(المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول)
قال المصنف رحمه الله:
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
الشرح الإجمالي:
(والدليل) على أن الدعاء من أنواع العبادة: (قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ﴾، وخالقكم: ﴿ ادْعُونِي ﴾، وأنزلوا بي حوائجكم، ﴿ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ وأُعطيكم سؤلَكم، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، ويعرضون، ﴿ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ودعائي، ﴿ سيدخلون ﴾ نار ﴿ جهنم ﴾، والعياذ بالله ﴿ دَاخِرينَ ﴾ ذليلين حقيرين، فتضمنت الآية الأمر بالدعاء، فدل على أن الدعاء عبادة، وأنه مما يحبه الله[1].
الشرح التفصيلي:
ساق المصنف هذه الآية لبيان أن الدعاء عبادة، وإذا ثبت أنه عبادة، فإنما يُتوَجَّهُ به إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا هو الدليل من الكتاب على أن الدعاء عبادة[2]، قال المصنف في بعض رسائله لمن يدعون غير الله من الأنبياء أو الصالحين أو الأولياء: «فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله، هو: المعبود، وتعرف: أن الدعاء من العبادة؛ فكيف تدعو مخلوقًا، ميتًا، عاجزًا؟! وتترك الحي، القيوم، الحاضر، الرؤوف، الرحيم، القدير؟»[3].
ووجه الاستدلال من الآية على أنَّ الدُّعاءَ عبادةٌ من ثلاثة وجوهٍ:
1) الأمْرُ بهِ: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي ﴾، وكلُّ ما أمَرَ اللهُ به فهو عبادَةٌ.
2) الوَعْدُ باستِجابَةِ وعْدِ الدَّاعينَ: ﴿ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾، ولا تكُونُ الاستجَابةُ إلَّا في مَرْضيٍّ عندَ الله محبُوبٍ له، وكلُّ ما أحبَّهُ الله ورَضِيَه فهُو عِبادةٌ.
3) التَّصْرِيحُ بذلكَ في قولِه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ [غافر: 60]، فصرَّح بالعبادة بعد ذكر الدعاء، فدل على أن مَن لَم يدعه لم يعبده، ومن لم يعبده يدخل ناره ذليلًا حقيرًا جزاءً لاستكباره، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة من العبادات يجب إفراد الله تعالى بها[4].
والدعاء المأمور به في الآية يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فإن كان دعاء عبادة: فإن استجابته سبحانه هو: الإثابة على هذه العبادة وقَبولها؛ وإن كان دعاء مسألة، فإنَّ استجابته سبحانه هو: حصول المطلوب للداعي، والإثابة عليه أيضًا؛ لأن كل من دعا ولو كان دعاؤه بأمر دنيوي فإنه يثاب على دعائه، والمطلوب قد يتأخَّر حصوله و قد لا يَحصل؛ لحكمةٍ أرادها الله تعالى في تحقيق مطلوب العبد، أو ادخار ذلك له في الآخرة، أو دفع شر عنه نظير ما دعا أو مثلما دعا[5].
ودعاء غير الله مع الله فيما هو من خصائص الله تعالى، شركٌ أكبر والعياذ بالله[6]؛ كدعاء الميت، أو الغائب، أو الحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ أما دعاء المخلوق الحي الحاضر القادر في الشيء المقدور عليه، فلا بأس به، ولا يعتبر داخلًا في الشرك، فهذه من الأسباب التي جعلها الله بين العباد يتخذ فيها بعضهم سخريًّا[7]، ومن صور الشرك في عبادة الدعاء:
1) أن يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ سواء كان المدعو حيًا أو ميتًا [8]؛ كما لو طلب من مخلوق إنزال الغيث، أو إحياء الميت، أو كشف الضر الذي لا يكشفه إلا الله تعالى، قال المصنف في إحدى رسائله: «فمن دعا غير الله، طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله، من جلب خير أو دفع ضر، فقد أشرك في عبادة الله»[9].
2) أن يقع على وجه العبادة؛ بأن يكون طلبه مقرونًا برغبة، ورهبة، وحب، وتضرع[10]، قال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن: «إسناد الخطاب إلى غير الله في شيء من الأمور بياء النداء إذا كان يشتمل على رغبة أو رهبة، فهذا هو الدعاء الذي صرفه لغير الله شرك»[11].
3) أن يكون المدعو بعيدًا عن الداعي، كما لو دعا ميتًا أو غائبًا؛ لاعتقاده أن له تصرفًا في الكون، أو أنه يعلم الغيب؛ فإن اتساع السمع لسماع البعيد خاص بالله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم [12].
[1] تيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالمحسن القاسم (71).
[2] ينظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (178)؛ وشرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (56).
[3] الدرر السنية (2/ 104).
[4] ينظر: حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول، عبدالله الفوزان (76)؛ وشرح الأصول الثلاثة، عبدالرحمن البراك (21)؛ والشرك في القديم والحديث، أبو بكر زكريا (2/ 1161).
[5] شرح الأصول الثلاثة، عبدالعزيز الراجحي (46)؛ وينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (36).
[6] شرح ثلاثة الأصول، عبدالله بن إبراهيم القرعاوي (45)، الناشر: دار الصميعي، ط الأولى: 1434هـ.
[7] ينظر: شرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (56)؛ وشرح ثلاثة الأصول، عبدالله بن إبراهيم القرعاوي (46)؛ وشبهات المبتدعة في توحيد العبادة، عبدالله بن عبدالرحمن الهذيل (1/ 360)، الناشر: مكتبة الرشد، ط. الثانية: 1433هـ.
[8] ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (1/ 110، 124)؛ وشرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (56).
[9] الدرر السنية (2/ 36).
[10] القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين (1/ 261)، الناشر: دار ابن الجوزي، ط. الثالثة: 1419هـ.
[11] الدرر السنية (1/ 541).
[12] ينظر: الإخنائية (أو الرد على الإخنائي)، لابن تيمية (348)؛ ومجموع الفتاوى (1/ 265، 350)؛وشرح ثلاثة الأصول، محمد بن صالح العثيمين (56).