[align=center][tabletext="width:80%;background-color:black;"][cell="filter:;"][align=right]
[/align][/cell][/tabletext][/align]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
سورة الصف
سبب النّزول
ذكر المفسّرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ بتفاوت يسير فيما ذكروه، و ممّا جاء في أقوالهم ما يلي:
1- أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا العدوّ لن نفرّ و لن نرجع عنهم، إلّا أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم «احد» حتّى شجّ وجه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كسرت رباعيته المباركة.
2- بعد بيان البارئ عزّ و جلّ الثواب العظيم لشهداء بدر، قال بعض الصحابة:
ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة، إلّا أنّهم فرّوا في غزوة أحد، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.
3- دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم اللّه إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها و لم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم اللّه سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص و الجهاد في سبيله) إلّا أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه، و تعلّلوا فنزلت الآية تلومهم و توبّخهم على موقفهم هذا .
التّفسير
المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع: اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح اللّه في بدايتها: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ .
و لم لا يسبّحونه و لا ينزّهونه من كلّ عيب و نقص: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القدير الذي لا يقهر و الحكيم المحيط بكلّ شيء علما.
إنّ الالتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات، الذي يتمّ بلسان الحال و القال، و كذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها و الذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم .. من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب، و من شأنه أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.
ثمّ يضيف البارئ عزّ و جلّ في معرض لوم و توبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ .
و على الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقا بالجهاد في سبيل اللّه، و ما حدث من فرار في غزوة احد، و لكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي تعرّضت له، و بهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل و يستحقّ اللوم و التوبيخ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.
و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان و المنافقون، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون، و لكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل و أعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.
ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر و الادّعاء بالشجاعة، و لكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلّا و نلاحظ الهروب و النكوص و الابتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.
إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله و أعماله و كلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.
«المقت» في الأصل: (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) و كان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه. و في الجملة السابقة نلاحظ اقتران مصطلح «المقت» مع «الكبر»، و الذي هو دليل أيضا على الشدّة و العظمة، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا و لا يقرنونها بالأعمال.
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان: فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله، و بين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.
فالأوّل دليل النفاق، و الثاني دليل ضعف الإرادة .
و توضيح ذلك أنّ الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما، و لكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.
و على كلّ حال، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد، سواء تعلّق بنقض العهود و الوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتّى أنّ البعض قال: إنّها تشمل حتّى النذور.
و نقرأ في رسالة الإمام علي عليه السّلام لمالك الأشتر أنّه قوله : «إيّاك .. أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك .. و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس، قال اللّه تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» .
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّه عليه السّلام قال: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض، و ذلك قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ .
ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي، و هي موضوع الجهاد في سبيل اللّه، حيث يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ .
و نلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده، و يتجسّد فيه- كذلك- الاتّحاد و الانسجام التامّ و التجانس و الوحدة، كالبنيان المرصوص.
«صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلّا أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).
«مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص، و لأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه و جعله قويّا و متينا للغاية، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي و محكم.
و المقصود هنا أن يكون وقوف و ثبات المجاهدين أمام العدو قويّا راسخا تتجسّد فيه وحدة القلوب و الأرواح و العزائم الحديدة و التصميم القوي، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل ..
يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحا مقصود هذه الآية: «يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول» .
وجاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام أنّه عند ما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين، قال: «إنّ اللّه تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و على هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص، و قدموا الدّارع، و أخّروا الحاسر، و عضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام، و التووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، و غضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش، و أسكن للقلوب، و أميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، و رايتكم فلا تميلوها و لا تخلوها، و لا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم ...».
ضرورة وحدة الصفوف
إنّ من العوامل المهمّة و المؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام و وحدة
الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، و هذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية و السياسية .. و إلّا فسوف لن نحقّق شيئا.
إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم و مدمّر لا يسيطر عليه إلّا من خلال سدّ حديدي محكم، تشبيه في غاية الروعة و الجمال، و التعبير بأن يكون المؤمنون ك (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد، و ممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم، دور معيّن في مواجهة السيل، و هذا الدور مهمّ و مؤثّر على جميع الأجزاء، و في حالة قوّته و تماسكه و عدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، و إذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.
و ممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم، و استبدلت حالة الوحدة و التراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت و التمزّق، و أصبحت صفوفنا شتّى، و كلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا و تفرّق جمعنا.
إنّ وحدة الصفّ ليست شعارا إعلاميا، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة و التصورات و الأهداف .. و هذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا و الالتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة، و اعتماد التربية الإلهية في السلوك و المنهج العلمي السليم.
و إذا كان البارئ عزّ و جلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه و غضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة و مشتّتة و نتيجته هو ما نراه الآن متجسّدا في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية و عددنا يربو على المليار مسلم.
الأقوال المجرّدة عن العمل
يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب و ما تضمره الروح، و إذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب و إرادته. فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق، و المنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر و الروح.
إنّ من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها و عدم الاطمئنان فيما بينها، و أمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام و الادّعاءات الفارغة من المحتوى العملي، و أداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون، و بذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الانسجام و الوحدة و التماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكّلون عاملا للضعف و التباغض و عدم الاحترام و تضييع الإمكانات و سقوط هيبتهم أمام الأعداء.
عند ما أغار جيش الشام على حدود العراق، و وصل خبر ذلك إلى الإمام علي عليه السّلام خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها: «أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، و فعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت و كيت، فإذا جاء قلتم: حيدي حياد».
و الإمام عليه السّلام يتحدّث هنا بألم عن أهل العراق، و هذا ما تعكسه كلماته التي تشير الى التفاوت بين أقوالهم و أعمالهم.
و نقرأ عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «يعنى بالعلماء من صدق فعله قوله، و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم».
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
سورة الصف
سبب النّزول
ذكر المفسّرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ بتفاوت يسير فيما ذكروه، و ممّا جاء في أقوالهم ما يلي:
1- أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا العدوّ لن نفرّ و لن نرجع عنهم، إلّا أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم «احد» حتّى شجّ وجه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كسرت رباعيته المباركة.
2- بعد بيان البارئ عزّ و جلّ الثواب العظيم لشهداء بدر، قال بعض الصحابة:
ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة، إلّا أنّهم فرّوا في غزوة أحد، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.
3- دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم اللّه إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها و لم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم اللّه سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص و الجهاد في سبيله) إلّا أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه، و تعلّلوا فنزلت الآية تلومهم و توبّخهم على موقفهم هذا .
التّفسير
المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع: اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح اللّه في بدايتها: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ .
و لم لا يسبّحونه و لا ينزّهونه من كلّ عيب و نقص: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القدير الذي لا يقهر و الحكيم المحيط بكلّ شيء علما.
إنّ الالتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات، الذي يتمّ بلسان الحال و القال، و كذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها و الذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم .. من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب، و من شأنه أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.
ثمّ يضيف البارئ عزّ و جلّ في معرض لوم و توبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ .
و على الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقا بالجهاد في سبيل اللّه، و ما حدث من فرار في غزوة احد، و لكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي تعرّضت له، و بهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل و يستحقّ اللوم و التوبيخ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.
و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان و المنافقون، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون، و لكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل و أعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.
ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر و الادّعاء بالشجاعة، و لكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلّا و نلاحظ الهروب و النكوص و الابتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.
إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله و أعماله و كلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.
«المقت» في الأصل: (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) و كان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه. و في الجملة السابقة نلاحظ اقتران مصطلح «المقت» مع «الكبر»، و الذي هو دليل أيضا على الشدّة و العظمة، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا و لا يقرنونها بالأعمال.
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان: فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله، و بين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.
فالأوّل دليل النفاق، و الثاني دليل ضعف الإرادة .
و توضيح ذلك أنّ الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما، و لكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.
و على كلّ حال، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد، سواء تعلّق بنقض العهود و الوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتّى أنّ البعض قال: إنّها تشمل حتّى النذور.
و نقرأ في رسالة الإمام علي عليه السّلام لمالك الأشتر أنّه قوله : «إيّاك .. أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك .. و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس، قال اللّه تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» .
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّه عليه السّلام قال: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض، و ذلك قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ .
ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي، و هي موضوع الجهاد في سبيل اللّه، حيث يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ .
و نلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده، و يتجسّد فيه- كذلك- الاتّحاد و الانسجام التامّ و التجانس و الوحدة، كالبنيان المرصوص.
«صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلّا أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).
«مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص، و لأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه و جعله قويّا و متينا للغاية، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي و محكم.
و المقصود هنا أن يكون وقوف و ثبات المجاهدين أمام العدو قويّا راسخا تتجسّد فيه وحدة القلوب و الأرواح و العزائم الحديدة و التصميم القوي، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل ..
يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحا مقصود هذه الآية: «يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول» .
وجاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام أنّه عند ما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين، قال: «إنّ اللّه تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و على هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص، و قدموا الدّارع، و أخّروا الحاسر، و عضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام، و التووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، و غضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش، و أسكن للقلوب، و أميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، و رايتكم فلا تميلوها و لا تخلوها، و لا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم ...».
ضرورة وحدة الصفوف
إنّ من العوامل المهمّة و المؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام و وحدة
الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، و هذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية و السياسية .. و إلّا فسوف لن نحقّق شيئا.
إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم و مدمّر لا يسيطر عليه إلّا من خلال سدّ حديدي محكم، تشبيه في غاية الروعة و الجمال، و التعبير بأن يكون المؤمنون ك (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد، و ممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم، دور معيّن في مواجهة السيل، و هذا الدور مهمّ و مؤثّر على جميع الأجزاء، و في حالة قوّته و تماسكه و عدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، و إذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.
و ممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم، و استبدلت حالة الوحدة و التراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت و التمزّق، و أصبحت صفوفنا شتّى، و كلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا و تفرّق جمعنا.
إنّ وحدة الصفّ ليست شعارا إعلاميا، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة و التصورات و الأهداف .. و هذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا و الالتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة، و اعتماد التربية الإلهية في السلوك و المنهج العلمي السليم.
و إذا كان البارئ عزّ و جلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه و غضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة و مشتّتة و نتيجته هو ما نراه الآن متجسّدا في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية و عددنا يربو على المليار مسلم.
الأقوال المجرّدة عن العمل
يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب و ما تضمره الروح، و إذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب و إرادته. فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق، و المنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر و الروح.
إنّ من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها و عدم الاطمئنان فيما بينها، و أمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام و الادّعاءات الفارغة من المحتوى العملي، و أداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون، و بذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الانسجام و الوحدة و التماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكّلون عاملا للضعف و التباغض و عدم الاحترام و تضييع الإمكانات و سقوط هيبتهم أمام الأعداء.
عند ما أغار جيش الشام على حدود العراق، و وصل خبر ذلك إلى الإمام علي عليه السّلام خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها: «أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، و فعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت و كيت، فإذا جاء قلتم: حيدي حياد».
و الإمام عليه السّلام يتحدّث هنا بألم عن أهل العراق، و هذا ما تعكسه كلماته التي تشير الى التفاوت بين أقوالهم و أعمالهم.
و نقرأ عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «يعنى بالعلماء من صدق فعله قوله، و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم».