سماء لها انفاسنا
صباحٌ لا يُقال فيه صباح الخير،
لأن الخير أصبح طارئًا،
زائرًا خفيف الظل لا يأتي إلا إذا أخطأ الطريق.
من شرفتي، لا أطلّ على مدينة،
بل على غمامة من الدخان،
على جدران لم تعد تكتب فيها العصافير نشيدها،
بل يكتبه البارود،
والصوت الوحيد الذي لا يزال يصل،
هو صدى دعاء لم تكتمل آياته.
هل من الطبيعي أن ينام المرء وهو يعدّ الشهداء بدل الأغنام؟
أن يُغلق عينيه على صورة طفلٍ ينزف،
ويفتحهما على أمّ تنام على حجر قبرٍ وتغني له ليرتاح؟
هل من الطبيعي أن تتحول السماء إلى أرشيف؟
نُخبئ فيها أسماءنا،
وجوعنا،
وخوفنا،
وفتات أحلام لم تعد تصلح حتى للحكايـات.
القهوة تبرد قبل أن تُشرب،
لأن الأخبار تسبق الرشفة،
والنشرة تسرق الطمأنينة،
وفنجاني ما عاد يحتمل أن يُرفَع،
كلما رفعته، خُيّل إليّ أنني أرفع جسدًا على الأكتاف.
سأقولها بصوت خافت...
هذا الوطن لا يحتاج إلى أكثر من تنفّس،
مجرد شهيق دون أن يرافقه اسم قتيل،
وزفير لا تحمله الأمهات إلى قبور أولادهن.
نريد أن نعيش دون أن نتفاوض على عدد ساعات النوم،
ولا نساوم على سعر دمعة.
هل يحق للغيم أن يحزن؟
هل يحق للسماء أن تختنق بأنفاسنا؟
أظنها تفعل،
وأظنها كل صباح... تبكي معنا،
لكنها بلا صوت.
من شرفة الغيم [جوري]
ثمّة نصوص لا تُقرأ فقط، بل تُحسّ. تمشي داخلكِ كأنها تعرف الطريق نحو شيء ظلّ فيكِ صامتًا، يخجل من الضوء، ويختبئ خلف طبقاتٍ من الإنكار. أنا لا أكتب هذا الرد استعراضًا، ولا أجيبه لأُضيف جملة إلى جملة، بل لأنني شعرت، ولأن الشعور إذا لم يُكتب يتحوّل إلى ثقل، وأنا فقط أبحث عن طريقة أُخفف بها عن رأسي شيئًا من هذا الصدى.”
سماءٌ لها أنفاسنا؟
بل كأنها صدورنا نحن، معلّقة في العلو، تضيق وتتسع بلا قانون، بلا انتظام، بلا وعدٍ أن الزفير سيأتي.
أي سماء هذه التي خُلقت لنا، لكننا لم نعد نملك حتى أن نشتكي لها؟
كأنها صارت فوقنا لا لترعانا، بل لتشهد على فَقدنا، على خرابنا، على تلك التفاصيل الصغيرة التي تسقط كل يوم دون ضجيج.
أنا لا أراكِ تصفين صباحًا غريبًا يا صديقتي، بل تصفين عمرًا بأكمله نعيشه مؤجّلات.
نستيقظ، نعم، لكن على صُور، على أسماء، على أرقام تُقرأ في ختام الأخبار، ثم تُنسى، لا لأننا لا نحبهم، بل لأننا اعتدنا أن نخسرهم.
أي حياة هذه التي تُدار بقوانين الفقد؟
هل يحقّ لنا أن نحلم إذا كانت السماء نفسها قد تحوّلت إلى أرشيف؟
أرشيف لا يحمل رسائل الحب، بل قوائم الموتى، وملامح مَن كانوا يومًا أطفالًا، ثم صارت صورهم تُعلّق بدل البالونات.
كل صباح هو محاولة فاشلة لتعريف “الاعتيادي”.
لم نعد نُعرّف صباحنا بالقهوة، ولا بالموسيقى، ولا بصوت العصافير، بل بكمّ ما تبقّى منّا بعد نشرة الأخبار،
وكم صمتًا يمكننا تحمّله دون أن نصرخ.
القهوة؟
هي مجازٌ عن كل ما لم نعد نملك وقتًا له.
تُترك، تبرد، تصبح بلا طعم، لا لأنّها سيئة، بل لأنّ الذهن مشغول بأشياء أكبر من أن يستوعب دفء مشروب.
نحن نرفع الفنجان الآن لا كي نشرب، بل كأننا نحمل به وجعًا لا يُشرب، كأننا نرفع جنازة صغيرة، لا طقوس لها، لا دموع، فقط صمت.
ثم نهمس، مثلما همستِ
“نريد أن نتنفس.”
ببساطة.
نتنفس دون أن يعترض طريق النفس خبر استشهاد، أو اسم مفقود، أو صراخ أم، أو بكاء لا يجد كتفًا يسنده.
هل يحقّ للغيم أن يحزن
سؤالكِ موجع، ليس لأنه غريب، بل لأنه شديد الصدق.
نعم، للغيم أن يحزن، وللسماء أن تبكي، وللأرض أن تكتئب،
لأننا نحن، ابنائها، صرنا نحيا على شفا القبر
ونكتب بدمنا نشيدًا لا أحد يقرؤه.
وكل صباح، حين تبكي السماء،
لا تبكي لأن الغيم يثقلها، بل لأن الأرواح التي تُزهق صارت أكثر من قطرات المطر،
وأكثر من أن تتحمّلها سماء، مهما اتسعت
شكرًا لأنكِ كتبتِ ما يشبهنا ولم نجرؤ على قوله، لأنكِ وضعتِ أصابعكِ على نبضٍ نعيشه كل يوم ونمرّ عليه كأنه عادي.