الطائر الحر
Well-Known Member
لوحة "The Bezique Game" لغوستاف كاييبوت
في عام 1993، كان عالم النفس "جيمس كاتنج" في زيارة لـ متحف أورسيه في باريس لمشاهدة لوحة "رقص في مولان دو لاغاليت" لــ"رينوار"، التي تعد من أعظم الأعمال الفنية الانطباعية، ولكنه بدلا من ذلك وجد نفسه منجذبا إلى لوحة في الغرفة المجاورة: منظر غامض وساحر للجليد على الأسطح الباريسية، لم يكن قد سمع باللوحة من قبل ولا سمع باسم صاحبها "غوستاف كاييبوت".
منذ خمسة عقود تقريبا لم يكن اسم "غوستاف كاييبوت" (1848- 1894) معروفا كما هو معروف الآن، لقد نسي "كاييبوت" لأكثر من ثمانين عاما، بالرغم من أنه كان أحد أهم أعضاء الأسرة الانطباعية عندما كانت في أوجها، ورغم أن المدرسة الانطباعية نالت أكبر قدر من التحليل والأضواء والتقدير؛ لأنها الحركة التي فتحت الباب أمام الحداثة في الفنون البصرية، لكن بالرغم من ذلك ظلت أعماله الرائعة بعيدة عن الأضواء ما يقرب من قرن من الزمان.
غوستاف كاييبوت، أسطح المنازل (تأثير الثلج) 1878-1879 (مواقع التواصل الإجتماعي)
تعد لوحة "شارع باريسي في يوم ممطر" واحدة من أهم الأعمال الانطباعية، وهي أهم أعمال "كاييبوت"، التي استطاع من خلالها أن يرسم باريس في لحظة تحول جذري؛ حيث بدأت باريس التي نعرفها الآن تتشكل، يقول "جيسون فاراغو" إن هناك شيئين يميزان باريس يعرفهما الجميع، السماء الرمادية الغائمة والأزياء السوداء، لقد كانت باريس هكذا عام 1877 كما ظهرت في اللوحة وما زالت كما هي حتى الآن.
في العام 1851 عملت حكومة نابليون الثالث على تجديد شوارع باريس القديمة والرثّة وتحويلها إلى شوارع وطرقات مبنية على أحدث الطرازات المعمارية، ونتيجةً لهذا التحويل، أصبحت باريس عاصمة عالمية وواحدة من أكبر المدن التجارية في العالم، تصور لوحة "شارع باريسي في يوم ممطر" مشهدا من حي "سينت لازار" الذي نال القسط الأوفر من عمليات التطوير وإعادة البناء.
في اللوحة أمامنا مشهد معقد وشديد البهاء لباريس الجديدة، وشوارعها العريضة المشجرة التي شقت مؤخرا، والمجمعات السكنية الحديثة على جانبي هذه الطرق، يقدم "كاييبوت" الطبقة الوسطى البرجوازية التي تقطر في هذه المدينة، الشخصيات التي تظهر في مقدمة اللوحة ترتدي ملابس أنيقة، وتحمل مظلات تقيهم من المطر المنهمر؛ لكننا في الوقت ذاته نلاحظ أناسا من طبقات مختلفة.
لو أمعنا النظر سنجد أناسا من الطبقة العليا أو من الطبقة الوسطى العليا؛ لكننا نرى خلف الكتف اليمين للسيدة التي في المقدمة، سيدة أخرى تبدو من الطبقة العاملة، وفي خلفية اللوحة يظهر -أيضا- شخص آخر يحمل سلما ويبدو أنه عامل أيضا، إن إحدى التعريفات الجديدة للمدن الحضارية تتميز باختلاط الناس الذين ينتمون إلى طبقات مختلفة في الشوارع؛ لذا يمكننا أن نقول -أيضا- إن موضوع هذه اللوحة هو هذا الاختلاط بين الطبقات في المدينة.
يمكن القول إن هذه اللوحة هي نتاج النظرة الجديدة للتصوير الفوتوغرافي، والذي كان "كاييبوت" مهتما به بالفعل، تصور اللوحة مزاج الناس في لحظة عفوية من يوم ممطر؛ فالشخصيات الأساسية لا تقف في منتصف اللوحة، وهذا يتناقض مع قواعد الرسم الكلاسيكي.
تبدو اللوحة مفعمة بالحركة، كأن "كاييبوت" تعمد تقديم هذه التناقضات؛ ليصور كيف أن العالم الحديث أصبح يبدو كمزيج معقد، تختلط فيه العلاقات بشكل غير متوقع، ربما أراد أن يقول إن هذا العالم مفكك وزائل.
كان "كاييبوت" مهندسا معماريا، وكان شغوفا جدا بالفن، وقد استخدم ما تلقاه في الهندسة، وطوعه ليطبقها في هذه اللوحة، ومن الواضح أن "كاييبوت" تعمد تشويه حجم المباني والأبعاد والمسافات التى تفصل فيما بينها؛ لكي يخلق فضاء رحبا يعكس ما طرأ على المدينة من تحديثات.
واستمر "كاييبوت" في رسم موضوعات حضارية؛ لكن أعماله لا يغلب عليها موضوع واحد أو أسلوب واحد في الرسم، صور "كاييبوت" موضوعات غريبة جدا، وكان يميل للتجريب في استخدام الأساليب الفنية التي يصور بها أعماله.
غوستاف كاييبوت، شارع باريسي في يوم ممطر 1877م (مواقع التواصل الإجتماعي)
محاسن الثروة
إن معظم ما نعرفه عن فناني تلك الفترة، أنهم كانوا فقراء، يبيعون لوحاتهم كي يواصلوا الحياة؛ لكن "كاييبوت" لم يكن من هؤلاء، لقد كان والد "كاييبوت" فاحش الثراء، وعندما توفي ورث "كاييبوت" ثروة ضخمة، فلم يكن بحاجة لبيع لوحاته، وظلت معظم أعماله ملكا للعائلة يتم توارثها، هذا السبب تحديدا هو ما جعل أعماله تبتعد عن الأضواء لسنوات طويلة.
يعرف "كاييبوت" تاريخيا بأنه جامع لوحات أكثر من كونه فنانا، وأكبر ممول للحركة الانطباعية، وهو الذي وفر قاعات العرض للعديد من معارضها الفنية، وكان يقوم بشراء العديد من أعمال زملائه، ويقرضهم كثيرا من ماله الخاص؛ بل إنه تولى دفع إيجار سكن "مونيه" لفترة من الزمن، وعندما توفي كان أكبر جامع للوحات الانطباعية في العالم.
تبرع "كاييبوت" للدولة الفرنسية بسبع وستين لوحة من أهم لوحات الانطباعية، وهي أعمال لا تقدر بثمن، لـ"سيزان وديجا ورينوار ومونيه وبيسارو وسيسلي"، ومن المدهش أن متحفي اللوفر واللوكسمبرج رفضا في البداية قبول اللوحات بزعم عدم وجود مساحة كافية لعرض كل هذه اللوحات، والغريب أن "كييبوت" لم يمنح أيا من لوحاته ضمن هذه الهبة.
لم يكن "كاييبوت" مضطرا لبيع لوحاته من أجل كسب العيش، مكنته الثروة التي كان يملكها من العمل بطريقته الخاصة؛ مما جعله لا يبالي كثيرا عندما رفضت أول لوحة له "كاشطو الأرضية" في صالون باريس (1875).
غوستاف كاييبوت، كاشطو الأرضية (1875) (مواقع التواصل الإجتماعي)
يقول "بيت هاريس" و"ستيفن زوكر" إن هذه اللوحة تقدم صورة مختلفة للعمل اليدوي الذي نراه في لوحة كوربيه "عمال الحجارة" التي تصور رجلين يعملان في اقتلاع الحجارة خارجيا تحت أشعة الشمس، وتعتبر لوحة "كوربيه" تكريما للعاملين في هذا المجال.
لكن في لوحة "كاييبوت" نرى ثلاثة رجال داخل غرفة فائقة الجمال، وتزدان أكثر بالضوء الذي يخيم عليها، لكن الأمر الملفت هنا أنه لا يمكن رؤية وجوه العمال في لوحة "كوربيه"، وبخلاف ذلك يمكن رؤية وجوه العمال في لوحة "كاييبوت" والذين يظهرون وأنصاف أجسامهم عارية.
في الغالب نتوقع رؤية عمال الحجارة وأجسامهم نصف عارية؛ إلا أنهم في لوحة "كوربيه"، أجسامهم مغطاة بالملابس بشكل كامل، وذلك خلاف ما نراه في لوحة كاشطو الأرضية، الذين يظهرون بأجسامهم نصف عارية وجاثمين على ركبهم أمام الرسام، الأمر الذي يعكس جمال أجسادهم تحت التأثيرات الضوئية، وإظهار ملامح عضلات أذرعهم وظهورهم.
يعكس الضوء الساطع في الغرفة لونا ذهبيا حول الغرفة، ويشعر كل ذلك الناظر بجمال وجاذبية أجساد هؤلاء العمال، إذن ركز "كاييبوت" على أجساد العمال في اللوحة؛ بينما ركز "كوربيه" على بطولة هؤلاء العمال.
أثارت هذه اللوحة بعض المشاكل بسبب عرضها لموضوع يعد حساسا في ذلك الوقت، لقد كان الشذوذ الجنسي في ذلك الوقت شيئا لا يمكن تقبله، وكان يتم إلقاء القبض على من يقوم بذلك، وكان تقليد رسم الرجال العراة تقريبا قد اندثر؛ لذلك أثار "كاييبوت" الكثير من التساؤلات حوله بسبب هذه اللوحة، هل رسم هذه اللوحة بسبب ميوله الجنسية؟ لكن "كاييبوت" لم يبال إذا كانت هذه اللوحة ستباع، فهو لم يكن بحاجة لذلك، وكانت ثروته تمكنه من رسم ما يريد.!
ربما تعكس اللوحة أيضا مفهوم الطبقية، لقد صور "كاييبوت" الرجال من منظور أعلى نوعا ما من وضعيتهم، كأنه كان ينظر إليهم بفوقية.
كوربيه، عمال الحجارة (مواقع التواصل الإجتماعي)
المدينة عند "غوستاف كاييبوت" و"إدوارد هوبر"
ترتبط المدن الحضرية في إحدى صورها بالوحدة والانفصال والاغتراب، وقد تجسد هذا في لوحات الفنان الأمريكي "إدوارد هوبر" لكن "غوستاف كاييبوت" أيضا صور المدن الحديثة مع بداية ظهورها، وهناك بعض العناصر المشتركة بين لوحات "هوبر" ولوحات "غوستاف كاييبوت".
من أبرز هذه العناصر، تصوير الأشخاص الذين ينظرون من الشرفات أو من النوافذ، في الغالب يكونون وحدهم، ينظرون بعيدا نحو شيء ما غير واضح، مثل لوحة "كاييبوت": "شاب بالقرب من النافذة"، غير أن مدينة "كاييبوت" لا تعكس الوحدة والشعور بالانفصال؛ بقدر ما تعكس جمال باريس في ذلك الوقت، بينما لوحات "هوبر" كانت تركز على الصمت الناتج عن الانفصال العميق الذي سببته المدنية، فلوحات "كاييبوت" الحضرية ليست صامتة، ومازالت تحمل لمسة دافئة ومسحة جمال مهيب، رغم الوحدة؛ هذه هي باريس كما نعرفها جميعا.
غوستاف كاييبوت، شاب بالقرب من النافذة (1875)(مواقع التواصل الإجتماعي)
وكما في لوحات "هوبر" يلعب المعمار دورا أساسيا عند "كاييبوت"، من الملفت أن "كاييبوت" صور بعض المشاهد من أماكن غير مألوفة مثلما فعل "إدوارد هوبر"، لكن "كاييبوت" كان يصور أماكنه من الأعلى؛ بينما "هوبر" كان يصورها من أماكن غير بشرية؛ حيث يصعب أن يتواجد بشر في تلك الأماكن.
إننا في هذه اللوحات نرى الإنسان يتوق إلى موضع آخر، إنه ينظر من الشرفات التي يمكنه من خلالها النظر إلى عالم أرحب، لقد وضع المعمار حاجزا بين الإنسان وبين الطبيعة التي كانت تشعره بالحرية، الطبيعة التي لم يكن يحدها شيء، فمشاهد السماء والبحر والمساحات الخضراء في الريف تتميز جميعها بأن العين البشرية لا تستطيع رؤية نهايتها، بينما المعمار الحديث يعمل على تقليص هذه الرؤية.
إن مساحة الرؤية التي يمكن أن تصلها عين الإنسان في هذا العالم الحديث باتت قصيرة للغاية، وتصطدم طوال الوقت بالحواجز والمعمار والأماكن الضيقة، ربما يفسر هذا توق هذه الشخصيات للنظر بعيدا، والشعور بأن هناك شيئا ما غيبيا غير متوقع على وشك الحدوث.
إن محاولة "هوبر" و"كاييبوت" لتصوير المعمار في صور ضخمة من أعلى ومن أماكن غريبة وغير بشرية ربما تعكس تلك الرغبة بالتملص منه، والتأكيد على كون الإنسان ما زال بإمكانه أن يفرض سطوته على تلك الكتل الحجرية الضخمة التي يشعر أمام ضخامتها ورسوخها بالضآلة.
غوستاف كاييبوت (مواقع التواصل الإجتماعي)
يقول "سكوت سوليفان": "رغم أن كاييبوت قد يكون أقل قدرة في الإبداع اللوني من مونيه وأضعف حرفيا من ديجا؛ فإنه أبدع عشر لوحات تعتبر كل واحدة في ذاتها تحفة فنية بكل المقاييس" ويقول "كيرك فرنديو" (أحد أبرز نقاد الفنون التشكيلية الأمريكين) "إن كل لوحة من هذه اللوحات تساوي كل أعمال بيسارو ومعظم أعمال رينوار، وبعض أعمال مونيه خلال نفس الفترة".
لم يكن "كاييبوت" يرسم من أجل لقمة العيش؛ لذلك استغرقته اهتمامات كثيرة أخرى، مثل سباقات اليخوت، وزراعة زهور الأوركيد، وجمع طوابع البريد (بيعت مجموعته بملايين الدولارات) بالإضافة إلى أنه عاش الحياة التي كان يصورها في لوحاته، ففي فترة تقل عن العشرين عاما، أبدع ما يقرب من أربعمئة عمل تغطي مشاهد الحياة اليومية للطبقة الوسطى البرجوازية، وتلمس بحساسية هيمنة البرجوازية والتوسع الاقتصادي الذي حدث بعد هزيمة نابليون الثالث.
ورغم أن أشهر مجموعة لوحات في متحف الأورسيه بفرنسا كانت ملك "غوستاف كاييبوت"، وقد تبرع بها للدولة الفرنسية، وحافظ من خلالها على إرث الانطباعيين الذين كان معظمهم من أصدقائه، إلا أن هناك القليل جدا من المعلومات متوافرة عن شخصية هذا الفنان.