- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 118,860
- مستوى التفاعل
- 119,941
- النقاط
- 2,508
وردة قايين...
حياتنا ليست كما نراها بأفلام الكارتون، بدايات متعثرة، وبطلة مظلومة، ونهايات سعيدة، والحشو زائف. نحن نحيا ما لا يُرى بالأفلام، لسنا مجرد قصص في كتاب أطفال ترويه الجدات ليَتعظ الصغار. نحن أعمق من أن نُسجن بين دفّتي كتاب وبضع أوراق...
أرتجف دون أن أقصد.
لا، بل أقصد، لكنني لا أختار. والفرق بين القصد والاختيار رقيق كحدود الصبر حين يداهمه ضجيج العيون. هذه هبة للأسف نُزعت عني. قد أكون خطيئة أحد الأجداد الذين وروا التراب، أو خطيئة إحدى الجدّات المتشحات بالسواد بعد رحيل السند لهن. وقد أكون أبعد من هذا وذاك… قد أكون وردة قايين. نعم، أحب أن أرى نفسي هكذا، على الأقل، رغم الخطيئة، أبقى وردة، ورغم ما بي، أرى الاهتزاز مجرد رياح تعصف بي، ولكن لا أتناثر.
أذكر في طفولتي ذلك العش الصغير لطير لم أعد أذكر اسمه. أذكر ابن الجيران حين تسلّق الشجرة وأمسك بطفل العصفور. كان بلا ريش، مجرّدًا من الملابس، مجرد قطعة لحم، لكن ذلك لم يشفع له. بدأ بسكب الماء عليه، وبدأ العصفور بمحاولات فاشلة للحركة، كان فزعًا، أحسست به، كان مثلي. هو بالماء، وأنا بالموقف. هو يرتجف، وأنا أهتز.
صرخت به ليبتعد عن الصغير، لكن خانني صوتي، ويداي، وعيناي. نعم، خانتني معًا. لم أستطع أن أنقذ الصغير، كان يلفظ أنفاسه تحت الماء، وابن الجيران يضحك، وينعتني بالملبوسة.
نعم، كان يوئد صغيرًا، ويئد محاولتي.
يدي تُصفّق وحدها أحيانًا، تطرق الطاولة، ترمش بعين واحدة، ترفع حاجبها بتعجرف لا يشبهني. وأقف أمام المرآة لأتفاوض مع جسدي، فأجده قد حسم رأيه منذ سنوات: لن يخضع. لا للعرف، لا للسكوت، لا للرغبة في التماهي مع سائر النساء اللاتي يتقنّ فن الظهور بلا أثر. لم أعد أناظر المرايا، فهي أعطتني حكمًا سابقًا لا مجال لتغييره. أسدلت الستائر على المرايا، ولم أعد أذكر فحوى ملامحي...
أعيش داخل جسد يُقاطعني. كلما قررت أن أكون واضحة، يصرخ لساني بكلمات لا أؤمن بها. ينطق باسم الرب في توقيت خاطئ، يلعن حين أريد أن أبتسم، يتهكم حين أبكي. أبدو، في عيونهم، مهرّجة مسكونة، لكني في داخلي… سجينة تحلم بأن تُشرح أمام فلاسفة بدل أطباء.
أتحدث إلى نفسي بصيغة الغائب: "هي لا تريد أن تكون هكذا."
ثم أعود وأكذب: "بل تريد، لكنها خائفة من أن تُفهَم."
إنني أرتجف، نعم، لكن ارتجافي ليس خللاً في النظام العصبي، بل احتجاج لغوي. جسدي يؤمن أن العالم لا يُصغي إلا لمن يطرق الطاولة. فأطرقها بلا وعي، ثم أكتب في الليل، في دفاتر خفية، أنني أؤمن بالهدوء، وأنني كنت أحب الصمت، قبل أن يُجبرني عقلي أن أُعبّر عنه بصوت عالٍ.
حين كنت صغيرة، كانت أمي تقول: "لا تحاولي أن تشرحي لهم، الناس لا يفهمون." فتعلمت أن أتحكم في حزني، وأُطلق سراح يدي. تعلمت أنني مختلفة قبل أن أفهم معنى الاختلاف. أقلمت نفسي وهاجرت إلى القطب، حيث لا أرى، حيث لا أحد مثلي إلا ذلك الشفق، تمازجه، حركته، انفعالاته، اضطراباته، شامخ دون مبرر...
هناك ما يشبهني في الزلازل الصغيرة.
تلك التي لا تُسجّلها الأجهزة، لكنها تُفزع العصافير من الأشجار.
أنا تلك الزلزلة.
لا تُدمّر، لا تُرى، لكنها تغيّر شكل الغصن.
حياتنا ليست كما نراها بأفلام الكارتون، بدايات متعثرة، وبطلة مظلومة، ونهايات سعيدة، والحشو زائف. نحن نحيا ما لا يُرى بالأفلام، لسنا مجرد قصص في كتاب أطفال ترويه الجدات ليَتعظ الصغار. نحن أعمق من أن نُسجن بين دفّتي كتاب وبضع أوراق...
أرتجف دون أن أقصد.
لا، بل أقصد، لكنني لا أختار. والفرق بين القصد والاختيار رقيق كحدود الصبر حين يداهمه ضجيج العيون. هذه هبة للأسف نُزعت عني. قد أكون خطيئة أحد الأجداد الذين وروا التراب، أو خطيئة إحدى الجدّات المتشحات بالسواد بعد رحيل السند لهن. وقد أكون أبعد من هذا وذاك… قد أكون وردة قايين. نعم، أحب أن أرى نفسي هكذا، على الأقل، رغم الخطيئة، أبقى وردة، ورغم ما بي، أرى الاهتزاز مجرد رياح تعصف بي، ولكن لا أتناثر.
أذكر في طفولتي ذلك العش الصغير لطير لم أعد أذكر اسمه. أذكر ابن الجيران حين تسلّق الشجرة وأمسك بطفل العصفور. كان بلا ريش، مجرّدًا من الملابس، مجرد قطعة لحم، لكن ذلك لم يشفع له. بدأ بسكب الماء عليه، وبدأ العصفور بمحاولات فاشلة للحركة، كان فزعًا، أحسست به، كان مثلي. هو بالماء، وأنا بالموقف. هو يرتجف، وأنا أهتز.
صرخت به ليبتعد عن الصغير، لكن خانني صوتي، ويداي، وعيناي. نعم، خانتني معًا. لم أستطع أن أنقذ الصغير، كان يلفظ أنفاسه تحت الماء، وابن الجيران يضحك، وينعتني بالملبوسة.
نعم، كان يوئد صغيرًا، ويئد محاولتي.
يدي تُصفّق وحدها أحيانًا، تطرق الطاولة، ترمش بعين واحدة، ترفع حاجبها بتعجرف لا يشبهني. وأقف أمام المرآة لأتفاوض مع جسدي، فأجده قد حسم رأيه منذ سنوات: لن يخضع. لا للعرف، لا للسكوت، لا للرغبة في التماهي مع سائر النساء اللاتي يتقنّ فن الظهور بلا أثر. لم أعد أناظر المرايا، فهي أعطتني حكمًا سابقًا لا مجال لتغييره. أسدلت الستائر على المرايا، ولم أعد أذكر فحوى ملامحي...
أعيش داخل جسد يُقاطعني. كلما قررت أن أكون واضحة، يصرخ لساني بكلمات لا أؤمن بها. ينطق باسم الرب في توقيت خاطئ، يلعن حين أريد أن أبتسم، يتهكم حين أبكي. أبدو، في عيونهم، مهرّجة مسكونة، لكني في داخلي… سجينة تحلم بأن تُشرح أمام فلاسفة بدل أطباء.
أتحدث إلى نفسي بصيغة الغائب: "هي لا تريد أن تكون هكذا."
ثم أعود وأكذب: "بل تريد، لكنها خائفة من أن تُفهَم."
إنني أرتجف، نعم، لكن ارتجافي ليس خللاً في النظام العصبي، بل احتجاج لغوي. جسدي يؤمن أن العالم لا يُصغي إلا لمن يطرق الطاولة. فأطرقها بلا وعي، ثم أكتب في الليل، في دفاتر خفية، أنني أؤمن بالهدوء، وأنني كنت أحب الصمت، قبل أن يُجبرني عقلي أن أُعبّر عنه بصوت عالٍ.
حين كنت صغيرة، كانت أمي تقول: "لا تحاولي أن تشرحي لهم، الناس لا يفهمون." فتعلمت أن أتحكم في حزني، وأُطلق سراح يدي. تعلمت أنني مختلفة قبل أن أفهم معنى الاختلاف. أقلمت نفسي وهاجرت إلى القطب، حيث لا أرى، حيث لا أحد مثلي إلا ذلك الشفق، تمازجه، حركته، انفعالاته، اضطراباته، شامخ دون مبرر...
هناك ما يشبهني في الزلازل الصغيرة.
تلك التي لا تُسجّلها الأجهزة، لكنها تُفزع العصافير من الأشجار.
أنا تلك الزلزلة.
لا تُدمّر، لا تُرى، لكنها تغيّر شكل الغصن.