سماهر الرئيسي
اسمك أختصر كل معاني الحب ♥️
هي صبيّة لم تتجاوز العشرين من العُمر.. بهيّة الطّلعة.. ترتدي قميصاً موّرداً مناسباً للصيف.. كحل عينيها يتماشى تماماً مع المدينة الّتي أتت منها.. من البحر.. ومع لونِ شعرها الأسود
جلست أمامي في المقهى.. وقالت :
- أنا اليوم يا سيّدي الكاتب ما بدّي منّك شي.. بس شراب فنجان قهوة وعطيني ياه بس يخلص
- بس هيك؟ يعني ما بدك تحكيلي شي؟ تخبريني شي؟ تقوليلي شي قصة صايرة معك وبدك رأيي فيها؟
- لا لا أبداً.. فنجان القهوة بس.. وبعدو منحكي ما ورايي شي
- بالله جد؟ اجيتي من البحر لهون يوم واحد.. وآخدة موعد قبل بمدري قديش.. ومابدك تخبريني شي.. بس بدك اشرب فنجان قهوة؟
- وليش مستغرب؟ مو متعوّد تلتقي بغربا ؟
- مبلى.. بس بيكون هنن بدن شي مني بالعادة
- طيّب.. وهي كسرتلك القاعدة.. جيب فنجان القهوة لنشوف
أتى فُنجان القهوة.. شربتهُ على عجل :
- لا لا مو هيك.. شربو عمهل كأنك عم تفكّر بالنّص الجاية
وهكذا كان.. أعطيتها إياه وأنا أدعو أن لا يكون مافي بالي حقيقياً.. ولم يتحقق دُعائي.. قلبته على الصّحن الزجاجي وطلبت منّي الانتظار قليلاً.. لا بأس.. مضت بضع دقائق قبل أن تُرجع الفنجان إلى وضعه الطبيعي.. وتنظر إليه وتقول ما أن رأته :
- ليش دمعتك نازلة؟
- دمعتي أنا؟ إلي وقت عم ابتسم معك وين شفتي الدمعة.
- هون.. ليك..
ومدّت لي الفنجان وأشارت بأصابعها ذات الأظافر الحمراء إلى نقطة قهوة..
- هلأ بشرفك.. إلك ساعة عم تلفي واتدوري مشان تقريلي بالفنجان؟ من كل عقلك مصدقة اني لح اسمع لهيك تُرّهات.
- حلوة هي تُرّهات.. متل المثقفين.. انت خسران شي؟ اعتبر حالك عم تتسلى..
- موافق.. بس بشرط.. مارح احكي ولا شي
- يعني مارح تقلي إذا حكيي صح أو غلط؟
- لا.. ما بقول شي
- طيّب.. براحتك
كانت واثقةٌ بملكَتِها كثقة “الأميرة” بجمالها.. وكأنها ستعرفُ عنّي كُلَّ شيء من بقايا حبات القهوة في كعب الفنجان..
- في سمكات كتار
- شو يعني سمكات؟
- يعني في مصاري كتير
- روحي الله يبشرك بالخير.. هاد حكي بينسمع.
- روق..
وتابعت :
- في حياتكَ طير.. تُحبّه كثيراً.. هو أمانك لكنّك خائفٌ عليه.. وفي الحقيقة.. هو لا يمرُّ بوقتٍ جيّد.. لكن لا يمكنك أن تفعلَ له شيء سوى أن تُصلّي له.. صلّي لهُ كثيراً.
سادَ الصّمت.. حديثها بدأ يُصبح مثيراً للاهتمام..
- اسمع.. عانقهُ جيّداً واشبع منه.. ولو من بعيد.. هو بحاجةِ عناقك.. وهو الوحيد الّذي عرفك على حقيقتك.. عرفك الانسان وليسَ الكاتب.. كان عرابك ربما وكُنتَ تشاركهُ فرحكَ وحزنك.. هو بعيد منذ زمن.. لكنّه قبل أن يغادر أمّن عليك.. ذهب إلى سمائه وتركَ لك سماءك..
سكتت قليلاً.. وكأنها تقرأ في كتاب.. كُنتُ أتأملّها جيّداً.. من أين لهذه العشرينية الصغيرة أن تعرف كُلَّ هذا..
- ذئبك سيصيح.
- ؟؟
- الذئب.. بس يصير القمر بالسما بصيح.. وانت بس يصير الطير بالسما لح تصيح.
حسناً.. كلامها مُصاغٌ جيداً.. ولكنّي لم افهم.. هكذا فكرت.
- شو يعني؟ فسريلي أكثر
- ستعود وحيداً.. ذئباً شريداً.. وستصبح كائناً ليلياً.. تسهر كثيراً.. ولن تعرف إلى النّوم طريقاً.. (وكررت).. ذئبك سيصيح.. اه.. وستنجبُ صبيّاً.. سيُحبّك أكثر من ابنتك.. وستكسر القاعدة لأول مرّة وسيكون ابنك صديقك وليس فقط ابنتك.. في اسمِ الطائر حرف الزاي.. وهو طيرٌ مهاجر..
سيعود في نهاية الأمر..
- مهاجر؟
- نعم.. كالسنونو.. وسيعود في نهاية الأمر.. لا تقلق
سكتت طويلاً هذه المرّة.. كُنتُ أراقبُ يديها وهي تبدأ بالارتجاف.. بدا واضحاً التوتر على محياها..
- لح تكون بجمعة مافيك تلبس فيها هاد اللبس.. (كنت أرتدي زيّاً رياضياً).. ولح تكون أول واحد.. لح تكون حزين.. ولن تفيدك حتّى الصلاة.
- وماذا سيفيدني اذاً؟
لم تُجب.. وعاودت النظر إلى الفنجان.. لتقوم من مكانها فجأة وتقطع الحديث..
- أكملي يا فتاة.. ماذا بك؟
- لا شيء.. لا شيء.. هذه تُرّهات كما أسلفت.. تأخرت.
- مو قلتيلي ما وراكي شي؟
- ايه.. لا .. مبلى تأخرت..
وقامت على عجل..
خرجنا من المقهى.. سرنا قليلاً في شوارع دمشق فهي لا تعرف منها شيئاً.. اشترت نفاضة سجائر من القيمرية.. وأصرّت أن تُقنعني أن “البيتزا” هُنا شهية وأن الازدحام في باب توما لطيف وأن لافتات الحملات الانتخابية شرٌّ لا بدَّ منه.. كاد يفلتُ منّ ذهني الحديث.. لكن هيهات..
على باب الحافلة المُغادرة إلى البحر مسكتها من ذراعها وقرّبتها مني :
- لا.. مارح تطلعي قبل ما تقوليلي شو خبيتي عني.
عانقتني طويلاً لأشمَّ رائحتها لأول مرّة ولترتجف للمرّة الثانية.. وتهمسَ في اذني :
لن تعيشَ طويلاً يا سيّدي الكاتب.
وغادرت وأنا متسمرٌ في مكاني.. دون ان تنتظر مني حرفاً
التعديل الأخير: