قصة كرم:
قال الحطيئة:
وطاوي ثلاثٍ عاصب البطن مرمل
ببيداءَ لم يعرف بها ساكنٌ رسما
أخي جفوة فيه من الإنس وحشةٌ
يرى البؤس فيها من شراسته نُعمى
وأفرد في شِعب عجوزًا إزاءها
ثلاثةُ أشباح تخالهمُ بَهما
حُفاةً عُراةً ما اغتذَوا خبز مَلّة
ولا عرَفوا للبُرّ مذ خُلقوا طعما
رأى شبحًا وسط الظّلام فراعه
فلمّأ بدا ضيفًا تشمّر واهتمّا
وقال: هيا ربّاه ضيفٌ ولا قِرى
بحقّك لا تحرمْه تا اللّيلةَ اللّحما
فقال ابنه لمّأ رآه بحَيْرة:
أيا أبتِ اذبحني ويسّرْ له طعما
ولا تعتذرْ بالعُدم علّ الذي طرا
يظنّ لنا مالًا فيوسعنا ذمّا
فروّى قليلًا ثم أحجم برهةً
وإن هو لم يذبح فتاه فقد همّأ
فبينا هما عنّت على البعد عانة
قد انتظمت من خلف مِسحلها نظما
عِطاشًا تريد الماء فانساب نحوها
على أنّه إلى دمها منه أظما
فأمهلها حتى تروّت عِطاشها
فأرسل فيها من كنانته سهما
فخرّت نحوصٌ ذات جحش سمينةٌ
قد اكتنزت لحمًا وقد طَبّقت شحما
فيا بِشرهُ إذ جرّها نحو أهله
و يا بِشرهم لمّأ رأَوا كَلمها يَدمى
وباتوا كِرامًا قد قضَوا حقّ ضيفهم
وما غرموا غُرمًا وقد غنموا غُنما
وبات أبوهم من بشاشته أبًا
لضيفهمُ والأم من بِشْرها أمّأ
تعليق على الأبيات:
- تُعد هذه الأبيات قصّة شعرية رائعة، قد اكتملت فيها عناصر القصة الحديثة.
- فقد روت القصيدة أحداثًا مترابطة، بدأت من بقاء بطل القصة ثلاث ليال بدون طعام، ثم مفاجأته بمجيء الضيف، ومناجاته ربه يسأله القِرى، واقتراح ابنه أن يذبحه ليقدم الطعام للضيف، حتى إطلالة قطيع الحُمُر الوحشية تطلب الماء، ولا ينسى هنا أن ينوّه لإنسانيته، حيث تركها إلى أن روت عطشها، ثم اصطياد إحداها وتقديم الطعام للضيف.
- قام بهذه الأحداث شخصيات أساسية، هي شخصية الشاعر وابنه، وأخرى ثانوية، هي شخصية الأم وأبنائها، وشخصية الضيف.
- كما حدد الشاعر البيئة المكانية للأحداث، فهي الصحراء المقفرة المجدبة.
- ولم يتجاوز البيئة الزمانية، وهي الليل.
- كما لم يُغفل عنصر الحوار بلونيه. مناجاة مع ربه، وحوار مع ابنه.
- بهذا الشكل رسم الشاعر صورة رائعة لكرم الإنسان العربي في البيئة الفقيرة التي أذاقته ألوانًا من آلام الفقر والعوز.
- وقد عبقت القصيدة بمشاعر متنوعة فياضة، من الحزن على أطفاله الجياع، إلى الحيرة، إلى الخوف من رؤية شبح الضيف، وحب إكرام الضيف، إلى الشعور الإنساني تجاه أفراد القطيع العِطاش، إلى الشعور بالفرح والرضى إذ قام بواجب الكرم، إلى العطف على الضيف.
- عبر عن هذا كله بالكثير من الصور البيانية التي أضفت على الأبيات مزيدًا من الجمال.
فهو طاوي ثلاث، عاصب البطن، كناية عن الجوع، وأولاده أشباح، من شدة النحول بسبب الجوع، كما لم يعرفوا طعم خبز القمح، وهذا كناية عن شدة الفقر. وهو أيضا أخو جفوة، ويرى البؤس نعيمًا. هناك أيضًا صورة تعطشه لدم هذه الحيوانات كتعطشه للماء. ذات جحش، كناية عن أنها مطفلة.
اكتنزت لحمًا وطبّقت شحمًا، كناية عن سِمَنِها. وأخيرًا الأب أب للضيف، والأمّ أمّ له، وهذا تشبيه مؤكد.