سما العراق
Well-Known Member
- إنضم
- 28 يونيو 2020
- المشاركات
- 13,633
- مستوى التفاعل
- 52
- النقاط
- 48
فرق بين من يتهيّأ لأمرٍ ما قبل حلوله ووقوعه فيعدّ له عدته، ويتهيأ التهيؤ اللازم لاستقباله ومواجهته، وبين مَنْ يجد نفسه فجأة في غمار ذلك الأمر وإرباك مباغتته.
فالأول سيواجه الأمور مواجهةً مدروسة فاعلة إيجابية تستفيد من كل مفرداتها وتوظّف كل معطياتها بما يثري وجوده ووجود الآخرين من حوله مواجهة تتفجر من خلالها طاقات الإنسان الكبيرة الخيّرة التي تشكل مشروعاً ضخماً يجسّد من خلاله خلافة الله تعالى على هذه الأرض في أبهى صورها، مستفيداً مما وهبه الله تعالى من قابليات، وحباه من إمكانات، بعد الدخول في محاسبة دقيقة وموازنة متأنية لمفردات الحدث وأدوات توظيفه.
أما الثاني فسيهجم عليه الحدث، وستقتحمه الأمور وتتقاذفه تقلباتها وسيغدو محكوماً لها بعد أنْ كان متحكماً فيها، وسيجُرى به وإنْ كان ساكناً، وربما وجد نفسه في نهاية الشوط خالي الوفاض، مضيِّعاً لما كان ينبغي أن يسعى إليه من الطموحات والأغراض.
وينطبق ما تقدّم على كيفية استقبالنا لشهر رمضان الكريم وتعاطينا معه فمن تهيّأ لشهر الله العظيم التهيؤ المناسب، واستقبله الاستقبال الملائم، كانت استفادته من الشهر أكبر، ومكاسبه منه أوفر، ومن دخل عليه الشهر الكريم وهو في غيابٍ عن انتهاز عظيم الفرصة، أو كسلٍ عن الاستفادة منها فلن يضيف إلى رصيده غير القليل أو الحسرة على تضييع فرصة الفرص والتزوّد من المائدة الإلهية التي دعا الله تعالى إليها عباده واستضافهم ليكرمهم أيما إكرام.
ومن الغريب المؤلم أنه وبرغم القناعة النظرية بكون شهر رمضان يمثل فرصة الفرص، وغنيمة الغنائم، وبكونه أفضل الشهور، وأعمّها بركة، وأوفرها خيراً، فهو- كما عن النبي صلى الله عليه وآله – شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب (۱) فلا يختلف من المسلمين اثنان – نظرياً – في كون هذا الشهر أفضل شهور السنة، ولا في كونه فرصة لا يمكن أن يعوّضها مَنْ ضيّعها.
ولكنهم يختلفون ويتخلّـفون- عملياً – في الاستفادة من بركات هذا الشهر العظيم، وهنا تكمن المفارقة المُـفجعة، فمع الإيمان النظري الراسخ بعظمة شهر الله، الذي يمثل استضافةً لنا من ملك الملوك، ومائدةً من عظيم موائده الشريفة بسطها لعباده الفقراء إليه، ليتزوّدوا من خيرها، ويُصنعوا على هديها كباراً في الفكر، أنقياء في الشعور، عمالقة في العمل، إلا أن الواقع العملي يخالف هذه القناعة النظرية.
فنجد الكثير منا يتهيّأ التهيؤ التام، ويُعدّ العـدّة الكاملة، حينما يعلم باقتراب حلول موسم من المواسم الدنيوية كـ (موسم التخفيض)، فلا يلوح في الأفق إلا وقد تهيـّـأ له التهيؤ التام، سواء من ناحية المادة والمال أم من ناحية التفرّغ والوقت، ويأتي شهر الله تعالى فلا يُستقبل الاستقبال اللائق به وكأنه ضيف ثقيل الظل نتمنى رحيله لثقله على أنفسنا، نصاحبه بالكسل والفتور عن التزوّد من زاد الآخرة، ونفارقه فرحين بتصرّم أيامه، وقد كان أولياء الله تعالى يتمنون أن يكون العمر كلّه رمضان، فإذا انقضى فارقوه بالدموع الغزيرة، والحسرة المريرة (۲).
وفي الدعاء عن الإمام زين العابدين (ع) ما يشير إلى هاتين الحالتين من كيفية التعاطي مع شهر رمضان والتعامل معه حيث يقول: “اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ”. ويقول(ع): “السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيفٍ آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ….”. السلام عليك من مطلوب قبل وقته، و محزونٍ عليه قبل فوته “السَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنَّا وَكَمْ مِنْ خَيْر اُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا….”.؟ “السَّلاَمُ عَلَيْكَ ما كَانَ أَحْرَصَنَا بالأمسِ عَلَيْكَ وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ. السَلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاض مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ”. (۳).
فنجد بأن الإمام (ع) يشير إلى أن أولياء الله تعالى يطلبون الشهر، ويتشوّقون إلى قدومه قبل مجيئه، ويحزنون على فراقه قبل فراقه وانقضائه، وهذه حالة راقية عزيزة المنال، أنتجتها المعرفةُ بفضل الشهر العظيم، ومكانته الكبيرة وعوائده التي لا تحصى والتي لا تتوفّر في غيره من شهور السنة، والشعور الدائم بالتقصير في استثمارها برغم كل الجهد المبذول من قِبَل أولياء الله تعالى في استثمارها، وأن نعمة الشهر وما تحفّها من نفحات ستفارقهم أو يفارقونها وهذا ما جعلهم يحزنون.
يتشوّقون إلى عودته وهم لا يزالون في أواخر أيامه فكيف بهم إذا انقضى عنهم وفارقوه؟!! وما أبعد ما بين حال مَن يصحب الشهر الكريم مصاحبة الحبيب لحبيبه الذي انتظره بلهفةِ الشوق، وفارقه بمرارةِ الفقد، وبين مَن صحب الشهر مصاحبةَ ضيفٍ ثقيلِ الظل نزل ثقيلاً غير مرغوبٍ فيه، وارتحل غير مأسوفٍ عليه، أو مسرور بمفارقته؟!! فما أبعد ما بين مشاعر الفريقين وسلوك الفريقين وعواقب الفريقين.
من هنا تنبع أهمية الحديث عن التهيئة لشهر رمضان الكريم، فالحديث عن التهيئة لشهر رمضان هو حديثٌ عن كيفية الاستفادة من الفرص العظيمة، حديث عن كيفية التخرّج من مدرسة الشهر العملاقة، حديث عن كيفية التعاطي مع المائدة التي بسطها الرب الكريم لعباده الفقراء، حديث عن استضافة المولى العظيم لعبيده وكيفية استغلال العبيد هذه الضيافة بما يعود عليهم بالخير في دنياهم وآخرتهم استغلالاً للرحمة الكبرى والنفحات العميمة، فالتهيِّئة لاستقبال شهر رمضان ضرورةٌ يفرضها الوعي، وحاجةٌ مُلحّة يُلزم بها الحضور، وتُمليها اليقظة.
الكاتب: الشيخ فاضل صالح دهنيم - بتصرف