رد: شتات اوراق .. وبقايا قلم .. وكاس من حروف .. ومقعد خالي
هل جربتم في يوم ما أن تحكوا همومكم للآخرين ؟
أن تفضفضوا و لو قليلا ..
أن تنفسوا عما اعتصر واعتمر في صدوركم من ألم ؟ ..
ببساطة أن تجدوا شخصا ما .. شخصا يستمع إليكم .. وينصت .. فقط ينصت .. ؟؟؟
المشكلة التي واجهها بوتابوف بطل قصتنا القصيرة،
وهي أنه لم يجد هذا الشخص .
.
أنا .. يا سيدي .. هذا الأسبوع .. يعني .. ابني مات .
.
بهذه الجملة حاول بطلنا إيصال رسالته للبشر الآخرين
متوسلا إياهم أن يلعبوا دورهم كبشر و يستمعوا إليه !!
.
وحشة الفقير .
الذي يريد أن يتحدث فقط عن همه،
يريد أن يجد في مجتمعه من يهتم.
فقط ليسمع ،
لا يريد مساعدة، لا يريد إحسانا.
القصة لتشيخوف و اسمها "لمن أشكو كآبتي"،
عن حوذي ابنه مات،
و لا يجد أحد في الدنيا، يحكي له عن ابنه،
كلما ركب معه في العربة أحد، يقول له
_ هل تعلم..بالمناسبة..ابني مات هذا الأسبوع
ولا يلتفت له الراكب،
يحاول مرى أخرى أن يثير انتباهه
_ إنها الحمى، رقد ثلاثة أيام في المستشفى ثم مات
لا يلتفت له الراكب بل يقول له: هيا أسرع لنصل بسرعة .
وجود مهدر هذا الكائن الضعيف،
المقذوف به بعيدًا عن هذا العالم،
تم قطع جميع ما يربطه فعليًا بالمجتمع و الناس،
لا يربطه بهذا العالم إلا حكاية حزينة يريد فقط أن يحكيها،
ولا يجد أحداً ليحكيها،
عندما يركب معه راكب جديد،
يستغل أي حديث ليعيد مرة أخرى :
_ هل تعلم..بالمناسبة ..ابني مات هذا الأسبوع
هذا الإنسان المهدر وجوده،
مهدرة حكايته،
مهدرة أحزانه،
هؤلاء الذين يستغلون أي فرصة في المواصلات أو أي حدث ليحكوا مرة أخرى حكايتهم الوحيدة ،
حكايتهم هي دليلهم الوحيد على أنهم وجدوا يوما،
أنهم عاشوا فعلا،
خائفون من هذا العالم، البارد والمتجاهل،
العالم الذي لا يلقي لهم أي بال،
عندما يتركه الراكبون الذين رفضوا الاستماع لحكايته
" يظل طويلا يحدق في أثر العابثين وهم يختفون في أثر المدخل،
و ها هو وحيد من جديد، ويشمله السكون..والوحشة
التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره أقوى مما كان،
وعيناه تدور في الآلاف العابرة:
ألا يوجد في هذه الآلاف من يستمع إليه ؟
و لكن الجموع تسير دون أن تلاحظه،
أو تلاحظ وحشته،
وحشة هائلة لا حدود لها،
وحشة لو أطلقت على العالم لأغرقته،
مع هذا لا يلاحظها أحد"
يسير الآلاف في الشوارع كوجوه مدبرة،
وجوه بلا عيون حقيقية، وجوه بلا ملامح،
تحتك به عن غير عمد ثم تكمل طريقها،
يحاول أن ينبش هذه الوجوه ليكتشف وجهها الإنساني الآخر،
أو تكتشفه هي،
ولكن لا شيء،
لا أحد يستمع إليه،
بل ربما كان وجهه هو إلى الداخل،
لقد أهدره العالم للأبد،
حكم عليه بأن يشاهد موته قبل أن يموت،
عبور التاريخ على جثته،
لن يستمع إليه أحد،
هذه الكائنات المعذبة الحزينة القلقة والخائفة من هذا العالم الوحشي البارد،
التي تنضم لأي جمع تحتك به لتحس بأي دفء ،
أي دفء زائف، أي استماع غير مبالي لحكايتها،
المتحمسون لأي نقاش،
لمجرد أنه يوجد من يناقشونه أخيرا،
أن هناك اعتراف ولو مؤقت بوجودهم،
يرفعون أيديهم ويصرخون لجذب انتباه أي أحد،
يدخلون معارك عبثية مع الناس،
حتى لو تم ضربهم و سبهم،
يعدون هذا اعترافا بوجودهم،
فضلا عن الدفء الذي يأتي بعد الضرب،
يبتسمون بعد عودتهم لو شتمهم أحد، أو ضربهم،
و إن لم، يظلوا ينظرون للجموع الغفيرة التي تستحيل وحوشا،
لا تلقي لهم بالاً،
و يموتون دون أن يجدوا من يشكون لهم كآبتهم،
كائنات مهدرة !
.
تعليق :
لدي يقين أن من يكتمون أحزانهم بداخلهم ولا يبادرون بالفضفضة والحديث عنها،
إنما يقتلون أنفسهم ببطء،
ويسلمون أرواحهم كفريسةٍ للوحدة كي تنهش أرواحهم بشراسة.
.
نصيحة من قارىء :
إن رزقكم الله بمن يستمع إليكم،
رجاءً لا تفرطوا فيه،
فهو نعمة عظيمة والله؛
وإن لم تجدوا، تمامًا كما حدث مع بطل هذه القصة،
فلا تكتموا أحزانكم بداخلكم مهما حدث،
ولا تعطوا للوحشة فرصةً للنيْل من أرواحكم المُجهدة سلفًا بمتاعب الحياة،
حتى وإن تطلب الأمر أن تتحدثوا وتفضفضوا مع حيوانٍ لا يفهمكم ،
فقط كي تفرغوا مخزون الألم بداخلكم.
لا بد لكل إنسان من أن يجد ولو مكانا يذهب إليه ،
لأن الإنسان تمر به لحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما ،
إلى أي مكان!.
لان عدم امتلاك مكان تذهب اليه شعور مؤلم .
هل تدركون ما معنى أن لا يكون للإنسان مكان يذهب إليه؟