الطائر الحر
Well-Known Member
هل تخيّلت يومًا أنّ يجتمع أعظم الفلاسفة وعلماء الطبيعة وعباقرة الرياضيّات والفلك في التاريخ تحت سقفٍ واحد؟ هل تستطيع أنّ تتخيّل طبيعة وحجم وثراء المناقشة التي قد تجمع كلّ هؤلاء؟ هل تستطيع أن تتخيّل أقدم العلماء والفلاسفة في التاريخ يتبادلون أطراف الحديث مع فلاسفة وعلماء آخرون أحدث منهم ويُعَلمُ كُلٌّ مِنهما الآخر! فكرة جميلة، لكن مُستحيلة. أليس كذلك!
مِن المستحيل أنّ يجتمع مثلا الفيلسوف اليوناني سقراط (469 – 399 ق.م) مع عالمة الرياضيات والفلكيّة السكندرية هيباتيا (350 – 370 ق.م). أو أنّ يجتمع ابن رُشد الأندلسي (1126 – 1198م) بفيثاغورس (570 – 495 ق.م) أو أرسطو (384 – 322 ق.م). لكنّ هُناك مَن وَدَّ لو يجتمعون؛ تحت سقفٍ واحد، وليس سقراط وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وهيباتيا وابن رشد فقط!
في عام 1508، في خضم عصر النهضة في إيطاليا (1490 – 1530)، طلبَ البابا يوليوس الثاني (1503 – 1513) مِن الرسّام الشاب النابغ رافائيل (1483 – 1520) أنّ يُزيّن غُرف جناحه الخاص في قصر الفاتيكان. شرع رافائيل في رسم لوحة جصيّة على حائط غُرفة المكتبة الشخصية للبابا عام 1509.
لقد استغرق الشاب عامين بالتمام والكمال، مِن 1509 إلى 1511، ليُقدّم تُحفته التي تخطَّت حدود العبقريّة: مدرسة أثينا. وقد أصبحت واحدة مِن أشهر لوحات عصر النهضة، وإحدى أشهر اللوحات في التاريخ. عبقرية اللوحة ليس مصدرها أنها ضمَّت عدد ضخم مِن الفلاسفة والعلماء مِن عصور مُختلفة تحت سقفٍ واحد فقط، بل أنّ هذا الجمع الغفير كان مزيج بين الدنيويّة اليونانيّة والهلنستية والرومانيّة والروحيّة المسيحيّة والرُشديّة الإسلامية -نسبة لابن رُشد-.
لماذا اُعتبرت اللوحة عبقرية؟
لقد تخطت اللوحة حدود العبقرية وحدود الخيال بسبب مزج فريد وعبقري ثلاثي الأبعاد. فالمزج الأول، هو جمعها لعددٍ غفير مِن أشهر العلماء والفلاسفة والرياضيين والفلكيّن في التاريخ تحت سقف واحد. المزج الثاني، هو أنّها طوت العصور والأزمنة طيًّا حتى نكاد نرى وجه الزمان في صفحة واحدة، لا كتاب متعدد الصفحات. المزج الثالث، أنها خلطت اليوناني بالهلينستي بالروماني بالمسيحي بالإسلامي مزجًا لا يشوبه خلل ولا غرابة. هذا على مستوى الموضوع.
كان رافائيل في سن مِن (20 – 22) عندما شرع في رسم الجصية وانتهى منها. ومع ذلك، فإن المكان الذي يجمع كل هؤلاء العلماء هو رسم منظور معماريّ لمعبد أبدع رافائيل في رسمه بدقّة ومهارة مُهندس مُتمرس. فرسم أبعاد قُبة المعبد وأحجام التماثيل والأشخاص بنسب متوافقة مع قُربهم أو بُعدهم عن الرائي.
تفصيلة مِن لوحة مدرسة أثينا لرافائيل، رسم منظور معماري للمعبد (مواقع التواصل)
أفراد اللوحة
أثارت اللوحة موجة مِن النقاشات الحادة بين النُقاد والمؤرخين للوقوف على هوية الأشخاص الذين رسمهم رافائيل. وقد تم التعرف على واحدٍ وعشرين شخصًا مِن المرسومين. ويُرجح النقاد أنّ بقيّة الشخصيات المرسومة هم الحضور الذين كانوا يتبعون الفلاسفة والعلماء في محاضراتهم.
والأشخاص بالترتيب هم:
1- زينون الرواقي، 2- إبيقور، 3- فيديريكو الثاني دي مانتوفا، 4- بوثيوس أو أناكسيماندر أو إيمبيدوكليس، 5- ابن رشد، 6- فيثاغورس، 7- الإسكندر الأكبر، 8- أنتيستنيس أو كسينوفون، 9- هيباتيا السكندريّة، 10- أسشينس أو كسينوفون، 11- بارمنيدس، 12- سقراط، 13- هرقليطس، 14- أفلاطون، 15- أرسطو، 16- ديوجين سينوب، 17- أفلوطين، 18- أقليدس أو أرخميدس، 19- سترابو أو زرادشت، 20- كلاوديوس بطليموس، 21- رفائيل، 22- إل سودوما.
يُسلط رافائيل الضوء في مركز اللوحة على أفلاطون رقم 14 وهو يسير لجوار أرسطو، رقم 15. يُشير أفلاطون بيده للسماء رمزا لفلسفته التي تقوم على عالم القيم والأفكار والمُثل العليا. فيما يشير أرسطو للأرض رمزا لفلسفته التي تعتمد على الأسباب والعلل المنطقية في فهم العالم.
فيما يجلس ابن رشد رقم 5، وراء فيثاغورس رقم 6، يتدارسان الفلسفة والرياضيات. يشاركهم الدرس بارمينيدس رقم 11، والذي كان يؤمن أن العقل هو مصدر كل معرفة حقيقيّة. بين رقم 6 ورقم 11، تقف الفيلسوفة وعالمة الرياضيّات والفلكية السكندرية هيباتيا في ثوبها الأبيض تنظُر للرائي.
يستلقي على الدرج يوجين، رقم 16، وهو فيلسوف يوناني، (404 – 323 ق.م)، وكان يرى أن الفضائل لا قيمة لها على مستوى النظرية وأن حقيقة ما يؤمن به الشخص تظهر عند التطبيق العملي. وقد ورد أن الإسكندر الأكبر، رقم 7، قد قال "لو لم أكن الإسكندر الأكبر لوددت أن أكون ديوجين."
بشكل عام، يمثل الحضور على اختلاف مذاهبهم وعصورهم الزمنية، الفلسفة واللاهوت والعلوم الطبيعية والرياضيات والشعر والفلك والقانون. لقد عبّرت اللوحة عن تصوّر رافائيل للمعرفة، وهو تصوّر شامل، يجمع الدنيوي بالسماوي والقديم بالحديث؛ حتّى إننا نستطيع إيجاد كل فيلسوف بارز، منذ عصور قبل الميلاد وحتى عصر النهضة، في اللوحة.
ومع ذلك، يرى مؤرخ الفن السويسري ولف ولفلين، (1864 – 1945)، أن محاولة تفسير اللوحة بشكل نخبوي ليس أمرًا سليما. فهي في النهاية عدد مِن الأشخاص يعبرون عن توجهاتهم الفكرية في فضاء (المعبد/اللوحة). ورافائيل قد نجح في رسم منظور معماري سليم وصحيح يقف فيه عدد مِن الأشخاص المرسومين بدقة معبرين عن أنفسهم وكفى.
ذاع صيت مدرسة أثينا بُعيد انتهاء رافائيل منها مباشرة. وقد انتهت بالتزامن مع انتهاء مايكل آنجلو مِن تزيين سقف كنيسة سيستين بلوحات جدارية تحكي سفر التكوين. وبالرغم مِن أن عصر النهضة شهد عدد ضخم من الأعمال الفنيّة التي تخطت حدود العبقرية والخيال "مثل لوحة خلق آدم والموناليزا". إلا أن مدرسة أثينا، وأعمال رافائيل عادة، حجزت لنفسها مقعدًا وثيرا بين أشهر وأذكى اللوحات في التاريخ ككل.