رد: شتات اوراق .. وبقايا قلم .. وكاس من حروف .. ومقعد خالي
التقى شيخ وفتاة في بريّة غمرتها الريح بالثلج ،
ثمّ راحت تذروه في كلّ جانب .
كان الشيخ يرتدي عباءة نصفيّة من الصوف ،
ويحمل في يده عصاً غليظة من السنديان .
أمّا رأسه فكان حاسراً ،
وقد تغطى شعره الأشيب بالثلج فبدا وكأنّه الثلج .
وكانت الفتاة ترتدي معطفاً من الفرو ،
وقد لفّت رأسها بشال من الكشمير ،
وغلّفت يديها بقفّازين من الجلد الأسمر مبطنّين بفرو الأرانب .
وقف الشيخ ووقفت الفتاة فترة وكلاهما يتأمّل الآخر ولا يفتح فاه .
وأخيراً تكلّم الشيخ من بعد أن نفض الثلج عن رأسه .
_ السلام أيّتها الفتاة .
فأجابت الفتاة وهي تنفض الثلج عن معطفها :
ــ السلام أيّها الشيخ .
ــ مِنْ أين وإلى أين ؟
ــ من الغرب وإلى الشرق . وأنت من أين وإلى أين ؟
ــ من الشرق وإلى الغرب . وماذا تطلبين في الشرق ؟
ــ زاوية دافئة . وأنت ماذا تطلب في الغرب ؟
ــ زاوية دافئة .
ــ اتفقنا في المطلب واختلفنا في المسلك .
وسكتت الفتاة وسكت الشيخ دون أن تسكت الريح .
فقد كانت تنسف الثلج عليهما لتعود فننسفه عنهما .
وتكلّم الشيخ ثانية فقال :
ــ من الخير أن تعكسي اتجاهك أيّتها الفتاة .
لو كان في الشرق دفء لما اتجهت أنا غرباً .
ــ بل قد يكون من الخير لك أيّها الشيخ أن تعكس اتجاهك .
لو كان في الغرب دفء لما اتجهتُ شرقاً .
ــ لا تعاندي أيّتها الفتاة .
فالعناد لا يجدي .
والعاصفة لا ترحم .
وأنا أدرى منك بمسالك هذا البلقع الأبيض .
ــ بل لا تعاند أنت أيّها الشيخ .
فأنا أفتى منك وأقوى على مجابهة العواصف .
وعاد الاثنان إلى السكوت .
ثمّ تكلّم الشيخ بعد أن طال السكوت فقال :
ــ ألا أهل لك أيّتها الفتاة ولا بيت ؟
فأجابت الفتاة :
ــ كان لي أهل ،
وكان لي بيت .
ولكنّ العاصفة حوّلت أهلي وبيتي جليداً .
لذلك خرجت أفتش عن زاوية دافئة .
وأنت أيّها الشيخ . أما كان لك أهل وبيت ؟
ــ وأنا كذلك كان لي أهل وكان لي بيت .
فحوّلتهم العاصفة وحوّلته جليداً .
ولذلك خرجتُ أفتّش عن زاوية دافئة .
وأطرق الشيخ وقد تجهّم وجهه .
وارتجفت العصا في يده .
وأطرقت الفتاة وقد تجهّم وجهها كذلك ،
وارتجفت شفتاها ويداها .
فرفع الشيخ إليها بصره وقال بصوت غير صوته السابق :
ــ أخشى يا ابنتي أن يكون البرد قد تغلغل حتى عظامك .
دعيني أنزع عني عباءتي وألفّك بها فوق معطفك .
العاصفة لا ترحم . والبرد لا يرحم .
ــ بل دعني يا أبتِ أنزع عني معطفي وألفّك به فوق عباءتك .
فها هي العصا ترتجف في يدك من شدّة البرد في عظامك .
ولي من حرارة الشباب ما ليس لشيخوختك .
ــ ولشيخوختي يا بنيّتي من شحم السنين ما ليس لشبابك .
ــ أنت كريم فوق طاقتك يا أبتِ .
ــ لا بل أنت كريمة فوق طاقتك يا بنيّتي .
أن تسند شيخوختي شبابك ــ ذلك أحبّ إلى قلبي من أن يسند شبابك شيخوختي .
ــ وأن يسند شبابي شيخوختك يا أبت لأحبّ إلى قلبي من أن تسند شيخوختك شبابي .
ــ كلانا ساند ومسنود . كلانا يطلب الدفء في هذه العاصفة .
ــ لقد أنستني محبتك العاصفة .
ــ وأنسانيها عطفك .
ــ هل تسمح لي يا أبتِ أن ألقي رأسي على كتفك ؟ إنّه ثقيل كأن به خَدَراً .
ــ بعد دقائق أحسّ الشيخ رأس الفتاة ينزلق عن كتفه إلى صدره .
وأحسّ جسدها يرتخي .
فطوّقه بذراعيه .
وأدرك أن النعاس أخذ يستولي على الفتاة .
ولم يشأ أن تفوتها الفرصة للنوم .
فشدّها إلى صدره ،
وناخ بها إلى الأرض ،
وجمعها في حضنه ،
ثمّ انحنى فوقها ليحميها من الثلج والريح .
ارتخت مفاصل الشيخ المكدودة إذ أخذت الحرارة تتسرّب إليها من جسم الفتاة الغافية في حضنه .
وشعر بأن النوم قد يسطو عليه كما سطا عليها .
فهاله شعوره ،
ماذا يحلّ بها في ذلك المدى الأبيض إذا هو كذلك استسلم للنوم ؟
ولا قدرة له على حملها ليفرّ بها إلى مكان ما من وجه العاصفة .
فماذا يعمل ؟
لقد كان إذ فكّر بالموت يؤثره لنفسه ،
على أن يكون موته فداء لحياة الفتاة .
لكنّ العاصفة لم تلبث أن تلاشت ثورتها .
فتحوّلت نسيماً دافئاً ،
منعشاً .
ولم تلبث السماء أن أسفرت عن وجه باسم ،
مطمئن .
وإذا بالفتاة تتململ في نومها ،
ثمّ تفتح عينيها وتقول :
ــ ما أدفأ حضنك يا أبتِ !
فيجيبها الشيخ :
ــ بل ما أدفأ قلبك يا بنيّتي ؟
من هوامش ميخائيل نعيمة