الطائر الحر
Well-Known Member
رسم توضيحي لنجم نيوتروني أدى تصادمه مع نجم آخر إلى إطلاق موجات جاذبية ومواد ثقيلة كالذهب (رويترز)
بعد مئة عام على وضعه نظريته النسبية العامة التي وصفت الجاذبية بأنها تحدب في النسيج الكوني (الزمكان) حول الكتل الكبيرة وصلت الأرض أول إشارة تدل على صحة ما قاله عالم الفيزياء الألماني الشهير ألبرت آينشتاين، ففي عام 2016 تمكن مرصد موجات الجاذبية الأميركي "ليغو" من رصد أول موجة وصلت من أعماق الكون أصدرها تصادم ثقبين أسودين كتلة كل منها ثلاثون مرة ككتلة الشمس، ويقعان على بعد مليار سنة ضوئية منا (السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة وتعادل حوالي عشرة تريليونات كيلومتر).
وتسبب ذلك التصادم في هز شباك الزمكان حولهما بقوة جعلت هذا الاهتزاز ينتقل بصورة تموجات عبر الكون، وهي ذات ما تنبأ آينشاتين بضرورة رصد مثيلها لو توفرت التقنيات المناسبة لذلك.
تحقق نبوءة آينشتاين هذه فتح الآفاق أمام العلماء لأن يتأكدوا من أن تعريف الجاذبية عند صاحب نظرية النسبية هذا يختلف عن تعريفها عند عملاق فيزياء القرون الوسطى إسحاق نيوتن الذي يعود لرياضياته واشتقاقاته الفيزيائية الفضل في معرفة أثر قوة الجاذبية -دون معرفة مغزاها- على الأجرام كافة بما فيها الكواكب والنجوم والأقمار وكل ما يدور حولها، فقد كان نيوتن من وصف هذه القوة الغامضة بأنها خاصية ترافق الأجسام، وكلما زادت كتلة الجسم زادت جاذبيته، لذلك نرى الشمس تجذب الكواكب حولها، ونحو مركز الأرض تسقط الأشياء كلها.
لم يكن تعريف نيوتن وفهمه للجاذبية يوما خاطئا، غير أن نظرية النسبية عممته وغيرت فهم الفيزيائيين له قليلا، بل قل كثيرا، إذ إن وجود الكتلة وعظمها يحدب الزمكان الذي هو نسج مكون من الأبعاد المكانية الثلاثة: الطول والعرض والارتفاع، ومن الزمن الذي هو البعد الرابع الذي افترضته النسبية جزءا لا يتجزأ من الكون، وبذلك يصبح شكل الفضاء حول الكتلة الكبيرة كالشمس مثلا كنسيج منحنٍ تدور الكواكب فيه في قنوات تسرع كلما كان قربها من الشمس أكبر، ويزداد عمق قنواتها كلما كبرت كتلتها.
ففي عام 2016 وبولايتين منفصلتين في أميركا الشمالية قام العلماء بمؤسسة العلوم الوطنية في واشنطن الغربية بتصميم مرصدين لرصد هذه الأمواج، يتلخص مبدأ عملهما بوضع مرآتين متعامدتين على مركز استقبال الموجات، تبعد كل واحد منهما عنه مسافة أربعة كيلومترات، يرسل إلى كل منهما شعاع ليزر لينعكس مئات بل ألوف المرات ذهابا وإيابا مرتدا إلى مصدره ليصير طول مساره أكبر ما يمكن.
أحد مرصدي ليغو قرب هانفورد بولاية واشنطن (رويترز)
وبالنظر إلى الشكل النهائي لتداخل الموجتين المنعكستين عن المرآتين هل يزداد لمعانهما (تداخل بنّاء) أم يخفت (تداخل هدام)، فإن بقيتا على حال واحدة من هاتين الحالتين كان الأمر طبيعيا، وإلا فإن ثمة مؤثرا خارجيا يكون قد تدخل.
وقد جاء الكشف حين تناوبت نتيجة التداخل بين شعاعي الليزر بين بناء وهدام، مشيرة إلى وجود خطب ما في تلك الفترة وهو عبور موجة جاذبية قوية قادمة من ناحية ثقبين أسودين عملاقين اصطدما ومن ثم اتحدا معا فأطلقا موجاتهما الجاذبية التي وصلت في الزمان المناسب من الحضارة الإنسانية بعيد تطوير لاقط يرى هذا النوع من الموجات.
ولو لم يكن لدينا مرصد كذلك المرصد لعبرت الموجة الأرض بسلام دون أن يشعر بها أحد، ويبدو أن ذلك هو ما كان يحدث عبر مليارات السنين من عمر الأرض، لكنه اليوم وجد من يستقبل رسالته ويلتقط إشارته، وبذلك تحققت نبوءة آينشتاين.
وتكمن أهمية موجات الجاذبية هذه في أنها ستفتح علينا عينا جديدة على الكون لم نكن نرى بها من قبل كما الحال مع نوافذ الأشعة الكهرومغناطيسية بمختلف أطيافها، فقبل حوالي 120 عاما فقط لم يكن أحد يعرف الأشعة السينية ولا تطبيقاتها الهائلة التي لا غنى للعلم عنها اليوم، وكذلك الليزر الذي اكتشف في ستينيات القرن الماضي ولم يكن يعرف له استخدام بعد، فها هو الآن يغزو كل أنواع العلوم بل يعد واحدا من أفضل اكتشافات العلم لما له من تطبيقات لا تنتهي عدا ولا حصرا.
أما موجات الراديو والأشعة تحت الحمراء فلتلك قصص أخرى ينغمس الكون فيها، بل لو أن للإنسان عينا ترى بأشعة الراديو لرأى السماء من حوله بيضاء، لكثرة موجاتها المنتشرة حول العالم في كل لحظة وفي كل اتجاه.
صورة توضيحية لثقبين أسودين على وشك التصادم وإنتاج أمواج جاذبية تغير في نسيج الزمكان بالكون (رويترز)
فإذا ما فتحت لنا عين جديدة وهي الموجات الجاذبية فإن ما ينتظر الأجيال القادمة من خيراتها سيكون وفيرا، غير أن التقنيات البسيطة التي لا تزال في مستهل تطويرها لا تملك القدرة الكافية على التقاط جميع الموجات التي تعبر الأرض، فلا شك في أن القمر يهز الزمكان بينه وبين الأرض، والكواكب تفعل ذلك، وأكثر من ذلك شمسنا والنجوم القريبة منا والبعيدة أيضا، لكن حساسية أجهزتنا غير كافية حتى الآن لتلتقط تلك الموجات الضعيفة التي ستتحول في يوم ما إلى ضوء مرئي يرينا التشكيلات الهندسية لأشكال جاذبية الزمكان المحيط بنا أو بشتى أجرام السماء.
وقد فتح خبر اكتشاف الموجات الجاذبية آفاقا جديدة للعلماء ليبدؤوا بتطوير تقنياتهم ويحثوا الخطى نحو تكثيف جهودهم للبحث عن مثل هذه الجوالات السماوية القادمة من كافة أرجاء الكون، وليفوز العلماء الثلاثة أصحاب هذا الكشف بجائزة نوبل للفيزياء 2017.
وما إن تم لهم ذلك حتى وصلت إشارة أخرى من جار سماوي قريب يبعد 130 مليون سنة ضوئية عن الأرض، حيث تصادم نجمان نيوترونيان ببعضهما (النجم النيوتروني نجم مكون من جسيمات النيوترونات المتعادلة وهو شديد الكثافة وبحجم عشرات الكيلومترات فقط) فأرسلا موجات جاذبية التقطتها ثلاثة تلسكوبات جاذبية: تلسكوب ليغو الثنائي بأميركا وتلسكوب فيرغو في أوروبا، كما وجهت نحوها عدسات تلسكوبات فضائية وراديوية أرضية، وشارك في هذ الكشف أكثر من 1500 عالم من مختلف المؤسسات العلمية والبحثية والرصدية حول العالم.
وقد أحدث هذا التصادم -فضلا عن موجات الجاذبية التي دغدغت شباك الزمكان- عددا من الظواهر الفلكية العظيمة التي يعدها علماء الكونيات أحداثا نادرة، كدفقات أشعة جاما شديدة الطاقة، واندفاعات لمواد نجمية ملتهبة في اتجاهات مختلفة في الفضاء كتلك التي تصلنا من سطح الشمس لحظة حدوث ما تعرف بالتأججات الشمسية بسبب النشاط الشمسي الدوري.
كما أثبتت الأرصاد أن هذه الإشارة التي دامت لمئة ثانية فقط قد خلفت وراءها كمية من الذهب والبلاتين والفضة تفوق كتلة الأرض أي أكثر من ستة آلاف مليار تريليون كيلوغرام (الرقم ستة وأمامه 24 صفرا)، لأن هذه العناصر الثقيلة لا تتشكل عادة في بواطن النجوم، فهي بحاجة إلى ضغط شديد ودرجات حراة هائلة تتعدى ربما عشرات المليارات من الدرجات لا مجرد ثمانية ملايين درجة تلزم لدمج نوى عنصر الهيدروجين وتحويله إلى هيليوم، ولا يتوفر ذلك المدى من هاتين الخاصيتين الفيزيائيتين إلا عند انفجار مستعر أعظم (سوبرنوفا) أو اندماج كهذا الذي حدث بين نجمين نيوترونيين.
ويقول أحد علماء الفيزياء معلقا على مستقبل البشرية بعد بدء عصر موجات الجاذبية إنه سيصبح للعقل بهذا العلم أن يسافر عبر الفضاء والزمان دون حاجة إلى أن يبرح مكانه، لأننا أمسينا ننظر إلى الكون بوعينا لا بأعيننا، فاكتشاف أمواج الجاذبية يكافئ اكتشاف غاليليو التلسكوب قبل أربعمئة عام من الآن، فانظر ماذا قدم لنا ذلك الجهاز حتى اليوم.
________________
* عضو الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك