الطائر الحر
Well-Known Member
نعم؛ لا شيء أجمل من تتبع نجوم حزام المجرة في ليلة صافية معتدلة الطقس، تلك السحابة الدخانية الخفيفة متباينة الكثافة، والممتدة في دائرة كاملة؛ لتشمل جزءا كبيرا من مساحة سماء الليل. تقع مجموعتنا الشمسية في "مهماز الجبار" Orion Spur المُلقى به بعيدا عن مركز المجرة بحوالي 25 – 29 ألف سنة ضوئية؛ بينما في الجهة المقابلة لمركز المجرة يحيط بنا على مسافة قريبة ذراع برشاوس Perseus Arm.
تصميم تخيلي لمجرة درب التبانة؛ يوضح موضعنا بالنسبة للمجرة، كذلك خطوط الطول المجرية؛ مع إدراج بعض الكوكبات الهامة التي سوف تراها حينما ترصد خط حزام المجرة. التصميم من مركز سبيتزر للعلوم بجامعة ويسكونسون؛ وهو تتويج لـ50 عاما من العمل على فهم شكل المجرة.
مقدمة مختصرة
درب التبانة1 هي مجرة حلزونية من النوع SBc، تتكون من مركز على شكل قضيب قصير منتفخ وأذرع حلزونية، قطرها حوالي 100 ألف سنة ضوئية، سمك الأذرع يقترب من الـ1500 سنة ضوئية، وعند المركز المنتفخ قد يصل إلى 4 آلاف سنة ضوئية، السنة الضوئية هي 9.5 تريليون كيلومتر تقريبا. يجب هنا توضيح أن تلك الأرقام تقريبية؛ خاصة حينما نبدأ في التحدث عن مركز المجرة؛ حيث يغطي الغاز والغبار النجمي تلك المنطقة بكثافة؛ بحيث يصعب علينا عمل القياسات.
مقطع عرضي في المجرة، تحتوي الهالة المحيطة بالمجرة على التجمعات النجمية العنقودية وبعض النجوم غاية في القدم.
نحن نسكن في ذراع الجبار، يسمى أيضا ذراع الجبار-الدجاجة Orion-Cygnus Arm، أو الذراع المحلّي، أو مهماز الجبار؛ لأنه يظهر كبروز جانبي في ذراع القوس، يمتد بطول 10.000 سنة ضوئية، وبسمك 3.500 سنة ضوئية. يقع ذراعنا المحلي بين ذراعين:
ناحية مركز المجرة، المنطقة بين كوكبة القوس والعقاب، نحن ننظر إلى ذراعنا المحلي ثم فجوة بين الأذرع Interarm Gap ثم ذراع القوس، يسمى كذلك ذراع القوس – كارينا Carina-Sagittarius Arm. في الجهة المقابلة على بعد بين 7.000 – 10.000 سنة ضوئية يقع الذراع الآخر؛ ذراع برشاوس Perseus arm واحد من الذراعين الرئيسين لدرب التبانة، الآخر هو ذراع قنطورس Centaurus Arm. تسمى أذرع درب التبانة بالكوكبات التي يتواجد معظم تكوينها ضمنها. حينما ننظر ناحية الكوكبات من الثعلب إلى ذات الكرسي؛ نرى ذراع برشاوس متداخلا مع ذراعنا المحلي، ويبدو أكثر وضوحا كلما اتجهنا ناحية ذات الكرسي.
تدور درب التبانة حول محورها؛ لكن ليس بالشكل الذي نعرفه مثل كوكب أو مجموعة شمسية؛ بل الأمر هنا أشبه بحالة ازدحام مروري لا تمشي فيه كل السيارات بنفس السرعة؛ بل قد تتوقف بعض السيارات تماما، أو تضطر لسبب أو لآخر للتراجع قليلا. ربما سوف يكون من المفاجئ أن نعرف أن كثافة النجوم في أذرع المجرة هي نفسها بين الأذرع؛ لكن الفرق هو أن الأذرع زاخرة بالنجوم الوليدة بداخل سحب الغاز والهيدروجين النجمية التي تتجمع بكميات مهولة في الأذرع؛ لتصنع سحبا جزيئية ضخمة تتغذى عليها تلك النجوم الوليدة؛ لتصبح مضيئة يافعة فيما بعد، بين الأذرع لا يمكن لنا رصد أي من تلك السحب.
تصميم مبسط يوضح الأذرع الرئيسة ومكان تواجد مجموعتنا الشمسية.
لا يمكن لنا التقاط صورة حقيقية لدرب التبانة؛ لأننا -ببساطة- نسكن داخلها؛ لكن دراسة حركة النجوم والمسافات بيننا وبينها، وتحليل الإشعاعات القادمة من الأماكن التي يعتقد أنها للأذرع؛ تمكننا من تصميم صورة نعتقد أنها قريبة للواقع، كذلك يحجب عنا مركز المجرة ما خلفه من الأذرع والسحب النجمية؛ لكن معلوماتنا عن المجرات الأخرى التي التقطنا صورها تعلمنا أن المجرات متماثلة الشكل؛ مما يدفعنا لاستكمال تصوراتنا عن المجرة بنفس الطريقة.
على مدار العام يتمكن الراصد على الأرض من متابعة كل تلك الأجزاء من المجرة التي نحن بداخلها، كأن تقف في معرض لأحد السامين، وتتابع اللوحات على الجدار الداخلي. في الصيف -مثلا- نستطيع رصد مركز المجرة في سماء غير ملوثة بضوء المدن، هو ألمع أجزاء حزام المجرة، وأكثرها كثافة للدرجة التي تجعل منطقة المركز -والتي هي بعرض سنة ضوئية واحدة- تحتوي على ما يقرب من مليون نجم. يقع المركز تحديدا بين كوكبتي العقرب Scorpius والقوس Sagittarius، ثم يبدأ وهج الحزام في الخفوت؛ حينما ننطلق من كوكبة الترس Scutum مرورا بالمثلث الصيفي "القيثارة Lyra، العقابAquila ، الدجاجةCygnus "، فاصلا بين الأميرة السماوية تاناباتا -النجمة Vega في الميثولوجيا اليابانية- وحبيبها كينجيو -نجم Altair في كوكبة العقاب؛ عقابا لها على وقوعها في حب بشري.
بعد ذلك يخفت الحزام بدرجة أكبر حينما نمر بكاثيوبيا (المرأة المسلسلة) Cassiopeia وبرشاوس حامل رأس الغول Perseus ، ثم أعلى كوكبة الجبّار Orion نزولا إلى نصف سماء الليل الجنوبي؛ بداية من كوكبة وحيد القرن Monoceros، فالشراع Vela، ثم الصليب الجنوبيCrux ، وقنطورس Centaurus، حتى نعاود من جديد النظر إلى مركز المجرة. رحلتنا في هذا المقال هي لدراسة بعض أجزاء تلك الدائرة العظيمة.
سنة 2013 تمكن نيك رايجنزر من استخدام كاميراته الست في التقاط صورة بانورامية كاملة للسماء؛ واضعاً جم تركيزه على حزام المجرة كاملاً، أجبره ذلك على تتبع السماء لسنة كاملة (حيث سوف تتعاقب الكوكبات على مر الفصول الأربعة) ليقطع مسافة قدرها 60,000 ميل، ويلتقط 37,440 صورة؛ ليجمعها -معاً- في مشهد بانورامي رائع. سوف تكون تلك الصورة السماوية الضخمة لرايجنزر هي دليلنا في رحلتنا لدراسة سماء درب التبانة، يمكنك الاطلاع عليها و تتبع حزام المجرة خلالها من هنا.
الصدع العظيم
لنبدأ بالصدع العظيم 2Great Rift، ويسمى أيضا النهر المظلم، وهو تراص لمجموعة من سحب الغبار الجزيئية المظلمة، والتي تفصل بيننا وبين ذراع القوس Sagittarius Arm من المجرة، وهي منطقة يعتقد أنها تحتوي على ما تقترب كتلته من المليون كتلة شمسية من الغبار النجمي والبلازما، يمكن لك في ليلة خريفية صافية بمنطقة نائية أن تلاحظه بسهولة، بعينيك أو بنظارة معظمة، سوف يبدو كأن هناك شريطي دخان متوازيين؛ يمتدان من كوكبة القوس وحتى كوكبة الدجاجة يفصل بينهما منطقة مظلمة، ذلك هو النهر المظلم!
يمتد الصدع العظيم من كوكبة الدجاجة مخترقا القوس حتى يصل إلى قنطورس.
ليس ذلك صدعا حقيقيا؛ لكنها منطقة تكوُّن نجوم؛ حضّانة لعدد مهول من النجوم؛ حيث تولّد النجوم في مرحلة بدائية من تكوينها كميات عظيمة من الغبار النجمي الذي يمنع الضوء -في الطيف المرئي- من المرور لأعيننا وعدسات تلسكوباتنا؛ لذلك تسمى تلك الأنواع من السحب: "السدم المظلمة Dark Nebulae"، لكن مع محاولة رصدها بتلسكوبات قادرة على رصد موجات كهرومغناطيسية من طيف آخر غير المرئي، الأشعة إكس (التلسكوب شاندرا) أو تحت الحمراء (التلسكوب سبيتزر) مثلا، يمكن لنا الحصول على نتائج أفضل بكثير، ودراسة النشاط النجمي العظيم في تلك المناطق؛ لفهم أفضل يمكن لنا ملاحظة نفس نوع السحب النجمية المظلمة في المجرة الشهيرة NGC 891 والتي تظهر لنا في التلسكوبات من منظور جانبي:
لكي تتخيل امتداد الصدع العظيم؛ سماء الليل بشكل ثلاثي البعد يمكنك3 أن ترجع للخلف قليلا، وتعيد النظر إلى التصميم التخيلي لمجرة درب التبانة المرفق في أول المقال، لنقل إنك تقف في النقطة المكتوب عندها "أنت هنا" في أوائل خريف نصف الكرة السماوي: فوقك تماما سوف تتمكن من رصد أول نقاط الصدع العظيم عند كوكبة الدجاجة "90 درجة"، تُسمى تلك المنطقة من النهر المظلم: صدع الدجاجة، أو "كيس الفحم الشمالي" coal sack Northen عند نجم الذنب Deneb من كوكبة الدجاجة؛ تبتعد عنا سحب الصدع ما يقرب من 2200 سنة ضوئية.
بعد ذلك يمكنك النزول مروراً بكوكبة العقاب إلى الأفق عند كوكبة القوس، يصبح الصدع عريضا بشكل أكبر حينما يمتد بين العوّاء والقوس؛ مارا بمركز المجرة ومتسببا في حجب جزء منه. عند كوكبة العقاب تقع سحب الصدع على بعد 1000 سنة ضوئية منا؛ أما أقرب نقاط الصدع العظيم لنا فتقع تقريبا عند النجم دپ العواء فوق القوس؛ حيث تبتعد تلك المنطقة عنا حوالي 700 سنة ضوئية. استكمل نزولك تحت الأفق حتى كوكبة مربع النجار وبجانبها كوكبة قنطورس؛ الصدع إذن يدور حولك.
تمتد سحابة الدجاجة النجمية Cygnus star cloud بامتداد خط الكوكبة المتوجه من الجناح الأعلى حتى الرأس عند منقار الدجاجة Alberio، أعلى الجزء المظلم من الصدع العظيم في تلك المنطقة. يمتد الصدع بعد ذلك حتى آخر جزء منه؛ وهو صدع الدجاجة. أشهر تجمعات تلك المنطقة النجمية هو التجمع Cygnus OB2 والتجمع Cygnus OB7 الذي يبتعد عنا حوالي 2000 سنة ضوئية، ويشمل بداخله نجم الذنب من كوكبة الدجاجة، كذلك التجمع Cepeus OB2 والتجمع Lacetra OB1 المتواجد جنوبا، والذي يبتعد عنا ما يقرب من 1500 سنة ضوئية.
التجمعات من النوع OB هي تجمعات من 10- 100 من النجوم صغيرة السن والكثيفة من التصنيفات النجمية O و B، كذلك تحتوي على بضعة مئات -قد تصل إلى آلاف- من النجوم (صغيرة ومتوسطة الكتلة). تنشأ تلك المجموعات في مساحة صغيرة داخل نفس السحابة الجزيئية العملاقة، وتتغذى على هيدروجينها، ثم بعد ذلك تنفصل عن بعضها البعض، ويتخذ كل منها طريقه الخاص في الوجود. تلك التجمعات من النجوم ذات عمر قصير؛ لأن النجوم من النوع O المكونة لها قصيرة العمر، وغالبا ما تنتهي حياتها بمستعر أعظم؛ بعد ما يقرب من مليون سنة؛ لذلك قد لا يطول عمر التجمع الواحد لأكثر من 10 ملايين سنة.
نحو كرسي المجرة
قاربت رحلتنا على الانتهاء؛ فها نحن نصل إلى "كاثي" إنه اسم أطلقه عليها جون كوفي -الذي لعب دوره مايكل كلارك دانكن- في الفيلم الشهير Green Mile، كانت كاثيوبيا زوجة قيفاوس وأنجبا أندروميدا في الميثيولوجيا اليونانية التي تحكي لنا ملحمة ضخمة؛ تنتهي بوقوع كل من أندروميدا وحامل رأس الغول برشاوس في الحب على ظهر الفرس الأعظم بيجاسوس4.
بمرور الخريف، تتسيد السيدة كاثي سماء الليل، وتصبح أفضل وأول شيء هام يمكن ملاحظته؛ ما إن نرفع رؤوسنا للسماء، يظهر حزام المجرة في تلك المنطقة أقل سمكا وأكثر خفوتا، لا يمكن ملاحظته ببساطة إلا في سماء صحراوية نائية، أو عند انقطاع الكهرباء. تظهر كاثيوبيا -الأقرب لحزام المجرة- بكم أكبر من النجوم على عكس برشاوس الذي يبتعد قليلا عن مستوى المجرة، في كل الأحوال يمكنك تمييز التجمع المزدوج الشهير بين كاثيوبيا وبرشاوس كأحد أكثر المناطق كثافة في تلك الجهة من السماء.
تحتوي كاثيوبيا على عدد من التجمعات المفتوحة، تقع معظمها كـM103 وNGC 457 وNGC663 والسديم اللامع NGC 281، كذلك السديم الضخم والأقل لمعانا كـIC1805 وIC1848 ضمن ذراع برشاوس. تبتعد معظم تلك الأجرام على مسافة حول 8000 سنة ضوئية؛ بينما يقع التجمع النجمي الشهير M52 على بعد 5000 سنة ضوئية؛ مما يحتمل أنه يقع في الفجوة بين ذراعنا المحلي، وذراع برشاوس. دعونا الآن نتخذ من تلك القبسات المعرفية (من مقال طويل) دليلا لرحلة قارب التأمل في سماء الليل؛ عسانا نصل إلى منارة الهدوء في ذلك البراح العظيم الممتد.