بنت الاكابر
Banned
تكفيك ساعة من الوقت أو أقل للتجوال في أروقة قلعة كركوك لتتعرف عن كثب على حقيقة التعايش بين مكونات المدينة التي تمتاز بالتنوع الديني والمذهبي والقومي. ويتجلى ذلك بالاثار والمواقع التراثية التي مازالت شاخصة والتي تضم أضرحة أربعة أنبياء وأماكن مقدسة يؤمها المسلمون والمسيحيون من قوميات ومذاهب متعددة لتعطي بذلك أكثر من دلالة، ليس آخرها قوة الترابط المجتمعي الذي تمتاز به هذه المدينة.
عبق التأريخ
تحدث الكاتب عبد العزيز سمين البياتي عن تاريخ القلعة بالقول "يرجح بعض المؤرخين ان الكوتيين هم من انشأوا القلعة، استنادا الى رقيمات قديمة، فيما يرجح اخرون ان الملك الاشوري (اشور ناصر بال الثاني) هو الذي أنشأ القلعة بين عامي 850 و 884 قبل الميلاد، حين اتخذها الملك خطا دفاعيا موحدا لمراكز جيوشه، ومن بعده بنى الملك (سلوخ) حائطا دفاعيا حول القلعة وشيد 23 شارعا فيها ومدخلين".
واضاف ان "القلعة التي بنيت على تل مدور ذي اربع زوايا يرتفع عن السهول المحيطة به بـ 120 قدما وبأبعاد (500×450) مترا، لها اربع ابواب سميت من قبل العثمانيين، باب (طوب قابو) او الحجري، وباب (يدي قزلر) ويعني البنات السبع، وباب (الحلوجية)، وباب (دشقاكو) وتعني المدرجات"، موضحا ان "القلعة تتميز بنوع فريد من العمارة اذ ان اغلب مبانيها مشيدة من الحجر الابيض والجص وطرقاتها معبدة بنوع من طابوق (الفرش)" كاشفا عن ان "القلعة تتميز بأنها تضم عددا من الابنية التراثية والدينية النادرة وهي جامع النبي دانيال، وكاتدرائية ام الاحزان (الكنيسة الكلدانية)، والجامع الكبير، والقبة الخضراء (جوج جمبت )، وجامع عريان، وبوابة (طوب قابو) وعدداً من الدور التراثية".
جولة في الداخل
عند زيارة القلعة صعدنا عدة امتار لنكون عند الباب الحجري او باب (طوب قابو) الواقع في الجهة الغربية منها المطل على نهر الخاصة مباشرة والذي يعود تاريخه الى اكثر من 150 عاما ويتميز باقواسه المدببة ونصف الدائرية، ويواجه الداخل مباشرة مقر لمركز شرطة حماية التراث والاثار المسؤول عن حماية المواقع الاثرية في القلعة.
بعدها سرنا في شارع معبد يأخذنا الى حيث الجامع الكبير الذي هو احد الجوامع الموجودة في القلعة واكثرها بقاءً حتى الان، حيث حظي بالترميم واعادة التأهيل ومكتوب عليه بالعربية الجامع الكبير واسفلها (اولو جامعي) وتقام فيه الصلاة يوم الجمعة فقط حيث تؤدى من قبل كثيرين يحضرون من مختلف مناطق كركوك.
ومن الجوامع الاخرى الموجودة في القلعة جامع عريان ويقع وسط القلعة ويجاوره جامع النبي دانيال الذي يعد من اكثر الاماكن مزاراً في القلعة.
وتحدث سادن جامع النبي دانيال الشيخ فاروق محمد صالح قائلا: ان الجامع يضم مراقد اربعة انبياء هم النبي دانيال والنبي عزير والنبي حنين والنبي ميكائيل، بيد ان الاخير لا يوجد له ضريح لعدم الاستدلال على مكانه، وعلى الرغم من ذلك فإن وفوداً عديدة من مسيحيي اوروبا يزورونه باستمرار"، موضحاً ان "النبي دانيال يزار يومي السبت والثلاثاء وكان سابقاً يزار يوم السبت فقط كتقليد قديم عند اليهود من ساكني القلعة، قبل ان يقفل المرقد أعواماً طويلة ابان عهد النظام الدكتاتوري، بيد انه افتتح مرة اخرى بعد العام 2003 بعد إعادة تأهيله"، مبيناً ان "الناس عاودوا زيارته وتقديم القرابين والنذور". وعن صحة وجود النبي دانيال في المكان، اجاب السادن انه "ورث عن ابائه واجداده ان النبي دانيال دفن هنا"، مضيفاً انه "سمع من ابائه انه كان يربي الأسود ويتعبد في هذا المكان".
معالم أثرية
عند الولوج في ازقة القلعة القديمة وصلنا الى كاتدرائية ام الاحزان او الكنيسة الكلدانية لنجدها عبارة عن اثار قديمة متهالكة، فيما تحتفظ بعض الركائز وسط احدى قاعاتها التي فقدت سقوفها بطريقة المعمار القديم ونوعية الحجر ورصانة تثبيتها، وعند خروج الزائر من القاعة تواجهه غرفة القس وهي الغرفة التي كان اليهود القدماء يزورونها ويضعون القرابين ويوقدون البخور فيها، بحسب ما افاد به سادن جامع النبي دانيال.
والكنيسة تحتاج الى الصيانة واعادة التأهيل، بحسب ما افاد به مدير اثار كركوك، مضيفاً ان تخصيصات من الوقف المسيحي في كركوك قدمت لصيانتها.
وتضم القلعة ايضاً سوقاً تسمى (قيصرية قلعة كركوك) تتكون من طابقين الارضي يضم 24 محلاً، في حين يتكون طابقه الأعلى من قاعة طويلة، وتدل طريقة بنائه وتقسيم محاله على عراقة ومتانة ما صنعه القدماء بالرغم من بساطة مواد الانشاء وأدوات التشييد. وعند الجهة اليمنى من القلعة، توجد القبة الخضراء أو قبة (بغداي خاتون) التي تمثل ببنائها المثمن الشكل طرازاً معمارياً جميلاً تتخلله الزخارف والالوان حيث، بحسب مدير اثار كركوك، تضم القبة قبراً لفتاة تبلغ من العمر 24 عاماً كانت قد أتت للحج فتوفيت في القلعة، فبنى لها والدها هذا القبر، وتزور القبر وفود اجنبية لما فيها من نقوش وبراعة في البناء المعماري ذي الاشكال الهندسية.
وتضم المقبرة العثمانية الواقعة خلف المراقد مباشرة، بحسب سادن جامع النبي دانيال، الكثير ممن دفنوا من سكنة القلعة السابقين، اضافة الى قبر (محمد ملوك باشا طاهر) والي الموصل القديم، علاوة على قبور بعض الضباط من الجيش العثماني.
زوار مرقد النبي دانيال
ما ان تدق الساعة الحادية عشرة والنصف من صبيحة كل يوم سبت حتى يتجمع عدد كبير من النساء والعوائل وحتى الرجال لزيارة القلعة، وبالرغم من أن المطر كان ينهمر بغزارة خلال قدومنا، استمرت مراسم الزيارة من خلال زيارة مقام الاضرحة الثلاثة، ورمي النقود داخل شباك الضريح الاول، وايقاد الشموع داخله.
وعند سؤالنا لعدد من النساء كبيرات السن عن سبب زيارتهن والبدء بضريح النبي دانيال في البداية، أحجمن عن الاجابة، ونصحننا بأن "نطلب مرادنا بأداء مراسم الزيارة بصمت".
بيد ان فتاة شابة تدعى (افاق عبد الخالق) تحدثت لنا قائلة: "اتيت لأطلب طفلاً حيث تعرضت للاجهاض بشكل متكرر اثناء الحمل، وقيل لي ان شفائي مرهون بطلب نذر عند النبي دانيال بعد تكرار الزيارات".
اما الزائر (ابو محمد) (52 عاماً) وهو موظف استعلامات في شركة نفط الشمال، فأوضح انه "من سكنة القلعة القدماء ممن اخرجوا منها خلال تسعينيات القرن الماضي"، مضيفاً ان "زيارة النبي دانيال والتبرك بها تقليد اسبوعي عند صبيحة كل يوم سبت لأداء الصلاة وقراءة الفاتحة على روح النبي دانيال وزيارة مرقده ومراقد الانبياء الاخرين"، كاشفاً عن ان "الحي الذي ازاله جلاوزة النظام المقبور كانت تقطنه ما يقارب ثلاثة الاف عائلة، وكان يضم محلة حمام المسيح وحمام مسلم وميدان ومحلة اغالق واربع مدارس احداها ثانوية".
اما الزائرة غفران عزيز البياتي فتقول ان "الكثيرين هنا يزورون النبي دانيال لطلب النجاح من قبل الطلاب او الرزق او الزواج او طلب النسل، من خلال اشعال البخور وشد قطع القماش بشباك المرقد، كما يتوجب من المرأة عند طلب حاجة ملحة الصعود الى اعلى المنارة بعد ان يفتحها السادن وترمي بعباءتها من الاعلى وتطلب مرادها ليتحقق"، مشيرة الى ان "عدداً اخر يزور القلعة للتنزه او لزيارة المقبرة".
تهيئة القلعة كمزار سياحي
مدير اثار كركوك اياد طارق حسين بين في حديثه لـ(المركز الخبري لشبكة الاعلام العراقي) ان "التنقيبات في القلعة متوقفة منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، خوفاً على المواقع الاثرية الهشة فيها من التلف"، مضيفاً ان "العام 1997 شهد الكشف عن بوابة اخرى للقلعة يبلغ ارتفاعها خمسة امتار وعرضها ثلاثة امتار وبارتفاع ثمانية امتار عن ارضية القلعة الحالية".
وبين ان "الدراسات تتحدث عن وجود 63 برجاً في القلعة، لم يستدل حتى الان الا على تسعة فقط وهي مبنية من الطابوق الطيني وفيها الكثير من التشققات والتهشمات ونحاول الحفاظ عليها بعد ان اجرينا عليها صيانة لاتؤثر على شكلها الخارجي"، معرباً عن اعتقاده بأن "الابراج الاخرى تآكلت اوتهالكت مع مرور الزمن"، مشيراً الى ان "القلعة كانت تضم 800 دار تراثية قام النظام الدكتاتوري خلال العام 1993 بهدم 95 بالمئة منها بحجة تحويلها الى مركز أثري سياحي"، كاشفا عن ان "عمليات الهدم التي اجريت حينذاك تمت بصورة غير مدروسة، ما ادى الى انهيار الكثير من الدور والمواقع التراثية
القريبة". واضاف حسين انه "لم يبقَ منها سوى 60 داراً تراثية، وحالياً نحن بصدد تحويلها الى دور تراثية سياحية بعد صيانتها كمرحلة اولى ومن ثم تحويلها الى مرافق سياحية صغيرة كمطاعم وكافتريات ودور استراحة ومحال بالاستثمار ضمن خطة مشاريع تنمية الاقاليم لهذا العام"، مؤكداً ان "الاعمال ستنفذ خلال العام المقبل لتأخر التخصيصات".
وأشار مدير آثار كركوك الى ان "القلعة، اذا ما تم استغلالها بالشكل الصحيح، لتحولت الى مركز سياحي جذاب يسهم في تحقيق مردودات كبيرة من العملة الصعبة"، وأورد مثلاً "قلعة في الأردن تضم بناية واحدة مستغلة سياحياً وتزار بتذاكر من قبل الوفود، بعكس قلعة كركوك غير المهيأة لاستقبال السياح"، مبيناً ان "دائرته اكملت مشروع التوثيق ومشروع (الماستر بلان) الذي يبين كيفية الاستفادة من القلعة سياحياً".
ولفت حسين الى ان "القلعة تحتاج الى ميزانية خاصة تعتمد لصيانة الدور التراثية وتعبيد ازقتها القديمة وانارة كلية وبناء حدائق لاستراحة الزوار وتشجير المكان، وانشاء كافتريات تراثية تكون على شكل اقواس خشبية، وتنشأ بطرق علمية بحيث لاتؤثر على اسس القلعة وارضيتها"، كاشفاً عن ان "موضوع اضافة القلعة الى قائمة التراث العالمي مازال مطروحاً، وهو قيد المداولة"، موضحاً ان "منظمة اليونسكو قامت بزيارتين الى القلعة بشأن الموضوع ذاته".