- من مواليد بلدة التل، محافظة دمشق، سورية 1942م.
- حاصل على ليسانس لغة عربية في جامعة دمشق، ودبلوم عامة في التربية من جامعة دمشق.
- عمل في التدريس في سورية والسعودية، وعمل باحثاً تربوياً بالوكالة المساعدة للتطوير التربوي، قسم المناهج - الرئاسة العامة لتعليم البنات.
- توفي في الرياض، في 19/7/2003 ودفن فيها في 20/7/2003.
المؤلفات المنشورة:
- مصعب بن عمير. الداعية المجاهد أبو بصير، ظاهرة الردة في المجتمع الإسلامي، ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، نسيبة بنت كعب (أم عمارة)، المرأة المسلمة الداعية، في الأدب الإسلامي المعاصر، خالد بن سعيد بن العاص، ديوان هاشم الرفاعي (الأعمال الكاملة) جمع وتحقيق، من الشعر الإسلامي الحديث: جمع واختيار، أدب الأطفال، في القصة الإسلامية المعاصرة، دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة مع عرض ودراسة لعدد من قصص الدكتور نجيب الكيلاني، الأدب الإسلامي: أصوله وسماته، والشيخ والزعيم- أم أيمن بركة (حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الصحوة وآفاق التربية الإسلامية. عدد من الكتب المدرسية. كما أن له مقالات منشورة في الصحف المحلية والعربية.
وفيما يلي نقدم ما كتبه الفقيد بقلمه عن تجربته وسيرته الأدبيتين تحت عنوان :
وقفات وذكريات بقلمه
ثمة أشياء صغيرة تمر في حياة الإنسان دون أن يأبه لها، لأنه لا يعلم -آنذاك- مدى تأثيرها في حياته ومستقبله، ولكنه بعد مرور السنوات الطويلة، قد يتذكر بعض اللحظات والأحداث التي بقيت عالقة في ذهنه، وحية في ذكرياته، فإذا تأملها بعمق أدرك أنها كانت محطات وعلامات بارزة، كان لها تأثيرها في وجهته ومستقبله.
ولعل من المفيد الرجوع إلى بعضها، والتوقف عندها، لمعرفة الصورة الحقيقية التي سارت بها حياة الإنسان، والمؤثرات التي كان لها الأثر الفاعل في تشكيل الصورة التي آلت إليها حياته.
فضلاً عن هذا، فإن الوقوف أمام هذه المؤثرات، سيضيء طريق الأجيال المتعاقبة في خطواتها نحو المستقبل، لأن قراءة حياة الآخرين نوع من إضافة الحيوات الأخرى وتجارب الآخرين إلى حياتك وتجاربك.
في قريتي -التي كانت صغيرة قبل خمسين عاماً (1) -كان أكثر سكانها من آبائنا وأجدادنا يعملون في مهنة النحت والبناء، وهي مهنة شاقة متعبة، يتعامل فيها الرجال مع الأحجار والصخور القاسية، يقلعونها من الجبال، وينحتونها، ويصنعون منها الأشكال الهندسية والفنية المختلفة بأحجام متنوعة، ثم يرفعونها على ظهورهم إلى الجدران والأبنية العالية، ويضعونها في أمكنتها المناسبة، وما بين مصادرها في الجبال، ومواضعها في الأبنية رحلة طويلة شاقة من الجهد والصبر والعمل. وهي تشكل قطعاً فنية جميلة، وألواناً متعددة، مصقولة، ومنقوشة بشتى الأشكال والأحجام.
هذه المهنة علمت آباءنا الصلابة والصبر والثقة وعودتهم تحمل المشقات ومجابهة الصعاب، واليقين بأن تحقيق كثير من الآمال ليس بالأمر الصعب، ما دامت هناك ثقة وإرادة وصبر، والحياة عندهم تشبه البناء الذي يبدأ صورة في مخيلتهم ورسماً بسيطاً أمامهم، ثم يستمر بالظهور حتى يغدو عمارة شاهقة جميلة، أو مسجداً واسعاً رائعاً (2).
لقد كان لهذه الصورة المتكررة دون شك أثرها في نفسي وأنا أرى والدي، ورجال بلدتي يشيدون الأبنية الرائعة، ويبنون المشاريع الضخمة في مدينة دمشق، وعمان، وطرابلس، وبنغازي، والرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، والكويت، والإمارات العربية المتحدة.. وقبلها في المدن الفلسطينية: صفد، والقدس، وحيفا، ويافا(3) قبل أن تغتالها يد الغدر والخيانة، وتصبح أسيرة في أيدي يهود.
والرحلة ما بين الصخرة القاسية الكبيرة في الجبل المنيع، والحجر المنحوت والمنقوش بأشكال هندسية وفنية بديعة، تركت في أعماقنا كثيراً من دروس الصبر والتعاون والأمل.
وأصبح التعاون بين أبناء البلدة ورجالها خُلقاً، تتحقق بفضله كثير من الإنجازات المفيدة. ومن ذلك بناء المدارس، وشق الطرقات، وإقامة المساجد، وتحسين أوضاع القرية. كان هذا التعاون صورة فريدة ومشرقة جعل البلدة تتطور سريعاً، وتتحول من بلدة لا تعرف التعليم إلى بلدة تضج جنباتها بالمدارس والطلاب والطالبات، فضلاً عن المركز الثقافي، والأندية الرياضية وغيرها.
وكان هؤلاء الذين يتعاملون مع الصخور رواد العلم الحقيقيين، حينما اهتموا ببناء المدارس وتجهيزها بتعاونهم، ومن أموالهم، وتقديمها لوزارة التربية لتشرف عليها، هدية من البلدة وإنجازاً من إنجازات أبنائها البنائين.
وأصبح التعليم مزدهراً، وتحولت البلدة من قرية صغيرة إلى مركز لمنطقة واسعة، ونشأ جيل الأبناء متعلماً مثقفاً.
هذا المحيط الجاد المتعاون كان له أثر كبير في نفوس الأبناء، وما زلت أذكر كلمات سمعتها من والدي -رحمه الله - وهو واحد من جيل الآباء الصابرين، وهو يدفعني مع إخواني للتعليم، ويبين لنا أهميته فقال: "لا أريد جمع الثروة أو امتلاك العقارات، ويكفيني من الثروة حصولكم على التعليم، وإذا رأيت أحدكم يقف ويخطب في الناس، ثم سقط ميتاً، أكون راضياً.."(4).
وكان لهذه الكلمات فعل السحر في نفسي، حيث بعثت فيَّ العزم والتصميم، وفتحت أمامي آفاق المستقبل. إنها كانت تحمل قوة روحية خاصة، لأنها من أب يصارع الصخر، ويذهب ويجيء في الحر والبرد، ويسافر ويعود لينشأ أولاده متعلمين، وأصبح التعليم في نفسي أمراً عظيماً، وتحقيق أمل والدي أمنية غالية جداً، ولعل ذلك الموقف الإنساني الواعي النبيل كان ذا أثر كبير في نفسي، وطموحي الطفولي، وظل يصاحبني ويدفعني، حتى إذا ما استطعت تحقيق بعض هذه الآمال في نشر أول كتاب لي، أهديته لوالدي وكتبت في الإهداء ما يلي:
"والدي، لقد فتحتُ عيني على الحياة، لأراك تنقش على الصخر، وتعارك الجبال، وتذوق مرارة الحياة، لكي تشعل ضوءاً في كوخ مظلم. لقد عز عليك أن تنال ما طمحت إليه، فقصدت -بعناد- أن تقهر الجهل، وتخرق قلب الصعاب، وتصارع الفقر لكي تنيلني مع إخوتي هذا النور الذي عز عليك مناله. أبي إليك - أنت- أقدم هذه الباكورة، هذا العمل المتواضع، علك أن تجد فيه شيئاً من زهورك التي أنبتها في قلب الصخر، وسقيتها دماً ودمعاً وعرقاً.
إليك، وأنت في صبرك وجلدك، أقدم هذا الكتاب إكباراً لإخلاصك، ووفاء لوفائك، وكلمة عرفان لأبوتك، من ابنك"(5).
ومرة أخرى أتوقف عند حادثة ثانية ذات دلالة على محيط النشأة الذي كان له أثر كبير في حياتي. فلقد كان والدي رحمه الله- محباً للعلم، مشغوفاً بالقراءة، متذوقاً للكلمة الجميلة الطيبة، لقد حرم الحصول على التعلّم والشهادات(6)، ولكن الرغبة في التعلم وحب العلم، ظلت تدفعه للقراءة والمطالعة، وشراء بعض الكتب بين حين وآخر، وكان يقرأ كثيراً من الكتب بشغف، ويكتب بصورة جيدة. ومن الأمور المؤثرة ذات الدلالة، أنه حرص على شراء بعض الكتب التراثية لي ولإخوتي بعد عودته من السفر، وكم كان لهذه الهدية من أثر في زرع الحب للكتاب والعلم في نفوسنا ونحن صغار. ولا شك أن مثل هذه الأمور كان لها أثرها الكبير في دفعي لحب العلم، والقراءة، والحرص على الكتاب. فضلاً عما ورثته عنه من تذوق لجمال الكلمة، وحرص على إدراك المعنى واستخلاص الأفكار مما أقرأ، والغوص وراء الغاية والعبرة.
أما التعليم فقد كان بسيطاً بأسلوبه ووسائله، والصفوف الدراسية ليس فيها إلا المقاعد الخشبية، التي يجلس عليها ثلاثة طلاب أو أكثر، والسبورة، أما الأجهزة والوسائل التعليمية فقد كانت بسيطة ونادرة.
والأثر الأكبر في المدرسة للمعلم. وكان للمعلم آنذاك مكانته وهيبته وأثره. ومهما تطورت تقنيات التعليم، فإن المعلم -في نظري- يبقى الركن الأساس في العملية التعليمية، يقابله الطالب كركن آخر. فإن تضاءل دور المعلم، وانعدمت مسؤوليته أصبح التعليم في خطر، لأن التعليم -قبل كل شيء- تعامل إنساني، وتواصل بين الأجيال، وتفاعل بين الكبير والصغير، ومشاركة في الخبرات، وتعاطف وحنو ليكون الآتي -الابن- امتداداً للنائي -الأب.
وإذا انعدمت هذه الصورة، وغاب الجانب الإنساني، والأبوي، ذو الوشائج الأسرية، يصبح المتعلم آلة قد يتقن كثيراً من المهارات، ولكنه يغدو بلا قلب ولا قيم.
والتلميذ -ولا سيما في المرحلة الابتدائية- يتأثر سلباً أو إيجاباً بالمعلم، وقد تزول وتتلاشى رويداً رويداً صور المعلمين الكثيرين الذين أسهموا في تعليم الناشئ الصغير، ولكن بعضهم تظلّ صورته ماثلة، وذكرياته مؤثرة لسنوات طويلة. وهذا ما أذكره بعد مرور السنوات الطويلة التي قضيتها متعلماً، ومعلماً وطالباً للعلم، وموظفاً باحثاً..
ففي المرحلة الابتدائية، لا زلت أذكر بعض المعلمين الأفاضل الذين تركوا أثراً لا أنساه، من التشجيع، والرعاية، والتأثير. وفي هذه المرحلة لا يكون للمعلم تأثير علمي، لأن المتعلم لا يحتاج إلى علم غزير، ومعلومات كثيرة، ولكنه يحتاج إلى شخصية المربي الناجح، الذي يقوم بدور الأب الحاني الشفوق والمربي المخلص، والأخ الواعي المسؤول. والذي يعطي بصدق، وتؤرّقه المسؤولية العظيمة التي حملها أمانة أمام الله عز وجل، ثم وفاء لمجتمعه لكي تتفتح بين يديه تلك الأكمام الصغيرة، وتنشأ الشجيرات المثمرة طيبة قوية.
ومثل هذا المعلم هو الذي تتحقق على يديه آمال التربية والتعليم، لأنه صاحب رسالة، وليس طالب وظيفة، لذلك ترى تلاميذه لديه أبناء وإخوة، يستجيبون لإرشاداته، ويتفاعلون مع أسئلته ومناقشاته، ويتعلقون بنصائحه وإرشاداته ويستجيبون لتوجيهاته، ويتحولون معه إلى خلية عمل وعلم تجني الطيب المفيد، وتبني المستقبل، وتصنع المجتمع المأمول.
وفي هذه المرحلة كان لثلاثة من المعلمين تأثيراتهم الأبقى في نفسي، ولا زلت أذكر صورهم، وتوجيهاتهم، وتشجيعهم لي، وملاحظاتهم وكتاباتهم في سجل درجاتي وأعمالي.
وكان أحدهم أكثر تأثيراً، لأنه كان يتمتع بشخصية قوية مؤثرة، ويحمل هم التعليم كهم الحياة ذاتها. التعليم عنده رسالة يعيش لها ومعها كل وقته، لذلك كان ينام أكثر أيام الأسبوع في المدرسة كي يوفر أكبر وقت لنشاطات مختلفة مع تلاميذه خارج أوقات الدوام.
وكان يحرص على اكتشاف قدرات تلاميذه، ومعرفة مواهبهم، والاطلاع على ظروفهم ومشكلاتهم، ومن خلال نشاطه الجم استطاع أن يرتفع بتلاميذه إلى مستوى آخر غير مستوى التلاميذ الذين يشغلون بقراءة ما تحويه الكتب المدرسية فحسب، وأن يفتح أبصارهم على الثقافة، والعلم، والفكر.
لقد حرص هذا المعلم على استغلال أوقات فراغنا بأنشطة مختلفة، رياضية وثقافية وفنية. ففي حصص النشاط(7) كان يختار لنا القراءة في كتاب. ومما اختاره لنا في هذه القراءة كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم، وهو مشاهد حوارية مختارة من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان ماهراً في اختيار الفصول التي يقرؤها لنا، مع جودة الإلقاء ليكون مؤثراً، وبشكل يتيح لنا -ونحن صغار في الصف الخامس-فهم هذه الفصول والمشاهد، والتفاعل معها. بل كان حريصاً على قراءة ما تنبئ عنه عيوننا ونحن نصغي، فإذا شعر بفتور الإصغاء أو تعب الصغار تحول إلى نشاط آخر، أو توقف عن القراء ولنظل مشغوفين، متعلقين بتتمة القراءة.
وكنا نتابعه بنشاط وشغف، ونصغي إليه بشفافية، فإذا توقف عن القراءة، تطلعنا للفرصة الآتية.
كان معلمنا الذكي الماهر، يغرس في نفوسنا حب المعرفة والمطالعة، ويدربنا ويبعث في داخلنا شغفاً جديداً بالتفكير يتعدى حدود الكتب المدرسية والصف والمدرسة إلى المجتمع والحاضر والمستقبل.
ولأول مرة بدأنا نشعر أن لكل واحد منا شخصيته المستقلة: يفكر ويختار ويناقش.
وتحولت المدرسة -بفضل هذا النشاط- إلى منتدى أدبي وثقافي ورياضي، يجمع بين طلبة البلدة كلها، صغاراً وكباراً، وليس تلاميذ هذه المدرسة وحدها، وخرج بالمدرسة من وضعها التقليدي إلى فضاء المعرفة والفكر، والأنشطة المختلفة. بل تعدى تأثيره هذه المدرسة إلى البلدة التي بدأت تتحدث عن الأستاذ المتميز بنشاطاته المختلفة، وتناقش تأثير هذا المعلم في مجتمع القرية وأبنائها المتعلمين.
لقد تفتح الوعي مبكراً لدى التلاميذ والطلاب آنذاك، بسبب هذا الأسلوب الجريء الناجح، الذي نقل فيه التلاميذ الصغار إلى حالة التفكير والمشاركة والإبداع في مجتمعهم الذي يعيشون فيه.
لقد أفادتني تجربة معلمي هذا كثيراً، ولا سيما أنه كان يخصني بكثير من اهتمامه، ويبعث في نفسي الثقة، ويحثني على استخدام كل قدراتي.
وأذكر أنني -لأول مرة- أقصد مدينة دمشق القريبة من بلدتي لأبحث عن الكتاب الذي كان يقرأ فيه الأستاذ، وهو كتاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتجولت في السوق والمكتبات حتى ظفرت بكتاب عن محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لم يكن ذاك الذي استمعت إليه في المدرسة. لكنه يظل في ذاكرتي، أول كتاب أشتريه من نقودي القليلة، وأنا في الصف الخامس الابتدائي، وهذه نقلة مهمة -ولاشك- فتحت أمامي عالم القراءة حتى صرت بعدها، أجمع ما يمنحني إياه والدي من قروش قليلة، لأشتري بها كتباً أقرؤها، وأستعير كتباً أخرى من الطلاب الذين يكبرونني ولديهم بعض الكتب الثقافية. ومن تلك السنوات، وهذه الحادثة، أصبح الكتاب رفيقي أينما ذهبت، وأصبحت القراءة غذاء لا أستغني عنه في إقامة أو سفر.
أليس في ذلك ما يدل على أثر المعلم حين يصبح التعليم لديه رسالة، ويتحول التلاميذ عنده إلى إخوة وأبناء؟
في المرحتين المتوسطة والثانوية أصبحت الدراسة عندي أمراً آخر.
لم تعد مقتصرة على الكتاب المدرسي، بل كانت الكتب الثقافية المختلفة تنال نصيبها من الاهتمام، حتى إن عدد الكتب التي كنت أقرؤها في أثناء الدراسة تزيد كثيراً على عدد الكتب المدرسية.
كنت أقرأ ما تصل إليه يدي، فلم يكن هناك منهج محدد لاختيار الكتب.
لذلك قرأت الكتب التاريخية، ولا سيما ما يتعلق منها بالتاريخ الإسلامي، وتراجم الرجال والشخصيات، والكتب الثقافية والفكرية، والكتب الأدبية - من شعر وقصة ومسرحية ودراسة أدبية- وكتباً فلسفية وتربوية، وكتباً في الدراسات النفسية، وكتباً مترجمة ولا سيما في القصة والمسرح، وبعض القضايا الفكرية.
وصاحب هذه القراءة شغف بالكتابة، وهذا الشغف جعلني أستثمر قراءاتي وأستفيد من مطالعتي، وكانت كتاباتي تدور حول بعض الذكريات الخاصة، أو المناسبات الاجتماعية والوطنية التي تمر بنا، وكثيراً ما كنت أكتب الخطب والكلمات لألقيها في الطلبة والمعلمين في هذه المناسبات.
ثم صرت أكتب بعض الموضوعات والبحوث الصغيرة لأقدمها إلى بعض الأساتذة كنشاط ثقافي، وبعد إجازتها من الأستاذ كان يجمع صفوف المرحلة الدراسية كلها في حصص النشاط لأقرأ عليهم هذا الموضوع.
وكانت بعض الموضوعات تدور حول غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن بعض الشخصيات التاريخية، أو بعض الشعراء والأدباء.
وكنت أعمد -أحياناً- إلى تلخيص كتاب كامل مما يعجبني في أثناء القراءة.
لن أستطرد للتحدث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية آنذاك، ولكنني أشير إلى أن الضائقة التي كانت تمر بنا، كادت تحرمني من إتمام دراستي الثانوية. ولكن حبي للعلم، والقراءة، جعلني، مع بعض إخواني المخلصين، أتجاوز هذه العقبات، وأستمر في الدراسة.
هذه الرغبة وهذا الجد، وهذا الصبر والتصميم الذي ورثته عن أبي وأمي وبلدتي ذلّلت لي كثيراً من الصعاب. إن شعلة الأمل لم تخمد يوماً في داخلي، والطموح الذي رافقني كان يحثني على الاستمرار والصبر، ففي العطلة الصيفية كنت أعمل مساعداً في التمديدات الكهربائية، أو غيرها من الأعمال اليدوية، وأجمع هذه النقود لأستعين بها -بعد الله عز وجل- على تلبية حاجات الدراسة.
كان والدي مثقلاً بالأعباء، ومتطلبات الحياة كثيرة، وتكاليف دراستي مع إخوتي تفوق طاقته، ولم يكن لديه مورد إلا ما يناله من أجر في عمله اليومي. وهذا الأجر لا يكفي لإعالة أسرة من بينها خمسة طلاب في المدرسة واثنان آخران ينتظران دورهما (8) ولذلك كان لا بد من إعانته بهذا القدر القليل من المال لإكمال الدراسة.
لم يمنعني العمل في العطلة الصيفية من المطالعة، فلقد كنت أقرأ في كل يوم بعد مجيئي من العمل مساء، إلى ما بعد منتصف الليل، وحينما كان والدي يزجرني عن السهر للقراءة كنت أتألم، لأنه يحرمني من سعادة تبث فيَّ العزم وتغمرني بالسعادة، ولا أحس بطعم الحياة من دونها.
ماذا أقرأ? سؤال لم يخطر على بالي في يوم من الأيام، لأن حبي للقراءة كان يدفعني لقراءة مختلف الكتب. ربما كانت قراءتي ذاتها ترسم لي بعض التوجهات، فمثلاً عندما قرأت لكاتب من الكتاب وأعجبتني كتابته، أو شدتني موضوعاته رحت أتابع كل ما كتب، وهذا ما فعلته مع العقاد الذي تابعت أكثر كتاباته، وكان لدي أكثر من ثمانين كتاباً له أو عنه، بل كان تعلقي بكتاباته موضوع استغراب، لأنه كان في عبارته جفاء، وفي أسلوبه بعض الصعوبة، كان همه الفكرة، دون اكتراث بالأسلوب، بل كان أسلوبه صورة من شخصيته العنيدة المتأبية، ومع ذلك شدني إليه، حتى كتبت عنه محاضرة وأنا في أواخر المرحلة الثانوية، أو بداية المحلة الجامعية، وألقيتها في المركز الثقافي، وكانت بعنوان: "العقاد: رائد فكر وأدب".
وأفادتني قراءة العقاد كثيراً، لأنها عودتني الاهتمام بالفكرة، والصبر على وعورة الأسلوب، وصعوبة العبارة، ولم تعد مشوقات الأسلوب دافعاً لي للقراءة.
وقرأت كل كتب الرافعي وأنا في المرحلة الثانوية، وأكثر كتب المازني، وبعض كتب المنفلوطي، والقليل من كتب طه حسين، وأكثر كتب سيد قطب، وكثيراً من الكتب التاريخية والفكرية، والإسلامية.
وقرأت الكثير من القصص والمسرحيات العالمية التي كانت تصدر عن وزارة الإعلام في الكويت، أو تصدر عن مؤسسات ومكتبات بمصر وغيرها.
وقرأت كثيراً مما صدر عن كتاب الهلال، وسلسلة اقرأ، وسلسلة الألف كتاب.. وقرأت كثيراً من كتب التراث الأدبية والشعرية، وعدداً كبيراً من كتب التربية والدراسات النفسية، وغيرها.
ولست هنا بصدد تعداد ما قرأت، ولكنني أشرت إلى بعضها لأبين أن دافع حب القراءة والاطلاع، وشغفي بالكتب جعلني أصبر على ما يعترضني في أثناء القراءة، أو للحصول على الكتب التي أقرؤها. ولا زلت أحتفظ بذكريات جميلة لعدد من الكتب والكتّاب، الذين أثّروا فيّ، وأغْنوا معلوماتي، وقد حاولت في مرحلة مبكرة تقليد بعضهم فيما أكتب لشدة تأثري بأساليبهم، وقد كان لهذه القراءة ثمرات وفوائد كثيرة، مثل العقاد، والعلايلي، ومصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب، ومالك بن نبي، وغيرهم.
في سنوات المرحلة المتوسطة، والمرحلة الثانوية كنت أسجل أسماء الكتب التي أقرؤها في كل سنة، وبعد مرور سنوات طويلة، عدت إلى هذه الذكريات فعجبت من عدد الكتب التي كنت أقرؤها في كل عام مع التزامي وجدّي في دراستي المدرسية وعجبت أيضاً لنوع الكتب ومستواها، وإذا دلّ هذا على شيء فإنما يدل على تأثير الرغبة والجد في الإنسان، وفوائد القراءة في فتح آفاق أوسع أمام الشاب.
- حاصل على ليسانس لغة عربية في جامعة دمشق، ودبلوم عامة في التربية من جامعة دمشق.
- عمل في التدريس في سورية والسعودية، وعمل باحثاً تربوياً بالوكالة المساعدة للتطوير التربوي، قسم المناهج - الرئاسة العامة لتعليم البنات.
- توفي في الرياض، في 19/7/2003 ودفن فيها في 20/7/2003.
المؤلفات المنشورة:
- مصعب بن عمير. الداعية المجاهد أبو بصير، ظاهرة الردة في المجتمع الإسلامي، ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، نسيبة بنت كعب (أم عمارة)، المرأة المسلمة الداعية، في الأدب الإسلامي المعاصر، خالد بن سعيد بن العاص، ديوان هاشم الرفاعي (الأعمال الكاملة) جمع وتحقيق، من الشعر الإسلامي الحديث: جمع واختيار، أدب الأطفال، في القصة الإسلامية المعاصرة، دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة مع عرض ودراسة لعدد من قصص الدكتور نجيب الكيلاني، الأدب الإسلامي: أصوله وسماته، والشيخ والزعيم- أم أيمن بركة (حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الصحوة وآفاق التربية الإسلامية. عدد من الكتب المدرسية. كما أن له مقالات منشورة في الصحف المحلية والعربية.
وفيما يلي نقدم ما كتبه الفقيد بقلمه عن تجربته وسيرته الأدبيتين تحت عنوان :
وقفات وذكريات بقلمه
ثمة أشياء صغيرة تمر في حياة الإنسان دون أن يأبه لها، لأنه لا يعلم -آنذاك- مدى تأثيرها في حياته ومستقبله، ولكنه بعد مرور السنوات الطويلة، قد يتذكر بعض اللحظات والأحداث التي بقيت عالقة في ذهنه، وحية في ذكرياته، فإذا تأملها بعمق أدرك أنها كانت محطات وعلامات بارزة، كان لها تأثيرها في وجهته ومستقبله.
ولعل من المفيد الرجوع إلى بعضها، والتوقف عندها، لمعرفة الصورة الحقيقية التي سارت بها حياة الإنسان، والمؤثرات التي كان لها الأثر الفاعل في تشكيل الصورة التي آلت إليها حياته.
فضلاً عن هذا، فإن الوقوف أمام هذه المؤثرات، سيضيء طريق الأجيال المتعاقبة في خطواتها نحو المستقبل، لأن قراءة حياة الآخرين نوع من إضافة الحيوات الأخرى وتجارب الآخرين إلى حياتك وتجاربك.
في قريتي -التي كانت صغيرة قبل خمسين عاماً (1) -كان أكثر سكانها من آبائنا وأجدادنا يعملون في مهنة النحت والبناء، وهي مهنة شاقة متعبة، يتعامل فيها الرجال مع الأحجار والصخور القاسية، يقلعونها من الجبال، وينحتونها، ويصنعون منها الأشكال الهندسية والفنية المختلفة بأحجام متنوعة، ثم يرفعونها على ظهورهم إلى الجدران والأبنية العالية، ويضعونها في أمكنتها المناسبة، وما بين مصادرها في الجبال، ومواضعها في الأبنية رحلة طويلة شاقة من الجهد والصبر والعمل. وهي تشكل قطعاً فنية جميلة، وألواناً متعددة، مصقولة، ومنقوشة بشتى الأشكال والأحجام.
هذه المهنة علمت آباءنا الصلابة والصبر والثقة وعودتهم تحمل المشقات ومجابهة الصعاب، واليقين بأن تحقيق كثير من الآمال ليس بالأمر الصعب، ما دامت هناك ثقة وإرادة وصبر، والحياة عندهم تشبه البناء الذي يبدأ صورة في مخيلتهم ورسماً بسيطاً أمامهم، ثم يستمر بالظهور حتى يغدو عمارة شاهقة جميلة، أو مسجداً واسعاً رائعاً (2).
لقد كان لهذه الصورة المتكررة دون شك أثرها في نفسي وأنا أرى والدي، ورجال بلدتي يشيدون الأبنية الرائعة، ويبنون المشاريع الضخمة في مدينة دمشق، وعمان، وطرابلس، وبنغازي، والرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، والكويت، والإمارات العربية المتحدة.. وقبلها في المدن الفلسطينية: صفد، والقدس، وحيفا، ويافا(3) قبل أن تغتالها يد الغدر والخيانة، وتصبح أسيرة في أيدي يهود.
والرحلة ما بين الصخرة القاسية الكبيرة في الجبل المنيع، والحجر المنحوت والمنقوش بأشكال هندسية وفنية بديعة، تركت في أعماقنا كثيراً من دروس الصبر والتعاون والأمل.
وأصبح التعاون بين أبناء البلدة ورجالها خُلقاً، تتحقق بفضله كثير من الإنجازات المفيدة. ومن ذلك بناء المدارس، وشق الطرقات، وإقامة المساجد، وتحسين أوضاع القرية. كان هذا التعاون صورة فريدة ومشرقة جعل البلدة تتطور سريعاً، وتتحول من بلدة لا تعرف التعليم إلى بلدة تضج جنباتها بالمدارس والطلاب والطالبات، فضلاً عن المركز الثقافي، والأندية الرياضية وغيرها.
وكان هؤلاء الذين يتعاملون مع الصخور رواد العلم الحقيقيين، حينما اهتموا ببناء المدارس وتجهيزها بتعاونهم، ومن أموالهم، وتقديمها لوزارة التربية لتشرف عليها، هدية من البلدة وإنجازاً من إنجازات أبنائها البنائين.
وأصبح التعليم مزدهراً، وتحولت البلدة من قرية صغيرة إلى مركز لمنطقة واسعة، ونشأ جيل الأبناء متعلماً مثقفاً.
هذا المحيط الجاد المتعاون كان له أثر كبير في نفوس الأبناء، وما زلت أذكر كلمات سمعتها من والدي -رحمه الله - وهو واحد من جيل الآباء الصابرين، وهو يدفعني مع إخواني للتعليم، ويبين لنا أهميته فقال: "لا أريد جمع الثروة أو امتلاك العقارات، ويكفيني من الثروة حصولكم على التعليم، وإذا رأيت أحدكم يقف ويخطب في الناس، ثم سقط ميتاً، أكون راضياً.."(4).
وكان لهذه الكلمات فعل السحر في نفسي، حيث بعثت فيَّ العزم والتصميم، وفتحت أمامي آفاق المستقبل. إنها كانت تحمل قوة روحية خاصة، لأنها من أب يصارع الصخر، ويذهب ويجيء في الحر والبرد، ويسافر ويعود لينشأ أولاده متعلمين، وأصبح التعليم في نفسي أمراً عظيماً، وتحقيق أمل والدي أمنية غالية جداً، ولعل ذلك الموقف الإنساني الواعي النبيل كان ذا أثر كبير في نفسي، وطموحي الطفولي، وظل يصاحبني ويدفعني، حتى إذا ما استطعت تحقيق بعض هذه الآمال في نشر أول كتاب لي، أهديته لوالدي وكتبت في الإهداء ما يلي:
"والدي، لقد فتحتُ عيني على الحياة، لأراك تنقش على الصخر، وتعارك الجبال، وتذوق مرارة الحياة، لكي تشعل ضوءاً في كوخ مظلم. لقد عز عليك أن تنال ما طمحت إليه، فقصدت -بعناد- أن تقهر الجهل، وتخرق قلب الصعاب، وتصارع الفقر لكي تنيلني مع إخوتي هذا النور الذي عز عليك مناله. أبي إليك - أنت- أقدم هذه الباكورة، هذا العمل المتواضع، علك أن تجد فيه شيئاً من زهورك التي أنبتها في قلب الصخر، وسقيتها دماً ودمعاً وعرقاً.
إليك، وأنت في صبرك وجلدك، أقدم هذا الكتاب إكباراً لإخلاصك، ووفاء لوفائك، وكلمة عرفان لأبوتك، من ابنك"(5).
ومرة أخرى أتوقف عند حادثة ثانية ذات دلالة على محيط النشأة الذي كان له أثر كبير في حياتي. فلقد كان والدي رحمه الله- محباً للعلم، مشغوفاً بالقراءة، متذوقاً للكلمة الجميلة الطيبة، لقد حرم الحصول على التعلّم والشهادات(6)، ولكن الرغبة في التعلم وحب العلم، ظلت تدفعه للقراءة والمطالعة، وشراء بعض الكتب بين حين وآخر، وكان يقرأ كثيراً من الكتب بشغف، ويكتب بصورة جيدة. ومن الأمور المؤثرة ذات الدلالة، أنه حرص على شراء بعض الكتب التراثية لي ولإخوتي بعد عودته من السفر، وكم كان لهذه الهدية من أثر في زرع الحب للكتاب والعلم في نفوسنا ونحن صغار. ولا شك أن مثل هذه الأمور كان لها أثرها الكبير في دفعي لحب العلم، والقراءة، والحرص على الكتاب. فضلاً عما ورثته عنه من تذوق لجمال الكلمة، وحرص على إدراك المعنى واستخلاص الأفكار مما أقرأ، والغوص وراء الغاية والعبرة.
أما التعليم فقد كان بسيطاً بأسلوبه ووسائله، والصفوف الدراسية ليس فيها إلا المقاعد الخشبية، التي يجلس عليها ثلاثة طلاب أو أكثر، والسبورة، أما الأجهزة والوسائل التعليمية فقد كانت بسيطة ونادرة.
والأثر الأكبر في المدرسة للمعلم. وكان للمعلم آنذاك مكانته وهيبته وأثره. ومهما تطورت تقنيات التعليم، فإن المعلم -في نظري- يبقى الركن الأساس في العملية التعليمية، يقابله الطالب كركن آخر. فإن تضاءل دور المعلم، وانعدمت مسؤوليته أصبح التعليم في خطر، لأن التعليم -قبل كل شيء- تعامل إنساني، وتواصل بين الأجيال، وتفاعل بين الكبير والصغير، ومشاركة في الخبرات، وتعاطف وحنو ليكون الآتي -الابن- امتداداً للنائي -الأب.
وإذا انعدمت هذه الصورة، وغاب الجانب الإنساني، والأبوي، ذو الوشائج الأسرية، يصبح المتعلم آلة قد يتقن كثيراً من المهارات، ولكنه يغدو بلا قلب ولا قيم.
والتلميذ -ولا سيما في المرحلة الابتدائية- يتأثر سلباً أو إيجاباً بالمعلم، وقد تزول وتتلاشى رويداً رويداً صور المعلمين الكثيرين الذين أسهموا في تعليم الناشئ الصغير، ولكن بعضهم تظلّ صورته ماثلة، وذكرياته مؤثرة لسنوات طويلة. وهذا ما أذكره بعد مرور السنوات الطويلة التي قضيتها متعلماً، ومعلماً وطالباً للعلم، وموظفاً باحثاً..
ففي المرحلة الابتدائية، لا زلت أذكر بعض المعلمين الأفاضل الذين تركوا أثراً لا أنساه، من التشجيع، والرعاية، والتأثير. وفي هذه المرحلة لا يكون للمعلم تأثير علمي، لأن المتعلم لا يحتاج إلى علم غزير، ومعلومات كثيرة، ولكنه يحتاج إلى شخصية المربي الناجح، الذي يقوم بدور الأب الحاني الشفوق والمربي المخلص، والأخ الواعي المسؤول. والذي يعطي بصدق، وتؤرّقه المسؤولية العظيمة التي حملها أمانة أمام الله عز وجل، ثم وفاء لمجتمعه لكي تتفتح بين يديه تلك الأكمام الصغيرة، وتنشأ الشجيرات المثمرة طيبة قوية.
ومثل هذا المعلم هو الذي تتحقق على يديه آمال التربية والتعليم، لأنه صاحب رسالة، وليس طالب وظيفة، لذلك ترى تلاميذه لديه أبناء وإخوة، يستجيبون لإرشاداته، ويتفاعلون مع أسئلته ومناقشاته، ويتعلقون بنصائحه وإرشاداته ويستجيبون لتوجيهاته، ويتحولون معه إلى خلية عمل وعلم تجني الطيب المفيد، وتبني المستقبل، وتصنع المجتمع المأمول.
وفي هذه المرحلة كان لثلاثة من المعلمين تأثيراتهم الأبقى في نفسي، ولا زلت أذكر صورهم، وتوجيهاتهم، وتشجيعهم لي، وملاحظاتهم وكتاباتهم في سجل درجاتي وأعمالي.
وكان أحدهم أكثر تأثيراً، لأنه كان يتمتع بشخصية قوية مؤثرة، ويحمل هم التعليم كهم الحياة ذاتها. التعليم عنده رسالة يعيش لها ومعها كل وقته، لذلك كان ينام أكثر أيام الأسبوع في المدرسة كي يوفر أكبر وقت لنشاطات مختلفة مع تلاميذه خارج أوقات الدوام.
وكان يحرص على اكتشاف قدرات تلاميذه، ومعرفة مواهبهم، والاطلاع على ظروفهم ومشكلاتهم، ومن خلال نشاطه الجم استطاع أن يرتفع بتلاميذه إلى مستوى آخر غير مستوى التلاميذ الذين يشغلون بقراءة ما تحويه الكتب المدرسية فحسب، وأن يفتح أبصارهم على الثقافة، والعلم، والفكر.
لقد حرص هذا المعلم على استغلال أوقات فراغنا بأنشطة مختلفة، رياضية وثقافية وفنية. ففي حصص النشاط(7) كان يختار لنا القراءة في كتاب. ومما اختاره لنا في هذه القراءة كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم، وهو مشاهد حوارية مختارة من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان ماهراً في اختيار الفصول التي يقرؤها لنا، مع جودة الإلقاء ليكون مؤثراً، وبشكل يتيح لنا -ونحن صغار في الصف الخامس-فهم هذه الفصول والمشاهد، والتفاعل معها. بل كان حريصاً على قراءة ما تنبئ عنه عيوننا ونحن نصغي، فإذا شعر بفتور الإصغاء أو تعب الصغار تحول إلى نشاط آخر، أو توقف عن القراء ولنظل مشغوفين، متعلقين بتتمة القراءة.
وكنا نتابعه بنشاط وشغف، ونصغي إليه بشفافية، فإذا توقف عن القراءة، تطلعنا للفرصة الآتية.
كان معلمنا الذكي الماهر، يغرس في نفوسنا حب المعرفة والمطالعة، ويدربنا ويبعث في داخلنا شغفاً جديداً بالتفكير يتعدى حدود الكتب المدرسية والصف والمدرسة إلى المجتمع والحاضر والمستقبل.
ولأول مرة بدأنا نشعر أن لكل واحد منا شخصيته المستقلة: يفكر ويختار ويناقش.
وتحولت المدرسة -بفضل هذا النشاط- إلى منتدى أدبي وثقافي ورياضي، يجمع بين طلبة البلدة كلها، صغاراً وكباراً، وليس تلاميذ هذه المدرسة وحدها، وخرج بالمدرسة من وضعها التقليدي إلى فضاء المعرفة والفكر، والأنشطة المختلفة. بل تعدى تأثيره هذه المدرسة إلى البلدة التي بدأت تتحدث عن الأستاذ المتميز بنشاطاته المختلفة، وتناقش تأثير هذا المعلم في مجتمع القرية وأبنائها المتعلمين.
لقد تفتح الوعي مبكراً لدى التلاميذ والطلاب آنذاك، بسبب هذا الأسلوب الجريء الناجح، الذي نقل فيه التلاميذ الصغار إلى حالة التفكير والمشاركة والإبداع في مجتمعهم الذي يعيشون فيه.
لقد أفادتني تجربة معلمي هذا كثيراً، ولا سيما أنه كان يخصني بكثير من اهتمامه، ويبعث في نفسي الثقة، ويحثني على استخدام كل قدراتي.
وأذكر أنني -لأول مرة- أقصد مدينة دمشق القريبة من بلدتي لأبحث عن الكتاب الذي كان يقرأ فيه الأستاذ، وهو كتاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتجولت في السوق والمكتبات حتى ظفرت بكتاب عن محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لم يكن ذاك الذي استمعت إليه في المدرسة. لكنه يظل في ذاكرتي، أول كتاب أشتريه من نقودي القليلة، وأنا في الصف الخامس الابتدائي، وهذه نقلة مهمة -ولاشك- فتحت أمامي عالم القراءة حتى صرت بعدها، أجمع ما يمنحني إياه والدي من قروش قليلة، لأشتري بها كتباً أقرؤها، وأستعير كتباً أخرى من الطلاب الذين يكبرونني ولديهم بعض الكتب الثقافية. ومن تلك السنوات، وهذه الحادثة، أصبح الكتاب رفيقي أينما ذهبت، وأصبحت القراءة غذاء لا أستغني عنه في إقامة أو سفر.
أليس في ذلك ما يدل على أثر المعلم حين يصبح التعليم لديه رسالة، ويتحول التلاميذ عنده إلى إخوة وأبناء؟
في المرحتين المتوسطة والثانوية أصبحت الدراسة عندي أمراً آخر.
لم تعد مقتصرة على الكتاب المدرسي، بل كانت الكتب الثقافية المختلفة تنال نصيبها من الاهتمام، حتى إن عدد الكتب التي كنت أقرؤها في أثناء الدراسة تزيد كثيراً على عدد الكتب المدرسية.
كنت أقرأ ما تصل إليه يدي، فلم يكن هناك منهج محدد لاختيار الكتب.
لذلك قرأت الكتب التاريخية، ولا سيما ما يتعلق منها بالتاريخ الإسلامي، وتراجم الرجال والشخصيات، والكتب الثقافية والفكرية، والكتب الأدبية - من شعر وقصة ومسرحية ودراسة أدبية- وكتباً فلسفية وتربوية، وكتباً في الدراسات النفسية، وكتباً مترجمة ولا سيما في القصة والمسرح، وبعض القضايا الفكرية.
وصاحب هذه القراءة شغف بالكتابة، وهذا الشغف جعلني أستثمر قراءاتي وأستفيد من مطالعتي، وكانت كتاباتي تدور حول بعض الذكريات الخاصة، أو المناسبات الاجتماعية والوطنية التي تمر بنا، وكثيراً ما كنت أكتب الخطب والكلمات لألقيها في الطلبة والمعلمين في هذه المناسبات.
ثم صرت أكتب بعض الموضوعات والبحوث الصغيرة لأقدمها إلى بعض الأساتذة كنشاط ثقافي، وبعد إجازتها من الأستاذ كان يجمع صفوف المرحلة الدراسية كلها في حصص النشاط لأقرأ عليهم هذا الموضوع.
وكانت بعض الموضوعات تدور حول غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن بعض الشخصيات التاريخية، أو بعض الشعراء والأدباء.
وكنت أعمد -أحياناً- إلى تلخيص كتاب كامل مما يعجبني في أثناء القراءة.
لن أستطرد للتحدث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية آنذاك، ولكنني أشير إلى أن الضائقة التي كانت تمر بنا، كادت تحرمني من إتمام دراستي الثانوية. ولكن حبي للعلم، والقراءة، جعلني، مع بعض إخواني المخلصين، أتجاوز هذه العقبات، وأستمر في الدراسة.
هذه الرغبة وهذا الجد، وهذا الصبر والتصميم الذي ورثته عن أبي وأمي وبلدتي ذلّلت لي كثيراً من الصعاب. إن شعلة الأمل لم تخمد يوماً في داخلي، والطموح الذي رافقني كان يحثني على الاستمرار والصبر، ففي العطلة الصيفية كنت أعمل مساعداً في التمديدات الكهربائية، أو غيرها من الأعمال اليدوية، وأجمع هذه النقود لأستعين بها -بعد الله عز وجل- على تلبية حاجات الدراسة.
كان والدي مثقلاً بالأعباء، ومتطلبات الحياة كثيرة، وتكاليف دراستي مع إخوتي تفوق طاقته، ولم يكن لديه مورد إلا ما يناله من أجر في عمله اليومي. وهذا الأجر لا يكفي لإعالة أسرة من بينها خمسة طلاب في المدرسة واثنان آخران ينتظران دورهما (8) ولذلك كان لا بد من إعانته بهذا القدر القليل من المال لإكمال الدراسة.
لم يمنعني العمل في العطلة الصيفية من المطالعة، فلقد كنت أقرأ في كل يوم بعد مجيئي من العمل مساء، إلى ما بعد منتصف الليل، وحينما كان والدي يزجرني عن السهر للقراءة كنت أتألم، لأنه يحرمني من سعادة تبث فيَّ العزم وتغمرني بالسعادة، ولا أحس بطعم الحياة من دونها.
ماذا أقرأ? سؤال لم يخطر على بالي في يوم من الأيام، لأن حبي للقراءة كان يدفعني لقراءة مختلف الكتب. ربما كانت قراءتي ذاتها ترسم لي بعض التوجهات، فمثلاً عندما قرأت لكاتب من الكتاب وأعجبتني كتابته، أو شدتني موضوعاته رحت أتابع كل ما كتب، وهذا ما فعلته مع العقاد الذي تابعت أكثر كتاباته، وكان لدي أكثر من ثمانين كتاباً له أو عنه، بل كان تعلقي بكتاباته موضوع استغراب، لأنه كان في عبارته جفاء، وفي أسلوبه بعض الصعوبة، كان همه الفكرة، دون اكتراث بالأسلوب، بل كان أسلوبه صورة من شخصيته العنيدة المتأبية، ومع ذلك شدني إليه، حتى كتبت عنه محاضرة وأنا في أواخر المرحلة الثانوية، أو بداية المحلة الجامعية، وألقيتها في المركز الثقافي، وكانت بعنوان: "العقاد: رائد فكر وأدب".
وأفادتني قراءة العقاد كثيراً، لأنها عودتني الاهتمام بالفكرة، والصبر على وعورة الأسلوب، وصعوبة العبارة، ولم تعد مشوقات الأسلوب دافعاً لي للقراءة.
وقرأت كل كتب الرافعي وأنا في المرحلة الثانوية، وأكثر كتب المازني، وبعض كتب المنفلوطي، والقليل من كتب طه حسين، وأكثر كتب سيد قطب، وكثيراً من الكتب التاريخية والفكرية، والإسلامية.
وقرأت الكثير من القصص والمسرحيات العالمية التي كانت تصدر عن وزارة الإعلام في الكويت، أو تصدر عن مؤسسات ومكتبات بمصر وغيرها.
وقرأت كثيراً مما صدر عن كتاب الهلال، وسلسلة اقرأ، وسلسلة الألف كتاب.. وقرأت كثيراً من كتب التراث الأدبية والشعرية، وعدداً كبيراً من كتب التربية والدراسات النفسية، وغيرها.
ولست هنا بصدد تعداد ما قرأت، ولكنني أشرت إلى بعضها لأبين أن دافع حب القراءة والاطلاع، وشغفي بالكتب جعلني أصبر على ما يعترضني في أثناء القراءة، أو للحصول على الكتب التي أقرؤها. ولا زلت أحتفظ بذكريات جميلة لعدد من الكتب والكتّاب، الذين أثّروا فيّ، وأغْنوا معلوماتي، وقد حاولت في مرحلة مبكرة تقليد بعضهم فيما أكتب لشدة تأثري بأساليبهم، وقد كان لهذه القراءة ثمرات وفوائد كثيرة، مثل العقاد، والعلايلي، ومصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب، ومالك بن نبي، وغيرهم.
في سنوات المرحلة المتوسطة، والمرحلة الثانوية كنت أسجل أسماء الكتب التي أقرؤها في كل سنة، وبعد مرور سنوات طويلة، عدت إلى هذه الذكريات فعجبت من عدد الكتب التي كنت أقرؤها في كل عام مع التزامي وجدّي في دراستي المدرسية وعجبت أيضاً لنوع الكتب ومستواها، وإذا دلّ هذا على شيء فإنما يدل على تأثير الرغبة والجد في الإنسان، وفوائد القراءة في فتح آفاق أوسع أمام الشاب.