد يديـه جــاذبـاً وهـــي تـدفـــع
يقــول لهــا (أسماء) أنت حليلتـــي ولا بــد مــن أن الحليــــلة تخضــع
أحلــك لــي رب السمـــاوات إنـــه حكيـــم وإن الحق ما هـــو يشــرع
فلمــا رأت أن لا مناص يصـونهـا من الشيخ لما أوشك الشيخ يصرع
أحالــــت على كأس هنــــاك معـدة من الســم واهتشــت لهــا تتجــرع
ومـاتت (أسمــاء) وبكــتهـا أمهــا وبكى أبــوها نـادماً .. وهيهــات أن ينفع الندم بعدمـا حلت الفاجعة وتحـولت الفتــاة إلى جثة هـامدة لم يبق لهــا سوى ما يغطي جسدهـا من أزهار الربيــع:
فلما بدا صبــح وشاعت فجيعــة وصـاح بها الناس والناس أسرعوا
أتت أمها تجثو إلى الجنب رأسها وتلطم حر الوجه والوجــه أسفـــع
وعـض أبــوهـا للنـدامة كفـــــــه ومــا أن لــه هذي النــدامة تنفــــع
وهو إذ ذاك لا ينسى أن يخبرنــا بأن أسمــاء فتـاة ذات قلب ومشــاعر وقـد كان في قلبهــا خفقــات حب لشــاب هــام بهـا ولكنــه حرم من أبسط حق له في الحيــاة وهو أن يحظى بحبيبتـه فيعيشان حيــاة سعيدة متكــافئة:
أكب (نعيم) باكيــاً فــوق قبرهــا وقـــال فأبكى كل من كـان يسمـــع
وعــادوا به ذا رجفــة يسنــدونه بهم ليس فيـــــه للسلامـــة مـوضـع
فعاش سقيـم الجسـم خمسة أشهر ومـات.. كذاك الحب بالناس يصنع
فـواروه في قبر يجــاور قبرهــا على ربـــوة .. إنـا إلى الله نرجـــع
هكذا صور الزهــاوي المجتمــع العراقي المتخلف تكبله قيـود المفاهيـم الرجعية والموقف اللاإنساني من المرأة ومن التحرر الإجتمــاعي .. وهو إذ يضع الإصبـع على الجراح في مرحلة مبـكرة نسبيــاً فإنه يرى أن الخلاص من هذا الواقع السيء ممكن والنهوض بالوطن والمجتمع ممكن بشرط التخلص من أسباب ومسوغات الظلم والتمييز المفروض على المرأة الإذعان لهمـا والخضوع للرجل على أساس هذه المسوغات ..
إنـه، لقناعة راسخة عنده مبنية على أسس ومعايير إنسانية أثبتت الحضارة صحتهـا وجدواهـا، فخـور بدفـاعه عن المرأة وبربطـه تحرر الوطن وتقدمه بتحرر المرأة .. وقـد عرف الزهـاوي بين شعراء وفلاسفة وسياسيي العراق ومصر وبـلاد الشام بموقفه المتميز والصريـح تجـاه مسائل المرأة والدفاع عن حقوقهـا وقد قيل عنه الكثير .. فهذا الدكتور عبد الرحمن الشهبندر يقـول في تأبينه:
" إذا أردنـا أن نكبر الزهــاوي ونخلد ذكـراه فعلينـا أن ننشئ باسمه في مسقط رأسه مدرسة للإنـاث يعلمن فيهـا من فنـون الأدب والعلم ..."
دفاع الزهـاوي عن المرأة جلب له المتاعب وقد هجـاه لذلك كثيرون فيما لم ترقْ لأصدقـائه حملات الحاقدين .. فولي الدين يكن قال راداً هجوم المتشددين على الزهـاوي لشعره في تحرر المرأة:
ألا قد بغت هذي العمــائم بغيهـــــــا فدارت علـى القـــوم الكـرام دوائـره
بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يجـازى على قول الصـواب معـاشره
بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يريــدون طـي الحــــق إن قام نـاشره
سـلام على الدنيا سلام على الورى ســــلام علـى العهـد الذي قـل شـاكره
ولكنه نـال بالمقـابل الكثير من المديح من قبل شعراء شاطروه الآراء التقدمية مثل معـروف الرصـافي:
ومـا الآداب فـي بغــــــداد لـــولا يـــراعَ جميلـهــا إلا دعـــــــاوي
إذا مـا قــــال فـي بغـــداد شعـراً رواه لــه بأقصـى الأرض راوي
أعيــذك يا جميل الشعــر من أن يســوءك نقـد أربـاب المســــاوي
وليسوا محوجيـــك إلـى معيــــن وهـم مـا بيــن مهزول وضـــاوي
فنفـخ منـــك يجعلهــــم هبـــــــاء ويسقطهـــم إلى سفـــل المهـــاوي
ومــــا احتــاج القـوي إلى معين إذا كــان الضعيــف هـو المقــاوي
وبـــدوي الجبـــل، يحييه في دمشق ضيفـاً عزيـزاً ويحيي العراق فيه ويؤكـد تأييده للزهـاوي في فكـره الكفاحي:
يــاشـاعر التــاج المضيء علـى جبيـن أغـــر فـاتح
وفتـى القريحــة أعطيت عرش الإمـارة في القـرائح
طيــب العـراق وإنـه للمسـك مـن برديـــك فـــــــائح
أهــوى العــراق وإن تكن طاحت بسؤدده الطــوائح
حــدث فقـد طــاب الحـديث ونام عن نجــواه كـاشح
واذكــر لنـا عبر الحيــاة فأنـت مـأمــــون النصــائح
هـذي الحيــاة لمـن كالليث مرهــــوب الجوانـــــــــح
والعيـش معنــــاه الكفـــــاح وهــالك مـن لا يكــــافح
لقد أحب شعراء الشرق جميل صدقي الزهـاوي ولم يفوتوا فرصة لإظهـار إعجـابهم به فكراً وشعراً وفلسفة وشخصية أيضــاً وهـو لذلك متفائـل رغـم مـا أحاط به من متاعب طالمــا الأمــل بـاق في النفـوس:
تبقى الحيـاة على الأرزاء طيبة مـادامت النفــس بالآمال تتصل
ومن لم تأته فرصة مديح الزهـاوي ومكانته الكبيرة في حياته أبنـه ورثــاه كمـا يستحق .. من بشارة الخـوري إلى علي الجـارم والجواهري وغيرهم ..
محمد مهدي الجواهري قـال قصيدة رائعة في رثــاء الزهـاوي مطلعهـا:
على رغم أنف الدهر ذكراك خالد ترن بسمع الدهر منك القصائد
ومؤكـداً المكـانة الفكرية والعلمية الكبيرة للزهـاوي والتي كان يتمنى أن يستفيد الوطن والمجتمع منها أكثر قفل قصيدته قائلاً:
أضاعوك حيـــاً وابتغــوك جنازة وهذا الذي تأبــاه صيد أمـــاجد
ربـط الزهــاوي رؤيتـه للطبيعة والحيــاة والمجتمـع بصدق أحـاسيسه وبالتصـاقه الشـاعري بالطبيعة النقية السـاحرة والقويــة والكريمـة .. وهو لذلك يحب الغزل ويعشق الفن والغنـاء على الأخص .. أحب أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهمــا .. وقــال في أم كلثوم لدى زيارتهــا بغـداد سنة 1932:
الفــن روض أنيـق غير مســـــؤوم وأنـت بلبـلــــه يـــــا أم كلثــــوم
لأنت أقــدر من غنـــى بقـافيــــــــة لحنـــاً يرجعــه من بعـد ترنيـــم
إني أخـــاف افتنانـاً فيه مفتضحـــي فــإنمـا أنـا شيــخ غير معصـوم
سلــي بــي القوم قبل اللــوم باحـثـة وبعــــد ذلك يــا لوامتــي لـومي
لا تفزع الكاعب الحسناء من كلمي فإن نصل سهــامي غير مسموم
ويضيف ابن الخمسة والستين عـامـاً دون حـرج:
يــا أم كلثــوم غنـي فالهوى نغــــــم تلــذه الشيب والشبــان كلــــــــــهمُ
مـن أجل صـوت رخيـم منك يسمعه يـا أم كلثـوم جــاء الجمع يـزدحـم
قد هــزه صـوتك المــوار يطربـــــه فهاج كالبحـر ذي الأمواج يرتطـم
أشعار الزهــاوي في العلم والفلسفة والمجتمع وقصائده في فضح الاحتلال العثمـاني والمرتبطين به سياسة وثقافة لم تمنعه من قـول الغزل والتفنن في وصف الطبيعة والتعايش الرومانسي مع القيم الجمـالية ..
وأعاد الشحـرور ألحــان وجــــد طــائراً مـن نهـد هنــاك لنهـــــــــد
بيـن نبت يضــور عرفــــاً وورد مـن خزامـى ويـاسمين ورنـــــــــد
وشقيــــق ونرجـــس وعـــــــرار
قرب جــورية يفـــــــوح شـذاهــا ذات لـــون مـن السمـــاء أتاهـــــا
في شعاع من الشمس طبق هواها قبلـت فــاه وهـو قبــــل فـاهــــــــا
لتــــلاق مـن بـعـد شحـط المـزار
إن حســن الربيـــع للعين فـاتـــن كـم بـه من زهـر كثيـر المحــاسن
غـير أن الزمـــان يـا قوم خــائن فـلأزهـــاره جمـــال ولكــــــــــن
هي آه قصيــــــــــرة الأعمـــــار
لقـد كانت للزهـاوي صداقات وعلاقات مودة انطـلاقـاً من أرضية التفاهم الفكري مع العديد من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية والنضـالية في مختلف بلدان العـالم .. لقد قـال في طاغور، شاعر الهند الكبير وشاعر الحب والسلام وكان له صديقاً .. وقـال في جبران خليل جبران وأحمد شوقـي وفي أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهـم .. كمـا كتب لعظمـاء راحلين، كمـا هي الحـال في المتنبي وتولستوي وفي المعري أيضاً حيث قال مؤكداً التأثر الكبير به:
إني تتلمـذت فـي بيتي عليك وإن أبلت عظـامك أدهـار وأزمــان
تتوج أعمــال الشاعر والفيلسوف الحكيم جميل صدقي الزهــاوي ملحمتــه الشعرية الخالدة (ثـورة جهنميــة – نزعــات الشيطــان – منكر ونكيــر) ..
ثورة أهــل الجحيــم ملهـاة حوارية شعرية خيـالية فلسفية واجتمـاعية ألفهــا وهو في بداية عقده السابع عـام (1929) يقـاوم بعنفوانه ملامح الشيخوخة التي داهمته والمرض وتباشير العجز بالمزيد من المرح وروح الفكــاهة والمجون، يعرض فيهـا رؤاه وفلسفتـه ونظرته للحيـاة وأدبهـا والنـاس ومعتقداتهم من خـلال سجـل زيـارته للجحيــم والنعيــم على طريقة أبي العـلاء المعـري في (رســالة الغفـران) ودانتـي في (الكوميديـا الإلهيـة) ..
لقـد أراد الزهــاوي، كمـا يقـول الأستـاذ أمين الريحــاني، أن "يشعل أنوار العقـل والعـدل والحب الإنسـاني على شواطئ الشك والتهكــم" .. و (ثـورة جهنميـة)، وإن كانت تشبه إلى حـد مـا رسـالة المعري أو كوميديا دانتي الإلهيــة أو الزوابـع والتـوابع لابن شهيــد الأندلسـي فإن لهــا خصوصيتها وشخصيتهــا المستقلة في التصوير والحوار والمرتكزات ارتباطـاً مع خصوصية المعايير وحدودهـا، فالمعنيون بالمكان وبالخطوات والجولات مسلمون يحاورهم ويحـاكمهم مـلائكة مسلمـون ..
وملحمة الزهـاوي هذه هي "أنفس أعماله وأحقهــا بطـول البقـاء" كمـا يقول أمين الريحــاني .. وتستحق أن تخصص لهـا الدراسـات، فليس من السهل أو العـدل استعراض كافة جوانبهـا في عمــل غير مستقـل ..
واختصاراً .. تبـدأ رحـلة الزهـاوي لحظة إيداعه في القبــر:
بعد أن مت واحتـواني الحفيــر جــاءنـي منكــــر وجاء نكيـــر
ملكــان اسطـــاعـا الظهـــور ولا أدري لماذا وكيف كان الظهــور
كنت في رقدة بقبــــري إلى أن أيقظـــاني منهـا وعاد الشعــور
فبـــــدا القبــر ضيقــاً ذا وخوم ما به للهــواء خـــرم صغيـــــر
إن تحت الأرض إلا قليـــــــلاً منزل المرء ذي الطموح الأخير
أتيا للســـؤال فظيـــــن حيـــث الميت بعد استيقــاظه مذعــــور
عـن أمـور كثيـــــرة قــد أتاها يوم كان في الأرض حيـاً يسيـر
خار عزمي ولـم أكن أتظنـــى أن عزميَ يـومــاً لشيء يخــور
. . . .
قال من أنت وهو ينظر شزراً قلـت شيــــخ في لحــده مقبـــور
قال مــاذا أتيــت إذ كنت حيــاً قلـت كـــل الذي أتيـــت حقيــــر
ليس في أعمــالي التي كنـت آتيهــا على وجه الأرض أمر خطير
كنت عبداً مسيـــراً غير حـــر لا خيـــارَ لـــــه ولا تخـييــــــر
مـا حبــوني شيئــاً من الحــول والقــدرة حتى أديــرَ مـا لا يـــدور
كان خيراً مني الحجـارة تثوى حيـث لا آمـــرٌ ولا مـأمــــــور
ويستمر الإستجواب الذي يتناوب فيه الملكـان بطرح الكثير من الأسئلة في جميـع مواضيع وفرائض الديــن وشروطه بـدءاً بالشهـادة والصلاة والصوم والزكــاة والحج وانتقــالاً إلى العقيدة والإيمـان بكل مــا جــاءت به رسـالة السمـاء .. وإذ أثقـــل الملكــان على الميت بالأسئلـة العديـدة المتتاليـة قــال:
قلـــت مهـــلاً يـا أيهــا المــــلك الملحـــف مهـــلاً فإن هـــذا كثيـــــر
كـان إيماني فـي شبــابي جمـــاً مـــا به نـــذرة ولا تقصيـــــــــر
غيـــر أن الشكـــوك هبـت تــلاحقنـــي فلــم يستقــر منـي الشعــــور
ثـم عـــاد الإيمــــــــــان إلى أن ســله الشيطــان الرجيـم الغرور
ثـم آمنت ثـم ألحـــدت حتـــــــى قيــــل هــــذا مـذبـذب ممــــرور
ثـم أنـي في الوقت هــذا لخـوفي لست أدري ماذا اعتقادي الأخير
ويتــابع الملكــان مهمتهمــا دون اكتـراث لخوف الميت وارتجــافه وترقبــه:
قال ماذا رأيت في الجــن قبــلاً ومن الجــن صــــــالح شريــــــر
ثم في جبـريلَ الذي هو بين الله ذي العـرش والرســــول سفيــــر
ثــم في الخنــاس الذي ليــس من ســواه في الحيــاة تخلــو الصـــدور
. . . .
قلـت لله مـا فـي السمـــاوات والأرض ومــــا بينهـــن خلـــق كثيـــــر
غيــر أني أرتاب فـي كـل ما قد عجــــز العقـــل عنــه والتفكيـــر
لم يكن في الكتاب من خطأ كـلا ولكــــــنْ أخطـــــأ التفسيـــــــــر
ويحين وقت السؤال عن المــرأة والحجــاب:
قـال هــل في السفـور نفع يرجـى قلت خير من الحجاب السفـــور
إنمـا في الحجــاب شــــــلٌ لشعب وخفــاءٌ وفي السفــور ظهــــور
كيـف يسمـو إلى الحضـارة شعب منه نصف عن نصفـه مستـــور
ليـس يأتي شعبٌ جـــلائـلَ مـالــم تـتـقـــدم إنــأثـه والذكـــــــــــــور
إن فـي رونـــق النهــــار لنــاسـاً لم يـُزلْ عن عيـونهـا الديجــــور
لعــل مـا جاء في هذه الأبيات القليلة من أكثر مـا قاله الزهاوي قوة وصراحة وإصـراراً على إرجـاع ضعف المجتمــع وتخلفــه إلى مسألة الموقف من المرأة لكونها جاءت في مواجهـة صريحـة مع ممثلين لثقـافة أحدُ أهم عنـاوينهــا عزلُ المـرأة عن المجتمـع والحط من قيمتهـا ودورهـا في الحيـاة .. فالميت في قبـره وأمـام التحقيق لـم يستطع المراوغة وإخفـاء قناعته بأن الموقف من المرأة يمثل الحـد الفـاصل بين من يريد لوطنه التحضر ولمجتمعه التطـور وبين أولئك الذيــن ما زال الديجـور يغطي عيــونهم ويعمي أبصـارهم ..
وجوابـاً على سؤاله حول الإيمـان بالله يجيب الميت رابطـاً الله بالكـون الفسيـح وبالطبيعة .. ولكنــه يؤكـد في نفس الوقت شكــه وحيرتـه:
قـال مـــاذا هو الله فهـل أنــــت مجيبي كمــا يجيـب الخبيـــــــر
قلــت إن الإلــه فوق منـــال العقــــل منــا وهــو العزيــز الكبيـــــر
إنه فـي الجبال والبــر والبـحر مــن الأرض والسمــاوات نـور
وهــو إن قال كــنْ لشــيء سيكــون الشـيءُ من فـوره فـلا تـأخيـر
إن هــذا مــا قــد تلقنتـــــــه والقلـــب مـن شكـــه يكـــاد يخــــــور
مـــا لكـل الأكــــوان إلا إلــــه واحد لا يــزول وهو الأثيـــــــر
ليـس بين الأثيــر والله فــــرقٌ في سوى اللفـظ إن هداك شعور
ويشكو الميت من كثـرة الأسئلة التي تحرجه وتزعجــه:
لا تكــونـا علـي فظيــــن فـي قبــري فإنيَ شيخ بعطـف جديـر
وإذا لــــم أرد لأُبْســط رأيي فـــي جـوابي فإننـي معــــذور
إن قول الحـق الصـراح على الأحرار حتى في قبرهم محظور
فدعاني في حفرتي مستريحاً أنا من ضـوضاء الحياة نفور
اتركاني ولا تزيــدا عنـــائي بســــــؤال فإنـــني مـــوتــور
لــم تصــن مـن جرأة المستبـــدين على الهالكين حتى القبور؟؟
ويحتـد الحــوار بين الميت والملكيــن فيعبـر عن غيظــه واحتجــاجه:
إنما سألتـمــاني عن أمــــور هي ليست تغني وليست تضير
ولماذا لم تسألا عن ضميري والفتـى من يعـفُ منه الضمير
ولماذا لم تسـألا عن جهـادي في سبيل الحقــوق وهو شهيـر
ولماذا لم تســألا عن زيادي عـن بـلادي أيام عــزَ النصيـر
ولماذا لم تســألا عن وفـائي ووفائي لمن صحبــت كثيــــــر
ولماذا لم تســـألا عن مساعي لإبطــال الشــر وهــو خطيــــــر
عـن دفــــاعي عن النســـاء عليهــن من الشقــوة الرجالُ تجور
وســلاني عما نظمـت من الشعــر فبـالشعــور يرتقي الجمهـور
وســلاني عن جعليَ الصدقَ كالصخر أساساً تبنى عليه الأمور
أسكوتٌ عن كـل ما هو حقٌ وسـؤالٌ عن كل ما هو زور؟!
وهنــــا ينهـي الملكــان التحقيـق ويصــلان إلى الإستنتــاج الخطيـــر:
قال ما أنــت أيها الرجس إلا مـلحدٌ قد ضل السبيـــل كفــور
مـا جزاء الذين كـُفــــروا إلا عــذابٌ مبــرح وإلا سعيــــــر
قـُضي الأمر فاستعـد لضرب منه تدمى بعد البطون الظهور
وتبدأ رحـلة العقــاب والعذاب:
وأمضاني بالمقــامع ضربــــاً كدت منه في أرض قبري أغور
ثـم صــبا فـــــوق رأســـــي قطــرانــــاً لســــــــــوء حظـي يفـــور
فشـوى رأسي ثم وجهي حتى بــان مثــل المجــدور فيـه بثـور
وأطــالا فـي عــذابـي إلى أن غاب وعيي وزال عني الشعـور
وإمعــانـاً في إذلال الميت وقهـره يذهب الملكــان به إلى الجنـة كي يشــاهد نعيمهــا فتزداد حسرته وندمـه في جهنــم:
ثم طارا بي في الفضاء إلى الجنة حتى يغرى بلومي الضميـــــر
وأســرا في أذن رضــوانَ شيئـــاً فــأباح الجــــواز وهو عسيــر
لمسـت إذ دخلتهــا الوجـهُ منــــي نفحة ً فـاح عطرها والعبيـــــر
أخذتنـــي منهــا المشــاهد حتـــى خـلـْت أنيَ سكـرانُ أو مسحور
جنة عرضها السماوات والأرض بها من شتـى النعيـــــم الكثيــر
فطعــــام للآكليـــــــــــن لذيـــــــذ وشراب للشـاربيـــن طهــــور
سمـك مقلـــي وطيــر شــــــــوي ولـذيـــــذ من الشــواء الطيــور
وبهــا بعـــد ذلكـــــم ثمــــــــرات وكـؤوس مليئـــــــة وخمـــــور
وبهــا دوحــة يقال لهــا الطوبــى لهــا ظــل حيث سـرتَ يسيـر
تـتـدلــى غصــونهـا فــوق أرض عرضها من كل النواحي شهور
وجـرت تحتهــــا مـن العســـل المشتــار أنهــار مـا عليهـــا خفيـــــر
ومــن الخمـرة العتيـــــقة أخـرى طعمهــــا الزنجبيـــل والكافــور
ومــن الألبــان اللذيـــذة مــا يشربـــه خلـــقٌ وهـو بعــــد غـزيـــــــر
كـــل مـا يرغبــون لهــم حـــلال كـــل مـا يشتهــــونـه ميســــور
وعلــى أرضهـــا ذرابـي َ قــد بثـــت حســــــــــانـاً كأنهـن زهـــــور
وعليهــــا أسـرة وفــــــــــــراش مثلمــا يهـوى المؤمنـــون وثيــر
وعـلى تلكـــم الأســرة حــــــورٌ فـي حلـــي لهـــا ونعــمَ الحـــور
ليس يخشيـن فـي المجانة عـاراً وإن اهتـــز تحتهـــن السريــــر
كل مـن صـلى قـائمــاً وتـزكــى فمـــن الحـــور حظـه مـوفــــور
ولقــد يعطـــى المـــرء سبعيــن حــوراءَ عليهــــن سندسٌ وحريـــــر
يتهــاديــن كـالجـُمـــان حسـانـاً فـوق صـــــرح كأنــــه البلــــور
إئت ما شئـت ولا تخــش بـأساً لا حـــــرامُ فيهـــا ولا محظـــور
ليس فيهــا مـوتٌ ولا مــوبقاتٌ ليس فيهـــا شمسٌ ولا زمهريـــــر
لا شتــاءٌ ولا خريفٌ وصيــفٌ أترى أن الأرض ليسـت تــــدور؟
جنـــةٌ فــوق جنة فوق أخــرى درجـــــــــاتٌ فـي كلهــن حبـــور
ولكن الجنــة ليست للميت الضيف وقـد جيء به إليهــا كـي يرى الفرق بينهــا وجهنـم حيث لا شيء ممـا رأى .. حتى ولا شربة مــاء تروي ظمــأه:
ولقــد رمـت شربــةً من نمير فتيممتــه ففــــر النميـــــــــــر
وكــأن الماء الــذي شئـت أن أشربه بـابتعـــاده مـأمـــــــور
وتذكـرت أنني رجــل جــيء بـه كي يُـراعى منه الشعـــور
أي حق في أن أنـال شــرابي بعــد أن صـح أننــي مثبــور؟
قلت عودا من حيث جئتماني إنمـــا هذه لهمــي تـُثيــــــــــر
وبانتهـــاء زيــارة الجنـة يتوجه الركب إلـى جهنـم يتعرف فيهـا الميت المحكـوم على سعير نـارهـا وألم العذاب في جحيـمها:
أخـرَجانيَ منهــا وشـدا وثاقي بنســـوع كمـا يُشـــد البعيـــر
ثـم قــامـا فـدليـاني ثــلاثـــــــاً في صميم الجحيـم وهـي تفور
وأخيـراً فــي جـوفهــا قذفا بي مثلمــا يقـذف المتــاع الحقيــر
لسـت أسطيــع وصـفَ ما أنا قـــد قــاسيـت منهــا فإنـه لعسيـــر
إنهـــا فـي أعماقها طبقــــــاتٌ بعضُهــا تحت بعضها محفور
وأشــدُ العذاب ما كان في الهــاوية السفلــى حيث يطغى العسيـر
الطعـــام الزقــوم فـي كل يوم والشراب اليحمـوم واليحمــور
ثـم فيـــها عقـارب وأفـــــــاع ثـم فيــها ضــراغـم ونمــــــور
لست أنسى نيـرانهــا مائجات تتلظــــــــى كأنهـــن بحــــــور
فـي جهنـم يلتقــي الزهــاوي شخصيــــــات افتخــر التـاريخ بهـم والعلـم والأدب .. شعراء وفـلاسفة وعلمــاء .. فها هم الفرزدق والأخطل وجريــر وإلى جـانبهم المعري والمتنبــي وشكسبيـر ودانتــي وغيرهم من أصحـاب العقـول ومـن المبدعيـــن:
ولقد أبصرت الفرزدق نضواً يتلـــوى ووجـهــــه معصــــور
وإلى جنبـــه يقـاسي اللظـــى الأخطلُ مستعبراً ويشكو جرير
ولقـد كــان آخـــرون حـواليــهم جثــــــــومـاً وكلــهم مـوتــــــور
منهـــم العـــالم الكبيـــر ورب الفــن والفيلســــوف والنحـريـــــر
لـم أشاهد بعـد التــلفت فيهــا جـــــاهلاً ليـس عنـده تفكيــــــر
إنمـــا مثـوى الجاهلين جنانٌ شاهقــاتُ القصـور فيها الحـور
ثـم حيــاني أحمــدُ المتنبــــي والمعــري الشيخ وهــو ضرير
وكلا الشاعرين بحــرٌ خضم وكــلا الشاعرين فحـــلٌ كبيـــر
ولقــد كــان يخنــق الغيــظ بشـــاراً وفي وجهــه الدميــم بثــــور
ويليـــهمْ أبـو نواس كئيــبــــاً وهـو ذلــك الممــراحة السكيــر
. . . .
وسمعـت الخيــام فـي وسط الجمــع يغنــي فيطــرب الجمهــــور
حبـــذا خمــرةٌ تـُعيـــن على النيــران حتى إذا ذكت لا تضيـــــر
اسقنــي خمــرة لعلــي بهــا أرجــع شيئــاً ممـــا سـبتني السعيــر
واصليـــني بـاللــــــه أيتهــا الخمــرة إنــي امــرؤ إليــك فقيــــــر
أنت لـــو كنـت فـي الجحيــم بجنبــي لم ترعني نار ولا زمهرير
ويتــابع الزهـــاوي رحلتـه في جهنــم وقــد خففت لقـاءاتـه بالعظمـاء مـن بني البشر مـن فلاسفة وشعراء وعلمـــاء قسوةَ الجحيــم ولظى نيــرانه. ثـم يروي لنــا كيف تجمهر النــاس حول سقراط وأفــلاطون وأرسطو وكـوبيرنيكوس ودارويــن وهيغــل وسبنسر ونيوتن وروسو وفولتيــر وزارادشت .. وابن سينــا وابـن رشد والراونـدي وغيرهــم .. وفي خطبة أمـام الجميع شرح سقراط مـاهية النـار ومنشأهـا مـُرجعاً تغذيتهـا وسعيرهـا إلى البترول الذي سينضب من بـاطن الأرض فينطفيء سعيرهــا:
ولقد تنضب العيـون فلا نار ولا ساعر ولا مسعـــور
ولـم يفت الزهـاوي تصوير احتجــاج أولئك الذين كـانوا أصلاً ضحـايا في الحياة فلمــاذا هم أيضـاً من نزلاء جهنــم، وقد كانوا بالجنة أجدر.. فجــاء هذا على لسـان مصطفـى الحــلاج الذي قـال:
لمْ شئت العـــــــذابَ لي ولمـــاذا لم تـُجــرني وأنت منه المجيـــر
كان في الدنيا القتلُ منهم نصيبي ونصيبي اليـومَ العـذابُ العسيــر
الشعـراء والفلاسفة والعلمــاء بعد أن طـاب لقاؤهـم وتباحثوا في شؤون النهـاية السيئة الذي آلت إليها أوضـاعهم تبادلوا الآراء والمقترحات لإيجـاد حل يريحهم من عذاب النار فخرج منهم حكيـم اخترع آلات عديدة وعتـاداً حربياً وآلـة تطفيء السعير:
مكثوا حتى جاء منهم حكيم باختراع لم تنتظــره الدهور
آلــة تطفـيء السعيـــر إذا شاء فلا تحرقُ الجســـومَ السعير
وأتـى آخــــرُ بخارقة يهلك فــي مـرة بهــــا الجمهـــــور
واهتدى غيـره إلى ما به الإنســان يخفى فلا يراه البصيــــر
اختراعات العلمــاء حفزت إلى درجــة كبيرة الشبابَ المظلومين والمقهورين والمعذبين وقـد امتلأت نفوسهم غيظـاً وحقداً وثـارت ثائرتهـم:
ولقد قام فـي الأخيــر فتى يخطب فيهـم والصـــوت منــه جهــــور
وأحــاطت به المـــلايـــــن يصغــون إليــه وكلهــم مـوتـــــــــــور
قــال يـاقـومنــا جهنــمُ غصت بالألـى يُظلمـــون منكم فثـوروا
قال يـاقومنــا أرى الأمـــر من ســـــوء إلى الأســوأ الأمض يسير
قـــال يـا قـوم إننا قد ظـُلمنــــا شــر ظلــم فما لنا لا نثــــــــور
فهــــــل الحـق أن يخلـــد فـي النـــار على الكفر ســاعةًً ً مجبــور
قـــال يـا قـوم لا تخــافوا فمـــا فـــــوق شرور تكـــابدون شــرور
اجســـروا أيهــا الرفـــاقُ فمــا نــال بعيــدَ الآمــــال إلا الجســـور
أنتــم اليــوم في جهنــمَ أسـرى وليكــن منـكم لكـــم تحــــــرير
أيهــــا النـــاس دافعــوا عن حقــوق غصبــوها والكاثر المنصـور
ألأهـــل الجحيــم بؤس وتعـس ولمن حل في الجنـان سرور؟!
ألنـــا أسفـل الجحيــــــم مقـــامٌ ولهم في أعلى الجنان قصور؟!
إن أهل القضـــاء ما أنصفوكـم فكـــأن القلــوب منهـــم صخور
قد خـدمـْنـا العلـــومَ شتــى بدنيانا فهل من حسن الجـزاء السعيــــر
فعلا من أهل الجحيـم ضجـيـجٌ رجـف الوادي منـــه والساعور
ولقد هاجوا في الجحيم وماجوا كخضــم مـرت عليــــه الدهور
أطفــأوا جمـرةَ الجحيـم فكـانت فتنـــةٌ مـا جرى بهـــا التقديـــر
ثورةٌ في الجحيــم أرجفت العـــرش وكـــادت منهــــا السماء تمور
وهنـــا تهتز مشــاعر الثـوري الأعمى وقـد حرضتـه أصوات الجمـاهير وهتـافاتها فتصدرَ الحشودَ محمـولاً على الأكتـاف يهتـف ويـردد الجمـاهير خلفـَه بحمـاس وجـرأة:
المعري:
غصبـوا حقكم فيـا قوم ثـوروا إن غصب الحقــوق ظلـم كبيـــــر
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحن للحقــــوق نثـــــــــــور
المعري:
لكــــم الأكـــواخ المشيـــدة بـالنـــار وللبلـْــه في الجنــان القصــــور
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحــن للحقــــوق نثـــــــــور
المعري:
إن خضعتم فما لكم من نصيب فـي طوال الدهور إلا السعيــــــر
الثائرون:
غصبـوا حقــنا ولم ينصفـونــا إنمـا نحــن للحقــــوق نثـــــــــور
وإذ عـم الغضب أطـراف جهنــم تحركت قوات الأمـن (الزبــانية) بدعـم من الملائكــة فاندلعت حرب ضروس بين الجمـاهير الغاضبة وزبانيـة النــار:
ولقــد أسرعــت زبانيــةُ النــــــــار إليهــم وكلهـــــــم مذعــــــــــور
يالها في الجحيم حرباً ضروسـاً ما لها في كل الحروب نظيـــر
ولقــد عـاضد الذكــورَ إنـــــاثٌ ولقد عاضد الإنــاثَ ذكـــــــور
ثـم جـاءتهـم الشيـاطين أنصاراً ومـا جيــش المـــاردين حقيـــر
ولقــد جــاء مـن ملائكـــة العــرش لإرجــاع الأمن جـــمٌ غفيــــــر
وتـــلاقى فـوق الجحيــــم الفريقـــان وهـذا نــــــار وهـذا نـــــــــور
وتستمر الحـرب ومعاركهـا التي تفتك بالمتحــاربين وتضاعفت حمية الجمــاهير المنتصرة واندحرت المـلائكـة المجنـدلة :
وقـد اهتــز عـــرش ربــــك مـن بعـــد سكـــون والدائـــــراتُ تــــدور
ولقــد كـــادت السمـــاء تهـــــــوي ولقـــد كـادت النجــوم تغــــــور
كـانت الحـرب في البــداء سجــال مــا لصبـح النصر المبين سفور
ثــم للنــاظريـــــــن بــان جليـــــاً أن جيش المــــلائك المدحــــــور
هزمـــوهم إلـى معـاقلهــم فـي الليـــــل حتــى بـدا الصبـــح المنيـــــــر
ولأهـــل الجحيـــــم تـــم بإنجـــاد الشيـــاطين في القتال الظهــــور
فاستراحوا من العذاب الذي كانوا يقـــــاسونه وجــــاء الســــــرور
ولــم يكتف أهل الجحيــم بدحر عدوهــم وإعلان النصر عليـه بـل هـم قرروا استخـدام الشيـاطين والذهــاب إلى الجنــة لاحتــلالهـا وطرد البلــه والمجــانين من ربـوعهـا .. فهــم بميزاتهـا أحق:
ثم طاروا على ظهور الشـياطين خفــــافاً كمـا تطير النســــــور
يطلبــون الجنــانَ حتى إذا مــــا بلغوهـا جـرى نضــــالٌ قصيـر
ثـم فـــــــازوا بهـــا وقـاموا بمـا يوجبـه النصـر والنهي والتدبير
طردوا من بها من البله واحتلوا القصور العليــا ونعــمَ القصـور
غير مـن كـانوا مصلحيـن فهـذا القسـم منهـم بالإحتــرام جديـــر
فـــر رضـوانُ للنجـــاة ومـن أتبــاع رضــــوانَ مســـرعاً جمهــــور
وأقــاموا لفتحهــم حفلــةً أعقبـها منهــــمُ الهُتــــــــاف الكثيـــــــر
إنـــه أكبـــر انقـلاب به جــادت علـــــى كـرها الطويــل الدهور
هكـذا تنتهي ثورة أهـل الجحيم التي قلبت المفـاهيم وقوانين الجنة وجهنـم رأسـاً على عقب .. وهكـذا تنتهـي ملحمــة الزهـاوي التي أراد لهــا أن تكون ملهــاة َ فلسفة الدنيـا والآخـرة بالمفهوم السائد في بلاده طـامحـاً لتضمينهـا مفاهيمه الثورية والإنسـانية وقنـاعاته العلميـة كــافة .. ولقد وصـل إلى مـا أراد فكـانت الملحمة الشعرية الفلسفية الوحيدة باللغة العربية واستناداً إلى أدب العرب ومعتقداتهم بعد رسـالة المعري ..
ثــورة أهـل الجحيـم ملحمـة ُ الأدب الثوري العربي في الربع الأول من القرن العشرين، حيث كانت ثورة البلاشفة وكــان ألقـُهـا وتأثيرهـا على البلدان الرازحة تحت نير الإحتـلال العثمــاني .. وقد اتصفت بيئة الكفاح من أجل الإستقلال بارتباطهـا الجوهري بالنضـال من أجل الحرية والتقدم الإجتمـاعي ومحاربة التخلف والرجعية وسيطرة الإقطـاعية ورأس المـال على المجتمع والتحكم بمظاهره وتكريس الأمية والتخلف والخوف من حرية الفكر ضمـانـاً لنفوذهم واستمرارية مصـالحهم .. لقد عبرت ملحمة الزهــاوي عن رفض ومعـارضة أكثر النـاس نزاهة وخـُلـُقـاً وعطـاءً ووطنيــة، من أدبــاء وعلمــاء وفنـانين وسياسيين ومثقفيـن ومنتجيــن عبر مـراحل التـاريخ، لثقـافـات الخوف والغيب والرجعية والتعصب والتقاليد الأسطورية وطقوسهـا ومـا تجلبه هذه الثقـافات من عبودية وأميــة واضطهاد وحرمـان وجـوع وتفش للأمراض الإجتماعية والفسـاد .. ومـا ينجم عنهـا من حيف وجـور:
إنما في الدارين عسف وحيف غيــر أن السمــاء ليست تمــور
فلنـــاس تعـاســــة وشقـــــــاء ولنـاس سعــــادة وحبـــــــــــور
اكتمـال الملحمة بانتصـار أهل الجحيــم، وكلهم من أهل الفلسفة والعلم والمعرفة والفن الإنساني الخـلاق، إنمـا يؤكــد ان من يبنـي الأوطـان وينعش أرضهـا ويحيي مجدهـا هم أولئك النـاس العقلاء والمخلصون، رجـالاً ونسـاءً ممن يوصفـون ظلمـاً بالكفار والمـارقين وهم الأكثر إيمـاناً بالعدالة والسلام والتطور وسعادة البشرية وهـم الأكثر عطـاءً واستعداداً للعمـل من أجل ذلك ..
ولا يتردد الزهــاوي، فنـاننا المرح واللطيف، وهو يودعنــا بعد انتصـاره ورفـاقه في معركة الفلسفة والمرأة والمجتمع، في مـداعبتنـا وإثارة الرغبة في الضحك بعد هذه الحرب المخيفة وهذه الآراء الجريئة إلى حد الخطـورة وإخبارنـا حقيقة الأمـر، فهو كـابــــــوس أصــابه بعـد وجبة دسمـة ليس إلا:
وتنبهــت من منامي صبــحـاً
فــإذا الشمـس في السمــاء تنير
وإذا الأمر ليس في الحق إلا
حلــم قـد أثــاره الجـرجيــــــــر