أميــــر الحـــــرف
أقبية الغياب ..
الشُرفةُ البَيضاء
للمرةِ الثانية يَنظُر لساعتهِ
هذه المَرّة الوَقتُ كانَ يُشيرُ الى السابعةِ وبِضْع دَقائق
قَرر النهوضْ أخيراً ..
على وَجهِ السُرعة ارتدى مَلابسَه حاولَ أنْ يُعيدَ تَصفيفَ شَعره الذي بدا عَبثياً جِداً
تَحديداً كأجواءِ غُرفَته
سَريره الغَير مُرتّب سَتائر نافذتهِ الغَير مُسدَله بِشكل كامل , فنجانُ القَهوة الذي تَكاثفتْ بأسفلهِ بَقايا البُن صُحف واكواب شاي مَرّت عليها بِضَع أيام
هكذا إعتادَ أنْ يُهمل تَرتيب أشيائه ,, رُبما كلّ حَياته كانت تَمر بِفوضى عارمة كانت أشبَه ما تكونُ
بِملائة بَيضاء مُمزقة
فَوضى مِن ذلك النَوع الذي يُصاحِبه سُوء الحَظ ..
لم يَكن يَكترث كَثيراً لحياتهِ التي تَسلل خارجها الأصدقاء واحداً تِلو الآخر
حتى في عَملهِ كان يُفسِد الكَثير من الأمور دونَ قَصد منه
الحِوارات التي كان يَتدخل بِها ثمَّ يَنتهي الأمر بإلغاء صَفقة ما
والآنيةُ الثَمينة التي كَسرها مُؤخراً تَسببت بِخلاف حاد مَع مُديره
إلا إنهُ كان مَحظوظاً ببقائهِ حتى اللحظة بِعمله في مَعرضِ بَيع الهَدايا المُفعَم بالأناقة ذلكَ المَكان الذي يَقضي فيهِ جُل وَقته مُنذ أنْ سَنحت له الفُرصة بشُغل ذلكَ العَمل
وإلى أينَ يُمكن لَه أن يَذهب وما مِن مَساحة يَتسكع فيها سِوى وحدَته كانسان يَعيشُ دون عائلة أو حتى صَداقات حَميمة
هو لا يعرفُ مَنْ أنقذهُ حتى !!
حين تَعرضَ لحادث كادَ أن يَفقده ما تبقى من عُمرهِ
لكنَّ جُزءً واحداً من يَومه كان يَحصل على اهتمامه وها هو يَهمُّ بالخُروج ليُلاقي تلكَ اللحظَة المُدهشة من صَباحه
شَهر ديسمبر الحافلِ بالسُحب الرمادية وزخاتِ المَطر يُصاحبه بِذلكَ الشارع المؤدي لطَريقِ العَمل .. الأشجارُ ورائحة الطُرقات المُبللة وشَيئاً من نَفحات الَورد التي تأبى مُفارقة نَسمات الشِتاء الباردة
كلّ ذلكَ المَزيج كان يُفقده صَوابه ويُحوله لشَخص آخر ..
ثِمَّة أمتار قَليلة تَفصله عَن تلك النافذة .. ليتها تَنتبه هذه المَرة .. بالأمس لاحت مِنها التفاتة عفَوية لَحظة تَناولها لقَهوتها كعادتِها كلّ صَباح في نَفس المَوعد وبِذاتِ المَلامح الناعمة التي تُشبه الصَباح
أما هو فإنهُ لا يَملك غَير التباطؤ بِخطواته ليَحصل على جُرعته اليَومية الساحِرة
بِضعُ ثوان هي كل ما يَملك ليَسد بِها رمُق يَومه من نَظرة خَجولة لفتاةِ النافذة ..
و تَساؤلات كثيرة تُغالب دَواخله
أتراهُ ذلك الوَجه الفاتن يُدرك حَجم رَغبتي بلمسه وامتلاكِه ..؟
خَطوات قليلة ثم تَخطى النافذة كأنه سَرق لحَظته الآسرة
وملامحُ خَيبة أخذت طَريقها لعينيه مجدداً
أكمل طَريقه وأكملت تلك النافذة طَريقها الى دواخله كَما يحدث في كل يَوم
الساعاتُ الاولى من عَمله بدا سارحاً رغم تَفاعله المُتثاقل مَع الزَبائن لكن شيئاً واحداً كان يَمتلك مُخيلته ذلك الوجَه المُحاط بموج شَعرها البني ,, رقتها وكلّ ذلك التفاؤل الذي تَشعُّ به عَينيها
هو الحلم الوحيد الذي يود الإمساكُ به
إنها رفيقة صَباحاته المُنعشة .. تلك التَوليبة الرقيقة التي تطلُ من شُرفتها البيَضاء لتسلبَ منه قُدرته على التَفكير بأي شيء آخر ..
أحدُ الزبائن يَقطع عليهِ شرودَه بتساؤل عن ورقِ تَغليف الزهور ..
على مَضض سار به لزاوية قُرب زجاج النافذة الأمامية الكَبيرة للمعرض هُناك حَيث عاملُ التغليف لكنه تجمَّد بمكانه حين لمحَها تقفُ خلفَ الواجهة الزجاجية الكَبيرة
إنها هي !!
ولأول مرة كان يراها بَعيدة عن نافذتها كطائر غادر قفصهُ وتوقف على ناصية قلبه
بَدت كأنها مُتحيرة فمِظلتُها عالقة وزخاتُ المَطر بدأت تُداهم المارّة
لحظات من التَردد مرَّت قبل أن يَقترب منها
ببعض الإرتباك بادرَها
صباح الخير ,, آنستي
رَفعت رأسها وملامح سَريعة طَفت على وجهها كأنها تَعرفه
أهلاً بكْ ,, صباح الخير ..
بودي أن أقدم لكِ المُساعدة .. لديَّ مظلة هنا
ابتسمت بلطف .. شُكراً لك ساتدبر أمري
ولكن آنستي أ نتِ بحاجة ماسة لها الآن ,, والأمطارُ لن تتوقفَ قبل المَساء
وبا مكانك إعادتها لي صباح الغد لحظة مروري قُرب نافذتك
بَدت عليها علامات الاستغراب تُرافقها نظرة الإمتنان
نعم أظُنك تَمرُّ من شارعنا كل صَباح .. وابتسمت
تسمَّر بمكانه وهو يَسمع عبارتها الأخيرة وبارتباك شديد دَخل وأحضر المظلة
وعلاماتُ السعادة تطفوا على وجهه
أما هي فَقد عبَّرت عن شُكرها لموقفهِ .. وغادرت
تلكَ الليلة لم تُفارقه مَسرّة بَدأت تَنموا بقلبه ولا تفاصيل شعرها المُبتل برذاذ المطر
كأنها كانت تَعرفني ..!
ربما لاحظت مروري تَحت نافذتها
ياإلهي كم كنت أبدو غبياً وأنا منشغل بمراقبتها في كل مرة
دونَ أن أتحكَّم بتعابير وَجهي ..
لا يَهم فقد كانت لطيفةً معَي ,, صَوتها كما تَخيلته دوماً
بدا مليئاً بالحياة والثِقة ..
ياه أخيراً وجدت ثَغرة أتسللُ منها يجَدر بي انتقاء كَنزة تلَيق بلقاء الغَد
رباه كم هي رائعة ..
تلك الكلمات كانت آخر ما راوده قبل أن يغط بنومه
صباح اليوم التالي ..
كان أكثر ثقةً وهو يقترب من شُرفتها البيضاء التي زينتها لبلابة توشك أن تَفقد ما تبقّى من أوراقها الخضراء وحين اطلَّت من نافذتها بادرته بابتسامة جَميلة وأشارت له أن ينتظر ..
مرّت بِضع لحظات قبل أن تَخرج وهي تَحمل كوباً مليء بــ القَهوة
قدمته له وهي تقول صباح الخير سيدي .. بالأمس كنت بغاية اللطفِ معَيللمرةِ الثانية يَنظُر لساعتهِ
هذه المَرّة الوَقتُ كانَ يُشيرُ الى السابعةِ وبِضْع دَقائق
قَرر النهوضْ أخيراً ..
على وَجهِ السُرعة ارتدى مَلابسَه حاولَ أنْ يُعيدَ تَصفيفَ شَعره الذي بدا عَبثياً جِداً
تَحديداً كأجواءِ غُرفَته
سَريره الغَير مُرتّب سَتائر نافذتهِ الغَير مُسدَله بِشكل كامل , فنجانُ القَهوة الذي تَكاثفتْ بأسفلهِ بَقايا البُن صُحف واكواب شاي مَرّت عليها بِضَع أيام
هكذا إعتادَ أنْ يُهمل تَرتيب أشيائه ,, رُبما كلّ حَياته كانت تَمر بِفوضى عارمة كانت أشبَه ما تكونُ
بِملائة بَيضاء مُمزقة
فَوضى مِن ذلك النَوع الذي يُصاحِبه سُوء الحَظ ..
لم يَكن يَكترث كَثيراً لحياتهِ التي تَسلل خارجها الأصدقاء واحداً تِلو الآخر
حتى في عَملهِ كان يُفسِد الكَثير من الأمور دونَ قَصد منه
الحِوارات التي كان يَتدخل بِها ثمَّ يَنتهي الأمر بإلغاء صَفقة ما
والآنيةُ الثَمينة التي كَسرها مُؤخراً تَسببت بِخلاف حاد مَع مُديره
إلا إنهُ كان مَحظوظاً ببقائهِ حتى اللحظة بِعمله في مَعرضِ بَيع الهَدايا المُفعَم بالأناقة ذلكَ المَكان الذي يَقضي فيهِ جُل وَقته مُنذ أنْ سَنحت له الفُرصة بشُغل ذلكَ العَمل
وإلى أينَ يُمكن لَه أن يَذهب وما مِن مَساحة يَتسكع فيها سِوى وحدَته كانسان يَعيشُ دون عائلة أو حتى صَداقات حَميمة
هو لا يعرفُ مَنْ أنقذهُ حتى !!
حين تَعرضَ لحادث كادَ أن يَفقده ما تبقى من عُمرهِ
لكنَّ جُزءً واحداً من يَومه كان يَحصل على اهتمامه وها هو يَهمُّ بالخُروج ليُلاقي تلكَ اللحظَة المُدهشة من صَباحه
شَهر ديسمبر الحافلِ بالسُحب الرمادية وزخاتِ المَطر يُصاحبه بِذلكَ الشارع المؤدي لطَريقِ العَمل .. الأشجارُ ورائحة الطُرقات المُبللة وشَيئاً من نَفحات الَورد التي تأبى مُفارقة نَسمات الشِتاء الباردة
كلّ ذلكَ المَزيج كان يُفقده صَوابه ويُحوله لشَخص آخر ..
ثِمَّة أمتار قَليلة تَفصله عَن تلك النافذة .. ليتها تَنتبه هذه المَرة .. بالأمس لاحت مِنها التفاتة عفَوية لَحظة تَناولها لقَهوتها كعادتِها كلّ صَباح في نَفس المَوعد وبِذاتِ المَلامح الناعمة التي تُشبه الصَباح
أما هو فإنهُ لا يَملك غَير التباطؤ بِخطواته ليَحصل على جُرعته اليَومية الساحِرة
بِضعُ ثوان هي كل ما يَملك ليَسد بِها رمُق يَومه من نَظرة خَجولة لفتاةِ النافذة ..
و تَساؤلات كثيرة تُغالب دَواخله
أتراهُ ذلك الوَجه الفاتن يُدرك حَجم رَغبتي بلمسه وامتلاكِه ..؟
خَطوات قليلة ثم تَخطى النافذة كأنه سَرق لحَظته الآسرة
وملامحُ خَيبة أخذت طَريقها لعينيه مجدداً
أكمل طَريقه وأكملت تلك النافذة طَريقها الى دواخله كَما يحدث في كل يَوم
الساعاتُ الاولى من عَمله بدا سارحاً رغم تَفاعله المُتثاقل مَع الزَبائن لكن شيئاً واحداً كان يَمتلك مُخيلته ذلك الوجَه المُحاط بموج شَعرها البني ,, رقتها وكلّ ذلك التفاؤل الذي تَشعُّ به عَينيها
هو الحلم الوحيد الذي يود الإمساكُ به
إنها رفيقة صَباحاته المُنعشة .. تلك التَوليبة الرقيقة التي تطلُ من شُرفتها البيَضاء لتسلبَ منه قُدرته على التَفكير بأي شيء آخر ..
أحدُ الزبائن يَقطع عليهِ شرودَه بتساؤل عن ورقِ تَغليف الزهور ..
على مَضض سار به لزاوية قُرب زجاج النافذة الأمامية الكَبيرة للمعرض هُناك حَيث عاملُ التغليف لكنه تجمَّد بمكانه حين لمحَها تقفُ خلفَ الواجهة الزجاجية الكَبيرة
إنها هي !!
ولأول مرة كان يراها بَعيدة عن نافذتها كطائر غادر قفصهُ وتوقف على ناصية قلبه
بَدت كأنها مُتحيرة فمِظلتُها عالقة وزخاتُ المَطر بدأت تُداهم المارّة
لحظات من التَردد مرَّت قبل أن يَقترب منها
ببعض الإرتباك بادرَها
صباح الخير ,, آنستي
رَفعت رأسها وملامح سَريعة طَفت على وجهها كأنها تَعرفه
أهلاً بكْ ,, صباح الخير ..
بودي أن أقدم لكِ المُساعدة .. لديَّ مظلة هنا
ابتسمت بلطف .. شُكراً لك ساتدبر أمري
ولكن آنستي أ نتِ بحاجة ماسة لها الآن ,, والأمطارُ لن تتوقفَ قبل المَساء
وبا مكانك إعادتها لي صباح الغد لحظة مروري قُرب نافذتك
بَدت عليها علامات الاستغراب تُرافقها نظرة الإمتنان
نعم أظُنك تَمرُّ من شارعنا كل صَباح .. وابتسمت
تسمَّر بمكانه وهو يَسمع عبارتها الأخيرة وبارتباك شديد دَخل وأحضر المظلة
وعلاماتُ السعادة تطفوا على وجهه
أما هي فَقد عبَّرت عن شُكرها لموقفهِ .. وغادرت
تلكَ الليلة لم تُفارقه مَسرّة بَدأت تَنموا بقلبه ولا تفاصيل شعرها المُبتل برذاذ المطر
كأنها كانت تَعرفني ..!
ربما لاحظت مروري تَحت نافذتها
ياإلهي كم كنت أبدو غبياً وأنا منشغل بمراقبتها في كل مرة
دونَ أن أتحكَّم بتعابير وَجهي ..
لا يَهم فقد كانت لطيفةً معَي ,, صَوتها كما تَخيلته دوماً
بدا مليئاً بالحياة والثِقة ..
ياه أخيراً وجدت ثَغرة أتسللُ منها يجَدر بي انتقاء كَنزة تلَيق بلقاء الغَد
رباه كم هي رائعة ..
تلك الكلمات كانت آخر ما راوده قبل أن يغط بنومه
صباح اليوم التالي ..
كان أكثر ثقةً وهو يقترب من شُرفتها البيضاء التي زينتها لبلابة توشك أن تَفقد ما تبقّى من أوراقها الخضراء وحين اطلَّت من نافذتها بادرته بابتسامة جَميلة وأشارت له أن ينتظر ..
مرّت بِضع لحظات قبل أن تَخرج وهي تَحمل كوباً مليء بــ القَهوة
لهذا فكّرتُ أن أكون لطيفةً أيضاً دعنا نتشاركُ هذه القهوة فأنا بارعة جداً في اعدادِها
ورغم جَمال هذه الإنعطافة التي لم يكن يحلم بها إلا إنه كان قلقاً من أنْ يَضبطهما أحداً من أسرتِها .. لاحظتْ ذلك عليه وهنا انتابتها ضِحكة ضَربت زوايا روحه برمّتها ..
هل أنت قلق ؟
إطمئن فأنا أسكنُ هنا لوحدي فقد تُوفيت أمي بــ حادث سير منذُ عامين ..
و لم يبقى لي الا هذا المَنزل وجدرانه وعملي وهنا أطرقت حزينة
كأن الكلمات أعادتها لتلك اللحظات المرعبة ,, كنت معها
كم تمنيتُ لو أنني فارقتُ الحياة معها ,, كانت بمثابة كلِّ شيء لي ..
ياه لقد ثَرثرتُ كثيراً حتى إنك لم تَتكلم ولم أسمحُ لك حتى بتناول قَهوتك مَعذرةً مِنك
أما هوَ فقد كانَ سارحاً فيها وبداخله تساؤلاً كبيراً مالذي يَجعلني مَشدوداً جداً لهذه الروح
أشعرُ وكأنها تسللت الى داخلي منذُ أمد بعيد
وها هي تشبهني حتى في كونها يتيمة ووحيدة وقد تَعرضت لحادث أيضاً أي صدفة غريبة هذه
لكنه تمالك هذه المشاعر التي كان تُسيطر على أعماقه
شكراً للقَهوة .. آنستي
لطف كبير مِنكِ أن تتَحدثي بما يَختلج بِصدرك مع شَخص عابر ليس إلا
ويؤسفني إنكِ مَررتِ بِهذه المِحنة .. أنا وحيد أيضا فقدتُ والديَّ منذُ زمن طَويل كما انني أتشابه مَعكِ في نفس الظروف فقد تَعرضتُ لحادث خَطير أيضاً ونَجوت بعد جراحة معقدة وليس في حياتي أحداً ليس من صَديق ,, ولا رَفيقة عُمر ..
لم يكن ذلك صُدفة فكلُّ شَيء يمر بحياتي أفسده دون قَصد
الصَداقات ,, العَمل ,, حياتي برمَّتها هَشَّة ومُبعثرة لم أجرّبُ الحُب
ولم أجد قلباً يلملمُ شتاتي حتى اللحظة ..
وهنا تلعثم وهو يخفض صوته .... ربما انتِ فقط ..
لكنه لم يكمل
سَمِعتهُ ... اتسَعت عَينيها قَبل أن تَقول
أنا ماذا ..؟
ارتبكَ قليلاً لكن نَظرتها الحانية منحَته الجُرأة ليُكمل
أنتِ هي الجزء المُشوق بيومي ,, اللحظةُ الأكثرُ لطفاً وصدقاً ,, وخَيط الأمل الذي أود الإمساكَ به
دونَ أن افسدَه كما في كلِّ مرة
وهنا تناول جرعةً من فنجانِه .. حاول أنْ يتهرب .. أ تعرفين ..؟
لم أتناول قَهوتي وقوفاً أبداً لكنَّها قَطعاً أكثرُ قهوة شَهية تذوقتُها بحياتي
وبودي لو أننا نتناولها على طاولة أنيقة بِمكان آخر .. ها أنا أثرثر وأحتكِر الحَديث أيضاً
ابتسمت وفي وجهِها رَستْ مَعالم تساؤلات كثيرة لكنَّها أردَفت
لا عليك .. نعم سنلتقي بمكان آخر ربما هذا المساء لو أحببت
لا أدري أشعر بانني أثقُ بك وبحدَسي الذي يُخبرني أنَّ لقاءات أخرى سَتجمعُنا
ارتَسمتْ مَعالِمُ السَعادة على وَجهه قَبلَ أنْ يودعها ويكمل طريقه
في المَساء ..
هَبطَ قلبهُ وهو يُشاهِدها تقف بغاية الجَمال على ناصيةِ الشارعُ المُقابل لمعرض الهَدايا
بعد لحظات كان يقفُ خَلفها بَعد أنْ كانت مُنشَغلة بهاتفِها
هل تُحبّينَ المَشي تَحتَ المَطر ؟
آه مَساءُ الخَير أخفتَني هههه
عُذراً منكِ لكنَّه سؤال خامرَني ونَسيتُ حتى القاء تَحيةَ المَساء
لا يهم أتعرف ..؟
أنا مهووسة بالشِتاء والمَطر و بتفاصيله الأخرىَ المواقدُ المُشتعلة بالخَشب
برائحة القهوة والتي أظنك قد دعوتني لتناولها هذا الصباح
إبتسما معاً وبِمظلة واحدة أكملا الطَريق نَحو المََقهى
على طاولة خشبية داكِنة مُنزوية في رُكن المَقهى يتوسطها زُهرية وَرد فَيروزية
جلسا متقابلين وأضواء الشارع التي كَسَّرتها تَعرجات المَطر المُنسابة على زجاجِ النافذة المُجاورة وبعضُ الموسيقى الهادئة رَسمت تلكَ اللحظات الدافئة في داخلِ كلّ منهما
وصل النادل فبادره على الفور
قهوة اكسبريسو من فضلك وما إن غادر النادل
حتى بادرته ...
حَسناً أخبرني مَ الذي يَجعلكَ تُفسدُ الأشياء
أطرق بخجل لكنه أردف .. صِدقاً لا أدري أحاول أن أكونَ جَيداً لكنها الصُدف اللعينة
تفعل بي كل هذا الهراء أخطاء في العَمل ,, صَديقي الذي خَسِر حَبيبته بهفوة مني
وبنظرتِها الحانية قاطعَتهُ .. أنتَ لستَ كذلك
يحدثُ ذلك مَعك ربما لأنكَ صادقاً وكَثيرُ العَفوية
دَعني أخبركَ شيئاً كل ما تقوم بِه في يَومك المُعتاد يبني شَخصيَّتك أو يُحطّمها
باختصار أنتَ مَن يَصنَع نفسك
بامكانك أن تُحاول اصلاحَ كلّ تلكَ الفوضى مع
مُديرك ,, صَديقك وحَبيبته
يَحدث ذلك فقط عندما تؤمِن بِنفسك ثق بقدرَتك على العَودة
بمزاياك الكَثيرة ليسَ عليكَ أن تَكون مُتناسقاً جِداً
أنتَ شاباً طيباً لطيفاً ومُهذبا
صحيح إن الطَريق الى حياة جَيدة أمر شاق لكِنك حين تَصل القِمة سَيكون المَشهد جَميلًا
سَرت تلك الكَلمات بِداخله فتَوهج شَيئاً ما
النادل أحضر قهوة واحدة أراد ان يوبخه لكنها سارعت وأمسكت بيده
توقف أرجوك .. إنها عَلامة جَيدة ما أجمل أن نَتشارك قَهوة واحدة
أحببتُ هذه الصُدفة تبدو كأنها رسالة كونية .. ودعني أكمِل من فضلك
رُغم إنني بمقتبل العُمر ولم أخُض أي تَجربة لامعة لكنني تَعلمت الكَثير ربّما أنتَ الشَخصُ الأول الذي يسرُقني لمكان عام ويقاسِمني القَهوة مرتين بيوم واحد ..
أنا وأنت مَررنا بنفس الظروف تَذوقنا مَرارة الأيام ذاتها وتلقائيتكَ مَنحتني سَبباً لا أفهمهُ لخوضِ هذه اللحَظات كلُّ ما أعرِفه أنني اقاسِمك هذا المساء بارادة كاملة ورَغبة حَقيقية وشيء من السَعادة
في ذلك المساء استمرا بــ الحَديث عن نَفسيهما عن رَغباتهما وعن الأماني التي بَقيت عالقة والأحلام المَركونة على رفوفِ الحَياة ,, تحاورا في الأشياءِ التي يتشاركان الشَغف بِها ومع كل لَحظة تمُر
كانت دَهشته تزداد بــ هذا التَطابق الغَريب
وفي طريق العَودة اتخذا الشارعُ المُحاذي لشاطئ البَحر والمَليء بأشجارِ السنديان والصَفصاف وهنا قررت أن تكتبَ ذِكرى أخرجَت من حقيبتها قلماً وأمسكت بيدهِ .. دَعنا نَكتب سَوياً ..
وحفرت على جذع الشجرة
,, ذاتَ لحظة كُنا .. مَعاً ,,
في اليوم التالي
كانت تنتظره في شُرفتها وحين وصل أشارت له بالدخول الى المنزل
كان منزلاً صَغيراً لكنّه مُرتباً ولا يَخلو من الأناقة قد طُليت جُدرانه بـ ألوان ناعمة بتدرجاتِ لونِ السَماء وقد زينت أركانهُ نَباتات ظليه وبَعض الزهور وأواني فُضية وضعَت بــ تنسيق جَميل
بدا وكأنه قد أعيد تجديده للتو
لازمَه بعض الارتباك والاحراج وما إن حَضرت بقوامها الساحر حتى تَبدد كل شيء
بادرته بتحية الصباح سبقتها ابتسامة مُشرقة
أتعرف .. أردتُك أن ترى جُدران وحدتي ..
هنا حيث عِشت طفولتي وحَيث أحتفظُ بالكثير من الذكريات الحَزينة ..
نعم هو بيت جميل آنستي وفيه الكثير من الشاعرية والدِفء
لكنني لازلتُ أستغرِب بقاءكِ هنا لوحدك و ..
وهنا قاطعته ببعض الحزم المُغلف باللطف .. يا صديقي الطيب لا أودُّ الخَوضَ في ذلك الآن
من يدري قد تَحصَل على إجابتك لاحقاً والآن عِدني أنك سَتكونُ بخير وستكون الأفضل
أنت تبدو رائعاً هذا اليوم لستَ ذاك الشَخص الذي التقيتُه في مأزق المِظلة
وهنا قاطعَها وقد بدأت مَلامح وجهَه ترسِم بَعض الغرابة
آنستي لست أفهمكِ حتى اللحظة .. لستُ أدري هل اقتربنا بما يَكفي أم لا
بَقيتْ صامته أما هو فَقد انجرفَ بمشاعره
اتدركين معنى أن أحلُم بكِ ليلاً وتكونِ أول ما أفكرَ به صباحاً
ويرافقني طيفك طوال اليوم ..
أن أشتاقُ لكِ سراً وأعشقك خيالاً أن أقفَ في مُنتَصف الأشياء بلا وِجهة مُحددة
كان يَتحدثُ وهو يَتجنب النظر إليها وحين رَفع وجههُ لاحظ حَجم الحُزن الذي أحاطَ بعيونها
لكنها أردَفت .. وهي تَتحاشى دَمعة هاربة
لكَ أنْ تَعرف انكَ الطَمأنينة لقلبي
والروح التي أريدُ لها أن تَكون سَعيدة ..
يوماً ما ستُدرك كم كنتَ شيئاً ثميناً عندي ..
اذهب لعَملك الآن , وكُنْ بخير أرجوك ..
خبأ هذه الكلمات بدواخله وخَرج نَحو عَمله
رغم إنه لاحظ تَهربها من الإفصاح بِمشاعرها
في ذلك اليَوم كان حَيوياً مُتفائلاً .. تلقى الكثير من كلماتِ الثناء من زبائن المَعرض
حَرص أن يكون مُتفانياً ومتفهماً لطلباتِ الجَميع
مديره أثنى أيضاً على هذه التَغييرات التي بَدأت بالاشادة بأناقة التي كانت فَوقَ العادة
والأسلوب الجَميل الغيرُ مَعهود منه
وفي الاستراحة اتصلَ بصديقه مُعتذراً عما بَدر منه وأخبره بانه بِصددِ تَصحيح المَوقف بينه وبين حبيبته
بعد ساعات ..
كان يقفُ في آخر طابور وحينَ وصلَ دوره أشاحتْ بوجهها عَنه
وهي تقول كَيف تجرأت على المَجيء ..؟
لا أريدُ رؤيتك بَعد الآن ..
بادرها بخَجل واضِح
حَسناً لم أكن أقصُد التفريق بَينكما ..
حَياتي كانت سيئة بِما يَكفي لأتفوه بكلمات غيرُ مناسبة
وأنتِ رائعة بما يَكفي لتُسامحيني وتَغفري لصديقي كِذبته
أتعرفين .. في ما مضى قد أفشيتُ لكِ سِراً عن صَديقي فأصابتكُما لعنة الفراق
دعيني أفشي سِراً آخر عَنه ,, قد يَجمعكما من جَديد
فتحت عَينيها وهي في أشد الاستغرابِ لهذا التغيير في شَخصيَته
وهنا اقتربَ منها ليَهمس لها
قبل أَن يَحدُث الفِراق .. كان صَديقي قد اشترى .. ثَوبك الأبيض
ثوبُ زفافك .. إنه يحّبكِ بِصدق
وضعَت يدُها على فَمها لتَكبتَ تنَهيدة عَميقة وقد فاضَت عيَنيها بالدموع
وهي تردد يا إلهي كم كُنت مُتسرعة !!
آه كم أشعر بالأسَف .. لا أدري كيفَ سأصلحُ الأمر الآن
قاطعها والسَعادة تغمرهُ
إتصلي به فَقط .. إنه يَنتظر
لأنه لم يتَوقف عن حُبك لَحظة واحدة
تلك الليلة ..
تقلَّب على وسادَته كثيراً كان غارقاً بِشعورِ الرِضا والسِعادة مَعاً
تلكَ الأشياء التي تَبدلت في نَفسه ,, لحظةُ التَحول التي سَتجمع مجدداً صَديقين عاشقين
بثّتها تلك المَشاعر النَقية التي يَحمِلها لفتاةِ النافذة والتي تمكنت من احداث كل تلك التغيرات الهائلة بحياته
صباح يوم آخر ...
لم تَكن في مَكانِها المُعتاد ,, الشُرفة كانت خالية والنافذة مُسدلة الستائر
حاولَ طرقَ الباب لكنه لم يَسمع رداً .. انتظرَ طَويلاً لكنها لم تَكنْ هناك
أكملَ طريقه الى العمل وهو يشعر إن شَيئاً كبيراً ينَقصه
في اليوم التالي
لم يَكن حال تلكَ الشُرفة البَيضاء قد تَبدل .. ما زالت غير موجودة
في داخله المليء بالقلق والتذمر والحاجة لرؤيتها كان يردد
لابد إنها سافرت لمَكان ما !!
أياماً مَرت دونَ أن يَعرف أين ذَهبت فَتاته ,, والحيرة تَنهشُ دَواخله
هذه المرة حين اقترب كان البابُ مفتوحاً .. هَبط قلبه ودَخل مُسرعاً
لكنه سُرعان ما صُدم حين استقبله َرجل يَبدو في العَقد السادس من عُمره
بادَره الرجل أهلاً بكَ سَيدي .. حَسناً لقد وصلتَ مُبكراً
على أيّ حال لابأس سأشرح لك تفاصيل المنزل
ظل متسمراً بمكانه لا يَعرف كَيف يرد !َ!
وفي داخله أيقنَ إن هذا الرَجل قد توهَّم به لكن الرجل أكمل ..
انه بيَت جَميل وهو جاهز كلياً للبَيع قد تمَ تَجديده وطِلائه بذوق رَفيع
وكما تعلم فان قيمَته مُناسبة جداً لشَخص مِثلك أرجوك اعطيني أيّ ملاحظة لا تناسبك
عدا ذلك فأوراق البيع جاهزة
حاول تلافي الأمر
قائلاً أينَ الفتاة ..؟
عفواً سيدي أيُّ فتاة تَقصد ..؟
أنا المَسؤول عن بَيع هذا المَنزل ولا وجودَ لفتاة
لا لا لا سيدي قَصدتُ الفتاة التي تَسكنُ هنا ..؟
ابتسم الرجل الكبير وهو يَقول كما ترى لا أحداً يَسكنُ هنا
ومنذ زمن طويل
لا لا عفواً كانت هنا فتاة بيضاء
زاد استغرابُ الرجل الكَبير أنت واهم سيدي لا أحد يَسكن هذا المكان
لأنه مُعد للبيع فقط وأنا المُحامي الذي يُشرف على الَبيع لتنظيم أمورِ الميراث وما شابَه
وكنت أنتظرك من أجل اتمام الصفقة ألست الشخص الذي يريد شراءه ..؟
هاااا لا لا أنا لستُ هو
المكان بدأ يَدور بهِ وعلاماتُ الصَدمة تُلازم وجهه الذي بدا بغاية الذهول
أحسَّ الرجل بتغيرِ وجه الشاب فناولهُ كُرسياً ..
تفضل اجلس سَيدي لأشرحَ لك منذ عامين تُوفيت مالكةُ المَنزل بحادث مُروّع
كانت بِصحبة ابنتها التي نُقلت للمشفى وتم انقاذها
فقاطعه نعم هذه هي الفتاةُ التي سَألتك عَنها
أطرقَ الرجل بِحزن لكنه أكمل
ياسيدي هذه الفتاة البيضاء كما أسميتها توفيت أيضاً بَعد عام من تلكَ الحادثة
لفَرط حُزنها على والدتها
ماذاااا ؟ !!!
هذا لا يُعقل لقد كانت بصُحبتي منذُ اسبوع فقط
لا أعرفُ ماذا أقول لك سَيدي لكنك واهم جداً أو لربَما تَتحدثُ عن فتاة أخرى
ا لذهول سيطر عليه مجدداً وهو يستمع لخفقات قلبه استدارَ مُتهالكاً ليَخرج
وهو ُيتمتم ,, كانت معي تشربُ القَهوة
لقد جئتُ لهذا المَكان وقد كانت مَوجودة .. أشعرُ بدوار شَديد دوااا .....
يا إلهي ماهذا أين أنا .. أين ... خَرجت كلماته متثاقلة
الممرضة التي تقف قرب سريره
لا عليك أنتَ في المَشفى وها أنت قد استَعدتَ وعيك ..
لم تَستغرق غَيبوبتك سِوى يَومين فقط
ربما تعرضتَ لصدمة ما ..
هكذا أخبرَنا الرَجل الذي جاء بك الى هنا
عدة أيام مرَّت وهو على سَريره لا يتكلم يَجتر من ذاكرتهِ شَريط الأحداث
الشرفةُ البَيضاء ,, رائحةُ القهوة ,, المَطر .. شَجرة السنديان
ماذاا .. الشَجرة ..!!!
نهض على الفور استغل انشغالِ المُمرضة ودلف الى المَمر
أراد أن يصل الى الباب الخارجي فاستوقفه أحد الأطباء
أهاا أنتَ مُجدداً كَيف حالك ؟؟
هل تعَرضتَ لحادث آخرهههه ؟؟
ألا تتذكرني ؟؟
أنا مَن أجريتُ لك الجراحة اللازمة في ذلك الحادِث ,, لقد نَجوت باعجوبة
يومها كنتَ بحاجة ماسة لمتبرع بالدَم فتقدمت شابة جميلة للتَبرع لك
فقد كنتَ وحدك
كانَ موقفها رائعاً يجدُر بك أن تشكُرها تلك الفتاة كانت قد تعرضت لحادث أيضاً ورغم حالتها الحرجة الا انها قررت ان تتبرع لك بدمائها بعد ان سمعت بحالتك
لا أدري إن قُمتَ بشكرها قبل أن تفقد تلك الشابة المسكينة حياتها
فدمائها تَسري بِعروقك
بهت ولم يرد ..
لكنه أدرك في داخله إنها هي
بَعد ساعة كانَ في الشارع المُطل على البَحر اقتربَ من الشَجرة
صارت أمامُه
.. ذاتَ لَحظة كُنا .. مَعاً
مررَ أصابَعه على تلك الحُروف ودَمعة ترقرت في عَينه
غادرَ المكانُ مَذهولاً وصلَ لتلكَ الشُرفة البَيضاء
كان خيالها خَلف نافذتُها الزجاجية لكنه هذه المرة صار يدرك إنها محض خَيال فقط
همس لها ودموعه تغالب صوته .. لماذا كنت أراكِ كيف حدث ذلك
لقد أحببتك ..؟
اشارت لَه بإيماءةِ وداع وصَوتُها يترددُ في أذنه
أنا بِداخلك .. وسَوف أبقى
بقلمي
علي موسى الحسين
إطمئن فأنا أسكنُ هنا لوحدي فقد تُوفيت أمي بــ حادث سير منذُ عامين ..
و لم يبقى لي الا هذا المَنزل وجدرانه وعملي وهنا أطرقت حزينة
كأن الكلمات أعادتها لتلك اللحظات المرعبة ,, كنت معها
كم تمنيتُ لو أنني فارقتُ الحياة معها ,, كانت بمثابة كلِّ شيء لي ..
ياه لقد ثَرثرتُ كثيراً حتى إنك لم تَتكلم ولم أسمحُ لك حتى بتناول قَهوتك مَعذرةً مِنك
أما هوَ فقد كانَ سارحاً فيها وبداخله تساؤلاً كبيراً مالذي يَجعلني مَشدوداً جداً لهذه الروح
أشعرُ وكأنها تسللت الى داخلي منذُ أمد بعيد
وها هي تشبهني حتى في كونها يتيمة ووحيدة وقد تَعرضت لحادث أيضاً أي صدفة غريبة هذه
لكنه تمالك هذه المشاعر التي كان تُسيطر على أعماقه
شكراً للقَهوة .. آنستي
لطف كبير مِنكِ أن تتَحدثي بما يَختلج بِصدرك مع شَخص عابر ليس إلا
ويؤسفني إنكِ مَررتِ بِهذه المِحنة .. أنا وحيد أيضا فقدتُ والديَّ منذُ زمن طَويل كما انني أتشابه مَعكِ في نفس الظروف فقد تَعرضتُ لحادث خَطير أيضاً ونَجوت بعد جراحة معقدة وليس في حياتي أحداً ليس من صَديق ,, ولا رَفيقة عُمر ..
لم يكن ذلك صُدفة فكلُّ شَيء يمر بحياتي أفسده دون قَصد
الصَداقات ,, العَمل ,, حياتي برمَّتها هَشَّة ومُبعثرة لم أجرّبُ الحُب
ولم أجد قلباً يلملمُ شتاتي حتى اللحظة ..
وهنا تلعثم وهو يخفض صوته .... ربما انتِ فقط ..
لكنه لم يكمل
سَمِعتهُ ... اتسَعت عَينيها قَبل أن تَقول
أنا ماذا ..؟
ارتبكَ قليلاً لكن نَظرتها الحانية منحَته الجُرأة ليُكمل
أنتِ هي الجزء المُشوق بيومي ,, اللحظةُ الأكثرُ لطفاً وصدقاً ,, وخَيط الأمل الذي أود الإمساكَ به
دونَ أن افسدَه كما في كلِّ مرة
وهنا تناول جرعةً من فنجانِه .. حاول أنْ يتهرب .. أ تعرفين ..؟
لم أتناول قَهوتي وقوفاً أبداً لكنَّها قَطعاً أكثرُ قهوة شَهية تذوقتُها بحياتي
وبودي لو أننا نتناولها على طاولة أنيقة بِمكان آخر .. ها أنا أثرثر وأحتكِر الحَديث أيضاً
ابتسمت وفي وجهِها رَستْ مَعالم تساؤلات كثيرة لكنَّها أردَفت
لا عليك .. نعم سنلتقي بمكان آخر ربما هذا المساء لو أحببت
لا أدري أشعر بانني أثقُ بك وبحدَسي الذي يُخبرني أنَّ لقاءات أخرى سَتجمعُنا
ارتَسمتْ مَعالِمُ السَعادة على وَجهه قَبلَ أنْ يودعها ويكمل طريقه
في المَساء ..
هَبطَ قلبهُ وهو يُشاهِدها تقف بغاية الجَمال على ناصيةِ الشارعُ المُقابل لمعرض الهَدايا
بعد لحظات كان يقفُ خَلفها بَعد أنْ كانت مُنشَغلة بهاتفِها
هل تُحبّينَ المَشي تَحتَ المَطر ؟
آه مَساءُ الخَير أخفتَني هههه
عُذراً منكِ لكنَّه سؤال خامرَني ونَسيتُ حتى القاء تَحيةَ المَساء
لا يهم أتعرف ..؟
أنا مهووسة بالشِتاء والمَطر و بتفاصيله الأخرىَ المواقدُ المُشتعلة بالخَشب
برائحة القهوة والتي أظنك قد دعوتني لتناولها هذا الصباح
إبتسما معاً وبِمظلة واحدة أكملا الطَريق نَحو المََقهى
على طاولة خشبية داكِنة مُنزوية في رُكن المَقهى يتوسطها زُهرية وَرد فَيروزية
جلسا متقابلين وأضواء الشارع التي كَسَّرتها تَعرجات المَطر المُنسابة على زجاجِ النافذة المُجاورة وبعضُ الموسيقى الهادئة رَسمت تلكَ اللحظات الدافئة في داخلِ كلّ منهما
وصل النادل فبادره على الفور
قهوة اكسبريسو من فضلك وما إن غادر النادل
حتى بادرته ...
حَسناً أخبرني مَ الذي يَجعلكَ تُفسدُ الأشياء
أطرق بخجل لكنه أردف .. صِدقاً لا أدري أحاول أن أكونَ جَيداً لكنها الصُدف اللعينة
تفعل بي كل هذا الهراء أخطاء في العَمل ,, صَديقي الذي خَسِر حَبيبته بهفوة مني
وبنظرتِها الحانية قاطعَتهُ .. أنتَ لستَ كذلك
يحدثُ ذلك مَعك ربما لأنكَ صادقاً وكَثيرُ العَفوية
دَعني أخبركَ شيئاً كل ما تقوم بِه في يَومك المُعتاد يبني شَخصيَّتك أو يُحطّمها
باختصار أنتَ مَن يَصنَع نفسك
بامكانك أن تُحاول اصلاحَ كلّ تلكَ الفوضى مع
مُديرك ,, صَديقك وحَبيبته
يَحدث ذلك فقط عندما تؤمِن بِنفسك ثق بقدرَتك على العَودة
بمزاياك الكَثيرة ليسَ عليكَ أن تَكون مُتناسقاً جِداً
أنتَ شاباً طيباً لطيفاً ومُهذبا
صحيح إن الطَريق الى حياة جَيدة أمر شاق لكِنك حين تَصل القِمة سَيكون المَشهد جَميلًا
سَرت تلك الكَلمات بِداخله فتَوهج شَيئاً ما
النادل أحضر قهوة واحدة أراد ان يوبخه لكنها سارعت وأمسكت بيده
توقف أرجوك .. إنها عَلامة جَيدة ما أجمل أن نَتشارك قَهوة واحدة
أحببتُ هذه الصُدفة تبدو كأنها رسالة كونية .. ودعني أكمِل من فضلك
رُغم إنني بمقتبل العُمر ولم أخُض أي تَجربة لامعة لكنني تَعلمت الكَثير ربّما أنتَ الشَخصُ الأول الذي يسرُقني لمكان عام ويقاسِمني القَهوة مرتين بيوم واحد ..
أنا وأنت مَررنا بنفس الظروف تَذوقنا مَرارة الأيام ذاتها وتلقائيتكَ مَنحتني سَبباً لا أفهمهُ لخوضِ هذه اللحَظات كلُّ ما أعرِفه أنني اقاسِمك هذا المساء بارادة كاملة ورَغبة حَقيقية وشيء من السَعادة
في ذلك المساء استمرا بــ الحَديث عن نَفسيهما عن رَغباتهما وعن الأماني التي بَقيت عالقة والأحلام المَركونة على رفوفِ الحَياة ,, تحاورا في الأشياءِ التي يتشاركان الشَغف بِها ومع كل لَحظة تمُر
كانت دَهشته تزداد بــ هذا التَطابق الغَريب
وفي طريق العَودة اتخذا الشارعُ المُحاذي لشاطئ البَحر والمَليء بأشجارِ السنديان والصَفصاف وهنا قررت أن تكتبَ ذِكرى أخرجَت من حقيبتها قلماً وأمسكت بيدهِ .. دَعنا نَكتب سَوياً ..
وحفرت على جذع الشجرة
,, ذاتَ لحظة كُنا .. مَعاً ,,
في اليوم التالي
كانت تنتظره في شُرفتها وحين وصل أشارت له بالدخول الى المنزل
كان منزلاً صَغيراً لكنّه مُرتباً ولا يَخلو من الأناقة قد طُليت جُدرانه بـ ألوان ناعمة بتدرجاتِ لونِ السَماء وقد زينت أركانهُ نَباتات ظليه وبَعض الزهور وأواني فُضية وضعَت بــ تنسيق جَميل
بدا وكأنه قد أعيد تجديده للتو
لازمَه بعض الارتباك والاحراج وما إن حَضرت بقوامها الساحر حتى تَبدد كل شيء
بادرته بتحية الصباح سبقتها ابتسامة مُشرقة
أتعرف .. أردتُك أن ترى جُدران وحدتي ..
هنا حيث عِشت طفولتي وحَيث أحتفظُ بالكثير من الذكريات الحَزينة ..
نعم هو بيت جميل آنستي وفيه الكثير من الشاعرية والدِفء
لكنني لازلتُ أستغرِب بقاءكِ هنا لوحدك و ..
وهنا قاطعته ببعض الحزم المُغلف باللطف .. يا صديقي الطيب لا أودُّ الخَوضَ في ذلك الآن
من يدري قد تَحصَل على إجابتك لاحقاً والآن عِدني أنك سَتكونُ بخير وستكون الأفضل
أنت تبدو رائعاً هذا اليوم لستَ ذاك الشَخص الذي التقيتُه في مأزق المِظلة
وهنا قاطعَها وقد بدأت مَلامح وجهَه ترسِم بَعض الغرابة
آنستي لست أفهمكِ حتى اللحظة .. لستُ أدري هل اقتربنا بما يَكفي أم لا
بَقيتْ صامته أما هو فَقد انجرفَ بمشاعره
اتدركين معنى أن أحلُم بكِ ليلاً وتكونِ أول ما أفكرَ به صباحاً
ويرافقني طيفك طوال اليوم ..
أن أشتاقُ لكِ سراً وأعشقك خيالاً أن أقفَ في مُنتَصف الأشياء بلا وِجهة مُحددة
كان يَتحدثُ وهو يَتجنب النظر إليها وحين رَفع وجههُ لاحظ حَجم الحُزن الذي أحاطَ بعيونها
لكنها أردَفت .. وهي تَتحاشى دَمعة هاربة
لكَ أنْ تَعرف انكَ الطَمأنينة لقلبي
والروح التي أريدُ لها أن تَكون سَعيدة ..
يوماً ما ستُدرك كم كنتَ شيئاً ثميناً عندي ..
اذهب لعَملك الآن , وكُنْ بخير أرجوك ..
خبأ هذه الكلمات بدواخله وخَرج نَحو عَمله
رغم إنه لاحظ تَهربها من الإفصاح بِمشاعرها
في ذلك اليَوم كان حَيوياً مُتفائلاً .. تلقى الكثير من كلماتِ الثناء من زبائن المَعرض
حَرص أن يكون مُتفانياً ومتفهماً لطلباتِ الجَميع
مديره أثنى أيضاً على هذه التَغييرات التي بَدأت بالاشادة بأناقة التي كانت فَوقَ العادة
والأسلوب الجَميل الغيرُ مَعهود منه
وفي الاستراحة اتصلَ بصديقه مُعتذراً عما بَدر منه وأخبره بانه بِصددِ تَصحيح المَوقف بينه وبين حبيبته
بعد ساعات ..
كان يقفُ في آخر طابور وحينَ وصلَ دوره أشاحتْ بوجهها عَنه
وهي تقول كَيف تجرأت على المَجيء ..؟
لا أريدُ رؤيتك بَعد الآن ..
بادرها بخَجل واضِح
حَسناً لم أكن أقصُد التفريق بَينكما ..
حَياتي كانت سيئة بِما يَكفي لأتفوه بكلمات غيرُ مناسبة
وأنتِ رائعة بما يَكفي لتُسامحيني وتَغفري لصديقي كِذبته
أتعرفين .. في ما مضى قد أفشيتُ لكِ سِراً عن صَديقي فأصابتكُما لعنة الفراق
دعيني أفشي سِراً آخر عَنه ,, قد يَجمعكما من جَديد
فتحت عَينيها وهي في أشد الاستغرابِ لهذا التغيير في شَخصيَته
وهنا اقتربَ منها ليَهمس لها
قبل أَن يَحدُث الفِراق .. كان صَديقي قد اشترى .. ثَوبك الأبيض
ثوبُ زفافك .. إنه يحّبكِ بِصدق
وضعَت يدُها على فَمها لتَكبتَ تنَهيدة عَميقة وقد فاضَت عيَنيها بالدموع
وهي تردد يا إلهي كم كُنت مُتسرعة !!
آه كم أشعر بالأسَف .. لا أدري كيفَ سأصلحُ الأمر الآن
قاطعها والسَعادة تغمرهُ
إتصلي به فَقط .. إنه يَنتظر
لأنه لم يتَوقف عن حُبك لَحظة واحدة
تلك الليلة ..
تقلَّب على وسادَته كثيراً كان غارقاً بِشعورِ الرِضا والسِعادة مَعاً
تلكَ الأشياء التي تَبدلت في نَفسه ,, لحظةُ التَحول التي سَتجمع مجدداً صَديقين عاشقين
بثّتها تلك المَشاعر النَقية التي يَحمِلها لفتاةِ النافذة والتي تمكنت من احداث كل تلك التغيرات الهائلة بحياته
صباح يوم آخر ...
لم تَكن في مَكانِها المُعتاد ,, الشُرفة كانت خالية والنافذة مُسدلة الستائر
حاولَ طرقَ الباب لكنه لم يَسمع رداً .. انتظرَ طَويلاً لكنها لم تَكنْ هناك
أكملَ طريقه الى العمل وهو يشعر إن شَيئاً كبيراً ينَقصه
في اليوم التالي
لم يَكن حال تلكَ الشُرفة البَيضاء قد تَبدل .. ما زالت غير موجودة
في داخله المليء بالقلق والتذمر والحاجة لرؤيتها كان يردد
لابد إنها سافرت لمَكان ما !!
أياماً مَرت دونَ أن يَعرف أين ذَهبت فَتاته ,, والحيرة تَنهشُ دَواخله
هذه المرة حين اقترب كان البابُ مفتوحاً .. هَبط قلبه ودَخل مُسرعاً
لكنه سُرعان ما صُدم حين استقبله َرجل يَبدو في العَقد السادس من عُمره
بادَره الرجل أهلاً بكَ سَيدي .. حَسناً لقد وصلتَ مُبكراً
على أيّ حال لابأس سأشرح لك تفاصيل المنزل
ظل متسمراً بمكانه لا يَعرف كَيف يرد !َ!
وفي داخله أيقنَ إن هذا الرَجل قد توهَّم به لكن الرجل أكمل ..
انه بيَت جَميل وهو جاهز كلياً للبَيع قد تمَ تَجديده وطِلائه بذوق رَفيع
وكما تعلم فان قيمَته مُناسبة جداً لشَخص مِثلك أرجوك اعطيني أيّ ملاحظة لا تناسبك
عدا ذلك فأوراق البيع جاهزة
حاول تلافي الأمر
قائلاً أينَ الفتاة ..؟
عفواً سيدي أيُّ فتاة تَقصد ..؟
أنا المَسؤول عن بَيع هذا المَنزل ولا وجودَ لفتاة
لا لا لا سيدي قَصدتُ الفتاة التي تَسكنُ هنا ..؟
ابتسم الرجل الكبير وهو يَقول كما ترى لا أحداً يَسكنُ هنا
ومنذ زمن طويل
لا لا عفواً كانت هنا فتاة بيضاء
زاد استغرابُ الرجل الكَبير أنت واهم سيدي لا أحد يَسكن هذا المكان
لأنه مُعد للبيع فقط وأنا المُحامي الذي يُشرف على الَبيع لتنظيم أمورِ الميراث وما شابَه
وكنت أنتظرك من أجل اتمام الصفقة ألست الشخص الذي يريد شراءه ..؟
هاااا لا لا أنا لستُ هو
المكان بدأ يَدور بهِ وعلاماتُ الصَدمة تُلازم وجهه الذي بدا بغاية الذهول
أحسَّ الرجل بتغيرِ وجه الشاب فناولهُ كُرسياً ..
تفضل اجلس سَيدي لأشرحَ لك منذ عامين تُوفيت مالكةُ المَنزل بحادث مُروّع
كانت بِصحبة ابنتها التي نُقلت للمشفى وتم انقاذها
فقاطعه نعم هذه هي الفتاةُ التي سَألتك عَنها
أطرقَ الرجل بِحزن لكنه أكمل
ياسيدي هذه الفتاة البيضاء كما أسميتها توفيت أيضاً بَعد عام من تلكَ الحادثة
لفَرط حُزنها على والدتها
ماذاااا ؟ !!!
هذا لا يُعقل لقد كانت بصُحبتي منذُ اسبوع فقط
لا أعرفُ ماذا أقول لك سَيدي لكنك واهم جداً أو لربَما تَتحدثُ عن فتاة أخرى
ا لذهول سيطر عليه مجدداً وهو يستمع لخفقات قلبه استدارَ مُتهالكاً ليَخرج
وهو ُيتمتم ,, كانت معي تشربُ القَهوة
لقد جئتُ لهذا المَكان وقد كانت مَوجودة .. أشعرُ بدوار شَديد دوااا .....
يا إلهي ماهذا أين أنا .. أين ... خَرجت كلماته متثاقلة
الممرضة التي تقف قرب سريره
لا عليك أنتَ في المَشفى وها أنت قد استَعدتَ وعيك ..
لم تَستغرق غَيبوبتك سِوى يَومين فقط
ربما تعرضتَ لصدمة ما ..
هكذا أخبرَنا الرَجل الذي جاء بك الى هنا
عدة أيام مرَّت وهو على سَريره لا يتكلم يَجتر من ذاكرتهِ شَريط الأحداث
الشرفةُ البَيضاء ,, رائحةُ القهوة ,, المَطر .. شَجرة السنديان
ماذاا .. الشَجرة ..!!!
نهض على الفور استغل انشغالِ المُمرضة ودلف الى المَمر
أراد أن يصل الى الباب الخارجي فاستوقفه أحد الأطباء
أهاا أنتَ مُجدداً كَيف حالك ؟؟
هل تعَرضتَ لحادث آخرهههه ؟؟
ألا تتذكرني ؟؟
أنا مَن أجريتُ لك الجراحة اللازمة في ذلك الحادِث ,, لقد نَجوت باعجوبة
يومها كنتَ بحاجة ماسة لمتبرع بالدَم فتقدمت شابة جميلة للتَبرع لك
فقد كنتَ وحدك
كانَ موقفها رائعاً يجدُر بك أن تشكُرها تلك الفتاة كانت قد تعرضت لحادث أيضاً ورغم حالتها الحرجة الا انها قررت ان تتبرع لك بدمائها بعد ان سمعت بحالتك
لا أدري إن قُمتَ بشكرها قبل أن تفقد تلك الشابة المسكينة حياتها
فدمائها تَسري بِعروقك
بهت ولم يرد ..
لكنه أدرك في داخله إنها هي
بَعد ساعة كانَ في الشارع المُطل على البَحر اقتربَ من الشَجرة
صارت أمامُه
.. ذاتَ لَحظة كُنا .. مَعاً
مررَ أصابَعه على تلك الحُروف ودَمعة ترقرت في عَينه
غادرَ المكانُ مَذهولاً وصلَ لتلكَ الشُرفة البَيضاء
كان خيالها خَلف نافذتُها الزجاجية لكنه هذه المرة صار يدرك إنها محض خَيال فقط
همس لها ودموعه تغالب صوته .. لماذا كنت أراكِ كيف حدث ذلك
لقد أحببتك ..؟
اشارت لَه بإيماءةِ وداع وصَوتُها يترددُ في أذنه
أنا بِداخلك .. وسَوف أبقى
بقلمي
علي موسى الحسين
التعديل الأخير: