رد: قوادح في العَقِيدَةِ ... الشيخ عَبْدِ اللَّـهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
قوادح في العقيدةِ
وإذا عرفنا هذه العقيدة وعرفنا آثارها فنعرف بعض القوادح التي تقدح في هذه العقيدة؛ إما أنها تنافيها أو تنقصها؛ حتى يتجنب ذلك المسلم المؤمن.
من القوادح: البدع؛ البدع تقدح في كمال التوحيد؛ أي البدع يعم البدع الاعتقادية والبدع العملية، وضابطها: كل شيء يخالف عقيدة المسلمين، ويخالف ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
« الخوارج »
حدث في عهد الصحابة بدعة التكفير، وهي مما يقدح في العقيدة؛ الخوارج صاروا يكفرون بالذنوب، ولذلك استحلوا قتال المسلمين؛ فكانوا بذلك مبتدعين يرون الذنب كفرا، يكفرون بالذنوب، ويعتقدون أن كل من عمل ذنبا وأصر عليه فإنه كافر، وهذه تقدح في العقيدة، وتقدح في التوحيد.
« إنكار القدر »
ومن البدع أيضا: بدعة إنكار القدر، وهي أيضا من القوادح تقدح في التوحيد، وتقدح في العقيدة، الذين ينكرون أن الله تعالى كتب المقادير في اللوح المحفوظ، أو علم ما يكون لا شك أنهم بذلك قدحوا في علم الله تعالى؛ قدحوا في علمه بالأمور المستقبلة، كالأمور الماضية؛ فيقولون: إن الله ليس بكل شيء عليم، إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، لا يعلم الحوادث حتى تقع، وحتى تحدث،
كذبوا بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[ سورة البقرة ، الآية : 282 ] مع أنها عامة، هذا أيضا من القوادح في العقيدة.
« إنكار قدرة اللَّـه عزّ وجلّ »
كذلك أيضا الذين ينكرون قدرة الله، الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء قدير، فهناك عقيدة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يقدر على كل شيء، وإنما يقدر على بعض الأشياء؛ ينكرون قدرة الله على الهداية والإضلال، ويقولون: العبد هو الذي يقدر، ولا يقدر الله تعالى أن يرده عما أراده، هذا أيضا قادح في العقيدة.
« الجبرية »
وكذلك أيضا الذين ينكرون شرع الله وأمره ونهيه، لا شك أن هذا قادح، وأنه بدعة وهم الذين يقولون: ليس للعباد قدرة على أفعالهم، وإنما هم بمنزلة المجبر؛ المجبور الذي ليس له اختيار، هذه عقيدة أهل الجبر؛ الجبرية، لا شك أيضا أنها تقدح في العقيدة؛ حيث إنهم يعتقدون أن العبد معذور، وأن العاصي مجبور على المعصية، وليس بملوم على ما يفعل من الذنوب، ويحتجون بالقدر، ويقول فيهم بعض العلماء:
وعنـد مـراد اللـه تفنى كَمَيِّـت * * * وعنـد مراد النفس تُسـدي وتُلحـد
وعنـد خلاف الأمر تحتج بالقضـا * * * ظهـيرا على الرحمن للجبر تزعـم
أي تدعي أنك مجبور، هذه أيضا من القوادح الذين يحتجون بالقدر، نمر على أحدهم، فنأمره بالعبادة فيقول: أنا ما هداني الله، نقول له: اسأل ربك الهداية، وافعل ما تقدر عليه، تصر على ترك الصلاة وعلى فعل المعاصي، وتقول: ما هداني الله، لا شك أنك بذلك تعتبر معاندا، ولو كان كذلك لما لمت من يعاقبك، معلوم أنه لو ضربه أحد لانتقم ولانتصر، ولم يقل: هذا سلطه الله علي؛ بل يرد ذلك بما يقدر عليه، وإذا كان كذلك فلا عذر له في أن يقل: ما هداني الله، أو حتى يهديني الله .
« ادعاء أن القرآن مفترى »
كذلك أيضا من البدع الاعتقادية: التكذيب بكلام الله تعالى، واعتقاد أنه مفترى، أو أنه قول البشر، كالذين قالوا: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[ سورة المدثر ، الآية : 25 ] أو قالوا : ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾[ سورة الأنعام ، الآية : 25 ]
أو ﴿ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى ﴾ [ سورة القصص ، الآية : 36 ] أو ما أشبه ذلك، كثيرون يدعون أن هذا القرآن من تأليف البشر؛ إما من قول محمد أو من اجتمع عليه مع غيره؛ ولذلك أنكر الله عليهم، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾[ سورة الفرقان ، الآية : 5 ]
من قال ذلك فقد كذب بأن القرآن كلام الله؛ فيكون بذلك قد قدح في عقيدته.
« خلق القرآن »
وكذلك من القوادح: من يقول: إن القرآن مخلوق، وليس هو كلام الله، وإنما هو خلق من خلقه، كما خلق البشر، كما خلق السماء والأرض، ليس هو كلام الله، لا شك أن هؤلاء أيضا قدحوا في عقيدتهم؛ وذلك بإنكارهم كلام الله، وفي ذلك تنقص؛ تنقص للرب تعالى؛ بأنه لا يتكلم.
« إنكار صفات اللَّـه تعالى »
ومن القوادح أيضا: إنكار صفات الله، الذين ينكرون أن الله سميع بصير، أن الله على كل شيء قدير، أن الله بكل شيء عليم هؤلاء أيضا قدحوا في عقيدتهم؛ لأن من أنكر ذلك فقد طعن في صفات الرب، وتنقصه تنقصا زائدا، ويظهر ذلك على كثير من المبتدعة الذين يعتقدون عقيدة المعتزلة وعقيدة الجهمية والمعطلة، وهم كثير، لا شك أن هؤلاء قدحوا، أو أتوا بما يقدح في عقيدتهم، وتفصيل ذلك موجود، والردود عليهم موجودة في كتب العلماء الذين ناقشوهم، والذين أثبتوا الأسماء والصفات، كما وردت مثل: كتاب الشريعة للآجري وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي والإبانة لابن بطة وغيرهم ممن توسعوا.
وكذلك أيضا كتب العلماء مثل: كتاب العقل والنقل لابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة لابن القيم ؛ فقد ردوا على هؤلاء، ومع الأسف أنهم لا يزالون يناظرون، ويكتبون، وينكرون الكثير مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويطعنون بذلك في كتب أهل السنة، فقرأت لبعض المتأخرين كلاما يطعن فيه على البخاري ويقول: إن صحيح البخاري فيه أكاذيب، وفيه مفتريات، ثم يمثل بحديث النزول الذي يقول فيه: « ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر » وكأنه يقيس نزوله على نزول البشر، وما علم أن هذه الصفات من الصفات التي يثبتها أهل السنة، ويتوقفون عن تكييفها، هذا بلا شك من القوادح في العقيدة إنكار صفات الله تعالى، إنكار صفة المجيء، والنزول الذي أثبته الله، وكذلك أيضا إنكار صفة العلو والاستواء الذي أثبته الله وأثبتته الأحاديث، ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا بلا شك من القوادح في العقيدة.
وهكذا أيضا الذين ينكرون أن الله تعالى متكلم، وأنه يتكلم إذا شاء، فيقولون: إن الله لا يتكلم، أو إن كلامه المعاني، ليس الألفاظ، وليس الحروف وما أشبه ذلك، هذه من القوادح في أمور العقيدة.
« بدعة الأعياد »
والبدع كما تعرفون كثير، وأما البدع العملية فكونها تقدح في العقيدة؛ لأن فيها تنقص للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومخالفة لأمره؛ فمثلا الذين يعملون أعيادا ليس لها أصل في السنة، يتهمون النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ما بلغ الدين كما هو، ما بلغ الشريعة، وأن الدين ليس بكامل، وأنه بحاجة إلى إضافات، كإحياء الموالد؛ المولد النبوي، وليلة الإسراء، وصلاة الرغائب، وقيام ليلة النصف من شعبان، وما أشبه ذلك من هذه البدع، هذه لا أصل لها، ومن دان بها فكأنه يطعن على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه ما فعلها، فيفضلون أنفسهم عليها، فيقولون: نحن عملنا هذا العمل الذي فيه حسنات والذي فيه أجر، والذي فيه ثواب وما أشبه ذلك، ينكرون في الحقيقة قول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[ سورة المائدة ، الآية : 3 ]
وينكرون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : « من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد » لا شك أيضا أن هذه من القوادح في العقيدة.
« السخرية بآيات اللَّـه وبعباده وبالنبيِّ [font=&]ﷺ »[/font]
وكذلك أيضا من القوادح في العقيدة: السخرية بآيات الله تعالى، وبكلامه، وبشيء من دينه، وبما أمر به؛ فإن هذا من أكبر ما يقدح في العقيدة، وأحب أن أتوسع في هذا لبعض المناسبات، فنقول: إن الله تعالى أنكر على الذين يتمسخرون بشيء من دين الله، أو بأسمائه أو بصفاته أو ما أشبه ذلك، وعابهم وكفرهم في آيات كثيرة، نذكر شيئا منها قال الله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّـهِ ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 211 ] إلى قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [ سورة البقرة ، الآية : 212 ]
أخبر بأنه زين لهم هذا الأمر الذي هو الدنيا، وأنهم مع ذلك يسخرون من المؤمنين، لا شك أن هذا دليل على أن السخرية من المؤمنين من صفات الكفار،
فمن سخر من المؤمنين فقد دخل في هذا الوعيد والعياذ بالله فيسخرون من الذين آمنوا ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
[ سورة البقرة ، الآية : 212 ]
إذا كان يوم القيامة فإنهم يكونون فوقهم، وأرفع منهم.
ومن الآيات أيضا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ سورة المطففين، الآيتان : 29 ، 30 ]
يضحكون منهم؛ بمعنى أنهم يتمسخرون من المؤمنين، ومن أعمالهم ونحو ذلك، وإذا مروا بهم يغمز بعضهم بعضا على وجه السخرية ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ *وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ [ سورة المطففين، الآيتان : 30 ، 31 ] إذا انقلبوا إلى أهلهم فإذا هم يضحكون، ويتفكهون بما يقدرون عليه من السخرية بهؤلاء الضعفاء في نظرهم وما أشبه ذلك.
وكذلك أيضا يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [ سورة المطففين ، الآية : 32 ] يضللون المؤمنين ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [ سورة المطففين ، الآية : 32 ] ؛
أي تائهون ضائعون، لا حظ لهم من الدنيا، ولا حظ لهم من الحياة التي نحن فيها؛ إنهم ضالون، قال الله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [ سورة المطففين ، الآية : 34 ] ؛ يعني في يوم القيامة يرفع الله تعالى المؤمنين، ويضحكون منهم، ويقولون: هؤلاء هم الأخسرون أعمالا ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ سورة الكهف ، الآية : 104 ]
هؤلاء المتمسخرون ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم على خير، وما علموا أن أعمالهم وسخرياتهم صارت وبالا عليهم؛ حيث إنهم ضحكوا من عباد الله تعالى، فجزاهم الله بأن كانوا سخرية للمؤمنين، يقولون: هذا جزاء من سخر بالله تعالى وبآياته.
وكذلك ذكر الله تعالى توبيخ أهل النار، الذين يدخلون النار، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [ سورة المؤمنون، الآيتان : 106 ، 107 ] يقول الله لهم: ﴿ اخْسَئُوا ﴾ ؛ يعني رد عليهم. ﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي ﴾ [ سورة المؤمنون، الآيتان : 108 ، 109 ] ؛ يعني المؤمنين حقا. ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [ سورة المؤمنون، الآيتان : 109 ، 110 ]
هكذا أخبر أن المؤمنين الذين ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [ سورة المؤمنون ، الآية : 109 ] أن أولئك الضالين يسخرون منهم، ويستهزئون بهم، ويضحكون من أفعالهم ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [ سورة المؤمنون ، الآية : 110 ].
هذا الضحك أورثهم أن الله تعالى يقول لهم: ﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ لما كانوا يستهزئون بعباد الله الصالحين، وقد ذكر الله تعالى أن أهل النار يسخرون من أهل الجنة ويفقدونهم، قال الله تعالى عن أهل النار: ﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ﴾ [ سورة ص ، الآية : 62 ] ؛
يعني أين أولئك الذين كنا نعدهم من الأشرار، ونعدهم من الخاسرين؛ يعنون بذلك أهل الخير ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴾ [ سورة ص ، الآية : 63 ]
كنا نسخر منهم ونعدهم من الأشرار، ما لنا لا نراهم معنا في النار؟ ذلك لأنهم رفعهم الله تعالى، وثبتهم وأثابهم؛ فدل على أن هذا الاستهزاء وهذه السخرية من القوادح في العقيدة، وقد تصل إلى حد الكفر، الذين يسخرون بآيات الله، أو يسخرون بكلامه، أو يسخرون بعبادته، أو بعباده الصالحين، أو نحو ذلك لا شك أنهم يستحقون هذا الوعيد، أن الله يقول لهم :
﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إ * ِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [ سورة المؤمنون ،الآيات : 108 ، 109 ، 110 ].
يدخل في ذلك الذين يستهزئون بالمصلين، أذكر أني أمرت أحدهم بالصلاة، فقال: تنفعك صلاتك -نعوذ بالله-؛ يعني استهزأ بالمصلين واستهزأ بالصلاة، وقال: كيف تنفعك صلاتك؟ ما نفعت صلاتك، خليها تنفعك لا شك أن هذا يعتبر استهزاء بهذه العبادة التي فرضها الله وجعلها ركنا من أركان الإسلام، وكذلك أيضا الذين إذا رأوا الذين يذهبون إلى المساجد سخروا منهم، لا شك أن هذا أيضا من الاستهزاء بالشرع.
وهكذا أيضا الذين يسخرون من المتصدقين الذين يتصدقون بما رزقهم الله تعالى تكون عاقبتهم أنهم يدخلون النار -والعياذ بالله- على هذا، ذكر في تفسير قول الله تعالى: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ [ سورة الصافات ،الآيات : 50 ، 51 ، 52 ] قرأ هذا إنه لمن المصدِّقين أنه كان يسخر منه لما رآه يتصدق بأمواله التي أعطاه الله، والتي تفضل بها عليه، فلما كان في الأخرة دخل ذلك المستهزئ الذي يقول: أئنك لمن المصدِقين أو لمن المصدِّقين دخل النار، فيقول:
﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ *يَقُولُ أئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ *أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [ سورة الصافات ،الآيات : 51 ، 52 ، 53 ] ثم ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾ [ سورة الصافات، الآيتان : 54 ، 55 ] ؛ فأطلع في النار فعرفه، وقال: هذا هو صديقي الذي يسخر مني، فيقول: ﴿ أئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ [ سورة الصافات ، الآية : 52 ] أو لمن المصدِّقين.
كذلك أيضا في سبب نزول قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّـهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ سورة التوبة ، الآية : 79 ] قالوا: إن أولاء بعضا من أولئك المستهزئين رأوا إنسانا تصدق بصدقة بمال كثير، فقالوا: هذا مرائي؛ فهذا معنى ﴿ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين ﴾.
وجاء رجل بصدقة قليلة، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا؛ فأنزل الله: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّـهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هذا جزاء الذين يسخرون من المؤمنين ويلمزونهم ويعيبونهم بما هو حق أن يمدحوا به، وقد توعد الله تعالى على ذلك بالويل في قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [ سورة الهمزة ، الآية : 1 ] ؛ يعني أنه يستحق الويل. همزة؛ يعني يهمز ويلمز، ومثل ذلك قوله تعالى :
﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [ سورة القلم ، الآية : 11 ] ؛ يعني أنه يهمز؛ يعني يعيب ويخذل ويعيب ويسخر، وهذا من عيب هؤلاء، وقد ذكر في تفسير قول الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ [ سورة التوبة ، الآية : 65 ] أن بعضا من المنافقين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات، فجاء رجل منهم فقال: إنما كنا نتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليه، يقول: ﴿ أَبِاللَّـهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [ سورة التوبة، الآيتان : 65 ، 66 ] .
أثبت أن لهم إيمانا، وأن هذه الكلمة صارت سببا في كفرهم لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا، ويريدون بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين جاهدوا معه، فيقولون: إنهم ليس لهم هم إلا بطونهم وفروجهم، وكذلك أيضا أنهم جبناء؛ يعني ليسوا جريئين في القتال أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء؛ فكان ذلك سببا في أن الله تعالى كفرهم، وحكم بأنهم كانوا مؤمنين فارتدوا وكفروا بعد إيمانهم.
وإذا عرفنا ذلك، فنقول: إن هذا يقع كثيرا وهو من أكبر القوادح في التوحيد، وفي العقيدة؛ حيث إن كثيرا لا يتفقدون الكلمة التي يتكلمون بها، فيذل بها أحدهم ولا يشعر بأنها تبلغ ما بلغت من الإثم، ومن الكفر -والعياذ بالله-؛ فكثيرا ما يحقد أحدهم فيسب الدين، ويسب العبادات، وما أشبه ذلك، وربما أيضا يضيفوا الدين إلى ذلك الذي يريدون سبته، فيقول أحدهم -والعياذ بالله- لعن الله دينك، أو لعن الله الدين الذي تفتخر به، أو تقتدي به، أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا من أكبر القوادح في الشريعة ونحو ذلك.
وهكذا أيضا الاستهزاء بكلام الله تعالى، والسخرية منه، كما ذكر عن الذين يجعلون القرآن شعرا، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ سورة الحاقة، الآيتان : 41 ، 42 ] فالذين يجعلونه شعرا، أو كهانة، أو سحرا، أو نحو ذلك قد كذبوا الله تعالى وكذبوا نبيه -صلى الله عليه وسلم- .
وهكذا أيضا من القوادح: السخرية بكلام الله تعالى، واتخاذه مثلا لهوا أو لعبا أو غناء أو مطربا أو نحو ذلك، كالذين يغنون بالقرآن؛ يعني يجعلونه غناء كالقصائد التي يغنى بها، فيضربون الطبول على ذلك، لا شك أن هذا أيضا قادح من أكبر القوادح في دين الله تعالى وفي العقيدة التي يعقد عليها قلب المؤمن؛ وذلك لأنه سخرية بكلام الله تعالى، الله أنزل هذا القرآن، وأمر بتلاوته، وأمر بتدبره وبقراءته، قال الله تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [ سورة العنكبوت ، الآية : 45 ] أمر بتلاوته؛ يعني قراءته، وأمر باتباعه بقوله: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [ سورة الأعراف ، الآية : 3 ] اتبعوه لعلكم تهتدون، أمرنا بأن نقرأه وبأن نتدبره وبأن نتبعه، فمن جعله شعرا أو غناء فقد جعله محل سخرية واستهزاء؛ فيكون بذلك ممن قدح في دينه، وقدح في عقيدته، وتعدى حده.
وكذلك أيضا من سخر بشيء من آيات الله تعالى، أو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر عن بعض الكتاب أنه كتب مرة يطعن في النبي -صلى الله عليه وسلم – ويقول: إنه بدوي، إنه كان يرعى الغنم، وأنه عاش في عهد ليس فيه تقدم، وليس فيه كذا وكذا، ولا شك أن هذا طعن في الدين؛ لأن هذا الدين جاءنا من قبل هذا النبي الكريم؛ فمن طعن فيه بأنه جاهل، أو بأنه بدوي لا يعرف شيئا، أو بأن هذا الذي جاء به من محادثة فكره، أو أنه مما خيل إليه، أو أنه يريد بذلك أن يكون له شهرة وأتباع ونحو ذلك؛ يعتبر قد كذب على الله، وكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بهذا الدين الشرعي، وكذب القرآن، وكذب الشرع كله، لا شك أن هذا أيضا قادح في الدين، قادح في العقيدة، وهو ما ذكر في هذه الآية: ﴿ قُلْ أَبِاللَّـهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ سورة التوبة ، الآية : 65 ] ؛ يعني الاستهزاء بالله تعالى الاستهزاء بأسمائه وصفاته، وكذلك الاستهزاء بكلامه والتنقص له؛ داخل أيضا في القوادح في الدين.
وكذلك أيضا الاستهزاء بالقرآن، كما ذكر الله تعالى عن الكفار الذين قالوا: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ [ سورة الفرقان ، الآية : 4 ] والذين قالوا: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [ سورة النحل ، الآية : 103 ] هؤلاء بلا شك أتوا بما يقدح في عقيدتهم وفي دينهم؛ فلأجل ذلك جعل الله مقالتهم مقالة كفرية، وكذلك أيضا هؤلاء الذين قدحوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إنه جاهل، أو إنه بدوي أو ما أشبه ذلك.
فنتذكر قبل نحو أربعين سنة أو قريبا منها أن هناك صحيفة يهودية سخرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصورت صورته بصورة ديك، وقالوا: تحت هذه الصورة ده محمد أفندي المتجوز تسع؛ يعني على وجه السخرية أنه ليس له هم إلا بطنه وفرجه؛ ومع الأسف فإن هذه الصورة نقلتها أيضا صحيفة من صحف العرب، وإن لم يكونوا مسلمين؛ يعني حقا إلا مجرد التسمي فنشروها على أنها واقعية، لا شك أن هذا يعتبر كفرا وردة عن الإسلام -والعياذ بالله- إذا سخروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقد سخروا بالقرآن، وقد سخروا بالشريعة التي جاء بها، وقد سخروا بالتوحيد، وقد سخروا بالإسلام؛ فيكون ذلك تنقصا بهذا الدين كله، فأي قادح أكبر من هذا القادح الذي هو يقدح في دين الله تعالى، ويقدح في التوحيد، ويقدح في الإسلام كله؟
وكذلك أيضا يهدف كثيرا من السخرية والاستهزاء بآيات الله تعالى؛ الاستهزاء بشيء من أوامره ونواهيه، أو من أخباره؛ لأن الإيمان الكامل هو الإيمان بما أخبر الله تعالى به من الأمور الغيبية، فمن كذب بعذاب القبر مع ما ورد فيه من الأدلة فقد قدح في معتقده، ولو كان هذا من الأمور الغيبية يجب أن يؤمن به الإنسان، أن يصدق بأنه حق، كما وردت أدلته كثيرة وإن كنا لا نشاهده.
وكذلك أيضا من قدح في كتب الله المنزلة التي أنزلها على أنبيائه، ولم يؤمن بها حق الإيمان قدح ذلك أيضا في عقيدته، وكذلك من قدح أو أنكر شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه، أو استهزأ بأحد من الرسل الذين أرسلهم إلى أممهم، والذين أنزل عليهم شرائعه من كذب أحدا منهم فقد كذبهم جميعا، والدليل قول الله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ سورة الشعراء ، الآية : 105 ] ؛ مع أنهم ما كذبوا إلا نوح فذكر أنهم كذبوا المرسلين، وكذلك بقية الأنبياء من كذب واحدا فقد كذب بالجميع.
« الطعن في الصَّحَابَةِ »
وهكذا أيضا لا شك أن من القوادح في العقيدة: القوادح في نقلتها، نقلة العقيدة، ونقلة الشريعة من هم؟ هم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الواسطة بيننا وبين الله، بأي شيء، من أي طريق أتانا هذا القرآن؟! ومن أي طريق عرفنا هذه الأحاديث؟! ومن أي واسطة عرفنا هذه الأحكام؟ والحلال والحرام إلا بواسطة صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدح فيهم وعابهم فقد عاب الدين، وقدح في الإسلام كله؛ فإنه جاء بواسطة هؤلاء، من أين عرفنا أن الله تعالى أرسل هذا الرسول؟! إلا بواسطة الصحابة، هم الذين قالوا: إن الله تعالى أرسله، وأنه أجرى على يديه هذه المعجزات وهذه البراهين ونحوها، فمن قدح في الصحابة فقد قدح في النبي -صلى الله عليه وسلم -.
يتبع....