رد: سجلـــ حضوركـــ بـــ قصــة قصيــرة ..
أخي الكبير في الثلاثين من عمره ، سافر ليدرس خارج البلاد
وبعد عشر سنوات .. مات أبي !،
اتّصلت به لأخبره عن ما حصل، كان بيته يقع في الميناء، صمت للحظات.. -سمعت صوت طيور البحر من بعيد- ثمّ قال: "سأكمل أعمالي وآتي", -سمعت صوت طيور البحر مرّة أخرى- وأكمل: "سأصل في تشييع جثمانه"..
قلت: ليست هناك جثّه بعد!.. وبكيت وأخبرته: لم نعثر بعد على جثّته..
ثم سمعت صوت طيور البحر مرّة أخرى, سمعت صوت الرياح، خُيّل لي أنّ هناك نهاراً.. لكنّ بيته مظلم وستائر النوافذ تتحرّك بنسائم الساحل, قال: "سآتي لنبحث عن جثّته"..
الشمس كانت تنعكس على زجاج الساعة الجداريّة، وظلّ الساعة كان ينعكس على الطاولة، وظلّ العداد كان –أيضا- ينعكس على الطاولة, قلت: تعال حتماً, نحن مشتاقون إليك كثيراً. ***
بعد أربعة أيام.. دُقّ جرس البيت, أختي ذهبت لتفتح الباب، صوت الصراخ أفزعنا، كانت تصرخ وتقول.. أبي.. أبي..، ركضنا –جميعاً- نحو الباحة، كان أبي -بشعر أشعث- صامتاً وحزيناً وعيناه تميلان للحَمار، أختي عانقته بقوّة، وهو بقي واقفاً وعاجزاً عن احتضانها..، لم ينطق بحرف، أمّي كانت تجرّ بأظافرها وجنتيها وتناديه.. غمرته وقبّلت يديه ووجهه، أبي لم يزل واقفاً لم ينطق بحرف!، تصوّرت أنه مصدوم، وفي ذلك الصمت.. رأيت عينيه تحمرّان أكثر فأكثر، وبصمت مخيف بدأت عيناه تدمعان..
دخلنا إلى البيت.. كنّا ندفعه بهدوء، معنا كان حيّاً أبي.. كان حيّاً، وفي المطبخ.. جلس وراء الطاولة، جزء من الرقم (اثنتي عشرة) في الساعة كان يمتدّ على مفرش الطاولة الأبيض، وجزء آخر كان ينعكس على صدر أبي، وكان المؤشر يعدّ الثواني ببطء، كان يعبر من فوق صدر أبي.. من فوق عينيْ أبي الحمراوين..
أمّي جلبت له الشاي ووضعت (صينيّة) الشاي في ظل الساعة فوق الطاولة, أشعّة الشمس انعكست على أقداح الشاي، و أبي لم يزل غارقاً في صمته, أمّي قالت: "قالوا.. إنّهم عثروا على خمس جثث فقط من جثث المسافرين في تلك الرحلة، إنّهم قدّموا إلى عوائلهم صورهم" وبكت.. سمعت صوت عقارب الساعة.. أكملت.. اشرب الشاي عزيزي, أبي نظر إلى أمّي.. انحنى وأخذ يدها بين يديه ولمسها بلطف، سقطت دمعة من عينيه, سقطت دمعة فوق ظلّ الساعة واختلطت بنسيج المفرش فوق الطاولة وتبلّل..
أبي قال: "أنا لست بابا".. أنا ابنك يا أمّي!
وانحنى رأسه..
أمّي سحبت يدها من بين يديه، تغيّرت فجأة جميع أحاسيسنا, الخجل أخذ مكان الحبّ، ليته لم يقل ذلك..
أمّي سحبت يدها وعقربة الساعة وقفت على قدح الشاي..
لم يتكلّم أحد .. كانت تخرج من كمّ قميص أخي أصوات طيور البحر".