Banned *
Banned
- إنضم
- 30 يونيو 2012
- المشاركات
- 296
- مستوى التفاعل
- 7
- النقاط
- 18
ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى!
محمد بن محمد العلوي
لقد أذهلتني هذه الجملة الرائعة من رواية "العمى" للكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو"، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998، فتجرأت على اتخاذها عنوانا بارزا لقراءتي لهذه الرواية المنشورة سنة 1995 والتي تحكي عن استشراء العمى في مدينة ما مجهولة الاسم مثل طاعون عاصف أصاب المدينة بأكملها. تبدأ رحلة الوباء برجل يصاب بعمى أبيض أثناء قيادته لسيارته، إذ بدأ يرى كل شيء أبيض ومشعا، ينقلونه لعيادة أحد الأطباء الذي لم يجد تفسيرا علميا لهذا العمى، ثم ما يلبث الطبيب نفسه أن يفقد بصره وتتوالى الإصابات. بحيث يهجم عمى أبيض ومشع يعمى المجتمع فيمنعه من الرؤية، عمى غريب ورهيب ينتج عنه هيجان، وتكالب على السلطة والحياة بأساليب جشعة وخشنة ووحشية. ولن نستغرب هذا المسلك من قِبَلِ قلوب قاسية في فرض السيطرة والتحكم الجائر على عميان لا يرون في ضياء النهار، الكاتب هنا يصرح بأن الأنانية المتحكمة في التصرف والسلوك هي التي تفرض قواعد ظالمة، ومن يخالف هذه القاعدة الجائرة يتم منعه من الأكل وضروريات الحياة، فما أقسى هذه الفلسفة. وما معنى أن تظل امرأة واحدة فقط هي المبصرة، كما صورها ساراماغو الروائي البرتغالي المدافع عن الحق في الحياة بكرامة؟ إنها بلا شك رمز الاستمرارية والمداومة، وهي التربة الغنية وكان لزاما على الكاتب المبدع أن يمتعها وحدها بنعمة البصر فهي الأم والأخت والبنت. فهي ترى مسوخا من الطغيان والجبروت لا يشفع ولا ينفع ولا يغني ولا يسمن من جوع، فها هو العمى يضرب ضربته فينتقل المجتمع من شكله الإنساني المعطاء إلى شيء آخر لا يمت بصلة إلى البشرية المتفانية في التعاون والتكافل. فالمرأة المبصرة ترى الكثير من المشاهد التي لا يستطيع أن يراها العميان، فهاهي ترى السرقة والزنى والاستبداد والاستغلال فيقشعر لهذه المناظر جسدها، وتصدم روحها إنها ترى جثثا متعفنة في الطريق ومرضى يتألمون. ولا يسع هذه المرأة الصابرة إلا البكاء ومزيدا من البكاء على مصير أبناء جلدتها وما أصابهم من عمى البصيرة بالطبع، وهنا لابد أن أقف بك وقفة عقل وإدراك ونظرة ثاقبة لما حاول الروائي جوزيه ساراماغو أن يظهره لنا، فالعمى الذي يتكلم عنه هو تعبير صارخ عن الجهل الذي يجعل الإنسان يتخلى عن أكبر نعمة وهبها الخالق إنها البصيرة، والرؤية الإنسانية التي تمكنه من الاستمرار والتقدم. فالجهل عمى أبيض يغفل صاحبه عن محيطه وواقعه وينتحر في خضم من الظلمات لا يستطيع الفكاك منه، و في الرواية ملمس جدّي لما تمر به مجتمعاتنا من محن وهزائم وتدهور سببها العمى الأبيض "الجهل”. وينقلنا ساراماغو إلى منحى آخر من المفارقات العجيبة، بإظهار ذلك القلق الذي يصيب شابة عمياء زانية على والديها وكيف تبذل جهدها من أجل الاطمئنان عليهما وتطمئنهما عليها، فالبذرة هنا طيبة لكن التربة التي وجدت الفتاة نفسها بداخلها هي الفاسدة. والحب في السرد عند الروائي ساراماغو أعمى فعندما تسترد الفتاة بصرها وترى العجوز الذي أحبته قبيح الشكل والمنظر تتركه، فالحب المبني على جهل بالأخلاق والمبادئ والجمال لابد من التخلي عنه دون أسف وبلا رجعة. عندما يختفي النظام والرقابة يتحول البشر إلى وحوشٍ بشرية عمياء لا تتوقف عند مبدأ أو مسلك أخلاقي رفيع، فتنقطع الكهرباء ويتوقف ضخ المياه فتعم الفوضى في المدينة العمياء وتنتشر الأوساخ والأمراض والجثث. فكيف في أتون هذه الفوضى يمكنك رؤية الصواب؟ فحاسة الشم في هذا الظرف لن تفيد في شيء بل ستساعد في زيادة التيه عن معالم الوجود والاستقرار تماماً. فهوية الإنسان تتجلى في صميم رؤيته للواقع وتفاعله معه وخلقه لبيئة ملائمة للعيش ببصيرة وعلم، فعندما يختتم ساراماغو روايته بأن يعيد للناس أبصارهم، فيسيرون مبتهجين في الشوارع ومحتفلين بعودتهم إلى حظيرة المبصرين. هنا تعلق المرأة التي ظلت مبصرة على هذا الحدث بقولها: "أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقا نرى”. الرواية تكشف الجانب المظلم من طبيعة الإنسان عندما يصاب بالعمى الذي ينتشر داخل المدينة، فيطفو إلى السطح زيف الحضارة ومدى تدمير العمق الإنساني الفعال والحقيقي في خضم من السرعة في اتجاه المصلحة الشخصية والأنانية. ومن هنا نضع أيدينا على رواية عابرة للزمان والمكان فاتحة الباب على معان وإشارات للخلود والحكمة.
محمد بن محمد العلوي
لقد أذهلتني هذه الجملة الرائعة من رواية "العمى" للكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو"، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998، فتجرأت على اتخاذها عنوانا بارزا لقراءتي لهذه الرواية المنشورة سنة 1995 والتي تحكي عن استشراء العمى في مدينة ما مجهولة الاسم مثل طاعون عاصف أصاب المدينة بأكملها. تبدأ رحلة الوباء برجل يصاب بعمى أبيض أثناء قيادته لسيارته، إذ بدأ يرى كل شيء أبيض ومشعا، ينقلونه لعيادة أحد الأطباء الذي لم يجد تفسيرا علميا لهذا العمى، ثم ما يلبث الطبيب نفسه أن يفقد بصره وتتوالى الإصابات. بحيث يهجم عمى أبيض ومشع يعمى المجتمع فيمنعه من الرؤية، عمى غريب ورهيب ينتج عنه هيجان، وتكالب على السلطة والحياة بأساليب جشعة وخشنة ووحشية. ولن نستغرب هذا المسلك من قِبَلِ قلوب قاسية في فرض السيطرة والتحكم الجائر على عميان لا يرون في ضياء النهار، الكاتب هنا يصرح بأن الأنانية المتحكمة في التصرف والسلوك هي التي تفرض قواعد ظالمة، ومن يخالف هذه القاعدة الجائرة يتم منعه من الأكل وضروريات الحياة، فما أقسى هذه الفلسفة. وما معنى أن تظل امرأة واحدة فقط هي المبصرة، كما صورها ساراماغو الروائي البرتغالي المدافع عن الحق في الحياة بكرامة؟ إنها بلا شك رمز الاستمرارية والمداومة، وهي التربة الغنية وكان لزاما على الكاتب المبدع أن يمتعها وحدها بنعمة البصر فهي الأم والأخت والبنت. فهي ترى مسوخا من الطغيان والجبروت لا يشفع ولا ينفع ولا يغني ولا يسمن من جوع، فها هو العمى يضرب ضربته فينتقل المجتمع من شكله الإنساني المعطاء إلى شيء آخر لا يمت بصلة إلى البشرية المتفانية في التعاون والتكافل. فالمرأة المبصرة ترى الكثير من المشاهد التي لا يستطيع أن يراها العميان، فهاهي ترى السرقة والزنى والاستبداد والاستغلال فيقشعر لهذه المناظر جسدها، وتصدم روحها إنها ترى جثثا متعفنة في الطريق ومرضى يتألمون. ولا يسع هذه المرأة الصابرة إلا البكاء ومزيدا من البكاء على مصير أبناء جلدتها وما أصابهم من عمى البصيرة بالطبع، وهنا لابد أن أقف بك وقفة عقل وإدراك ونظرة ثاقبة لما حاول الروائي جوزيه ساراماغو أن يظهره لنا، فالعمى الذي يتكلم عنه هو تعبير صارخ عن الجهل الذي يجعل الإنسان يتخلى عن أكبر نعمة وهبها الخالق إنها البصيرة، والرؤية الإنسانية التي تمكنه من الاستمرار والتقدم. فالجهل عمى أبيض يغفل صاحبه عن محيطه وواقعه وينتحر في خضم من الظلمات لا يستطيع الفكاك منه، و في الرواية ملمس جدّي لما تمر به مجتمعاتنا من محن وهزائم وتدهور سببها العمى الأبيض "الجهل”. وينقلنا ساراماغو إلى منحى آخر من المفارقات العجيبة، بإظهار ذلك القلق الذي يصيب شابة عمياء زانية على والديها وكيف تبذل جهدها من أجل الاطمئنان عليهما وتطمئنهما عليها، فالبذرة هنا طيبة لكن التربة التي وجدت الفتاة نفسها بداخلها هي الفاسدة. والحب في السرد عند الروائي ساراماغو أعمى فعندما تسترد الفتاة بصرها وترى العجوز الذي أحبته قبيح الشكل والمنظر تتركه، فالحب المبني على جهل بالأخلاق والمبادئ والجمال لابد من التخلي عنه دون أسف وبلا رجعة. عندما يختفي النظام والرقابة يتحول البشر إلى وحوشٍ بشرية عمياء لا تتوقف عند مبدأ أو مسلك أخلاقي رفيع، فتنقطع الكهرباء ويتوقف ضخ المياه فتعم الفوضى في المدينة العمياء وتنتشر الأوساخ والأمراض والجثث. فكيف في أتون هذه الفوضى يمكنك رؤية الصواب؟ فحاسة الشم في هذا الظرف لن تفيد في شيء بل ستساعد في زيادة التيه عن معالم الوجود والاستقرار تماماً. فهوية الإنسان تتجلى في صميم رؤيته للواقع وتفاعله معه وخلقه لبيئة ملائمة للعيش ببصيرة وعلم، فعندما يختتم ساراماغو روايته بأن يعيد للناس أبصارهم، فيسيرون مبتهجين في الشوارع ومحتفلين بعودتهم إلى حظيرة المبصرين. هنا تعلق المرأة التي ظلت مبصرة على هذا الحدث بقولها: "أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقا نرى”. الرواية تكشف الجانب المظلم من طبيعة الإنسان عندما يصاب بالعمى الذي ينتشر داخل المدينة، فيطفو إلى السطح زيف الحضارة ومدى تدمير العمق الإنساني الفعال والحقيقي في خضم من السرعة في اتجاه المصلحة الشخصية والأنانية. ومن هنا نضع أيدينا على رواية عابرة للزمان والمكان فاتحة الباب على معان وإشارات للخلود والحكمة.