ولد المرحوم (أبو عابد) محمد أمين بن عبد الرحمن يكن عام 1937 من أسرة حلبية عريقة. تعني النسبة /يكن/ ابن أخت السلطان، وهي نسبة تؤكد أن أسرته على صلة وثيقة بالسلطنة العثمانية من قبل.
كانت ولادته، قرب المدرسة العثمانية في حلب، وهي مدرسة كبيرة وشهيرة بناها عثمان باشا يكن. ونشأ المرحوم في (قناق) آل يكن في حي باب النصر قرب المدرسة المذكورة. و(قناق) كلمة تركية تعني (القصر).
انتسب أمين يكن منذ فتوته الأولى، ستة عشر عاماً، إلى جماعة الإخوان المسلمين، مما أثار حفيظة والده عليه، وانخرط في العمل الدعوي العام على جميع المحاور، وقدمه تميزه بالجدية والحزم والذكاء على المستويين التنظيمي والعام.
شارك المرحوم أمين يكن في عهد الوحدة بانتخابات الاتحاد القومي عام 1958، وله من العمر واحد وعشرون عاماً، ونجح فيها ليكون أصغر شاب ينجح في انتخابات عامة، مزاحماً بذلك الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية. ولقد ساعده على هذا النجاح انتماؤه الإسلامي، حيث كانت الحركة الإسلامية في حلب ذات ثقل نوعي، كما ساعده على ذلك تميزه ونبوغه وموقع أسرته الاجتماعي.
بعد انقلاب الثامن من آذار، واستلام حزب البعث السلطة وإعلان الحرب على جميع القوى السياسية المخالفة، وبشكل أخص القوى الإسلامية، توجهت جماعة الإخوان المسلمين إلى إعادة تنظيم صفوف أبنائها على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة. وقد أدت سياسات القمع تلك إلى انسحاب الكثير من القيادات التقليدية إلى الظل، ليحتل المواقع المتقدمة قيادات شابة. وقد كان المرحوم أمين من هذه القيادات حيث وصل إلى موقع نائب المراقب العام بما ناله من ثقة وإعجاب قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، الذي كان يرى فيه انموذجاً للداعية العامل، ويضع فيه قدراً كبيراً من الثقة.
بدأ المرحوم أمين مع حداثة السن يضع الأسس المتينة والراسخة لتنظيم إسلامي قوي الدعائم، واضح الأهداف محدد الأساليب والآليات. وقد استطاع خلال عشر سنوات، مع إخوانه، أن يبني تنظيماً قوياً في ظروف شديدة القسوة يخيم فيها الاستبداد على القطر من أدناه إلى أقصاه.
كان المرحوم (أمين) نائباً للمراقب العام للجماعة، وقد اضطر المراقب العام بسبب الظروف السياسية المشار إليها، وبسبب استهدافه وسائر القيادات السياسية التقليدية إلى مغادرة القطر إلى لبنان ومن ثم إلى ألمانيا حيث استقر هناك، وكان لهذا الوضع الاستثنائي دور في إلقاء المزيد من العبء على كاهل الشاب الذي احتل موقع نائب المراقب العام، وقام بحقه خير قيام.
إن دراسة تجربة البناء التنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين من الفترة 1963 ـ 1973، تشير إلى عمق التخطيط وحسن الإدارة والوعي المبصر الذي كان يتمتع به أبو عابد رحمه الله تعالى. فإذا كان الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى، قد أسس الجماعة مع الرعيل الأول في الأربعينات في مناخ حرّ ومفتوح فإن ما قام به أبو عابد مع إخوانه منذ 1963 هو إعادة تأسيس بالمعنى الدقيق للكلمة. إذ كانت الجماعة قد حلت نفسها عملياً في عهد الوحدة، التزاماً بالقانون القاضي بحل الأحزاب، وحرصاً من الجماعة على إنجاح تجربة الوحدة، التي كانت لها مكانة حقيقية سامية في رؤيتها وفي برامجها.
كما كانت فترة الانفصال مرحلة للعمل المعوم الذي يعتمد على الجماهير العريضة، فكانت الجماعة تثبت وجودها بقوة من خلال تيارها العريض في الشارع السوري، وبقوة شخصياتها القيادية، التي كانت تصول وتجول في الساحة بقواها الذاتية، وبقواعدها الجماهيرية، دون أن يكون للجماعة بناء تنظيمي حقيقي مترابط على النحو الذي أنجزه فيما بعد المرحوم أمين فيما عرف بالمرحلة السرية.
وكانت المرحلة السرية كما كان المرحوم يؤكد في جميع لقاءاته مع الكوادر الإخوانية ضرورة اقتضتها الظروف الطارئة، وليست مرحلة طبيعية في مسيرة الحياة الدعوية، كما فهم البعض أخذاً من ابتداء الرسول صلى الله عليه وسلم عهده بمرحلة سرية !!
وهكذا استطاع المرحوم مع بقية إخوانه، وبروح الفريق الفاعل، أن يبنوا تنظيماً قوياً متماسكاً على أسس شرعية وعلمية وإدارية دقيقة، وكان هذا التنظيم رغم سريته يفرض نفسه على الساحة السورية. كان مسبار قوته التجارب الانتخابية، و(الهَبّات) الشعبية التي كانت تقوم بين الحين والآخر للاحتجاج على بعض التصرفات الشاذة التي كانت تقدم عليها السلطة، فيعلن الإضراب العام أكثر من مرة في المدن السورية الكبرى بتوجيه الجماعة ونداءاتها لأبناء الشعب السوري الذي لم يجبن يوماً عن الانتصار لدينه وعقيدته ووطنه !!
كان التنظيم يتطور لولبياً في حركة مبصرة، ويتقدم من موقع إلى آخر وفق رؤية تستهدف بناء الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. فلم يكن المرحوم أمين شغوفاً (بالمنصب) و(السلطة) شغفه بالتأسيس ورفع البناء. وكان يعتقد أن زيادة سطر في سوية البناء تستحق الكثير من التضحية والجهد. وكان رحمه الله كثير التحذير من الأعمال الانفعالية، وردود الفعل العاطفية، التي تتمظهر بمظهر القوة أحياناً وهي إلى النزق وقلة الصبر أقرب.
وفي أواخر الستينات عصفت بجماعة الإخوان المسلمين في سورية عاصفة الخلاف الداخلي الذي كانت له أسبابه المتداخلة، والذي أثر سلبياً بلا شك على مسيرة الجماعة وقوتها، ومعنويات أبنائها. وكان المرحوم أمين يكن بحكم موقعه في أحد طرفي هذا الخلاف، ويمكننا أن نعتبر هذا الخلاف موضوعياً العتبة الأساسية لكل ما نزل في الجماعة من بعد، إذ كانت ثمرته المباشرة ابتعاد العديد من القيادات المُجرِّبة عن الصف الأول في الجماعة.
لقد حصن المرحوم أمين يكن ومن معه من قيادات الصف الأول الجماعةَ خلال عقد وأكثر، بما كانوا يتمتعون به من بصيرة وحزم ورؤية سياسية بعيدة المدى، في مواجهة دعوات جانبية كان يحملها أشخاص يعيشون على الهامش ويحاولون زج الجماعة في معارك لم تكن قط من رؤيتها ولا من منهجها منذ تأسست على يد الدكتور السباعي رحمه الله.
وفي أتون الخلاف المضطرب الذي شق الجماعة تاريخياً إلى تنظيمين، تنظيم (حلب) وتنظيم (دمشق)، تقدم العديد من الشخصيات إلى مواقع حيادية في ظروف استثنائية، أشبه بالمحن التي تمر على الإنسان فتجعله يرى (حسناً ما ليس بالحسن..).
وفي عام 1969، اعتقل المرحوم أمين في حلب، نتيجة انكشاف حلقة من حلقات التنظيم في مدينة إدلب.. وقادت التحقيقات أجهزة الأمن إلى رأس التنظيم المرحوم أمين.
في المعتقل لاقى المرحوم من التعذيب، ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبه في صفحات حسناته، وكان من الممكن لو ضعف، أن يفدي نفسه بالاعتراف على بعض إخوانه، وكان اعترافه سيمثل انهياراً كاملاً للتنظيم في حينها إذ كانت جميع الأوراق بيده، ولكنه صبر صبر الرجال، حتى يئس المحققون الذين أمعنوا في تعذيبه، من أن يحصلوا منه على شيء، فخرج من السجن ليعود إلى موقعه في قيادة الجماعة بهمة عالية وروح متسامية. واستمر في موقعه ذاك حتى عام 1973، حيث تعرضت الجماعة لهزة أخرى، انكشفت فيها بعض القيادات هذه المرة في مدينة دمشق، وقادت التحقيقات إليه مرة أخرى.. ولكنه استطاع بجرأته أن يفلت من الاعتقال وأن يتوارى لفترة طويلة، كان من خلالها يمارس مسؤولياته على خير وجه.. ثم اضطر أخيراً أن يغادر سورية بعد أن شعر أن السلطة تضيق عليه الخناق.
تدخلت أسرته لإجراء تسوية لعودته إلى سورية شريطة أن يعتزل العمل السياسي، فعاد سنة 1976 وسط احتفاء شعبي كبير، وقد ابتهجت منطقته شمال شرق حلب (قرية ترحين) بعودته، وكان استقباله أشبه بعرس شعبي عام دام قرابة الشهر. وقد وفى المرحوم بشرط عودته فلم يتسلم أي موقع تنظيمي مباشر أو غير مباشر، ولكن ظلت عينه على البناء الذي أشرف على بنائه، وقلبه يخفق بحب إخوانه ودعوته.
ثم وقعت الجماعة في الفخ الذي نصب لها، بانجرارها إلى أعمال العنف التي بدأت فردية منذ 1975، ثم انتقلت إلى جماعية منذ 1979، ونتيجة لإرهاب السلطة واستفزازاتها الدائمة للمشاعر الإسلامية، حيث أعلنت السلطة بعد عملية المدفعية التي نفذها مجموعة من الشباب بإشراف ضابط حزبي، الحرب على الجماعة وأفرادها في الداخل والخارج، في بيان رسمي أصدره وزير الداخلية عدنان دباغ آنذاك، ولم ينفع في دفع التهمة عن الجماعة أنها أصدرت بياناً رسمياً أعلنت فيه عدم علاقتها بالعملية الأليمة.
كان هذا الحادث بمثابة الصدمة للمرحوم أمين يكن، وكان يرقب هذه الأحداث بعين دامعة وقلب كسير، ولا يفتأ يرسل الرسائل الشفوية لمن عرف من إخوانه ليخلي الساحة، ويغادر البلد، ناصحاً بعدم التورط في أعمال العنف أو الاستسلام للاعتقال.
كانت المغادرة هي نصيحته التي ادخرها لكثير ممن يثق به من الإخوان استبقاء وإشفاقاً، فقد كان يقرأ بعين بصيرته نتائج الأحداث وتداعياتها.
وبعد أن استطارت نار العنف، واشتد أوارها، وكثر ضحاياها من أبناء الشعب السوري توجهت النية الرسمية ممثلة في شخص الرئيس حافظ الأسد إلى البحث عن مخرج يضع حداً لدوامة العنف، ويقي البلد مخاطر فتنة لن تكون أبداً في مصلحة الوطن.. وكان المرحوم أمين يكن هو الشخص الأول المؤهل لهذه المهمة.
وتحمل الشيخ أمين المسؤولية بأمانة وقوة، ولعب دور الوسيط الناصح والمشفق، فكانت لقاءاته تتم مباشرة مع الرئيس حافظ الأسد من جهة ومع قيادة الجماعة من جهة أخرى، مما أدى إلى حالة من التوافق قادت إلى إطلاق سراح المئات من أعضاء التنظيم الإخواني وقياداته، في توجه حقيقي لحل الأزمة، وتدارك ما فات، والعودة باللحمة الوطنية إلى واقعها المنشود.
كانت ولادته، قرب المدرسة العثمانية في حلب، وهي مدرسة كبيرة وشهيرة بناها عثمان باشا يكن. ونشأ المرحوم في (قناق) آل يكن في حي باب النصر قرب المدرسة المذكورة. و(قناق) كلمة تركية تعني (القصر).
انتسب أمين يكن منذ فتوته الأولى، ستة عشر عاماً، إلى جماعة الإخوان المسلمين، مما أثار حفيظة والده عليه، وانخرط في العمل الدعوي العام على جميع المحاور، وقدمه تميزه بالجدية والحزم والذكاء على المستويين التنظيمي والعام.
شارك المرحوم أمين يكن في عهد الوحدة بانتخابات الاتحاد القومي عام 1958، وله من العمر واحد وعشرون عاماً، ونجح فيها ليكون أصغر شاب ينجح في انتخابات عامة، مزاحماً بذلك الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية. ولقد ساعده على هذا النجاح انتماؤه الإسلامي، حيث كانت الحركة الإسلامية في حلب ذات ثقل نوعي، كما ساعده على ذلك تميزه ونبوغه وموقع أسرته الاجتماعي.
بعد انقلاب الثامن من آذار، واستلام حزب البعث السلطة وإعلان الحرب على جميع القوى السياسية المخالفة، وبشكل أخص القوى الإسلامية، توجهت جماعة الإخوان المسلمين إلى إعادة تنظيم صفوف أبنائها على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة. وقد أدت سياسات القمع تلك إلى انسحاب الكثير من القيادات التقليدية إلى الظل، ليحتل المواقع المتقدمة قيادات شابة. وقد كان المرحوم أمين من هذه القيادات حيث وصل إلى موقع نائب المراقب العام بما ناله من ثقة وإعجاب قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، الذي كان يرى فيه انموذجاً للداعية العامل، ويضع فيه قدراً كبيراً من الثقة.
بدأ المرحوم أمين مع حداثة السن يضع الأسس المتينة والراسخة لتنظيم إسلامي قوي الدعائم، واضح الأهداف محدد الأساليب والآليات. وقد استطاع خلال عشر سنوات، مع إخوانه، أن يبني تنظيماً قوياً في ظروف شديدة القسوة يخيم فيها الاستبداد على القطر من أدناه إلى أقصاه.
كان المرحوم (أمين) نائباً للمراقب العام للجماعة، وقد اضطر المراقب العام بسبب الظروف السياسية المشار إليها، وبسبب استهدافه وسائر القيادات السياسية التقليدية إلى مغادرة القطر إلى لبنان ومن ثم إلى ألمانيا حيث استقر هناك، وكان لهذا الوضع الاستثنائي دور في إلقاء المزيد من العبء على كاهل الشاب الذي احتل موقع نائب المراقب العام، وقام بحقه خير قيام.
إن دراسة تجربة البناء التنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين من الفترة 1963 ـ 1973، تشير إلى عمق التخطيط وحسن الإدارة والوعي المبصر الذي كان يتمتع به أبو عابد رحمه الله تعالى. فإذا كان الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى، قد أسس الجماعة مع الرعيل الأول في الأربعينات في مناخ حرّ ومفتوح فإن ما قام به أبو عابد مع إخوانه منذ 1963 هو إعادة تأسيس بالمعنى الدقيق للكلمة. إذ كانت الجماعة قد حلت نفسها عملياً في عهد الوحدة، التزاماً بالقانون القاضي بحل الأحزاب، وحرصاً من الجماعة على إنجاح تجربة الوحدة، التي كانت لها مكانة حقيقية سامية في رؤيتها وفي برامجها.
كما كانت فترة الانفصال مرحلة للعمل المعوم الذي يعتمد على الجماهير العريضة، فكانت الجماعة تثبت وجودها بقوة من خلال تيارها العريض في الشارع السوري، وبقوة شخصياتها القيادية، التي كانت تصول وتجول في الساحة بقواها الذاتية، وبقواعدها الجماهيرية، دون أن يكون للجماعة بناء تنظيمي حقيقي مترابط على النحو الذي أنجزه فيما بعد المرحوم أمين فيما عرف بالمرحلة السرية.
وكانت المرحلة السرية كما كان المرحوم يؤكد في جميع لقاءاته مع الكوادر الإخوانية ضرورة اقتضتها الظروف الطارئة، وليست مرحلة طبيعية في مسيرة الحياة الدعوية، كما فهم البعض أخذاً من ابتداء الرسول صلى الله عليه وسلم عهده بمرحلة سرية !!
وهكذا استطاع المرحوم مع بقية إخوانه، وبروح الفريق الفاعل، أن يبنوا تنظيماً قوياً متماسكاً على أسس شرعية وعلمية وإدارية دقيقة، وكان هذا التنظيم رغم سريته يفرض نفسه على الساحة السورية. كان مسبار قوته التجارب الانتخابية، و(الهَبّات) الشعبية التي كانت تقوم بين الحين والآخر للاحتجاج على بعض التصرفات الشاذة التي كانت تقدم عليها السلطة، فيعلن الإضراب العام أكثر من مرة في المدن السورية الكبرى بتوجيه الجماعة ونداءاتها لأبناء الشعب السوري الذي لم يجبن يوماً عن الانتصار لدينه وعقيدته ووطنه !!
كان التنظيم يتطور لولبياً في حركة مبصرة، ويتقدم من موقع إلى آخر وفق رؤية تستهدف بناء الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. فلم يكن المرحوم أمين شغوفاً (بالمنصب) و(السلطة) شغفه بالتأسيس ورفع البناء. وكان يعتقد أن زيادة سطر في سوية البناء تستحق الكثير من التضحية والجهد. وكان رحمه الله كثير التحذير من الأعمال الانفعالية، وردود الفعل العاطفية، التي تتمظهر بمظهر القوة أحياناً وهي إلى النزق وقلة الصبر أقرب.
وفي أواخر الستينات عصفت بجماعة الإخوان المسلمين في سورية عاصفة الخلاف الداخلي الذي كانت له أسبابه المتداخلة، والذي أثر سلبياً بلا شك على مسيرة الجماعة وقوتها، ومعنويات أبنائها. وكان المرحوم أمين يكن بحكم موقعه في أحد طرفي هذا الخلاف، ويمكننا أن نعتبر هذا الخلاف موضوعياً العتبة الأساسية لكل ما نزل في الجماعة من بعد، إذ كانت ثمرته المباشرة ابتعاد العديد من القيادات المُجرِّبة عن الصف الأول في الجماعة.
لقد حصن المرحوم أمين يكن ومن معه من قيادات الصف الأول الجماعةَ خلال عقد وأكثر، بما كانوا يتمتعون به من بصيرة وحزم ورؤية سياسية بعيدة المدى، في مواجهة دعوات جانبية كان يحملها أشخاص يعيشون على الهامش ويحاولون زج الجماعة في معارك لم تكن قط من رؤيتها ولا من منهجها منذ تأسست على يد الدكتور السباعي رحمه الله.
وفي أتون الخلاف المضطرب الذي شق الجماعة تاريخياً إلى تنظيمين، تنظيم (حلب) وتنظيم (دمشق)، تقدم العديد من الشخصيات إلى مواقع حيادية في ظروف استثنائية، أشبه بالمحن التي تمر على الإنسان فتجعله يرى (حسناً ما ليس بالحسن..).
وفي عام 1969، اعتقل المرحوم أمين في حلب، نتيجة انكشاف حلقة من حلقات التنظيم في مدينة إدلب.. وقادت التحقيقات أجهزة الأمن إلى رأس التنظيم المرحوم أمين.
في المعتقل لاقى المرحوم من التعذيب، ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبه في صفحات حسناته، وكان من الممكن لو ضعف، أن يفدي نفسه بالاعتراف على بعض إخوانه، وكان اعترافه سيمثل انهياراً كاملاً للتنظيم في حينها إذ كانت جميع الأوراق بيده، ولكنه صبر صبر الرجال، حتى يئس المحققون الذين أمعنوا في تعذيبه، من أن يحصلوا منه على شيء، فخرج من السجن ليعود إلى موقعه في قيادة الجماعة بهمة عالية وروح متسامية. واستمر في موقعه ذاك حتى عام 1973، حيث تعرضت الجماعة لهزة أخرى، انكشفت فيها بعض القيادات هذه المرة في مدينة دمشق، وقادت التحقيقات إليه مرة أخرى.. ولكنه استطاع بجرأته أن يفلت من الاعتقال وأن يتوارى لفترة طويلة، كان من خلالها يمارس مسؤولياته على خير وجه.. ثم اضطر أخيراً أن يغادر سورية بعد أن شعر أن السلطة تضيق عليه الخناق.
تدخلت أسرته لإجراء تسوية لعودته إلى سورية شريطة أن يعتزل العمل السياسي، فعاد سنة 1976 وسط احتفاء شعبي كبير، وقد ابتهجت منطقته شمال شرق حلب (قرية ترحين) بعودته، وكان استقباله أشبه بعرس شعبي عام دام قرابة الشهر. وقد وفى المرحوم بشرط عودته فلم يتسلم أي موقع تنظيمي مباشر أو غير مباشر، ولكن ظلت عينه على البناء الذي أشرف على بنائه، وقلبه يخفق بحب إخوانه ودعوته.
ثم وقعت الجماعة في الفخ الذي نصب لها، بانجرارها إلى أعمال العنف التي بدأت فردية منذ 1975، ثم انتقلت إلى جماعية منذ 1979، ونتيجة لإرهاب السلطة واستفزازاتها الدائمة للمشاعر الإسلامية، حيث أعلنت السلطة بعد عملية المدفعية التي نفذها مجموعة من الشباب بإشراف ضابط حزبي، الحرب على الجماعة وأفرادها في الداخل والخارج، في بيان رسمي أصدره وزير الداخلية عدنان دباغ آنذاك، ولم ينفع في دفع التهمة عن الجماعة أنها أصدرت بياناً رسمياً أعلنت فيه عدم علاقتها بالعملية الأليمة.
كان هذا الحادث بمثابة الصدمة للمرحوم أمين يكن، وكان يرقب هذه الأحداث بعين دامعة وقلب كسير، ولا يفتأ يرسل الرسائل الشفوية لمن عرف من إخوانه ليخلي الساحة، ويغادر البلد، ناصحاً بعدم التورط في أعمال العنف أو الاستسلام للاعتقال.
كانت المغادرة هي نصيحته التي ادخرها لكثير ممن يثق به من الإخوان استبقاء وإشفاقاً، فقد كان يقرأ بعين بصيرته نتائج الأحداث وتداعياتها.
وبعد أن استطارت نار العنف، واشتد أوارها، وكثر ضحاياها من أبناء الشعب السوري توجهت النية الرسمية ممثلة في شخص الرئيس حافظ الأسد إلى البحث عن مخرج يضع حداً لدوامة العنف، ويقي البلد مخاطر فتنة لن تكون أبداً في مصلحة الوطن.. وكان المرحوم أمين يكن هو الشخص الأول المؤهل لهذه المهمة.
وتحمل الشيخ أمين المسؤولية بأمانة وقوة، ولعب دور الوسيط الناصح والمشفق، فكانت لقاءاته تتم مباشرة مع الرئيس حافظ الأسد من جهة ومع قيادة الجماعة من جهة أخرى، مما أدى إلى حالة من التوافق قادت إلى إطلاق سراح المئات من أعضاء التنظيم الإخواني وقياداته، في توجه حقيقي لحل الأزمة، وتدارك ما فات، والعودة باللحمة الوطنية إلى واقعها المنشود.