- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 112,700
- مستوى التفاعل
- 110,983
- النقاط
- 2,103

كانت هناك دائمًا.
في الخلفية، كظلٍّ ناعمٍ يتحرك بين الغرف، صمتها أكثر وضوحًا من الكلمات، خطواتها تلامس البلاط البارد كما لو كانت نغمةً خافتة، تندمج مع نبض البيت. لم تكن ترتب الأشياء فحسب، بل كانت ترتبهم أيضًا—أفكارهم، ذكرياتهم، طريقتهم في الوجود. لم ينتبهوا يومًا، لم يدركوا كيف أن وجودها كان خيطًا خفيًا يربطهم بالحياة.
وحين كبروا، ومضوا، وأغلقوا الأبواب خلفهم، لم يسألوا، لم يلتفتوا. لكنها ظلت هناك، كما كانت دائمًا، تنتظر.
لا أحد يعلم من تنتظر، لكنها تنتظر، كأن الزمن طفل صغير يلهو عند قدميها، يتشبث بثوبها، ولا يمنحها إلا المزيد من الانتظار.
رائحتها؟
لم تكن مجرد أثر صابونٍ أو عطر، بل ذاكرة حيّة عالقة بين الجدران—مزيج من الحليب الدافئ والمطر الأول، من يدين اعتادتا أن تمسحا على الرؤوس برفق، تترك أثرًا لا يُمحى.
لم تكن حكاياتها قصصًا عابرة، بل أنفاسًا تهمس بها للعالم، تذوب في الهواء كأنها طيف صوت، يدركه من عرفها، ويبهت في غيابهم. لكنها لم تبهت.
والآن؟
المنزل صامت أكثر من أي وقت مضى.
تفتح النوافذ ببطء، تراقب الشارع، تترقب أن يلتفت أحدهم، أن يبتسم كما كان يفعل قديمًا. هل كانت هناك ضحكات فعلًا، أم أن الفراغ خدعها؟
في المطبخ، تقلب ملعقة في كوب شاي لم تعد تشربه، فقط تحركه—يدور، يدور، كما يدور الزمن حولها، بلا بداية ولا نهاية، مثل حلم يتكرر ولا يُروى أبدًا.
وفي العتمة، تسمع أنفاسها، بطيئة، مألوفة، كأن جسدها صار جزءًا من هذا المكان، قطعة أثاث قديمة لم يعد أحد يلاحظها.
تغمض عينيها، لكنها لا تنام.
لأن النوم، مثل الذكريات، لا يأتي إلا حين يتوقف الانتظار.
لكن هل يتوقف الانتظار حقًا، أم أنه يصبح جزءًا من المرء، مثل ظلٍّ لا يفارقه أبدًا؟
في مكانٍ ما، يرنّ هاتف.
شاشة صغيرة تضيء باسمها.
أصابع تتردد للحظة، ثم تضغط على الزر الأحمر.
"ليس الآن... لاحقًا... غدًا ربما."
وفي ذات اللحظة، في سريرها، تتحرك يدها في الفراغ، تبحث عن شيء لم يعد هناك، ربما لم يكن هناك أبدًا، لكن القلب يصرّ على البحث عنه.
لا شيء.
فقط الليل، فقط الصمت، فقط حبٌّ لم يُسمع صداه، ولم يُنسَ بعد.
لكن انتظار من؟
لمن؟
هل ينتظر الحب من يعيده إلى الحياة، أم ينتظر فقط أن يُنسى، أن يتلاشى ببطء، كما يتلاشى ظلٌّ عند المغيب؟
لا إجابة، لا أحد ليسألها، لا أحد ليجيب.
تمضي بخطواتها الهادئة، تفتح خزانة صغيرة، تمرر أناملها فوق الملابس القديمة، كأن ملمسها يفتح بابًا في الزمن، بابًا لا يستطيع أحد سواها العودة منه.
ثم تعود إلى المطبخ، إلى كوب الشاي الذي لم تشربه، تحرك الملعقة مرة أخرى.
تدور، تدور، كما لو أن الدوران وحده يمنح الأشياء معنى.
ثم… في الخارج، صوت خطوات.
يتوقف قلبها لوهلة.
هل عاد أحد؟
هل التفت الزمن، أخيرًا، وأعاد لها شيئًا مما أخذ؟
لكنها تعرف الجواب، حتى قبل أن تنظر.
إنها ليست الخطوات التي تنتظرها.
مجرد أصوات أخرى، في شارع يمتلئ بأبناء عادوا إلى بيوت أخرى، لأمهات أخريات، ليكرروا ذات المشهد، ذات الحب، ذات الانتظار.
تقف للحظة، تتنفس ببطء، ثم تتجه إلى المرآة.
تتأمل وجهها.
لم يعد كما كان، لكن فيه شيئًا لم يتغير—ذلك الحب العتيق، الخام، الذي لم يُستهلك بعد.
تبتسم نصف ابتسامة، كأنها تصالح الزمن أخيرًا.
ربما سيتصلون غدًا.
ربما سيأتون الأسبوع القادم.
ربما… ربما.
تطفئ النور، تصعد إلى غرفتها، تتمدد على السرير، يداها فوق صدرها كمن يحتضن شيئًا غير مرئي، شيئًا كان هنا يومًا، وسيظل هنا، حتى لو لم يره أحد.
وفي الفجر، تستيقظ كما اعتادت، قبل الجميع.
كما لو أن الضوء خُلق ليوقظها وحدها.
تمشي بهدوء نحو المطبخ، تشعل الموقد، تضع الماء ليسخن، بينما يملأ الهواء رائحة القهوة الطازجة.
لم تكن بحاجة إلى منبّه، فجسدها يعرف الإيقاع جيدًا—أن تكون أول من يستيقظ، أن تبدأ اليوم قبل الجميع، أن تهيئ العالم لمن تحب، حتى لو لم يعودوا هنا.
تجلس أمام الطاولة.
الصباحات لم تعد كما كانت، لكن القهوة لا تزال كما هي، تحتفظ بحرارتها، برائحتها، بطمأنينة الأشياء التي لا تخون.
تأخذ رشفة، تغمض عينيها، وتترك للحب أن ينتظر يومًا آخر.
ثم… رنّ جرس الباب.
رفعت رأسها ببطء، كأنها تخشى أن يكون مجرد وهم صنعه الانتظار.
لكن الصوت أتاها مجددًا—حقيقيًا، واضحًا، يوقظ شيئًا في داخلها كاد أن ينام للأبد.
نهضت، بخطوات مترددة، لم تتسرع، كأنها تخشى أن ينكسر هذا الحلم إن تحركت بسرعة.
وحين فتحت الباب… رأتهم.
وقفوا هناك، أمامها.
وجوههم مألوفة رغم السنوات، أصواتهم تحمل نغمة لم تنسها أبدًا، لكن أكثر ما لامس قلبها كانت العيون—العيون التي عادت تبحث عنها، كما كانت تفعل يومًا، قبل أن يأخذهم العمر بعيدًا.
لم تعرف ماذا تقول.
فقط نظرت إليهم، ثم، دون أن تفكر، فتحت ذراعيها.
وفي لحظة، وجدوا أنفسهم يحتضنونها.
كما لو أن الزمن لم يفرقهم يومًا، كما لو أنهم لم يبتعدوا أبدًا.
في الداخل، كان كل شيء كما تركته، كأن البيت كان ينتظرهم أيضًا.
جلست معهم حول الطاولة، القهوة التي أعدّتها منذ الصباح لا تزال دافئة، مثل قلبها، مثل هذه اللحظة التي كانت تعتقد أنها لن تأتي أبدًا.
ضحكات، أصوات متداخلة، أسئلة لا تنتظر إجابات، أيدٍ تمتد لتلمسها، لتتأكد أنها هنا، أنها ليست مجرد ذكرى.
وفي تلك الليلة، حين أطفأت الأنوار وصعدت إلى غرفتها، لم يكن هناك فراغ بجانبها.
لم يكن هناك صمت ثقيل يخنق المكان.
كان هناك صوت أنفاس هادئة، في الغرف المجاورة.
وكان هناك قلب، لأول مرة منذ زمن، ينام دون انتظار.