- إنضم
- 31 يناير 2017
- المشاركات
- 2,288,576
- مستوى التفاعل
- 47,609
- النقاط
- 113
بعد فتح القسطنطينية كان أعداء الدولة العثمانية كثيرين جدًّا، ولكن كان أبرزهم وأخطرهم اثنين: المجر والبندقية، ولم يشأ محمد الفاتح أن يفتح الملفين معًا، فقرَّر مواجهة المجر التي نقضت عهدها معه أثناء حصار القسطنطينية، وسعى إلى تحييد البندقية ولو مؤقتًا، على الرغم من دعمها للبيزنطيِّين أثناء الحصار، فعقد معها معاهدة تجاريَّة في أبريل 1454م[1] مستغلًّا شغف الجمهوريَّة التجاري، كما عقد معاهدة مع قادة جزيرة ناكسوس Naxos في بحر إيجة[2]، وهي جزيرةٌ تُقاد ببنادقة مستقلِّين عن الجمهوريَّة، ولكنَّهم يُحالفونها، وتفرَّغ بذلك للمجر.
لم يكن للمجر في هذه المرحلة حدود مباشرة مع الدولة العثمانية، ولكن كان التنافس يدور بينهما على الأقطار الواقعة بينهما، وهي الإفلاق الروماني، وصربيا، والبوسنة، وكانت كل هذه الأقطار تتبع الدولة العثمانية في العقود الأخيرة، غير أن الاضطرابات التي حدثت في أواخر عهد مراد الثاني أدَّت إلى تذبذب ولاء هذه الأقطار، أو تحوُّله إلى المجر، ووجد الفاتح أن الأخطر من هذه الولايات هي صربيا، لاعتباراتٍ كثيرة.
منها أن الصرب كانت تراودهم أحلام إقامة إمبراطوريَّة كبرى في البلقان، ولم يوقف مشاريعهم إلا نموُّ الدولة العثمانية، فالعداء بينهما قديم، ومنها أنها تعدَّت بعد موت مراد الثاني على الأراضي العثمانية واحتلت كروشيڤاتس، ومنها أن المجر كانت تحتل بلجراد وشمال صربيا منذ عام 1427م[3]، وبالتالي فأطماع المجر في بقية صربيا كبيرة، ومنها أن صربيا تقع بين المجر وألبانيا، ولو احتلتها المجر صارت موصولة مع الألبان المنشقين، وهذا سيضاعف من قوة المجر والتمرد الألباني معًا، ومنها أن جنوب صربيا به عدَّة مناجم للفضة ممَّا يُمثِّل عاملًا اقتصاديًّا مهمًّا لمن يُسيطر عليه.
لكلِّ هذه الأسباب جعل الفاتح مهمَّته الأولى في هذه المرحلة فتح صربيا، وهذا ما سيستوعب منه السنوات الخمس التالية لفتح القسطنطينية، أي من 1454 إلى 1459م، وسوف يقوم إلى جوار ذلك بأعمال يسيرة، سواء ضدَّ جمهورية چنوة التي ساعدت البيزنطيين، وتهدِّد المضايق البحريَّة، أم ضدَّ أعداء آخرين أقلَّ خطورة.
كان الهدف الاستراتيجي الأكبر للسلطان الفاتح هو الوصول إلى بلجراد، إلَّا أنَّ تحقيق هذا الهدف لن يكون إلَّا بالسيطرة الحقيقيَّة الجادَّة على جنوب صربيا، فخرج بنفسه على رأس حملة همايونيَّة في صيف 1454م وسيطر على قلعتين مهمَّتين في جنوب شرق صربيا؛ وهما: قلعة أوستروڤيتسا Ostrovitsa، وقلعة أومول Omol[4].
وكان الفاتح حريصًا على أن تتحرَّك قوَّاته العسكريَّة في المناطق التي أخذها چورچ برانكوڤيتش عند موت مراد الثاني، ليُبقي على المعاهدة التي يدفع بها الزعيم الصربي الجزية إلى الدولة العثمانيَّة[5].
في 24 مارس 1455م مات البابا نيكولاس الخامس، وانتُخب بعده كاليكستوس الثالث Callixtus III، كأوَّل بابا من أصول إسبانيَّة[6]، وكان البابا الجديد -على عكس سلفه- متحمِّسًا جدًّا لحرب المسلمين، وقد يكون ذلك لأصوله الإسبانيَّة، وكانت أوَّل أعماله مخاطبة ملك المجر لتجهيز حملة صليبية لإخراج العثمانيِّين من أوروبا كلِّها[7]! وهذا لا شك سيكون له أثره على الأيَّام القادمة.
تحرَّك الفاتح بنفسه على رأس حملةٍ همايونيَّةٍ في صيف 1455م إلى صربيا[8]، وكانت وجهته واضحةً في هذه الحملة؛ إذ حاصر مدينة نوڤو بردو Novo Brdo الغنيَّة بالفضَّة فور وصوله لصربيا، وبعد أربعين يومًا من المقاومة سقطت المدينة في أوَّل يونيو 1455م[9].
أثار هذا النصر العثماني مخاوفَ الأوروبِّيِّين، ودعا البابا إلى حربٍ صليبيَّة، وأصدر أوامره ببناء ثلاث عشرة سفينةً عسكريَّةً لهذا الغرض[10]. كان من الضروري أن يُحْكِم السلطان محمد الفاتح السيطرة على شمال بحر إيجة، لتأمين المضايق البحريَّة التي تقود إلى إسطنبول لمواجهة الحملة الصليبيَّة المرتقبة، فسيطر في شتاء 1455م على جزيرة ثاسوس التابعة لچنوة[11]، وضمَّ مدينتي فوكايا الجديدة New Phocaia، وفوكايا القديمة Old Phocaia على ساحل الأناضول شمال إزمير، وكانتا تابعتين لچنوة كذلك[12]، وفي أوائل 1456م قاد حملةً همايونيَّةً ضمَّ فيها ميناء إنيز Enez (ويُعْرَف -أيضًا- باسم إينوس Ainos)، وسيطر أسطوله على جزيرتي إمبروس وساموتراس[13]، وبذلك سُيْطِر بشكلٍ جيِّدٍ على مداخل المضايق في شمال بحر إيجة.
هزيمة بلجراد 1456م:
اطمئنَّ الفاتح إلى الوضع العسكري للدولة العثمانيَّة فقرَّر في صيف 1456م الخروج على رأس حملةٍ همايونيَّةٍ كبيرةٍ لفتح بلجراد، وهي من أحصن المدن الأوروبِّيَّة في هذه الحقبة التاريخيَّة.
تختلف التقديرات لعدد أفراد الجيش العثماني بشكلٍ كبير؛ والأقرب أنه كان حوالي ستِّين ألف مقاتل[14]. أمَّا التسليح فكان فائق المستوى؛ إذ كان مع الجيش اثنان وعشرون مدفعًا كبيرًا[15]، والكثير من المدافع الصغيرة تُقدِّرها بعض المصادر بثلاثمائة مدفع[16]، هذا بالإضافة إلى مائتي سفينة حربيَّة نهريَّة جاءت عبر الدانوب إلى بلجراد[17].
لم تكن القوَّة المدافعة عن بلجراد كبيرة! وكانت أوروبَّا تُعلِّق آمالها على هونيادي الحاكم العسكري للمجر، ومع ذلك، ونتيجة مشكلات داخلية بالمجر، لم يستطع هونيادي أن يجمع أكثر من ستَّة آلاف جندي على أكثر تقدير[18]! ومع ذلك فقد تمكَّن مبعوث البابا، وهو القس الإيطالي چون كابسترانو John of Capistrano، من جمع حوالي اثني عشر ألف رجل، جلهم من الفلاحين والعامة غير الاحترافيِّين[19]. أمَّا البابا فقد أصدر في يوم 29 يونيو 1456م منشورًا يدعو فيه النصارى في كلِّ أوروبَّا للصلاة من أجل انتصار الصليبيِّين على المسلمين في بلجراد، وأمر بأن تُدقَّ أجراس الكنائس عند الظهيرة لتذكير النصارى بهذه الصلاة، ولذلك يُعْرَف هذا الجرس في التاريخ بجرس الظهيرة (Noon bell)[20].
ضرب الفاتح الحصار البري والبحري على بلجراد في 4 يوليو 1456م، ورفض اقتراح قرة چه باشا Karadja Pasha بعدم تكرار ما فعله الوالد السلطان مراد الثاني منذ ستَّة عشر عامًا عندما حاصر بلجراد لمدَّة ستَّة شهور كاملة دون أن ينجح في إسقاطها؛ وردَّ الفاتح على القائد العسكري في ثقة أن بلجراد، بل والمجر نفسها، ستُفتح في أقلَّ من شهرين[21]!
بدأ القصف المكثَّف على المدينة يوم 7 يوليو 1456م[22]، ووصل أسطول مجري صغير مكوَّن من أربعين سفينة في 14 يوليو عبر الدانوب، ودارت بينه والأسطول العثماني معركة بحرية، وللأسف والعجب هُزِم المسلمون هزيمةً كبيرة، وغرقت لهم ثلاث سفن، وأسرت أربعة، واستشهد خمسمائة[23]!
لم يتوقَّف القصف العثماني، وفي يوم 21 يوليو -بعد أسبوع من الكارثة البحريَّة- نجحت المدفعيَّة العثمانيَّة في إحداث تهدُّمٍ كبيرٍ في الأسوار، ولم يشأ الفاتح أن يُضيِّع الفرصة فأمر فرقة الإنكشاريَّة باختراق المدينة ليلًا عبر الثغرات، وفي وقتٍ يسيرٍ دخل بلجراد حوالي سبعمائة جنديٍّ عثماني[24]، ولكن للأسف فقد وقع هؤلاء في كمين مدبَّر، وكانت النتيجة ذبح الجنود المسلمين بكاملهم[25]!
في اليوم التالي لهذه الكارثة، أي يوم 22 يوليو 1456م الموافق 19 شعبان 860هـ، خرجت فرقة من الصليبيين الفلاحين غير الاحترافيِّين بحماسةٍ دينيَّةٍ ظاهرة لمهاجمة الجيش العثماني، مخالفين بذلك أمر قائدهم هونيادي الذي كان يمتنع من حرب الجيش العثماني بشكلٍ مباشرٍ لفارق العدد والتسليح، وكانت النتيجة المتوقعة لهذا التهوُّر أن يسحق العثمانيون هؤلاء الفلاحين، ولكن للعجب، أصاب الجيشَ العثمانيَّ حالةٌ من التسمُّر غير المبرَّر، فاخترق الفلاحون الصفوف العثمانيَّة تلو الأخرى[26]، حتى وصلوا في اختراقهم إلى خيمة السلطان الفاتح، الذي اضطرَّ إلى المشاركة في القتال بقوَّة، لكنَّه أُصيب في فخذه بسهم، وسقط مغشيًّا عليه[27]! أصابت الجيش العثماني حالةٌ من الهلع؛ وبدأوا في فرارٍ غير منظَّم، وحدثت حالةٌ من الفوضى جعلت العثمانيِّين يتركون كلَّ شيءٍ وراء ظهورهم، وكلَّ ما استطاعوا فعله أنَّهم حرقوا المعدَّات والخيام، بل السفن؛ وذلك حتى لا يستفيد منها المجريُّون، ومع ذلك فقد غَنِم الجيش المجري كميَّاتٍ كبيرةً من المدافع والأسلحة والحيوانات والتموين[28].
تقدِّر بعض المصادر قتلى الجيش العثماني بأربعةٍ وعشرين ألف جندي[29][30]، والأقرب أنهم كانوا ثلاثة عشر ألف[31]، هذا بالإضافة إلى أربعة آلاف أسيرٍ[32]!
لماذا حدثت هذه الكارثة بهذه الصورة المفجعة؟ السِّرُّ يرجع في رأيي إلى أمورٍ أربعة؛ الأول منها هو الغرور والزهو، والدخول إلى القتال بشعور: «لن نُغْلَب اليوم من قِلَّة»، فهذا الصدام يأتي بعد انتصار القسطنطينية المهيب، ولا شَكَّ أنَّ أسوار بلجراد أضعف كثيرًا من أسوار القسطنطينية، فشعر الجيش أنَّ احتمال هزيمته، وهو بهذا العدد الكبير، والعُدَّة الفاخرة، بعيدٌ للغاية، فكان الإعجاب بالكثرة التي لم تُغنِ عنهم شيئًا، وكما جاءت حنين بعد فتح مكة، جاءت بلجراد بعد فتح القسطنطينية.
والأمر الثاني هو حبُّ الدنيا، وتغيُّر النوايا من الرغبة في الفتح إعلاءً لكلمة الله، وانتصارًا للدين، إلى حبٍّ للغنيمة، ورغبةٍ في التوسُّع والامتلاك. نعم نحن لا نرى النوايا، لكنَّنا نرى آثارها على الأعمال. وقد ذكرت بعض المصادر أنَّه بعد هذه الموقعة بفترةٍ أراد الفاتح أن يُعيد الكَرَّة على بلجراد فاشترط عليه قادة الجيش أن يأخذوا الأرض المغنومة لصالحهم في حال الفتح[33].
أمَّا الأمر الثالث الذي يُفَسِّر هذا الانكسار الحاد في الجيش العثماني فهو الأخطاء العسكريَّة الفادحة أثناء هذا الحصار، ممَّا أفقد الجيش ثقته في نفسه، وفي قيادته. فالهزيمة البحريَّة يوم 14 يوليو كانت تُنبئ عن ضعفٍ في التخطيط والإدارة، والهزيمة البرِّيَّة يوم 21 يوليو، وذبح سبعمائةٍ من الإنكشاريَّة المتميِّزين، كانت بسبب ضعف المخابرات العثمانيَّة، وغياب الدعم الكافي للقوَّات التي اخترقت الأسوار، فوقعوا جميعًا في الكمين المجري، وكانت الكارثة. هذه الأخطاء المركَّبة ومثيلاتها جعلت الجنود لا يقفون على أرضٍ صلبة، فكان الفرار عند أوَّل تهديد.
والأمر الرابع والأخير في هذا التحليل هو الحماسة الدينيَّة النصرانيَّة عند الصليبيِّين في هذا الصدام حيث لا يمكن أن نغفل الدور الكبير الذي قام به چون كابسترانو في شحن معنويَّات الصليبيِّين ليُواجهوا الجيش العثماني الكبير دون وجل، لذلك يُرْجِع كثيرٌ من المؤرِّخين النصر إليه وإلى شخصيَّته الكاريزميَّة[34]، كما لا يُمكن أن نغفل الدور القيادي الكبير الذي قام به هونيادي؛ فهو الذي دمَّر البحريَّة العثمانيَّة، وهو الذي اخترق الحصار ودخل المدينة المحاصَرَة، وهو الذي أعدَّ الكمين الذي هلك فيه سبعمائة من العثمانيِّين، كما أنَّه اشترك في القتال بعدما عجز عن منع الصليبيِّين من الخروج من الأسوار، فضلًا عن جهده في الإعداد قبل المعركة بشهور، كما لا يُمكن أن نغفل بالطبع هذه الجموع المتطوِّعة التي جاءت -كما يقول سيتون- تنتظر معجزة، ولن يُمكن إحباطها[35]!
كان لهذه الموقعة من الآثار ما يحتاج لتحليلٍ دقيق، ودقَّة هذا التحليل تُفسِّر لنا خطوات الفاتح في السنوات القادمة.
لقد أدرك الفاتح أنَّه لا يُمكنه حرب دولةٍ قويَّةٍ كالمجر على أرضيَّةٍ غير ثابتة؛ فقرَّر تثبيت أقدامه في منطقة جنوب صربيا، بل في منطقة البوسنة غرب صربيا كذلك، بل قرَّر عدم الصدام المباشر مع المجر إلَّا إذا تغيَّرت الظروف لصالحه، ولهذا يرى الكثيرون أنَّ موقعة بلجراد قد أمَّنت المجر ووسط أوروبا لمدَّة سبعين سنةً كاملة[36]، وهذه هي واقعيَّة الفاتح، وهي تستحقُّ التقدير؛ فليس عيبًا أن يعرف القائد حجم دولته، فلا يُورِّطها في مشاكل كبرى لا طاقة لها بها، بل عليه أن يتجنَّب هذه المشكلات ولو كان فيها اتِّهامًا له بالضعف أو الخوف؛ فإنَّ هذا في الواقع ليس ضعفًا ولا خوفًا؛ إنَّما هو حكمةٌ وتُؤَدَة.
أدرك الفاتح -أيضًا- بعد هذه الموقعة أن عليه الاهتمام بإقليمي الإفلاق والبغدان، سواء عن طريق المعاهدات أم الحرب؛ لأن المجر ستسعى دون جدالٍ للسيطرة عليهما قريبًا. -أيضًا- أدرك الفاتح أن حماسة البابا هذه قد تدفعه إلى محاولة نصرة البقايا البيزنطية في داخل الدولة العثمانية، وهي مملكة طرابزون في الأناضول، ومنطقة المورة في اليونان؛ فلا بد إذن من إغلاق ملفِّ الدولة البيزنطيَّة سريعًا قبل أن تنتبه المجر وأوروبا والبابا إلى هذا الأمر، وهذا كله سيرسم ملامح تحرُّكات الفاتح في المرحلة القادمة.
ومع أن حجم مصيبة بلجراد كان كبيرًا، وكان من المتوقَّع أن تكون آثارها وخيمة على الدولة العثمانيَّة؛ إلا أنَّ الله لطف بها؛ وذلك عن طريق ثلاث وَفَيَات متتالية كان لها أكبر الأثر في تغيير مجرى الأحداث! كانت الوفاة الأولى لچون هونيادي الحاكم العسكري للمجر، والقائد للجيش المنتصر في بلجراد، وقد تُوفِّي بعد الموقعة بثلاثة أسابيع فقط في يوم 11 أغسطس 1456م[37]. وكانت الوفاة الثانية لچون كابسترانو القسِّ المحرِّك للجموع الصليبيَّة، والملهم للحركة النصرانيَّة في مواجهة المسلمين! وقد تُوفِّي في 23 أكتوبر 1456م بعد الموقعة بثلاثة شهور فقط[38]، وأمَّا الوفاة الثالثة فكانت لچورچ برانكوڤيتش أمير صربيا، وكانت في 24 ديسمبر 1456م[39]؛ أي بعد موقعة بلجراد بخمسة شهورٍ فقط! هذه الوفيات الثلاث أفقدت أوروبا بريق الانتصار، ودخلت المجر وصربيا بعدها في صراعاتٍ داخلية كبيرةٍ للغاية، ممَّا حفظ الدولة العثمانية من حملةٍ صليبيَّةٍ