سما العراق
Well-Known Member
- إنضم
- 28 يونيو 2020
- المشاركات
- 13,633
- مستوى التفاعل
- 52
- النقاط
- 48
ماذا تعني « سَلُوني » ؟
بارِقَة
في تاريخ العلم ظهر رجالٌ كانت لهم مؤشّراتٌ تُفصح عن اتّقاد أذهانهم أو سعة اطّلاعهم، وعن فضلهم ونباهتهم وتعدّد علومهم. أمّا أهل البيت عليهم السلام فالمؤشّرات دلّت على أنّ علمهم ربّاني، وأنّهم الأعلمون بين الخَلق، وأنّهم المعصومون في معارفهم كما هم معصومون في عباداتهم وأخلاقهم.
وكان من تلك المؤشّرات التي تقطع بأفضليّتهم العلميّة عبارة: « سَلُوني.. قبلَ أن تَفقِدوني »، لم يتقدّم بها إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام يطالب الناس أن ينتفعوا بعلومه قبل رحيله عنهم، لكنّ معظمهم زهدوا بما أراد أن يفيض عليهم ممّا ينوّر القلوب ويهدي الأرواح، ويضمن سعادة الدنيا والآخرة وعزَّهما. بل لم يُطقِ البعض سماع هذه العبارة المطالِبة، وتمنّى لو تخفى أو تُكتم، أو يُقتل صاحبُها؛ فقد فضح هذا القائل المتقدّمين على الناس وهم أجهلُهم، والمستعلين على الأمّة وهم أضلُّهم! ولربّما شعروا أنّ في عبارة الإمام عليٍّ صلَواتُ اللهِ عليه تحدّياً لهم، لا سيّما وقد خابوا وافتضحوا.. مرّاتٍ عديدة حين سألهم اليهود والنصارى وعوامّ الناس عن أمورٍ من القرآن والسنّة، فما كان منهم إلاّ أمران: الفشل المخزي الذريع، والالتجاء إلى مَن دعا إلى سؤاله قبل رحيله، وصدع في الملأ: « سَلوني قبل أن تفقدوني »، وقد أقرّوا بأمرين: أنّ الناس كلَّهم أعلم منهم، وأن لولا عليٌّ لهلكوا!
ولرُبّ شاكٍّ أو مشكّك يدّعي أنّ هذه العبارة من مدَّعيات الشيعة، يريدون بها تفضيل إمامهم على الصحابة، ولِمثل هذا وأمثاله ندعوهم إلى ما ورد في المصادر غير الشيعيّة فقط.
هذا بعضه
• كتب ابن عبدالبَرّ في ( الاستيعاب / ج 1 ): أجمع الناسُ كلُّهم على أنّه لم يَقُل أحدٌ من الصحابة ولا أحدٌ من العلماء: سَلُوني، غيرَ عليّ بن أبي طالب. ( نقله عنه: ابن أبي الحديد في: شرح نهج البلاغة 175:2 ـ ط مصر، ثمّ قال: روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب: « نقض العثمانية » عن عليّ بن الجعد، عن أبي شبرمة: ليس لأحدٍ من الناس أن يقول على المنبر ( سَلُوني ) إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ).
• نعود إلى ابن عبدالبرّ الأندلسي، فنقرأ له في ( جامع بيان العلم وفضله:58 ـ ط الموسوعات بمصر ): عن سعيد بن المسيّب قال: ما كان أحدٌ من الناس يقول: سلوني، غير عليّ بن أبي طالب. ( نقله ابن سعد في: الطبقات الكبرى 338:2 ـ ط القاهرة، هكذا: لم يكن أحدٌ من الصحابة يقول: « سَلوني » إلاّ عليّ. كذا الخوارزميّ الحنفي في: المناقب:54 ـ ط تبرير، هكذا: ما كان في أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله أحدٌ يقول: « سَلُوني » غير عليّ بن أبي طالب. كذلك نقله ابن الأثير الجزري في: أُسد (تحذير رابط هكر لاتضغط عليه) في معرفة الصحابة 22:4 ـ ط مصر سنة 1285 هـ، والمحبّ الطبري الشافعي في: الرياض النضرة 198:2 ـ ط الخانجي بمصر، وسبط ابن الجوزي الحنفي في: تذكرة خواصّ الأمّة، وابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في: الصواعق المحرقة:76 ـ ط الميمنيّة بمصر، والحافظ السيوطي الشافعي في: تاريخ الخلفاء:66 ـ ط الميمنيّة بمصر، وابن طولون في: الشذرات الذهبيّة:50 ـ ط بيروت.. وغيرهم ).
• وبسندٍ طويل ينتهي إلى أبي البختري روى الخوارزمي في ( المناقب:55 ـ ط تبريز ) أنّه قال: رأيتُ عليّاً عليه السلام صعد المنبر بالكوفة وعليه مِدرَعةٌ كانت لرسول الله صلّى الله عليه وآله، متقلّداً بسيف رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقعد على المنبر فقال: « سَلُوني قبل أن تَفقِدوني، فإنّما بين الجوانح منّي عِلمٌ جَمّ. هذا سفط العلم وهذا لعاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، هذا ما زقّني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله زقّاً من غير وحيٍ أُوحيَ إليّ. فَوَ اللهِ لو ثُنيَت لي وسادةٌ فجلستُ عليها، لأفتَيتُ لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتّى ينطق التوراة والإنجيل فيقولان: صَدَق عليّ، قد أفتاكم بما أُنزِل فينا، وأنتم تتلون الكتابَ أفلا تعقلون ؟! ». ( رواه كذلك في: مقتل الحسين عليه السلام:44 ـ ط الغري، ورواه الحمويني الجويني الشافعي في: فرائد السمطين، والقندوزي الحنفي في: ينابيع المودّة لذوي القربى:264، و 74 ـ ط إسلامبول، ومحمّد خواجه پارسا البخاري في: فصل الخطاب ـ على ما في: ينابيع المودّة:373 ).
• وفي ( نزهة المجالس 144:2 ـ ط القاهرة ) كتب الصفوري البغدادي الشافعي: قال علي رضي الله عنه: « سَلُوني قبلَ أن تفقدوني، عن علمٍ لا يعرفه جبريلُ ولا ميكائيل »، فسأله رجل: يا أمير المؤمنين، ما هذا العلمُ الذي لا يعمله جبريل ولا ميكائيل ؟! قال: « إنّ الله تعالى علّم نبيَّه محمّداً صلّى الله عليه وآله ليلة المعراج علوماً شتّى، فمنها علمٌ أمَرَه اللهُ بكتمانه، وعلمٌ أمره الله بتبليغه، وعلمٌ خَيَّر اللهُ تعالى فيه.. ».
• وكتب القندوزي الحنفي في ( ينابيع المودّة:74 ـ ط إسلامبول ): في ( مسند أحمد بن حنبل ) بسنده عن ابن عبّاس قال: إنّ عليّاً رضي الله عنه يعرّف أصحابه ألف شيء وأراه، وقال على المنبر: « سَلُوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله وما به من آيةٍ إلاّ وأنا أعلم حيث أُنزلَت، بحضيضِ جبلٍ أو سهلِ أرضٍ، وسلوني عن الفتن، فما مِن فتنةٍ إلاّ وقد علمتُ مَن كسَبَها، ومَن يُقتَل فيها »، قال أحمد بن حنبل: رُويَ عنه نحوُ هذا كثيراً.
وعلى الصفحة السابقة كتب القندوزي: في ( المناقب ) ـ للخوارزمي الحنفي ـ عن الأعمش، عن عبابة بن رِبْعي قال: كان عليٌّ رضي الله عنه كثيراً يقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فَوَاللهِ ما مِن أرض مُخصِبةٍ ولا مُجْدِبة، ولا فئةٍ تُضِلّ مئةً أو تهدي مئةً إلاّ وأنا أعلمُ قائدها وسائقها، وناعقها، إلى يوم القيامة ».
• وكتب البدخشي في ( مفتاح النجا في مناقب آل العبا:78 ـ من المخطوطة ): ذكر الشيخ العالم البخاري المشهور بـ پارسا في كتابه ( فصل الخطاب ) أنّ عليّاً كرّم الله وجهه قال يوماً على المنبر: « سَلوني عمّا دون العرش، فإنّ بين الجوانح عِلماً جَمّاً، هذا لُعابُ رسول الله صلّى الله عليه وآله في فمي ».
وكان في المجلس رجلٌ يُقال له ( دعلب اليماني ) فقال: إدّعى هذا الرجلُ دعوى عريضة، لأفضحنّه! فقال: أسأل ؟ قال له عليّ: « وَيْلك اسألْ تفّقهاً، ولا تسألْ تَعنُّتاً »، فقال دعلب: أنت حملتَني على ذلك، هل رأيتَ ربَّك يا عليّ ؟ فأجابه: « ما كنتُ لأعبُدَ ربّاً لم أرَه »، قال: كيف رأيتَه ؟ فأجابه: « لم تَرَه العيون بمشاهدة العِيان، ولكن رأتْه القلوب بحقايق الإيقان، ربّي واحدٌ لا شريك له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يَحويه مكان، ولا يُداوله زمان، ولا يُدرَك بالحواسّ، ولا يُقاس بالناس ».
فصاح دعلب وسقط مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: عاهدتُ الله أن لا أسأل بعد هذا أحداً تعنّتاً!
• وكتب النبهاني في ( الشرف المؤبَّد:112 ): أخرج الحافظ محبّ الدين ابن النجّار في ( تتمّة تاريخ بغداد ) عن ابن المعتمر مسلم بن أوس وحارثة بن قدامة السعدي أنّهما حضرا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يخطب ويقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي لا أُسأل عن شيءٍ دونَ العرش إلاّ أخبرتُ عنه ».
• ونعود إلى القندوزي الحنفي، فنقرأ له في (ينابيع المودّة:66 ـ ط إسلامبول ) قوله: ومن خطبته عليه السلام: « سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا بِطُرق السماء أعلمُ منّي بطرق الأرض، قبل أن تشغر برِجْلها فتنةٌ تَطأ في حطامها، وتذهب بأحلام قومها ».
• ثمّ نأتي إلى ابن أبي الحديد فنقرأ له في ( شرح نهج البلاغة 508:2 ـ ط القاهرة ): إنّ تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض عليّاً وهو يخطب على المنبر ويقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فَوَاللهِ لو تسألوني عن فئةٍ تُضلّ مئةً أو تهدي مئة، إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها، ولو شئتُ لأخبرتُ كلَّ واحدٍ منكم بمخرجه ومدخله، وجميع شأنه ».
فقال له تميم: كم في رأسي طاقةَ شَعر ؟! فأجابه عليه السلام: « أمَا والله إنّي لأعلمُ ذلك، ولكن أين برهانه لو أخبرتُك به! ولقد أخبرتُك بقيامك وفعالك، وقيل لي: إنّ على كلّ شعرةٍ من شعر رأسك مَلَكاً يلعنك، وشيطاناً يَستفزُّك، وآيةُ ذلك أنّ في بيتك سَخلاً يقتل ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ويحضُّ على قتله! ».
قال ابن أبي الحديد: فكان الأمر بموجب ما أخبر به عليه السلام، كان ابنُ تميم حُصَينٌ يومئذٍ طفلاً صغيراً يرضع اللبن، ثمّ عاش إلى أن صار على شَرَطة عبيدالله بن زياد، فأخرجه عبيدالله إلى عمر بن سعدٍ يأمره بمناجزة الحسين عليه السلام، ويتوعّده على لسانه إن أرجأ ذلك ( أي أجَلَّه، فقُتل الحسين عليه السلام صبيحةَ اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته!
ويروي ابن أبي الحديد روايةً أخرى، مُفادُها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال ما قاله في خطبته الشريفة: « سلوني قبل أن تفقدوني.. »، قام إليه رجل فقال له: أخبِرْني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شَعر! فأجابه عليٌّ عليه السلام: « واللهِ لقد حدّثني خليلي ( أي رسول الله صلّى الله عليه وآله ) أنّ على كلِّ طاقةِ شعرٍ من رأسك مَلكاً يلعنك، وأنّ على كلّ طاقة شعرٍ من لحيتك شيطاناً يُغويك، وأنّ في بيتك سخلاً يقتل ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
وكان ابن ذلك الرجل قاتلُ الحسين عليه السلام يومئذٍ طفلاً يحبو، وهو سنانُ بن أنس النّخَعي. ( شرح نهج البلاغة 208:1 ).
• وقال عليه السلام يوماً: « سلوني عن أسرار الغيوب، فإنّي وارثُ علوم الأنبياء والمرسَلين » ( ينابيع المودّة:408 ـ ط إسلامبول ).
• وكتب ابن حسنَوَيه الموصلي الحنفي في ( درّ بحر المناقب:10 ـ من المخطوطة ): وعنه عليه السلام أنّه كان ذاتَ يومٍ على منبر الكوفة إذ قال: « أيُّها الناس، إسألوني قبل أن تفقدوني، إسألوني عن طرق السماوات، فأنا أعرَفُ بها من طرق الأرض ». فقام إليه رجلٌ من وسط القوم فقال له: أين جبرئيلُ هذه الساعة ؟ فرمق عليه السلام بطَرْفه إلى السماء، ثمّ رمق بطَرفه إلى الأرض، ثمّ رمق إلى المشرق ثمّ رمق إلى المغرب، فلم يُخلِ موضعاً، فالتفَتَ إليه وقال له: « ياذا الشيخ، أنت جبرئيل ».
قال: فصفق طائراً مِن بين الناس، فضجّ عند ذلك الحاضرون وقالوا: نشهد أنك خليفةُ رسول الله حقّاً حقّاً! رواه مقاتل بن سليمان. ( وروى قريباً منه: الحافظ أبو عبدالله محمّد بن يوسف البلخي الشافعي في كتابه على ما في تلخيصه:16 ـ ط الحيدري بمبئي، والصفوري الشافعي في: نزهة المجالس 210:2 ـ ط القاهرة، ومعين الدين الميبدي في: شرح ديوان أمير المؤمنين:18 ـ من المخطوطة، وسبط ابن الجوزي الحنفي في: تذكرة خواصّ الأمّة، وغيرهم ).
• وإذا عُدنا إلى ابن أبي الحديد، وهو معتزلي المذهب، فسنقرأ له ( على الصفحة 178 من الجزء الثاني من شرحه لنهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ) في ذيل إحدى الخطب قوله: وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السيرة، وهي متداوَلةٌ منقولةٌ مستفيضة، خطب بها عليٌّ عليه السلام بعد انقضاء أمر النهروان، وفيها ألفاظ لم يُورِدْها الشريف الرضيّ رحمه الله، من ذلك قوله عليه السلام ( أي بعد: « سلوني قبلَ أن تفقدوني »): « ولم يكن لِيجترئَ عليها غيري، ولو لم أكُ فيكم ما قُوتل أصحابُ الجمل والنهروان. وأيمُ الله لولا أن تَتَّكِلوا فتَدَعوا العمل لَحدّثتُكم بما قضى الله عزّوجلّ على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وآله لمَن قاتلهم مبصراً لضلالتهم، عارفاً للهدى الذي نحن عليه. سلوني قبل أن تفقدوني؛ فإنّي ميّتٌ عن قريب، أو مقتول، بل قتلاً! ما ينتظر أشقاها ( أي ابن ملجم لعنه الله ) أن يخضب هذه بدم ؟! »، وضرب بيده على لحيته.
استفاداتٌ مُتفِقّهة
قال تعالى في محكم تنزيله الكريم:
فَلَولا نَفَر مِن كُلِّ فِرْقةٍ طائفةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّينِ ولِيُنْذِروا قومَهم إذا رَجَعُوا إلَيهم لَعَلَّهم يَحذَرون
[ سورة التوبة:122 ].
إنّ من أعظم المعضلات التي يعيشها المسلمون هو عدمُ التفقّه في الأحاديث النبويّة، خصوصاً ما جاء منها في مجال العقيدة والأصول، مع أنّ الروايات بين يديهم كثيرة وفيرة، وهي بيّنةٌ في تحديد المعالم والضوابط والمعايير، لا سيّما في مجال الاستخلاف والولاية العظمى بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ومن هنا نرى أن تكون لنا وقفةٌ بين الحين والآخر، للتأمّل في ما ورد من الروايات الشريفة، والكلمات المنيفة، ممّا صدر عن النبيّ وأهل بيته صلواتُ الله عليه وعليهم، ومنها رواية ( سَلُوني قبلَ أن تَفقِدوني ) فقد استفدنا من أخبارها مايلي:
أوّلاً: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل هذه العبارة الشريفة مرّة واحدة، بل قالها مرّاتٍ عديدة.
ثانياً: أنّه سلام الله عليه قالها وحدَه، ولم يَجرُؤ أحدٌ أن يقولها، وربّما صدرت جُزافاً من أحدهم فدُمغ بفشلٍ ذريع، وخزيٍ فظيع!
ثالثاً: أنّ الإمام عليّاً عليه السلام في عبارته المباركة هذه فتح الآفاق أمام الناس أن يسألوه في أيِّ أمرٍ شاؤوا، وفي أي مسألةٍ أحبُّوا.. لكنّهم لم يستفيدوا من تلك الفرصة الغنيمة، ليفيضَ عليهم من المعارف ما ينجون بها ويفوزون. بل راح بعضهم يرى كلمة الإمام ادّعاءً عريضاً، فيما راح البعض إلى أن يستهزئ، فيلاقي من العار والخسران ما يُهلكه أسفاً ويُرديه عذاباً وذُلاًّ ومهانة.
رابعاً: لم ينقل لنا التاريخ على طول زمانه وعرض وقائعه أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام ـ ولا أيّ إمامٍ مِن بعده ـ سُئل فعجز عن الجواب، وكم طالَبَ الناسَ أن يسألوه لينفعهم فانكمشوا وكأنّهم لا يحبّون أن يسمعوا الحقائقَ المُلزِمة! بينما سُئل غيرُه صلوات الله عليه فأحجموا وعجزوا ولم يَحروا جواباً، فلاذوا به والتمسوه ليُخرجهم من حَرَجهم وفشلهم، ثمّ أقرّوا له بعد أجوبته وأقضيته النورانية بأمرين: الأوّل ـ أنّه سلام الله عليه هو الأعلم، والثاني ـ أنّهم هم الأجهل، بل ولولاه لهلكوا!!
هذه هي الحقيقة التي طالما هرَبَ منها الحاسدون والحاقدون، والمتعصّبون والمُبطِلون، فعادوا لم يُطيقوا النظر إليها، ولم يستطيعوا استماعها، فضلاً عن قبولها والعمل بمقضياتها.. ومن مقتضياتها: تولّي أمير المؤمنين عليه السلام، وطاعته، واتّباعه، والتثبّت على إمامته، والتمسّك بولايته، هو والأئمّة الهداة مِن ذرّيته، صلواتُ الله وسلامه عليه؛ وذلك أمرٌ إلهيٌّ صريح في آياتٍ عديدة، منها:
ـ قوله تعالى:
يا أيُّها الذين آمنوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ وأُولي الأمرِ مِنكُم
[ سورة النساء:59 ].
ـ وقوله تعالى:
قُل لا أسألُكُم عليهِ أجْراً إلاَّ المودّةَ في القُربى..
[ سورة الشورى:23 ].
ـ وقوله تعالى:
إنَّما وَليُّكمُ اللهُ ورسولُه والذين آمنُوا الذين يُقيمون الصلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكاةَ وهُم راكعُون
[ سورة المائدة:55 ].
لكنّ قوماً لم يُحبّوا ـ أو لم يُطيقوا ـ أن يعلموا شيئاً من خلال كلمةٍ الإمام عليّ عليه السلام: « سَلُوني قبلَ أن تَفقِدوني »، لأنّ فيها مؤشِّراً واضحاً أنّه عليه السلام هو الأفضل والأعلم، فهو إذن باستخلاف رسول الله أَولى، ولأمرِ الأمّة أوفى وأسلم، بعد أن آشتهر في حديث النبيّ أنّه هو المقدَّم.. فـ ( سَلُوني ) لم تكن كلمةً فحَسْب، بل كانت أحدَ دلائل الإمامة، فضلاً عن دلائلَ عديدةٍ أُخرى ساطعة.
منقووول
بارِقَة
في تاريخ العلم ظهر رجالٌ كانت لهم مؤشّراتٌ تُفصح عن اتّقاد أذهانهم أو سعة اطّلاعهم، وعن فضلهم ونباهتهم وتعدّد علومهم. أمّا أهل البيت عليهم السلام فالمؤشّرات دلّت على أنّ علمهم ربّاني، وأنّهم الأعلمون بين الخَلق، وأنّهم المعصومون في معارفهم كما هم معصومون في عباداتهم وأخلاقهم.
وكان من تلك المؤشّرات التي تقطع بأفضليّتهم العلميّة عبارة: « سَلُوني.. قبلَ أن تَفقِدوني »، لم يتقدّم بها إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام يطالب الناس أن ينتفعوا بعلومه قبل رحيله عنهم، لكنّ معظمهم زهدوا بما أراد أن يفيض عليهم ممّا ينوّر القلوب ويهدي الأرواح، ويضمن سعادة الدنيا والآخرة وعزَّهما. بل لم يُطقِ البعض سماع هذه العبارة المطالِبة، وتمنّى لو تخفى أو تُكتم، أو يُقتل صاحبُها؛ فقد فضح هذا القائل المتقدّمين على الناس وهم أجهلُهم، والمستعلين على الأمّة وهم أضلُّهم! ولربّما شعروا أنّ في عبارة الإمام عليٍّ صلَواتُ اللهِ عليه تحدّياً لهم، لا سيّما وقد خابوا وافتضحوا.. مرّاتٍ عديدة حين سألهم اليهود والنصارى وعوامّ الناس عن أمورٍ من القرآن والسنّة، فما كان منهم إلاّ أمران: الفشل المخزي الذريع، والالتجاء إلى مَن دعا إلى سؤاله قبل رحيله، وصدع في الملأ: « سَلوني قبل أن تفقدوني »، وقد أقرّوا بأمرين: أنّ الناس كلَّهم أعلم منهم، وأن لولا عليٌّ لهلكوا!
ولرُبّ شاكٍّ أو مشكّك يدّعي أنّ هذه العبارة من مدَّعيات الشيعة، يريدون بها تفضيل إمامهم على الصحابة، ولِمثل هذا وأمثاله ندعوهم إلى ما ورد في المصادر غير الشيعيّة فقط.
هذا بعضه
• كتب ابن عبدالبَرّ في ( الاستيعاب / ج 1 ): أجمع الناسُ كلُّهم على أنّه لم يَقُل أحدٌ من الصحابة ولا أحدٌ من العلماء: سَلُوني، غيرَ عليّ بن أبي طالب. ( نقله عنه: ابن أبي الحديد في: شرح نهج البلاغة 175:2 ـ ط مصر، ثمّ قال: روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب: « نقض العثمانية » عن عليّ بن الجعد، عن أبي شبرمة: ليس لأحدٍ من الناس أن يقول على المنبر ( سَلُوني ) إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ).
• نعود إلى ابن عبدالبرّ الأندلسي، فنقرأ له في ( جامع بيان العلم وفضله:58 ـ ط الموسوعات بمصر ): عن سعيد بن المسيّب قال: ما كان أحدٌ من الناس يقول: سلوني، غير عليّ بن أبي طالب. ( نقله ابن سعد في: الطبقات الكبرى 338:2 ـ ط القاهرة، هكذا: لم يكن أحدٌ من الصحابة يقول: « سَلوني » إلاّ عليّ. كذا الخوارزميّ الحنفي في: المناقب:54 ـ ط تبرير، هكذا: ما كان في أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله أحدٌ يقول: « سَلُوني » غير عليّ بن أبي طالب. كذلك نقله ابن الأثير الجزري في: أُسد (تحذير رابط هكر لاتضغط عليه) في معرفة الصحابة 22:4 ـ ط مصر سنة 1285 هـ، والمحبّ الطبري الشافعي في: الرياض النضرة 198:2 ـ ط الخانجي بمصر، وسبط ابن الجوزي الحنفي في: تذكرة خواصّ الأمّة، وابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في: الصواعق المحرقة:76 ـ ط الميمنيّة بمصر، والحافظ السيوطي الشافعي في: تاريخ الخلفاء:66 ـ ط الميمنيّة بمصر، وابن طولون في: الشذرات الذهبيّة:50 ـ ط بيروت.. وغيرهم ).
• وبسندٍ طويل ينتهي إلى أبي البختري روى الخوارزمي في ( المناقب:55 ـ ط تبريز ) أنّه قال: رأيتُ عليّاً عليه السلام صعد المنبر بالكوفة وعليه مِدرَعةٌ كانت لرسول الله صلّى الله عليه وآله، متقلّداً بسيف رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقعد على المنبر فقال: « سَلُوني قبل أن تَفقِدوني، فإنّما بين الجوانح منّي عِلمٌ جَمّ. هذا سفط العلم وهذا لعاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، هذا ما زقّني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله زقّاً من غير وحيٍ أُوحيَ إليّ. فَوَ اللهِ لو ثُنيَت لي وسادةٌ فجلستُ عليها، لأفتَيتُ لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتّى ينطق التوراة والإنجيل فيقولان: صَدَق عليّ، قد أفتاكم بما أُنزِل فينا، وأنتم تتلون الكتابَ أفلا تعقلون ؟! ». ( رواه كذلك في: مقتل الحسين عليه السلام:44 ـ ط الغري، ورواه الحمويني الجويني الشافعي في: فرائد السمطين، والقندوزي الحنفي في: ينابيع المودّة لذوي القربى:264، و 74 ـ ط إسلامبول، ومحمّد خواجه پارسا البخاري في: فصل الخطاب ـ على ما في: ينابيع المودّة:373 ).
• وفي ( نزهة المجالس 144:2 ـ ط القاهرة ) كتب الصفوري البغدادي الشافعي: قال علي رضي الله عنه: « سَلُوني قبلَ أن تفقدوني، عن علمٍ لا يعرفه جبريلُ ولا ميكائيل »، فسأله رجل: يا أمير المؤمنين، ما هذا العلمُ الذي لا يعمله جبريل ولا ميكائيل ؟! قال: « إنّ الله تعالى علّم نبيَّه محمّداً صلّى الله عليه وآله ليلة المعراج علوماً شتّى، فمنها علمٌ أمَرَه اللهُ بكتمانه، وعلمٌ أمره الله بتبليغه، وعلمٌ خَيَّر اللهُ تعالى فيه.. ».
• وكتب القندوزي الحنفي في ( ينابيع المودّة:74 ـ ط إسلامبول ): في ( مسند أحمد بن حنبل ) بسنده عن ابن عبّاس قال: إنّ عليّاً رضي الله عنه يعرّف أصحابه ألف شيء وأراه، وقال على المنبر: « سَلُوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله وما به من آيةٍ إلاّ وأنا أعلم حيث أُنزلَت، بحضيضِ جبلٍ أو سهلِ أرضٍ، وسلوني عن الفتن، فما مِن فتنةٍ إلاّ وقد علمتُ مَن كسَبَها، ومَن يُقتَل فيها »، قال أحمد بن حنبل: رُويَ عنه نحوُ هذا كثيراً.
وعلى الصفحة السابقة كتب القندوزي: في ( المناقب ) ـ للخوارزمي الحنفي ـ عن الأعمش، عن عبابة بن رِبْعي قال: كان عليٌّ رضي الله عنه كثيراً يقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فَوَاللهِ ما مِن أرض مُخصِبةٍ ولا مُجْدِبة، ولا فئةٍ تُضِلّ مئةً أو تهدي مئةً إلاّ وأنا أعلمُ قائدها وسائقها، وناعقها، إلى يوم القيامة ».
• وكتب البدخشي في ( مفتاح النجا في مناقب آل العبا:78 ـ من المخطوطة ): ذكر الشيخ العالم البخاري المشهور بـ پارسا في كتابه ( فصل الخطاب ) أنّ عليّاً كرّم الله وجهه قال يوماً على المنبر: « سَلوني عمّا دون العرش، فإنّ بين الجوانح عِلماً جَمّاً، هذا لُعابُ رسول الله صلّى الله عليه وآله في فمي ».
وكان في المجلس رجلٌ يُقال له ( دعلب اليماني ) فقال: إدّعى هذا الرجلُ دعوى عريضة، لأفضحنّه! فقال: أسأل ؟ قال له عليّ: « وَيْلك اسألْ تفّقهاً، ولا تسألْ تَعنُّتاً »، فقال دعلب: أنت حملتَني على ذلك، هل رأيتَ ربَّك يا عليّ ؟ فأجابه: « ما كنتُ لأعبُدَ ربّاً لم أرَه »، قال: كيف رأيتَه ؟ فأجابه: « لم تَرَه العيون بمشاهدة العِيان، ولكن رأتْه القلوب بحقايق الإيقان، ربّي واحدٌ لا شريك له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يَحويه مكان، ولا يُداوله زمان، ولا يُدرَك بالحواسّ، ولا يُقاس بالناس ».
فصاح دعلب وسقط مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: عاهدتُ الله أن لا أسأل بعد هذا أحداً تعنّتاً!
• وكتب النبهاني في ( الشرف المؤبَّد:112 ): أخرج الحافظ محبّ الدين ابن النجّار في ( تتمّة تاريخ بغداد ) عن ابن المعتمر مسلم بن أوس وحارثة بن قدامة السعدي أنّهما حضرا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يخطب ويقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي لا أُسأل عن شيءٍ دونَ العرش إلاّ أخبرتُ عنه ».
• ونعود إلى القندوزي الحنفي، فنقرأ له في (ينابيع المودّة:66 ـ ط إسلامبول ) قوله: ومن خطبته عليه السلام: « سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا بِطُرق السماء أعلمُ منّي بطرق الأرض، قبل أن تشغر برِجْلها فتنةٌ تَطأ في حطامها، وتذهب بأحلام قومها ».
• ثمّ نأتي إلى ابن أبي الحديد فنقرأ له في ( شرح نهج البلاغة 508:2 ـ ط القاهرة ): إنّ تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض عليّاً وهو يخطب على المنبر ويقول: « سلوني قبل أن تفقدوني، فَوَاللهِ لو تسألوني عن فئةٍ تُضلّ مئةً أو تهدي مئة، إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها، ولو شئتُ لأخبرتُ كلَّ واحدٍ منكم بمخرجه ومدخله، وجميع شأنه ».
فقال له تميم: كم في رأسي طاقةَ شَعر ؟! فأجابه عليه السلام: « أمَا والله إنّي لأعلمُ ذلك، ولكن أين برهانه لو أخبرتُك به! ولقد أخبرتُك بقيامك وفعالك، وقيل لي: إنّ على كلّ شعرةٍ من شعر رأسك مَلَكاً يلعنك، وشيطاناً يَستفزُّك، وآيةُ ذلك أنّ في بيتك سَخلاً يقتل ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ويحضُّ على قتله! ».
قال ابن أبي الحديد: فكان الأمر بموجب ما أخبر به عليه السلام، كان ابنُ تميم حُصَينٌ يومئذٍ طفلاً صغيراً يرضع اللبن، ثمّ عاش إلى أن صار على شَرَطة عبيدالله بن زياد، فأخرجه عبيدالله إلى عمر بن سعدٍ يأمره بمناجزة الحسين عليه السلام، ويتوعّده على لسانه إن أرجأ ذلك ( أي أجَلَّه، فقُتل الحسين عليه السلام صبيحةَ اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته!
ويروي ابن أبي الحديد روايةً أخرى، مُفادُها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال ما قاله في خطبته الشريفة: « سلوني قبل أن تفقدوني.. »، قام إليه رجل فقال له: أخبِرْني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شَعر! فأجابه عليٌّ عليه السلام: « واللهِ لقد حدّثني خليلي ( أي رسول الله صلّى الله عليه وآله ) أنّ على كلِّ طاقةِ شعرٍ من رأسك مَلكاً يلعنك، وأنّ على كلّ طاقة شعرٍ من لحيتك شيطاناً يُغويك، وأنّ في بيتك سخلاً يقتل ابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ».
وكان ابن ذلك الرجل قاتلُ الحسين عليه السلام يومئذٍ طفلاً يحبو، وهو سنانُ بن أنس النّخَعي. ( شرح نهج البلاغة 208:1 ).
• وقال عليه السلام يوماً: « سلوني عن أسرار الغيوب، فإنّي وارثُ علوم الأنبياء والمرسَلين » ( ينابيع المودّة:408 ـ ط إسلامبول ).
• وكتب ابن حسنَوَيه الموصلي الحنفي في ( درّ بحر المناقب:10 ـ من المخطوطة ): وعنه عليه السلام أنّه كان ذاتَ يومٍ على منبر الكوفة إذ قال: « أيُّها الناس، إسألوني قبل أن تفقدوني، إسألوني عن طرق السماوات، فأنا أعرَفُ بها من طرق الأرض ». فقام إليه رجلٌ من وسط القوم فقال له: أين جبرئيلُ هذه الساعة ؟ فرمق عليه السلام بطَرْفه إلى السماء، ثمّ رمق بطَرفه إلى الأرض، ثمّ رمق إلى المشرق ثمّ رمق إلى المغرب، فلم يُخلِ موضعاً، فالتفَتَ إليه وقال له: « ياذا الشيخ، أنت جبرئيل ».
قال: فصفق طائراً مِن بين الناس، فضجّ عند ذلك الحاضرون وقالوا: نشهد أنك خليفةُ رسول الله حقّاً حقّاً! رواه مقاتل بن سليمان. ( وروى قريباً منه: الحافظ أبو عبدالله محمّد بن يوسف البلخي الشافعي في كتابه على ما في تلخيصه:16 ـ ط الحيدري بمبئي، والصفوري الشافعي في: نزهة المجالس 210:2 ـ ط القاهرة، ومعين الدين الميبدي في: شرح ديوان أمير المؤمنين:18 ـ من المخطوطة، وسبط ابن الجوزي الحنفي في: تذكرة خواصّ الأمّة، وغيرهم ).
• وإذا عُدنا إلى ابن أبي الحديد، وهو معتزلي المذهب، فسنقرأ له ( على الصفحة 178 من الجزء الثاني من شرحه لنهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ) في ذيل إحدى الخطب قوله: وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السيرة، وهي متداوَلةٌ منقولةٌ مستفيضة، خطب بها عليٌّ عليه السلام بعد انقضاء أمر النهروان، وفيها ألفاظ لم يُورِدْها الشريف الرضيّ رحمه الله، من ذلك قوله عليه السلام ( أي بعد: « سلوني قبلَ أن تفقدوني »): « ولم يكن لِيجترئَ عليها غيري، ولو لم أكُ فيكم ما قُوتل أصحابُ الجمل والنهروان. وأيمُ الله لولا أن تَتَّكِلوا فتَدَعوا العمل لَحدّثتُكم بما قضى الله عزّوجلّ على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وآله لمَن قاتلهم مبصراً لضلالتهم، عارفاً للهدى الذي نحن عليه. سلوني قبل أن تفقدوني؛ فإنّي ميّتٌ عن قريب، أو مقتول، بل قتلاً! ما ينتظر أشقاها ( أي ابن ملجم لعنه الله ) أن يخضب هذه بدم ؟! »، وضرب بيده على لحيته.
استفاداتٌ مُتفِقّهة
قال تعالى في محكم تنزيله الكريم:
إنّ من أعظم المعضلات التي يعيشها المسلمون هو عدمُ التفقّه في الأحاديث النبويّة، خصوصاً ما جاء منها في مجال العقيدة والأصول، مع أنّ الروايات بين يديهم كثيرة وفيرة، وهي بيّنةٌ في تحديد المعالم والضوابط والمعايير، لا سيّما في مجال الاستخلاف والولاية العظمى بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ومن هنا نرى أن تكون لنا وقفةٌ بين الحين والآخر، للتأمّل في ما ورد من الروايات الشريفة، والكلمات المنيفة، ممّا صدر عن النبيّ وأهل بيته صلواتُ الله عليه وعليهم، ومنها رواية ( سَلُوني قبلَ أن تَفقِدوني ) فقد استفدنا من أخبارها مايلي:
أوّلاً: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل هذه العبارة الشريفة مرّة واحدة، بل قالها مرّاتٍ عديدة.
ثانياً: أنّه سلام الله عليه قالها وحدَه، ولم يَجرُؤ أحدٌ أن يقولها، وربّما صدرت جُزافاً من أحدهم فدُمغ بفشلٍ ذريع، وخزيٍ فظيع!
ثالثاً: أنّ الإمام عليّاً عليه السلام في عبارته المباركة هذه فتح الآفاق أمام الناس أن يسألوه في أيِّ أمرٍ شاؤوا، وفي أي مسألةٍ أحبُّوا.. لكنّهم لم يستفيدوا من تلك الفرصة الغنيمة، ليفيضَ عليهم من المعارف ما ينجون بها ويفوزون. بل راح بعضهم يرى كلمة الإمام ادّعاءً عريضاً، فيما راح البعض إلى أن يستهزئ، فيلاقي من العار والخسران ما يُهلكه أسفاً ويُرديه عذاباً وذُلاًّ ومهانة.
رابعاً: لم ينقل لنا التاريخ على طول زمانه وعرض وقائعه أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام ـ ولا أيّ إمامٍ مِن بعده ـ سُئل فعجز عن الجواب، وكم طالَبَ الناسَ أن يسألوه لينفعهم فانكمشوا وكأنّهم لا يحبّون أن يسمعوا الحقائقَ المُلزِمة! بينما سُئل غيرُه صلوات الله عليه فأحجموا وعجزوا ولم يَحروا جواباً، فلاذوا به والتمسوه ليُخرجهم من حَرَجهم وفشلهم، ثمّ أقرّوا له بعد أجوبته وأقضيته النورانية بأمرين: الأوّل ـ أنّه سلام الله عليه هو الأعلم، والثاني ـ أنّهم هم الأجهل، بل ولولاه لهلكوا!!
هذه هي الحقيقة التي طالما هرَبَ منها الحاسدون والحاقدون، والمتعصّبون والمُبطِلون، فعادوا لم يُطيقوا النظر إليها، ولم يستطيعوا استماعها، فضلاً عن قبولها والعمل بمقضياتها.. ومن مقتضياتها: تولّي أمير المؤمنين عليه السلام، وطاعته، واتّباعه، والتثبّت على إمامته، والتمسّك بولايته، هو والأئمّة الهداة مِن ذرّيته، صلواتُ الله وسلامه عليه؛ وذلك أمرٌ إلهيٌّ صريح في آياتٍ عديدة، منها:
ـ قوله تعالى:
ـ وقوله تعالى:
ـ وقوله تعالى:
لكنّ قوماً لم يُحبّوا ـ أو لم يُطيقوا ـ أن يعلموا شيئاً من خلال كلمةٍ الإمام عليّ عليه السلام: « سَلُوني قبلَ أن تَفقِدوني »، لأنّ فيها مؤشِّراً واضحاً أنّه عليه السلام هو الأفضل والأعلم، فهو إذن باستخلاف رسول الله أَولى، ولأمرِ الأمّة أوفى وأسلم، بعد أن آشتهر في حديث النبيّ أنّه هو المقدَّم.. فـ ( سَلُوني ) لم تكن كلمةً فحَسْب، بل كانت أحدَ دلائل الإمامة، فضلاً عن دلائلَ عديدةٍ أُخرى ساطعة.
منقووول